Academia.eduAcademia.edu

Le périple de Dumuzi, de Tammūz à Ashurā’

2021, le périple de Dumuzi : de Tammūz à ‘Ashūrā’, in Parcours d’hommes, portrait d’une littérature : Le récit de vie et ses fonctions dans les sources arabes classiques. (Accord de publication)

Dumuzi ou Tammūz, les origines du culte de Ashurā’.

‫وموِزي‬ ‫َس َفر َد ُ‬ ‫‪1‬‬ ‫وراء‬ ‫من ََتُّوز إىل َعا ُش َ‬ ‫املقدمة‬ ‫حمرك الوجود‬ ‫تعُد املعرفة‪-‬يف بعدها الكوين‪ -‬نقطة التقاء بني روافد خمتلفة وإذا ما كان التّاريخ ّ‬ ‫احملرك‪-‬أي املعطى التّارخيي‪ -‬حمكوم جبملة‬ ‫اإلنساين وشاهدا على شكل إقامة اإلنسان يف الكون فإن هذا ّ‬ ‫من الرؤى اليت تربطها به صالت تضيق دائرهتا أو تتسع حبسب املهيئات املوضوعية ومن ذلك عالقة التّاريخ‬ ‫ابحلكمة أو ابلعلم أو ابلدين والثيولوجيا واالثنولوجيا وغريها من أشال التمثّل املعريف‪ .‬وتبقى عالقة التّاريخ‬ ‫ابألسطورة مميّزة لقربه منها واحتضانه هلا‪ .‬وتفسري ذلك التداخل الذي جنده بني اخلطاب التّارخيي واخلطاب‬ ‫األسطوري‪.‬‬ ‫ولسنا نبالغ إذا ما قلنا إ ّن التّاريخ‪-‬على علميته ودقّته أحياان‪ -‬ال يعدو أن يكون ضراب من التمثّل‬ ‫األسطوري للظواهر‪ .‬فيجد ال ّدارس نفسه أمام اتريخ أسطوري أو أسطورة اترخييّة‪.‬‬ ‫التصور الشعيب بل األسطورة قد تستند إىل نواة‬ ‫فليست األسطورة خرافة كما يذهب إىل ذلك ّ‬ ‫وموِزي على أسطوريتها معطى‬ ‫اترخييّة ممّا جيعلنا يف صميم احلقائق التّارخييّة‪-‬إن وجدت‪ -‬وتعترب رحلة ُد ُ‬ ‫اترخييا قابال لل ّدرس‪ .‬وما يربطها ابلتّاريخ هو ّأّنا اختذت مسارا‪ .‬واملسار من خصائص الفكر التّارخيي‪.‬‬ ‫وحبكم انفتاح التّاريخ على األشكال األخرى للمعرفة فإن ُد ُ ِ‬ ‫فسر يف مشارب خمتلفة‬ ‫الرمز األسطوري يُ َّ‬ ‫وموزي ّ‬ ‫وحتولت إىل‬ ‫استقرت يف اجملال األديب ّ‬ ‫فهو‪ :‬معطى اترخيي‪ ،‬وفكرة فلسفيّة‪ ،‬وطَقس ديين وإحالة تصويرية ّ‬ ‫عامل اإلنشاء الشعري والروائي واملسرحي‪.‬‬ ‫احتوى كتاب الفالحة النّ بطية على عديد ِ‬ ‫الس َري‪ ،‬منها سرية متُّوز اليت هي مادة مقالنا هذا‪ ،‬وهي‬ ‫َ‬ ‫خصها ابن وحشيّة‪ ،‬مرتجم الكتاب‪ ،‬حباشية‪ .‬ال تكمن طرافة هذه احلاشية يف ما زعمه‬ ‫السرية الوحيدة اليت ّ‬ ‫ابن وحشيّة من نقله سرية اببلية قدمية فحسب‪ ،‬بل يف تواصل هذه السرية وسفرها إىل بلدان أخرى يف‬ ‫شكل ذكران‪ .‬لكن رغم طرافة هذه املزاعم فإن كتاب الفالحة النبطيّة مل حيض ابملكانة املستح ّقة لدى‬ ‫الشرق القدمي إال على ما وجدوه َمْن ُحوات أو َمكْتُواب على‬ ‫علماء اآلشورايت ‪ ،‬فهم ال يُ َع ِّولون يف كتابة اتريخ ّ‬ ‫األلواح املسمارية‪ ،‬وإن عادوا إىل املصادر القدمية‪ ،‬فإّنا ال تعدو أن تكون مادة لتأكيد ما جاء يف األلواح‬ ‫الشرق‬ ‫الرتاث البابلي القدمي يف العراق و ّ‬ ‫أو نفيه ‪ ،‬ويف أحسن األحوال للبحث عن براهني تؤكد رسوخ ّ‬ ‫اخلزان الذي‬ ‫األدىن‪ .‬لذلك غالبا ما تكون نظرهتم سلبية جتاه املصادر اليواننية والالتينية‪ ،‬فهي عندهم مبثابة ّ‬ ‫الدجل‪ ،‬فإن كانت هذه صورة املصادر القدمية لدى علماء‬ ‫امتأل ابخلرافات واألساطري والغرائب والعجائب و َ‬ ‫‪1‬‬ ‫أتقدم ابلشكر اجلزيل لصديقي وزميلي حممد املزوغي ملرجعته اللغوية هلذا العمل ‪.‬‬ ‫اآلشورايت‪ ،‬فكيف ستكون صورة مصادر القرون الوسطى‪ .‬هنا تتنزل دراستنا حلاشية ابن وحشيّة قصد‬ ‫التعرف على جوانب من احلضارة‬ ‫التنبيه إىل قيمة كتاب الفالحة النبطيّة ابعتباره ُم َد َّونَة قد تساعد يف ّ‬ ‫البابلية القدمية‪.‬‬ ‫قسمت هذا العمل إىل ثالثة عناصر رئيسة‪ ،‬سأسعى يف العنصر األول إىل تقدمي األسباب اليت‬ ‫ّ‬ ‫الشرق القدمي‪.‬‬ ‫تغري صورة كتاب الفالحة النبطيّة وأن جتعل من بعض مقاطعه مادة لدرس اتريخ ّ‬ ‫مبكن أن ّ‬ ‫أما العنصر الثّاين فسوف أخصصه للتعرف على أصل سرية متُّوز‪ ،‬ألتتبّع يف العنصر الثالث سفر متُّوز يف‬ ‫املكان والزمان‪.‬‬ ‫الّتاث البابلي القدمي‬ ‫َورثَة ر‬ ‫شرق القدمي‬ ‫املصادر املكتوبة واتريخ ال ر‬ ‫الرافدين َح ْوزا لعلماء اآلشورايت‪ ،‬خاصة بعد‬ ‫أصبح من املسلم قبول فكرة أن يكون اتريخ بالد ّ‬ ‫فك‬ ‫فك رموز الكتابة املسمارية‪ ،‬كذلك هو شأن اتريخ مصر الفرعونية فهو َح ْوز لعلماء املصرايت بعد ّ‬ ‫الرافدين من مصادر مادية‪ ،‬اكتشفت منذ أواسط القرن‬ ‫رموز الكتابة اهلريوغليفية‪ .‬تتكون مدونة بالد ّ‬ ‫ِ‬ ‫حت أصبحت املصادر املكتوبة‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬كان جوهرها األلواح املسمارية‪ ،‬اليت ما أن فُ ّكت رموز كتابتها ّ‬ ‫من املغضوب عليها عقااب هلا على ما احتوته من خرافات وأساطري وأكاذيب‪ ،‬فهي ال تفيد اتريخ بالد‬ ‫تشوه صورته‪ .‬هذه الصورة السلبية اليت حيملها علماء اآلشورايت قد جند ما‬ ‫الرافدين يف أي شيء‪ ،‬بل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشرق عند علماء اآلشورايت شرقا واحدا‪ ،‬أي‬ ‫يربرها يف مسألة التحقيب الزمين وتركيب اجملال‪ ،‬فإن كان ّ‬ ‫الشرق عند مؤرخي الفرتة القدمية والوسيطة هو متعدد‪ .‬لكن ال ينبغي أن خيفي هذا‬ ‫الشرق القدمي‪ ،‬فإن ّ‬ ‫ّ‬ ‫التربير اخلطأ الذي وقع فيه علماء اآلشورايت واملتمثل يف عدم التمييز بني خمتلف املصادر املكتوبة العربية‬ ‫الكالسيكية حيث وضعت يف سلّة واحدة‪.‬‬ ‫تتوزع املصادر املكتوبة إىل صنفني‪:‬‬ ‫الصنف‬ ‫يتكون ّ‬ ‫يتكون ّ‬ ‫الصنف األول من املصادر اليت استندت يف أخبارها على رواايت قدمية‪ ،‬و ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصنف األول فيتكون من رواايت‬ ‫الصنف األول‪ .‬أما ّ‬ ‫الثّاين من املصادر اليواننية‪-‬الالتينية اليت نقلت عن ّ‬ ‫الرافدين‪ ،‬وردت يف كتب التوراة والتلمود والتفاسري‪ ،‬سواء يف النسخة العربانية أو الرتمجة اليواننية‪.‬‬ ‫عن بالد ّ‬ ‫تكمن أمهية هذه األخبار يف البيئة االجتماعية‪-‬الثقافية اليت ظهر فيها العهد القدمي‪ ،‬فقد ظهر هذا الكتاب‬ ‫وم ِريّة القدمية‪ ،‬من بني هذه‬ ‫الس َ‬ ‫يف بيئة ثفافية‪-‬اجتماعية تسودها املعتقدات البابلية املوروثة عن احلقبة ُ‬ ‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬ ‫حتولت بالد‬ ‫السلوقية عندما ّ‬ ‫املعتقدات ما يهم التكوين واخللق ‪ .‬تليها األخبار اليت ارتبطت ابململكة ّ‬ ‫‪2‬‬ ‫الس ْيب يف القرن السادس ق‪.‬م‪،.‬استبدلت الكنعانية اليت كانت لغتهم ابآلرامية‬ ‫ملا اندمج اليهود يف اجملتمع البابلي بعد َّ‬ ‫ّ‬ ‫الشرقية‪ ،‬فامتزج تراثهم الشفهي البدوي البدائي ابلرتاث البابلي القدمي‪ ،‬وقد أمثرت هذه الزجية احلضارية جتميع العقيدة‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫اليهودية يف مؤلف واحد ابللغة اآلراميّة‪ ،‬هو العهد القدمي‪ ،‬ومسيت األسفار اخلمس األوىل منه التوراة‪ ،‬ونُسبَت إىل موسى‪.‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫األول (‪ 261-281‬ق‪.‬م) فقد التقى هذا األخري بكاهن اإلله‬ ‫الرافدين إىل مملكة هلينيّة مع أنطيوكوس ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪4‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرافدين القدمية ‪.‬‬ ‫َم ْرُدوخ‪ ،‬يُدعى بَ ُّ‬ ‫روسوس الك ْلداين‪ ،‬وهو بَ ُروشا الك ْلداين‪ ،‬الذي نقل له أخبار اببل وبالد ّ‬ ‫السلوقية‪ ،‬فقد طلب بطليموس الثّاين يف سنة‬ ‫واثلث هذه األخبار ما هو متّصل برتمجة التوراة يف فلسطني ّ‬ ‫‪ 270‬ق‪.‬م‪ .‬من سبعني عاملا يهوداي من سكان اإلسكندرية ترمجة التوراة إىل اليواننية واليت أصبحت تعرف‬ ‫السْبعِينِيَّة‪.5‬‬ ‫فيما بعد ابلنسخة َّ‬ ‫‪6‬‬ ‫ليسرت ّأول النقلة‬ ‫الصنف الثّاين من املصادر اليت نقلت أخبارا عن بَ ُروشا‪ ،‬كان اسكندر ﭘو ُ‬ ‫يتكون ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ ‪8‬‬ ‫‪7‬‬ ‫ِ‬ ‫وقد نقل عنه أ ََزبْيُوس ‪ ،‬الذي نقل عنه فيما بعد ﭬ ُريﭬ يُوس س ﭭ َكلوس ‪ .‬واألخبار اليت أوردها كل من‬ ‫ِ ِ ِ ‪10‬‬ ‫‪ِ 9‬‬ ‫وسرتابُن‪ ،11‬وبلِ ْين يُوس‪.،12‬‬ ‫ودوتوس ‪ ،‬وديُ ُ‬ ‫أ َُر ُ‬ ‫ود ُروس الصقلّي ‪َ ،‬‬ ‫الشرق‬ ‫لكن اندرا ما كانت تؤخذ‪-‬بعني االعتبار‪ -‬املصادر املكتوبة الوسيطة ضمن مدونة اتريخ ّ‬ ‫القدمي‪ ،‬حيث مل يقع التمييز بني صنفني من املصادر الوسيطة‪ ،‬أي التمييز بني املصادر اليت اعتمد على‬ ‫الس ْرَاينية أو اإلسرائيليات‪ ،‬واملصادر اليت نقلت من املؤلّفات اآلراميّة‪ ،‬ومن بني املصادر اآلراميّة جند‬ ‫الرواية ُ‬ ‫املؤلّفات النّ بَطية املزعومة اليت نقلها ابن وحشيّة إىل العربية واليت يزعم أّنا َك ْس َدانيّة‪.‬‬ ‫األنباط وال َك ْس َدانِيُون‬ ‫يذكر ابن وحشيّة يف ابب حديثه عن األنباط‪ ،‬أنّه ينتمي إىل الطائفة ال َك ْس َدنِيّة‪ ،‬ال نعلم الكثري‬ ‫عن هذه الطائفة غري إشارة ابن وحشيّة نفسه ومفادها أ ّن ال َك ْس َدانِية هي الطائفة املوسعة للنّبط‪ .‬رأى‬ ‫الدارسون أن َكلمة َكس َدانية هي حتريف لكلمة ِ‬ ‫الك ْل َدانِيِني‪ ،‬واستندوا يف برهاّنم على ُوُرود الكلمة يف‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومنَ ّجمون وُك َّهان يف سفر‬ ‫الكتاب املقدس يف صيغة َك ْس َدن مبعىن الك ْل َدانيني‪ ،‬ذُك ُروا على أ ّّنم َس َحَرة ُ‬ ‫‪ 3‬نسبة إىل سلوقوس‪ ،‬أحد ضباط اإلسكندر الكبار‪ .‬رفض يف البداية االستقرار يف اببل ليؤسس فيما بعد عاصمة جديدة‬ ‫مسّاها أنطاكية‪.‬‬ ‫‪4‬‬ ‫ِ‬ ‫روسوس الك ْلداين أنّه عاش قبل الطوفان‪ ،‬وأ ّن اآلهلة‬ ‫أجل احلكماء السبعة‪ ،‬يقول بَ ُّ‬ ‫من بني هذه األخبار‪ ،‬خرب َ‬ ‫آداﭘ ا‪ ،‬أحد ّ‬ ‫كشفت له أسرار الكون‪.‬‬ ‫‪ 5‬كان ينظر يف أورشليم بعني ِ‬ ‫الريبَة إىل هذه النسخة ‪ ،‬ألّنا نسخة انقصة ذلك أن العهد القدمي يف التّقليد اليهودي ويف‬ ‫ّ‬ ‫الس ْيب‪ ،‬مكون من ثالثة أجزاء‪ :‬اخلمس كتب األوىل تُنسب إىل موسى فهي‬ ‫ويهوذا‬ ‫النّص العربي‪ ،‬وهي لغة إسرائيل‬ ‫حت َّ‬ ‫ّ‬ ‫التوراة‪ ،‬واجلزء الثّاين األنبياء‪ ،‬و اجلزء األخري الكتب‪.‬‬ ‫‪6‬‬ ‫األول بعد املسيح‪.‬‬ ‫عاش يف القرن ّ‬ ‫‪ 339-265 7‬ب‪.‬م‪.‬‬ ‫‪ )Γεώργιος Σύγκελλος( 8‬عاش يف أواخر القرن الثامن بعد املسيح‪.‬‬ ‫‪ 9‬عاش يف القرن اخلامس قبل املسيح‪.‬‬ ‫‪10‬‬ ‫األول قبل املسيح‪.‬‬ ‫عاش يف القرن ّ‬ ‫‪ 11‬حوايل ‪ 64‬ق‪.‬م‪ 25-‬ب‪.‬م‪.‬‬ ‫‪12‬‬ ‫األول قبل املسيح‪.‬‬ ‫عاش يف القرن ّ‬ ‫دانيال‪ .‬هذا الربط بني ال َكسدانِيِني و ِ‬ ‫الك ْل َدانيِني كان من بني الرباهني اليت استند عليها الدارسون الفرتاض‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اجلذور السومرية لكلمة َك ْسدمي العربانية‪ ،‬وتعين "يف املائني"‪ ،‬ف ُف ّسرت على أساس أّنا إشارة إىل َس َكن‬ ‫ِ‬ ‫الك ْل َدانِيِني يف بالد سومر وبالد أ ّكد‪ ،‬بني ّنري دجلة والفرات‪ .‬أقوام من البدو الساميني‪ ،‬هاجرت إىل بالد‬ ‫الرافدين واستوطنت يف جنوب اببل‪ .‬أشارت األلواح املسمارية إىل تعاظم نفوذهم السياسي منذ القرن‬ ‫ّ‬ ‫‪13‬‬ ‫السالالت اليت حكمت‬ ‫التاسع ق‪.‬م‪ ،‬واعتربهتم من ألد أعداء اآلشوريني ‪ ،‬بل جعلهم بروشا من بني ّ‬ ‫أسسوا ساللة اببل العاشرة (‪626-732‬‬ ‫آشور‪ ،‬بلغ عدد ملوكها ‪ 49‬ملكا من ‪ 2059‬إىل ‪ 160‬ق‪.‬م‪ّ ،.‬‬ ‫ق‪.‬م‪ ،).‬من صلبهم برز مؤسس ساللة اببل احلادي عشر َاببُوﭘوالسار الذي حارب اآلشوريني‪ .‬لكن صورة‬ ‫الك ْلدانِيِني سوف تُ َشوه بعد سقوط اببل ‪ ،‬فالتصقت لفظة ِ‬ ‫ِ‬ ‫لدنِية يف املصادر اليواننية والالتينية ابل َك َهانَة‬ ‫الك َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫السحر والتَ ْن ِجيم‪ ،‬رغم وجود إشارات لرباعتهم يف علم الفلك والرايضيات‪ ،‬لكنها اندرة‪.14‬‬ ‫و ّ‬ ‫اآلرامية والّتاث ِ‬ ‫الك ْل َداين‬ ‫ر‬ ‫الس ْرَاينيَة القدمية و النّ بَطيَّة‬ ‫ذكر ابن وحشيّة يف كتاب الفالحة النّ بَطية أنّه نقل علوم النّ بَط من ُ‬ ‫واننِية‪" ،‬قلم احلكمة"‬ ‫القدمية‪ ،‬واعتربته كتب الطبقات من فصحاء النّ بَط بلغة ال َك ْس َدانِيِني‪ ،‬وأنهّ كان يُتقن اليُ َ‬ ‫لس ْرَاينيَة والنّ بَطيَّة؟ وما املقصود بكلمة "قدمية"‬ ‫كما يقول ابن وحشيّة نفسه‪ .‬لكن ماذا يقصد ابن وحشيّة اب ُ‬ ‫السبيل الوحيد للتعرف‬ ‫؟ قد ال نفهم كالم ابن وحشيّة إذا مل نتَّتبع ّ‬ ‫تطور الكتابة يف بالد ّ‬ ‫الرافدين‪ ،‬فهي ّ‬ ‫الرتاث البابلي القدمي‪.‬‬ ‫على املصادر اليت اعتمدها ابن وحشيّة لنقل ّ‬ ‫الرافدين االنتقال من الكتابة املسمارية إىل الكتابة اآلراميّة‪ ،‬تلك الكتابة اليت استنبطتها‬ ‫عرف بالد ّ‬ ‫قبائل شبه بدويّة‪ ،‬تعرف ابآلراميني‪ ،‬ورد ذكرها يف احلوليات اآلشورية – البابلية منذ أواسط األلف الثانية‬ ‫استقروا يف منطقة اهلالل اخلصيب زمن ضعف الدولة اآلشورية واحنالهلا يف القرنني احلادي‬ ‫قبل املسيح‪ّ ،‬‬ ‫لكن نفوذهم الثقايف كان حامسا‬ ‫عشر والعاشر قبل املسيح‪ .‬مل يهيمن اآلراميون سياسيا على ّ‬ ‫الشرق القدمي ّ‬ ‫بفضل االنتشار السريع للغتهم وكتابتهم‪ ،‬فقد تفوقت على الكتابة املسمارية لتبنيها الكتابة األجبدية‬ ‫‪15‬‬ ‫وم ِريّة الصعبة‪ .‬مل يقتصر دورها على منافسة لغة‬ ‫الكنعانية ‪ ،‬فهي كتابة سهلة مقارنة ابلكتابة ّ‬ ‫الس َ‬ ‫الصورية ُ‬ ‫الرافديين القدمي‪،‬‬ ‫الرافدين وكتابتها‪ ،‬بل أصبحت بعد سقوط اببل الوعاء الذي ُخِّزن فيه ّ‬ ‫بالد ّ‬ ‫الرتاث ّ‬ ‫السومري‪-‬األ ّكدي والكلداين‪-‬اآلشوري‪.‬مل تكن اآلراميّة لساان واحدا‪ ،‬كان اهلالل اخلصيب الفيصل اجلغرايف‬ ‫الشرقية‪ ،‬و غربه تنتشر اآلراميّة الغربية‪.‬‬ ‫يف تقسيمها‪ ،‬تنتشر شرقه اآلراميّة القدمية‪ ،‬لذلك تسمى اآلراميّة ّ‬ ‫الك ْل َدانِيِني والبابليني من جهة وبني ِ‬ ‫‪ 13‬ال يزال التمييز بني ِ‬ ‫الك ْل َدانِيِني واآلشوريني من جهة اثنية يطرح عديد الصعوابت‬ ‫يف علم اآلشورايت‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫وسرتابُن (حوايل ‪ 64‬ق‪.‬م‪ 25-‬ب‪.‬م)‬ ‫حسب أقوال بروشا َ‬ ‫‪15‬‬ ‫الصراع اللغوي بني احلضارات الساميّة القدمية‪ ،‬جملرة مركز اببل لل ردراسات اإلنسانية‪ ،‬جملد ‪ ،2‬العدد ‪ ،1‬حزيران‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،2012‬ص ص ‪ ،391-362‬ص ‪.374‬‬ ‫الشرقية أكثر انتشارا بعد أن اعتمد اآلشوريون اآلراميّة لُغَة رمسية‪ ،16‬وملا اندثر استعمال‬ ‫كانت اآلراميّة ّ‬ ‫الكتابة املسمارية على األلواح‪ ،‬بعد سقوط بالد آشور‪ ،‬أصبحت اللغةُ اآلراميّة املكتوبة ابحلرب حاضنة‬ ‫الرتاث األديب والعلمي السومري واأل ّكدي‪ ،‬من أساطري وأانشيد وتسابيح ومراثي ومالحم وصلوات وأدب‬ ‫ّ‬ ‫طب ورايضيات وصيدلة‪.‬‬ ‫حكمي وشرائع واتريخ وتنجيم وفلك و ّ‬ ‫الشرقية يف العهد البابلي احلديث (‪ 538 - 626‬ق‪.‬م) ويف العهد‬ ‫تواصل استعمال اآلراميّة ّ‬ ‫األمخيين (‪ 330 - 538‬ق‪.‬م) إىل أن عرفت عديد النكسات‪ ،‬نكسة أوىل عند احنسر جماهلا يف دويلة‬ ‫ضر‪ ،‬ومدينة َحّران بسبب اهليمنة اليواننية على اهلالل اخلصيب (‪ 64-312‬ق‪.‬م) ‪ ،‬نكسة اثنية بسبب‬ ‫احلَ َ‬ ‫الرها ونَ ِ‬ ‫صبِني‪ ،‬نكسة اثلثة مع انتشار‬ ‫الس ْرَاينية‪ ،‬أي آرامية النصارى‪ ،‬يف مدينيت ُّ َ‬ ‫انتشار املسيحية وظهور ُ‬ ‫وحّران‪ .‬لكن بعض‬ ‫اإلسالم حني تغلبت اللغة العربية على اآلراميّة يف عديد املراكز من بينها احلرية واحلَ َ‬ ‫ضر َ‬ ‫املراكز حافظت على آراميتها‪ ،‬بل وتعايشت مع لغة الغالب‪ ،‬ونقصد هنا َحّران‪ ،‬بسبب حمافظة هذه املدينة‬ ‫حت أ ّّنا اختصت آبرامية خمتلفة عن أرامية النصارى‪ ،‬عرفت آبرامية الصابئة‪ ،‬كانت وريثة‬ ‫على وثنيتها‪ّ ،‬‬ ‫الوثنية اآلشورية‪-‬الفارسية املمتزجة عرب العصور بعديد املصطلحات اليهودية واملسيحية‪ .‬كانت َحّران أحد‬ ‫أهم املراكز الوثنية يف الفرتة العباسية األوىل‪ ،‬بدأ إشعاعها منذ أن نقل عمر الثّاين مدرسة اإلسكندرية إىل‬ ‫‪17‬‬ ‫حران على دين‬ ‫َحّران‪ ،‬جتمعت فيه علوم ومعتقدات ّ‬ ‫الشرق القدمي املصبوغة ابألفْالَطُونية احملدثة ‪ .‬كانت ّ‬ ‫وم ِريّة‪-‬األ ّكدية‪ ،‬شهدت عديد األحداث‪ :‬سكنها انبوانئيد‪ ,‬آخر ملوك اببل‬ ‫الس َ‬ ‫اإلله سني منذ العهود ُ‬ ‫الذي شيّد فيها هيكل اإلله سني‪ ،‬اغتيل فيها اإلمرباطور الروماين َكارا َكاالّ يف سنة ‪ 217‬ب‪.‬م‪ ،.‬جعلها‬ ‫اإلمرباطور يوليانوس مركزا لقيادة محلته ض ّد النصارى يف سنة ‪ 363‬ب‪.‬م‪ ،.‬ويف سنة ‪ 639-638‬دخلها‬ ‫العرب‪ ،‬مارس احلَّرانيون يف البداية عبادهتم دون مضايقات شريطة دفع اجلزية‪ ،‬غري أ ّّنم اجربوا يف عهد‬ ‫اخلليفة العباسي املأمون على التعريف أبنفسهم كصابئة‪.18‬‬ ‫ملاذا ابن وحشيرة؟‬ ‫جاء يف مقدمة كتاب الفالحة النّ بَطيَّة أن مرتمجه يُ ْد َعى أاب بكر أمحد بن علي بن قيس ال َك ْس َد ِاين‬ ‫القسيين‪ ، 19‬و هو أبو بكر أمحد بن علي بن املختار بن عبد الكرمي بن جرثيا بن بدنيا بن برطانيا بن‬ ‫‪ 16‬أصبحت اللغة السائدة يف الفرتة املمتدة بني ‪ 1100‬ق‪.‬م‪ .‬و ‪ 612‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫‪ 17‬الطرابلسي (بوراوي)‪ ،‬نشأة علم الفالحة العريب‪ ،‬تونس‪ ،2005 ،‬ص ‪.232‬‬ ‫‪18‬‬ ‫مر‬ ‫الروم‪ّ ،‬‬ ‫الرواية األكثر تداوال يف املصادر الوسيطة هي تلك اليت جاء فيها أ ّن اخلليفة املأمون ملا عقد العزم على قتال ّ‬ ‫قرب َحّران‪ ،‬هناك القته أقوام عديدة من بينها مجاعة َحّرانية‪ ،‬استغرب املأمون من لباسهم األسود وشعرهم الطويل يف‬ ‫وخريهم بني اعتناق اإلسالم أو التوحيد‪ ،‬فنصحهم‬ ‫خصل فسأهلم إن كانوا من أهل الكتاب فلم جييبوا فاعتربهم من الوثنيني ّ‬ ‫أحد شيوخ َحّران أبن يقولوا حنن صابئة ومنذ ذلك الوقت ّاختذوا هذا االسم‪.‬‬ ‫‪19‬‬ ‫األول‪ ،1993 ،‬ص‪.5‬‬ ‫ابن وحشيّة‪ ،‬الفالحة النبطيرة‪ ،‬حتقيق توفيق فهد‪ ،‬دمشق‪ ،‬ج ّ‬ ‫عاالطيا ال َك ْس َد ِاين‪ ،20‬أو الكزداين‪ ،21‬املعروف اببن وحشيّة‪ .‬ينتمي إىل الطائفة ال َك ْسدانِيّة‪ ،‬من سكان‬ ‫مدينة قِ ِّسني‪ 22‬و مدينة ُجْن بُال‪ .23‬أرجع ابن النّدمي نسب ابن وحشيّة إىل سنحاريب‪ .24‬ال جند يف املصادر‬ ‫حت تلك اليت نقلها ابن وحشيّة أو تلك اليت ألّفها‪ ،‬معلومات ختص اتريخ ميالده أو اتريخ‬ ‫العربية‪ ،‬أو ّ‬ ‫وفاته‪ ،‬ابستثناء بعض املعلومات املقتضبة عن اتريخ الرتمجة واإلمالء‪ ،‬جاء فيها أن ابن وحشيّة نقل كتاب‬ ‫الفالحة النّ بَطية يف سنة ‪ 291‬للهجرة‪ ، 904-903/‬وأنّه أماله على أيب طالب أمحد بن احلسني من علي‬ ‫من أمحد من حممد من عبد امللك الزايت يف سنة ‪ 318‬للهجرة ‪ .25930/‬وردت معلومات مقتضبة يف‬ ‫كتاب شوق املستهام يف معرفة رموز األقالم‪ ،‬فيها اتريخ رحلة ابن وحشيّة إىل دمشق يف سنة ‪241‬‬ ‫للهجرة‪ ،26855/‬أو تلك اليت ختص تكوينه العلمي يف َحّران‪.27‬‬ ‫‪29‬‬ ‫كان ابن وحشيّة أحد فصحاء النّ بَط بلغة ال َك ْس َدانِيِني"‪ ،28‬نقل كتبا كثرية من النّ بَطيَّة إىل العربية‬ ‫‪ :‬كتاب الفالحة النّ بَطيَّة‪ ،‬وكتاب دواانى البابلي يف أسرار الفلك و األحكام على احلوادث من حركات‬ ‫النجوم‪ ،30‬وكتاب األسرار‪ ،‬و كتاب السحر الكبري‪ ،‬وكتاب السحر الصغري‪ ،‬و كتاب مذاهب ِ‬ ‫الك ْل َدانِيِني‬ ‫يف األصنام‪ ،‬و كتاب اإلشارة يف السحر‪ ،‬و كتاب أسرار الكواكب‪ ،31‬وكتاب األصول الكبري يف الصنعة‪ ،‬و‬ ‫كتاب األصول الصغري يف الصنعة‪ ،‬و كتاب املذاكرات يف الصنعة‪.32‬‬ ‫تكمن أمهية نقول ابن وحشيّة أوال يف قيمة امل َد ّونة اليت اعتمدها واثنيا يف الطريقة اليت اتبعها يف‬ ‫التأليف بني ما هو نبطي يعود إىل الشرق القدمي‪ُ ،‬‬ ‫استقاه من مصادر آرامية قدمية‪ ،‬وما هو بيزنطي‪-‬يوانين‬ ‫ّ‬ ‫‪ 20‬ابن الندمي (أبو الفرج)‪ ،‬الفهرست‪ ،‬حتقيق غوستاف فلوجل‪ ،‬ص ‪.311‬‬ ‫‪ 21‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪ .358‬والكزداين يقابلها استعمال كرداين يف كتاب الفالحة النبطيرة‪.‬‬ ‫‪ 22‬ابن الندمي‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.311‬‬ ‫‪ 23‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.358‬‬ ‫‪ 24‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.311‬‬ ‫‪ 25‬ابن وحشيّة‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪ 26‬الطرابلسي (بوراوي)‪ ،‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪.228‬‬ ‫‪ 27‬نفس املرجع‪ ،‬ص ص ‪.233-231‬‬ ‫‪ 28‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪.229‬‬ ‫‪ 29‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪ 229‬واليت بعدها‪.‬‬ ‫‪ 30‬قال عنه ابن وحشيّة‪" :‬كتااب عظيم القدر نفيس يتألف من حنو ألفي ورقة‪ ،‬من الورق املسمى الرق أبحسن خط و‬ ‫أصحه و أقومه و أبينه"‪ .‬ابن وحشيّة‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫‪ 31‬ابن الندمي‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.312‬‬ ‫‪ 32‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.358‬‬ ‫صبِغ ابألفالطونية املحدثة‪ ،‬استقاه من مصادر احتوت على مقاطع منحولة‪ .33‬ارتبطت نقول ابن وحشيّة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بدوافع ذاتية‪ ،‬فقد كان يسعى إىل إعادة إحياء جمد طائفته‪ ،‬ومل ُخيْف ذلك‪ ،‬يف فرتة احتدت فيها الصراعات‬ ‫أين وجدت يف هذا الكتاب يف مجلة ما‬ ‫الشعوبية‪ ،‬فقد جاء على لسانه خماطبا أاب طالب‪ " :‬اعلم اي بين ّ‬ ‫ِ‬ ‫الزُروع و الشجر‬ ‫وجدت من كتب ال َك ْس َدانيِني مرتمجا برتمجة معناها ابلعربية كتاب فالحة األرض و إصالح ّ‬ ‫و الثمار و دفع اآلفات عنها‪ .‬و خطر ببايل اختصاره مث فكرت فإذا ذلك خطأ غري صواب‪ ،‬من أجل أن‬ ‫قصدي إمنا إيصال علوم هؤالء القوم‪ ،‬أعين النّ بَط الكسدانيني منهم‪ ،‬وذلك إنين وصلت إىل كتبهم يف زمان‬ ‫حت مل يبق إال ذكرهم فقط وذكر بعض علومهم‪ ،‬ذكرا كاخلرافات بال معرفة‪ .‬فلما‬ ‫قد درس فيه ذكرهم ّ‬ ‫رأيت ذلك اجتهدت يف طلب كتبهم فوجدهتا عند قومهم بقااي الكسدانيني وكنت على دينهم وسنتهم‬ ‫ولغتهم‪ ،‬ووجدت ما وجدت عندهم من الكتب‪ ،‬وهم يف ّناية الكتمان واإلخفاء واجلحود هلا و اجلزع يف‬ ‫الس ْرَاينية القدمية‪ ،‬ما مل أره مع كثري‬ ‫إظهارها‪ .‬و كان هللا ّ‬ ‫جل قد رزقين من املعرفة بلغتهم‪ ،‬اليت هي ُ‬ ‫عز و ّ‬ ‫أحد‪ .‬وذلك إنين منهم ومكنين هللا تعاىل من املال والداننري‪ ،‬فله احلمد‪ ،‬فوصلت إىل ما أحببت من كتبهم‬ ‫هبذه الوجوه اليت عددته‪ ،‬فاستعملت املداراة والبذل ولطيف احليلة‪ ،‬إىل أن وصلت إىل ما أمكن من‬ ‫كتبهم‪ ...‬إذ كانت الكافة من هؤالء القوم‪ ،‬الذي هم بقاايهم كالبقر و احلمري والعاجزين عن فهم شيء‬ ‫من علوم أسالفهم‪ .‬فجعلت أنقل كتااب بعد كتاب"‪.‬‬ ‫مل يكن كتاب الفالحة النبطيّة جمرد نقول قدمية يف الفالحة بل كان حقال شاسعا غرست فيه كنوز‬ ‫الزرع والغرس على عديد‬ ‫معرفية وعقائدية تعود إىل ّ‬ ‫الشرق القدمي‪ ،‬فقد احتوى الكتاب يف ثنااي تعاليم ّ‬ ‫حت‬ ‫املقاطع اليت هلا صلة ابلسحر واخلرافات والتنجيم واألساطري‪ ،‬ال جندها ال يف املصادر العربية وال ّ‬ ‫التعرف عليها إذا ما سلّمنا ّأّنا ال تعدو أن تكون سوى نتاج شابه‬ ‫الس ْرَاينية‪ .‬لذلك قد يكون من الصعب ّ‬ ‫ُ‬ ‫التحريف والتزوير مع األفالطونية احملدثة‪ ،‬لذلك فإن السبيل الوحيد للتحقق من مصداقية مزاعم ابن وحشيّة‬ ‫للرتاث ال َك ْس َد ِاين القدمي‪ ،‬مقارنة هذه املقاطع ابملصادر املكتوبة‪ ،‬نعين األلواح املسمارية‪ ،‬اليت ترجم‬ ‫عن نقله ّ‬ ‫أغلبها‪ ،‬ومن بني هذه املقاطع‪ ،‬حاشية أورد فيها ابن وحشيّة سرية متُّوز وعلّق عليها‪.‬‬ ‫من أساطري األولني إىل ال رِذ ْك َران‬ ‫َتُّوز يف الرواية النر بَطية‬ ‫أورد ابن وحشيّة يف ابب "األهوية واملياه" التعليق التايل‪:‬‬ ‫‪33‬‬ ‫صنّف املنحول أكثر دقة وعمقا من األصل‪ ،‬إىل درجة أن ادعى واضعو هذه املنتخبات ملكية أفكار‬ ‫بل أصبح املُ َ‬ ‫املؤلّف‪ .‬قد يكون ابن وحشيّة نقل قراءة أحد وجهاء الثقافة البيزنطية ابنتحال عديد املقاطع من كتب الفالحة‪ ،‬قراءة تقوم‬ ‫على ثالث مراحل‪ :‬استخراج صحفا من هوامش الكتب‪ ،‬اثنيا استخراج من هذه الصحف عديد احلواشي‪ ،‬واثلثا مجع‬ ‫هذه احلواشي يف مادة ِ‬ ‫مستقلّة عن النص األصلي‪.‬‬ ‫" إن هذا الشهر املسمى متُّوز هو‪ ،‬فيما ذكر النّ بَط‪ ،‬حبسب ما وجدت يف كتبهم‪،‬‬ ‫اسم رجل كانت له قصة عجيبة طويلة‪ ،‬وقتل‪ ،‬زعموا قتالت قبيحة بعضها بعقب‬ ‫بعض‪ ،‬وأ ّن شهورهم هذه كل واحد منها اسم رجل فاضل عامل كان يف القدمي من‬ ‫النّ بَط الذين كانوا سكان إقليم اببل قبل ال َك ْسدانِيِني‪ .‬وذلك أن متُّوز هذا ليس من‬ ‫ال َك ْسدانِيِني وال الكنعانيني وال العربانيني وال اجلرامقة‪ ،‬إمنا هو من احلساسن‬ ‫األولني‪...‬و الصابئيون كلهم يف زماننا من البابليني واحلراننيني مجيعا‪ ،‬إىل وقتنا هذا‪،‬‬ ‫وحون و يَْب ُكون على متُّوز يف الشهر املسمى متُّوز‪ ،‬يف عيد هلم فيه منسوب إىل متُّوز‬ ‫يَنُ ُ‬ ‫و يُ َع ِّد ُدون تَ ْع ِديدا عظيما‪ ،‬و خاصة النّساء فإّنن يقمن هاهنا و حبَّران مجيعا‪،‬‬ ‫أين تَبَ يَّ نَت أنّه ليس‬ ‫فينوحون و يبكون على متُّوز و يهذون يف أمره هذايان طويال‪ .‬إال ّ‬ ‫لتموز‪ ،‬و ال ما العِلَّة يف نَ ْو ِحهم عليه‪ .‬فلما نقلت‬ ‫عند أحد من الفريقني خرب صحيح ُّ‬ ‫هذا الكتاب َمّر ِيب فيه أن متُّوز رجل كانت له قصة و أنّه قُتِل قتلة قبيحة فقط‪ ،‬ال‬ ‫زايدة على هذا من أمره‪ ،‬ويل عندهم علم من أمره أكثر من أن يقولوا‪ :‬هكذا وجدان‬ ‫أسالفنا ينوحون و يبكون يف هذا العيد املنسوب إىل متُّوز‪ .‬وأان أقول أن هذا ِذ ْكَران‬ ‫لتموز كان يف القدمي و بَِق َى إىل اآلن و درس خربه لبعد زمانه‪ .‬فليس بعلم‬ ‫يعملونه ُّ‬ ‫قصته ومل انحوا عليه‪ .‬و للنصارى ِذ ْكَران‬ ‫أحد من هؤالء يف زماننا هذا ما كانت ّ‬ ‫يعملونه لرجل يسمى ُج ْورِجيس‪ ،‬يزعمون أنّه قتل قتالت عدة قبيحة مث يعيش‪،‬‬ ‫زعموا‪ ،‬بعقب كل قتلة منها‪ ،‬مث يقتل أيضا اثنية مث يعيش‪ ،‬و كذلك اثلثة و مرارا‪ ،‬مث‬ ‫أنّه ما يف آخرها يف قصة يطول شرحها‪ .‬و هي ُم َد َّونة يف كتاب يف أيدي النصارى و‬ ‫هم يعملون له ِذ ْكَراان يسمون ِذ ْكَران ُج ْورِجيس‪ .‬فقصة متُّوز هذا الذي قدمنا ذكره مثل‬ ‫قصة ُج ْورِجيس سواء فال أدري أوقع إىل النصارى قصة متُّوز النيب اليت كانت قدميا‪،‬‬ ‫بتموز أّنا جلُ ْورِجيس‪،‬‬ ‫فأبدلوا مكاّنا اسم ُج ْورِجيس كذلك‪ ،‬مث ساقوا القصة املعمولة ُّ‬ ‫و خالفوا الصابئني يف الوقت‪ ،‬ألن الصابئني يعملون ِذ ْكَران متُّوز أول يوم من شهر‬ ‫متُّوز‪ ،‬و النصارى يعملون جلُ ْورِجيس يف آخر نيسان‪ ،‬أو قبل آخره قليال‪ .‬فقد وقفنا‬ ‫صة ُج ْورِجيس يف تعذيبه و قتل امللوك له مرارا هي قصة متُّوز بعينها‪ ،‬لكن‬ ‫اآلن أن قّ ّ‬ ‫النصارى سرقوها من الصابئني و جعلوا ُج ْورِجيس أحد حواري املسيح‪ ،‬و أنّه دعا‬ ‫ملكا من امللوك إىل دين النصرانيّة فعذبه ذلك امللك بتلك القتالت اليت قتلته‪ .‬و‬ ‫الذي عندي أان‪ ،‬مبقدار علمي‪ ،‬أ ّن القصتني مجيعا كذب وحمال ال جيوز أن يكون‬ ‫حقا‪ .‬فهذا الذي ما وجدته يف كتاب الفالحة من أمره‪ .‬مث وقع يل بعد ذلك كتاب‬ ‫من كتب النّ بَط فيه شرح قصة متُّوز‪ ،‬أنّه دعا ملكا إىل عبادة السبعة واالثين عشر‪ ،‬وأ ّن‬ ‫امللك قتله وعاش بعد القتلة له‪ ،‬مث قتل قتالت بعد ذلك قبيحة يف كلّها يعيش‪ ،‬مث‬ ‫قصة ُج ْورِجيس اليت يف أيدي النصارى سواء هي هي‪.‬‬ ‫مات يف آخرها‪ .‬فإذا هي ّ‬ ‫لتموز ِذ ْكَراان هو عندهم عيد متُّوز و النصارى يقيمون جلُ ْورِجيس‬ ‫فالصابئون يقيمون ُّ‬ ‫‪34‬‬ ‫ِذ ْكَراان هو عندهم عيد ُج ْورِجيس و تذكرة له" ‪.‬‬ ‫اندرا ما كان ابن حشية يعلّق على املواد اليت نقلها من النّ بَطية إىل العربية‪ ،‬ومن غري املستبعد أن‬ ‫تكون هذه التعاليق أقحمت بناءا على أسئلة أو استفسار طرحها أبو طالب الذي مجع الكتاب بعد وفاة‬ ‫صاحبه ابن وحشيّة‪ .‬تكمن أمهية هذه احلاشية أوال يف إبراز جوانب من شخصيّة ابن وحشيّة وتكوينه‬ ‫ِ‬ ‫س ابن وحشيّة جوابه على ّنج‬ ‫العلمي‪ .‬فعن سؤال قد يكون طرحه أبو طالب‪ ،‬هل ُوج َد متُّوز فعال؟ َهْن َد َ‬ ‫يفصل بني األسطوري والتارخيي‪ ،‬فكان بناء احلاشية على مراحل‪.‬‬ ‫مراحل بناء ابن وحشيّة لسرية متُّوز‪:‬‬ ‫السراينيّة اليت ورد فيها ذكر متُّوز‪.‬‬ ‫ مجع املصادر املكتوبة اآلراميّة و ُ‬‫ مجع املعلومات الشفاهية‪ ،‬تلك اليت استقاها من حبوثه امليدانية‪ ،‬قد ال نبالغ إذا ما وصفناها‬‫لتموز وآخر‬ ‫ابالثنوغرافية حيث نقل من خالهلا ابن وحشيّة ما شاهده يف ِذ ْكَران كان يقام ُّ‬ ‫جلُ ْورِجيس‪ُ ،‬م ْستَ ْج ِواب يف ال ِّذ ْكَران األول أانسا كانوا ُحييُون موت متُّوز‪.‬‬ ‫ مقارنة مواد مدونته املكتوبة والشفاهية وتقدمي مالحظاته واستنتاجاته‪.‬‬‫املالحظات‪:‬‬ ‫‪35‬‬ ‫ ضرورة التمييز أوال بني طوائف الصابئة‪ ،‬بني صابئة َحّران واببل والبطائح‪ ،‬وأ ّن صابئة البطائح ال‬‫حتيي ِذ ْكَران متُّوز‪.‬‬ ‫حران هي اليت كانت تبكي متّوز وقلّما كانت الرجال تقوم بذلك‪.‬‬ ‫ النّساء يف ّ‬‫ الذين حييون ال ِّذ ْكَران َْجي َهلُون متاما قصة متُّوز وملاذا يقومون به‪.‬‬‫ النصارى حييون ذكرا جلُ ْورِجيس لكن يف غري توقيت متُّوز‪.‬‬‫االستنتاجات‪:‬‬ ‫‪36‬‬ ‫ قد تعود سرية متُّوز إىل عهد احلساسنة ‪ ،‬لكن ما هو اثبت أ ّّنا ليست كنعانية وال ِع ْ َربانِية وال‬‫عالقة هلا ابجلََر ِام َقة‪.‬‬ ‫‪ 34‬ابن وحشيّة‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪ 297‬واليت تليها‪.‬‬ ‫‪ 35‬أي الطائفة املندائية‪ ،‬وتعرف ابمل ْغتَ ِسلَة يف املصادر العربيّة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الرافدين‪ ،‬تدفعنا‬ ‫بالد‬ ‫يخ‬ ‫ر‬ ‫بتا‬ ‫الدقيقة‬ ‫ة‬ ‫وحشي‬ ‫ابن‬ ‫فة‬ ‫ر‬ ‫مبع‬ ‫وثوقنا‬ ‫لكن‬ ‫‪،‬‬ ‫للحساسنة‬ ‫دقيق‬ ‫يف‬ ‫‪ 36‬مل نعثر يف املصادر على تعر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الزراعي يف مشال بالد‬ ‫تل حسونة اليت عرفت ظهور النشاط ّ‬ ‫إىل تقدمي الفرضية التّالية‪ :‬أن يكون املقصود ابحلساسنة ساكين ّ‬ ‫الرافدين منذ العصور احلجرية احلديثة‪ ،‬خاصة حول قرى َج ْرُمو و َح ُّسونَة و تَ ّل َحلَف‪ .‬انظر لويد (ستيون)‪ ،‬آاثر بالد‬ ‫ّ‬ ‫الرافدين‪ ،‬ترمجة حممد طلب‪ ،‬دمشق‪ ،1993-1992 ،‬ص ص ‪.99-95‬‬ ‫ر‬ ‫ يعود سبب تضارب الرواايت النّ بَطية حول عدد القتالت إىل طغيان اجلانب األسطوري عليها‪،‬‬‫فكان احلديث عن عديد القتالت‪ ،‬أما الرواايت األكثر اترخيية فقد كان احلديث فيها عن قتلة‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫ لئن سرق النصارى سرية متّوز فإن رواية الصابئة يشوهبا التزوير كذلك‪ .‬قد يدفعنا االستنتاج الثالث‬‫إىل افرتاض اطالّع ابن وحشيّة على الرواية األصلية لسرية متُّوز‪ ،‬لكن هذا االفرتاض جيعلنا أمام‬ ‫املفارقة التّالية‪ ،‬عدم اجلدوى من البحث عن الرواية األصلية يف املصادر املكتوبة القدمية‪ ،‬ألن‬ ‫املصدر املكتوب الوحيد الذي ذكر متُّوز هو العهد القدمي‪ ،‬وال جند فيه غري إشارة يتيمة‪ ،‬بكاء‬ ‫احلل الوحيد العودة إىل املصادر‬ ‫نساء على متُّوز قرب حائط معبد أورشيليم‪ ،‬إذن بقي أمامنا ّ‬ ‫املادية‪ ،‬أي األلواح املسمارية‪.‬‬ ‫وم ِريرة‪-‬األ ركدية‬ ‫الس َ‬ ‫َتُّوز يف األلواح ُ‬ ‫‪37‬‬ ‫وموِزي يف رواية‬ ‫لعل أبرزها أسطورة ُد ُ‬ ‫احتوت األلواح املسمارية على أهم األساطري بالد ّ‬ ‫الرافدين ‪ّ ،‬‬ ‫نزوله إىل العامل السفلي‪ ،‬أو زواجه إبان ّان‪ ،‬كما ذُكر يف أشعار البدو‪ ،‬ويف مراثي اببل القدمية‪ .38‬لئن طغى‬ ‫فإّنا احتوت يف املقابل على إشارات ميكن وصفها‬ ‫اجلانب األسطوري على هذه الواثئق املادية ّ‬ ‫‪40‬‬ ‫ابلتارخيية‪ ،39‬مثل إدراج ُد ُ ِ‬ ‫تزوجه من إان ّان‪ ،‬شفيعة‬ ‫الراعي ‪ ،‬أو ّ‬ ‫وموزي يف "القائمة امللكية" حتت تسمية ّ‬ ‫‪41‬‬ ‫ِ‬ ‫وموِزي أبقدم الطّقوس يف‬ ‫وروك و إسني‪ .‬كما ارتبط اسم ُد ُ‬ ‫مدينة أريش ‪ ،‬أو بناء معابد له يف مدينة أُور‪ ،‬وأُ ُ‬ ‫الرافدين‪ :‬طقوس جين التّمر‪ ،‬طقوس الزواج املقدس‪ ،42‬طقوس االحتفاالت يف الشهر السادس‪ ،‬أي‬ ‫بالد ّ‬ ‫شهر متُّوز‪ ،‬إيذاان بنهاية فصل الصيف‪ ،‬فصل القحط واجلدب والغُ ّمة حيث ُْحي َمل صنمه من مدينة أوروك‬ ‫‪37‬‬ ‫الرافدين من الثقافة الشفهية إىل ثقافة التدوين‪ ،‬اجتازت حدود املعبد والقصر‪ ،‬ودخلت‬ ‫نقلت الكتابة املسمارية بالد ّ‬ ‫الشوارع واألزقّة والبيوت واألسواق‪ ،‬فتفرع املكتوب إىل واثئق إدارية‪ ،‬ونصوص ملكية‪ ،‬ومؤلفات أدبية من تراتيل وتعويذات‬ ‫وم ِريّة على املكتوب إىل أن َغلَبَ ْت َها اللغة َّ‬ ‫األك ِدية بلهجاهتا‪ ،‬البابلية‬ ‫الس َ‬ ‫وابتهاالت وتسابيح وشرائع‪ .‬طغت يف البداية اللغة ُ‬ ‫و اآلشورية و ِ‬ ‫لدانِيَة‪.‬‬ ‫الك َ‬ ‫‪ 38‬عرفت مدينة لَﭭش ظهور صنف أديب جديد حوايل سنة ‪ 2340‬ق‪.‬م‪ُِ .‬مسّي أدب احلزن واملراثي حيث امتزجت فيه‬ ‫األغاين ابلبكاء والنّواح بعد أن ُد ِّمرت املدينة واعترب ذلك عقااب من اآلهلة وسخطا عليها‪.‬‬ ‫‪39‬‬ ‫كان مدينته‪ .‬أنظر‪Vanden Berghe (L.), Réflexions .:‬‬ ‫وموِزي كان ملكا أهله س ّ‬ ‫هناك طرح يرى أن ُد ُ‬ ‫‪critiques sur la nature de Dumuzi-Tammuz, Syria, tome 32 fascicule 3-4, 1935,‬‬ ‫‪pp.370-371, p.371.‬‬ ‫‪ 40‬كان امللك اخلامس يف األلف الثالث قبل املسيح‪.‬‬ ‫‪ 41‬منذ األلف الثالث قبل املسيح‪.‬‬ ‫‪42‬‬ ‫إبان َّان‪ ،‬يكون هذا الطّقس ّإما لالحتفال‬ ‫وموِزي والزواج َ‬ ‫يتمثّل ّ‬ ‫الزواج املَُق ّدس يف جتسيد امللك السومري شخصية ُد ُ‬ ‫ابلربيع أو عند اعتالء امللك العرش‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إىل املدن اجملاورة‪ ،‬طقوس احلزن اجلماعي والبكاء يف مدينة ماري ومدينة نينوى حيث يُ َق ّدم الطعام‬ ‫للنائحات‪ .‬لكن سقوط ساللة إيسني يف القرن الثامن عشر قبل املسيح ّأدى إىل حتوالت عقائدية ودينية‬ ‫عميقة‪ ،‬فلم يعد للزواج املقدس أي دور كبري‪ ،‬بعد أن رحل ُد ُ ِ‬ ‫وم ِريّة إىل األ ّكدية‪ ،‬وأصبح‬ ‫الس َ‬ ‫وموزي من ُ‬ ‫الرابع‪ 43‬شهر بداية القحط واجلدب والغُ ّمة‪ ،‬وهو‬ ‫حيتل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشهر ّ‬ ‫يسمى متُّوز‪ ،‬أحد آهلة عوامل اجلحيم‪ ،‬وأصبح ّ‬ ‫ُّ‬ ‫شهر نزول متوز إىل عامل الالعودة‪.‬‬ ‫وم ِريّة إىل األلف الثالث ق‪.‬م‪ ،.‬أُعيد نسخها يف القرن السابع عشر‬ ‫الس َ‬ ‫تعود أقدم الرواايت ُ‬ ‫وموِزي إىل متُّوز وإان ّان‬ ‫والسادس عشر ق‪.‬م‪ ،‬فأصبحت سامية حيث ّ‬ ‫فتحول ُد ُ‬ ‫تغريت أمساء أبطال السرية‪ّ ،‬‬ ‫‪44‬‬ ‫ِ‬ ‫وم ِريّة‪،‬‬ ‫الس َ‬ ‫إىل ع ْشتَار ‪ّ ،‬‬ ‫لكن الوعاء العقائدي والديين مل يتغري‪ ،‬لذلك مل يقع املساس مبلحمة التكوين ُ‬ ‫اليت هي أساس بناء هذه السرية‪ .‬جاء يف ملحمة التكوين‪ ،‬أ ّن العامل‪ ،‬قبل التكوين‪ ،‬كان فارغاً من كل‬ ‫شيء عدا املياه األزلية‪ ،‬من هذه املياه خرجت اإلهلة َمنُّو‪ ،‬األم األوىل اليت مل تُولَد ومل تَلِد ومل يكن أحد‬ ‫معها‪ِ ،‬‬ ‫حتركت َمنُّو وصارعته‪ ،‬فكان ميالد‬ ‫ُ‬ ‫فجعل من املاء الرمحي كل شيء‪ .‬كان ّ‬ ‫السكون هو السائد إىل أن ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السماء وقاعدته األرض‪ ،‬هو الكون وامسه آ ْن‪-‬كي‪ ،‬آ ْن هو إله‬ ‫جبل يَعُوم وسط ذلك البحر األزيل‪ ،‬ق َّمتُه ّ‬ ‫السماء وكِي هي إهلة األرض‪ .‬كاان يف مضاجعة دائمة‪ ،‬م ْلتَ ِ‬ ‫صقني‪ ،‬فأمثر ذلك ولدا هو أَنْلِيل‪ ،‬إله اهلواء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫السماء‪ ،‬وأنزل ّأمه‪،‬‬ ‫عندما أصبح أَنْليل شااب سئم العيش مع أبويه‪ ،‬فدفع أببيه‪ ،‬آ ْن‪ ،‬إىل األعلى‪ ،‬فكانت ّ‬ ‫ِ‬ ‫حرك أَنْلِيل املطر فنكح اإلله آ ْن اإلهلة "كي"‪ ،‬فَ ُولِد اإلله أَنْ ِكي‪ ،‬إله املاء‬ ‫كي إىل األسفل‪ ،‬فكانت األرض‪ّ .‬‬ ‫واحلكمة‪ ،‬وخرج من املاء كل شيء حي‪ ،‬وكان اخلصب‪ .‬اكتمل التكوين مبيالده وانتظم الكون‪ ،‬كون يسبح‬ ‫يف فلك أم اآلهلة َمنُّو إىل أبد اآلبدين ‪ ،‬قبّة مساوية يف األعلى حتيط ابألرض‪ ،‬واألرض قرص يسبح يف حبر‬ ‫حييط هبا‪ ،‬ويف األسفل توجد عوامل اجلحيم‪ ،‬عامل الالعودة‪ ،‬حييط به ّنر عظيم وبواابت سبع‪ ،‬تؤدي كلها إىل‬ ‫قصر اإلهلة أريشك جال واإلله نركال‪ ،‬هذا العامل ختلد إليه أرواح املوتى من البشر‪.‬‬ ‫وموِزي‪/‬متُّوز راعيا‪ ،‬افتنت جبمال اإلهلة َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار ‪ ،‬إهلة احلب‪،‬‬ ‫كان ُد ُ‬ ‫ذهب إىل أخيها أُوتُو‪ ،‬إله الشمس‪ ،‬طالباً يدها‪ ،‬لكنّها رفضت‪ ،‬فقد كان قلبها على‬ ‫هوى فالح‪ .45‬قرر دوموِزي‪/‬متُّوز الب وح بسر حبه هلا دون وساطة‪ ،‬و ِ‬ ‫اعدا َّإايها بتَ ْلبِية‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُُ‬ ‫ََ‬ ‫َْ‬ ‫‪ 43‬من بني الطقوس تنظيف صنم دموزي وإان ّان يف هذا الشهر‪.‬‬ ‫‪ 44‬تعود هذه املراثي إىل احلقبة البابلية احلديثة‪ ،‬من القرن احلادي عشر ق‪.‬م إىل القرن السادس ق‪.‬م‪ ،‬كتبت ابللغة‬ ‫وم ِريّة واللغة األ ّكدية‪ .‬انظر كذلك‪Bottéro (J.), Une fenêtre vers la Mésopotamie : un .:‬‬ ‫الس َ‬ ‫ُ‬ ‫‪fragment d’un mythe de Catabase autour du dieu du vin( ?), pp.19-22.‬‬ ‫‪45‬‬ ‫ار‪/‬إان َّان لشقيقها‪:‬‬ ‫قالت ِع ْشتَ َ‬ ‫الر ِ‬ ‫اعي‬ ‫أان‪ ،‬ال لن أتزوج من َّ‬ ‫وثيابه اخلشنة لن أرتدي‬ ‫كل رغباهتا ‪ ،‬فَ َعلِ َقْته‪ ،‬لكنه ظل خيشى غرميه الفالح‪ .‬كاان على وشك االقتتال لوال‬ ‫خلُق الفالح الذي تَنَ َّحى‪ ،46‬لكن ِ‬ ‫عشيقته اشرتطت موافقة والديها‪ 47‬على الزواج‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بعد زواجها قررت َإانانَّ‪ /‬ع ْشتَار‪ ،‬دون سبب ‪ ،‬النزول إىل العامل األسفل‪،‬‬ ‫نواميسه ال تسري على العامل العلوي‪ ،‬ملكته إيريشكيجال‪ ،‬شقيقة َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار‬ ‫ابلزايرة‪ ،‬لكن َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار مل ختشى النزول‪ ،‬كانت‬ ‫ال ُك ْربى‪ .‬كانت على علم مسبّق ّ‬ ‫تعول كثريا على مساعدة اآلهلة هلا‪ ،‬خاصه اإلله أَنْ ِكي‪ ،‬إله احلكمة‪ .‬نزلت َإانانَّ‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫ِع ْشتَار مرتدية اتجا ومالبس وأساور إىل العامل السفلي ذي األبواب السبع ‪ ،‬كان‬ ‫عليها أن تستجيب لألوامر‪ ،‬فتلك نواميس عوامل اجلحيم‪ ،‬قام حارس األبواب بتنفيذ‬ ‫فجرد َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار من مالبسها كلّما عربت ابب من األبواب‬ ‫أوامر إيريشكيجال‪َّ ،‬‬ ‫صوبت نظرات املوت‪ ،‬فتحولت‬ ‫السبع‪ّ ،‬‬ ‫حت وصلت عارية أما إيريشكيجال‪ ،‬عندها ّ‬ ‫َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار إىل جثة معلقة على َوتَد‪ ،‬عندها وتوقفت ُم َتعة اجلسد فتوقفت احلياة‪،‬‬ ‫ومات مع َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار كل شيء حي‪.‬‬ ‫تَ َد َّخل إله احلكمة إلنقاذ َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار ‪ ،‬لكن إريشكيجال اشرتطت أن‬ ‫تُ َع ّوض أختها بَِرِهينَة مقابل مغادرة عامل الالعودة‪ .‬قصدت َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار عديد املدن‪،‬‬ ‫حبثا عن بديل‪ ،‬لكنها يف كل مرة كانت تضعف أمام بكاء وتَ َّو ُسل الرهائن‪ ،‬ذهبت‬ ‫إىل مدينة زوجها‪ ،‬فوجدته جالسا على العرش ِحبُلَ ِل العيد واألفراح‪ ،48‬اغتاظت َإانانَّ‪/‬‬ ‫‪46‬‬ ‫وموِزي أن ترعى ماشيته يف مراعيه وضياعه‪.‬‬ ‫جاء يف بعض الرواايت أ ّن الفالح اقرتح على ُد ُ‬ ‫‪ 47‬تعود أقدم نسخة ل"نزول َإَن اَن إىل عوامل اجلحيم" إىل األلف الثالث قبل املسيح‪ ،‬وفيها ما يفيد أن َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار هي‬ ‫ِ‬ ‫وموِزي‪َ/‬متُّو ‪َ ،‬وَهبَت فَ َر َجها كي يكون حرَاث له‪ .‬فقد جاء يف أغاين حب‬ ‫وموِزي‪َ/‬متُّو ‪ ،‬بل من فرط عشقها ل ُد ُ‬ ‫اليت َعل َقت ُد ُ‬ ‫سومرية تعود إىل األلف الثّاين ق‪.‬م‪ ،‬طغت عليها اإلابحية ‪ ،‬أن مواعيد الغرام كثرت بني العشيقني ‪ ،‬و يف إحدى‬ ‫األمسيات الغراميّة‪َ ،‬مّر الوقت دون أن يشعر العشيقان بذلك‪ ،‬فخافت َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار العودة إىل البيت‪ ،‬فهي ال تقدر على‬ ‫مواجهة ّأمها‪ ،‬فاتفقا االثنني على حيلة‪ ،‬أن تكذب َإانانَّ‪ِ /‬ع ْشتَار على ّأمها وت ّدعى ّأّنا كانت مع صديقة هلا يف حديقة‬ ‫العشَّاق‪ ،‬كانت‬ ‫ابلرقص والغناء وأ ّن الوقت فاهتما دون أن يشعرا‪ .‬لكن مل َختْ ُل مواعيد الغرام من خصام ُ‬ ‫عامة لالستمتاع ّ‬ ‫ِ‬ ‫الراعي‪ ،‬فيشتد الشجار بينهما‪ ،‬وتزيد اإلهلة يف تعاليها على عشيقها‬ ‫َإانانَّ‪ /‬ع ْشتَار تذكر عشيقها دوما ّأّنا إهلة وهو ّ‬ ‫وموِزي‪َ/‬متُّو ذات يوم حبيبته يف منزهلا حامال هدااي‪،‬‬ ‫لكن ُحبّه كان أقوى من كل شيء‪ .‬زار اإلله ُد ُ‬ ‫ُد ُ‬ ‫وموِزي‪َ/‬متُّو ‪ ،‬فيغضب ّ‬ ‫ِ‬ ‫إال أنّه وجد الباب ُم ْغلَقا فناداها شاكيا‪ ،‬كانت َإانانَّ‪ /‬ع ْشتَار مع صديقاهتا‪ ،‬لكنّها استعدت الستقبال عشيقها‪ ،‬اغتسلت‬ ‫ِ‬ ‫وحلِ ّي مث طلبت من صديقاهتا العزف والغناء‪ .‬وأخريا تزوج‬ ‫ابملاء و ّ‬ ‫الصابون وتَ َك ّحلت ولَب َست أفضل ما لديها من ثياب ُ‬ ‫العاشقان ودخال «بيت احلياة»‪.‬‬ ‫‪48‬‬ ‫ار‪/‬إان َّان وجدت ُد ُ ِ‬ ‫بظل شجرة‬ ‫السومريّة‪ ،‬تعود إىل احلقبة األ ّكدية‪ ،‬أ ّن ِع ْشتَ َ‬ ‫ورد يف أحدى اخلوامت ُ‬ ‫وموزي‪َ/‬متُّو حيتمي ّ‬ ‫الرواية األكدية فقد جاء فيها أ ّن أريشكيجال هي اليت َدبََّرت املكيدة‪ ،‬أب ّن أمرت أن يُ َعطَّر َمتُّو وأن‬ ‫تُ َّفاحة عظيمة‪ّ ،‬أما ّ‬ ‫حيُاط بقيّنات‪ ،‬وأن يبدو سعيدا‪.‬‬ ‫ِع ْشتَار‪ ،‬فأعلمته أنّه بَ ِديلَها يف العامل السفلي‪ ،‬لكنّه مل يَتَ َّو َسل هلا ومل يَتَ َذلّل أمامها‪،‬‬ ‫فازداد سخطها على زوجها‪ ،‬فصوبت عليه نظرة املوت وسلَّمته إىل الشياطني ليأخذوه‬ ‫إىل العامل السفلي‪.‬‬ ‫جاء يف النص السومري‪:‬‬ ‫وموِزي الراعي‬ ‫وهكذا سلّمت َإان َّان املقدسة ُد ُ‬ ‫السماء صوب إله الشمس قائالً‪:‬‬ ‫أخذ املسكني يستغيث رافعاً يديه إىل ّ‬ ‫الس َمن إىل بيت ّأمك‬ ‫أان من حيمل َّ‬ ‫الس َمن إىل بيت ننكال‬ ‫أان من حيمل َّ‬ ‫ي يَ َدى أفعى‬ ‫اجعل يَ َد َّ‬ ‫واجعل قَ َد َم َّي قَ َد َمي أفعى‬ ‫ودعين اهرب من الشياطني وال تدعهم ميسكونين‬ ‫حت وصل إىل بيت‬ ‫وموِزي‪،‬‬ ‫وضل متُّوز هائما ّ‬ ‫استجابت اآلهلة لدعاء ُد ُ‬ ‫ّ‬ ‫أخته‪ ،‬فَبَ َكت وعددت خوفا عليه‪ ،‬قصدت الشياطني األخت َّ‬ ‫فعذبُوها‪ ،‬لكنها مل َختُن‬ ‫وموِزي‪/‬متُّوز على أخته فاستسلم للشياطني‪ ،‬لكنه طلب العون من‬ ‫أخيها‪ .‬أشفق ُد ُ‬ ‫وح ّوله إىل غزال‪ .‬لكن هروبه مل يدم طويال‪ ،‬فمصري‬ ‫جديد من اإلله أُوتُو‪ ،‬فاستجاب َ‬ ‫كان قد ُكتِب من قبل‪ ،‬لن يفلت من قبضة الشياطني‪ ،‬فاستسلم‪ ،‬لكنّه انشد وهو‬ ‫هائم يف املروج‪:‬‬ ‫أقيمي املراثي‪ ،‬أقيمي املراثي‬ ‫أيتها املروج‪ ،‬أقيمي املناحة‪ ،‬أقيمي العزاء‬ ‫ولتذرف عيناي الدموع على املروج مثل ّأمي‬ ‫‪49‬‬ ‫ولتذرف عيناي الدموع على املروج مثل أخيت الصغرية‬ ‫وموِزي‪/‬متُّوز عندما يقع بني أيدي الشياطني ‪ ،‬فكانت احملنة‪،‬‬ ‫تبدأ مأساة ُد ُ‬ ‫حت قبل نزوله للجحيم‪ .‬لكن أخته تقوم ابلتضحية الكربى عندما تعرض‬ ‫فقد َع ّذبُوه ّ‬ ‫على الشياطني أن َحتُ ّل َحمَلّه يف عامل الالعودة بديال عنه‪ ،‬فكان احلكم ّنائيا أبن يقيم‬ ‫نصف سنة يف عامل األموات وأتخذ أخته مكانه يف النصف الثّاين‪.50‬‬ ‫‪ 49‬اعتمدان على ترمجة كل من وديع بشور املثولوجيا السورية أساطري آرام‪ ،‬وفاضل عبد الواحد وكتابه عشتار ومأساة‬ ‫ََتُّو‪ .‬انظر كذلك أعمال كرمير (صمويل)‪ ،‬من ألواح سومر‪ ،‬ترمجة طه ابقر ومراجعة أمحد فخري‪ ،‬بغداد‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ص‬ ‫‪.282-261‬‬ ‫‪ 50‬تتكون الرواية السومرية من ‪ 400‬سطر والرواية األ ّكديّة ‪ 138‬سطر‪ .‬انظر كذلك‪Joannès (F.), .:‬‬ ‫‪Dictionnaire de la civilisation mésopotamienne, Paris, 2001.‬‬ ‫وما يبقى غري ال رِذ ْك َران ذي اخللود والدوام‬ ‫نسجت خيوط أسطورة متُّوز على بَكَْرة َغ ْزل الفصول األربعة‪ ،‬فتولّدت الطّقوس‪ ،‬عندما يغيب متُّوز‬ ‫ود الكون الغُ ّمة‪ ،51‬عندها ميتأل‬ ‫ص َفّر النّبات وميوت احليوان وتَ ْعبس الطبيعة‪ ،‬وتَ ُس ُ‬ ‫يعم اجلَ ْدب وال َق ْحط‪ ،‬يَ ْ‬ ‫قلب ِع ْشتَار حزان على حبيبها‪ ،‬ويصبح حزّنا حزان مجاعيًا‪ ،‬وولّد هذا احلزن صنفا أدبيا جديدا‪ ،‬مل يشهده‬ ‫العامل من قبل‪ ،‬هو أدب املراثي‪ ،‬ف َُرتََّّن أغاين احلزن‪ ،‬وتنوح األخت‪:‬‬ ‫صدر عنها نواح مر على السيد املعذب‬ ‫اواه اي أخي ‪ ،‬أواه ‪،‬أيها الفت الذي مل تكن أايمه طويلة‬ ‫أواه اي أخي الفت الذي ال زوج له وال ولد‬ ‫أواه اي أخي الفت الذي ال صديق له وال رفيق‬ ‫أواه اي أخي الفت الذي ال جيلب العزاء ألمه‬ ‫فتنوح الزوجة‪:‬‬ ‫راح قليب إىل السهل انئحاً انئحاً‬ ‫راح قليب إىل مكان الفت‬ ‫راح قليب إىل مكان‬ ‫إىل العامل السفلي‪ ،‬مرقد الراعي‬ ‫راح قليب إىل السهل انئحاً انئحاً‬ ‫ِ‬ ‫الزرع ويَ ْزكو‪ ،‬تنمو األعشاب واألزهار لتغطي املروج‬ ‫لكن قُ ّدر لتَ ُّموز أن يبعث من جديد فينمو ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتكرب عناقيد البلح ‪ ،‬وتتحرك األجنة يف األرحام‪ ،‬ف َُرتََّّن أانشيد الفرح‪ ،‬أانشيد البعث‪ ،‬عودة اإلله امليت من‬ ‫ابطن األرض‪ ،‬حامالً معه القمح والثمار واحلليب‪ُ .‬جيَ َّسد التبشري بعودة احلياة بعد املوت‪ ،‬التبشري ابلبعث‪،‬‬ ‫كل سنة مواكب احتفالية طيلة اثين عشر‬ ‫يف ذكران كان يُ ْع َمل ُّ‬ ‫لتموز حيث كان الكهنة يف اببل ينظمون ّ‬ ‫يوماً‪ .‬تنوح يف اليوم السابع ِع ْشتار على حبيبها‪ ،‬يف موكب حزين خيرج الناس فيه إىل الشوارع لتشييع اإلله‬ ‫وبكاؤهن ورمي الرتاب‬ ‫متُّوز‪ ،‬فيعلو الصراخ بني حشود الناس الذين ميزقون مالبسهم‪ ،‬ويزداد عويل النّساء‬ ‫ّ‬ ‫‪51‬‬ ‫الصراع ضد املوت والبحث عن اخللود‪.‬فُِقد‬ ‫الصراع ض ّد املوت والبحث عن اخللود أكثر حضورا يف الفرتة الشفوية‪ّ ،‬‬ ‫كان ّ‬ ‫وم ِريّة األ ّكدية‪ ،‬غري أ ّن غياب الكتابة ال‬ ‫الس َ‬ ‫هذا البعد الوجودي عندما انتقل األدب من الشفهي إىل املكتوب يف الفرتة ُ‬ ‫ِ‬ ‫املصور يُشري‬ ‫يعوض الكتابة‪ّ ،‬‬ ‫ميثّل عائقا أمام التّعرف على رمزية هذه الطّقوس التَ ُّموية يف الفرتة الشفهية‪ ،‬ألن ّ‬ ‫فالفن ّ‬ ‫الفن ّ‬ ‫ألّنما جيس ّدان اخللود والبعث‪.‬‬ ‫إىل أ ّن اإلميان بتَ ُّمو و َإان َّان كان يفوق اإلميان ابألهلة الكونية‪ّ ،‬‬ ‫على رؤوسه ّن وجتريح وجوهه ّن وأجساده ّن أبظافره ّن‪ ،‬ويف اليوم الثّاين عشر تنتهي الطّقوس يف معبد َم ْرُدوخ‬ ‫حيث ُجت ّسد فيه خالص متُّوز من األسر يف العامل السفلي‪.52‬‬ ‫شرق القدمي‬ ‫َس َفر ََتُّوز يف ال ر‬ ‫آدونيس يف ثوب ََتُّوز‬ ‫استبعد ابن وحشيّة أن تكون لسرية سرية متُّوز أيّة جذور عربانية أو كنعانية‪ .‬قد يكون على صواب‬ ‫فيما يتعلّق ابجلذور العربانية حيث وردت إشارة وحيدة لتموز يف العهد القدمي ‪ ":‬فَجاء ِيب إِ َىل م ْد َخ ِل اب ِ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ََ‬ ‫ُّ ‪53‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشم ِال‪ ،‬وإِذَا هنَ َ ِ‬ ‫الر ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لكن موقفه من‬ ‫اك ن ْس َوةٌ َجال َس ٌ‬ ‫ات يَْبك َ‬ ‫ب الَّذي م ْن ج َهة ّ َ َ ُ‬ ‫بَْيت َّ ّ‬ ‫ني َعلَى متوز" ‪ّ ،‬‬ ‫اجلذور الكنعانية يكتنفه شيء من الغموض‪ .‬يتجلى هذه الغموض أوال يف موضع احلاشية من الكتاب‪،‬‬ ‫فقد كان من األحرى أن خيتار ابن وحشيّة ابب األوقات املوافقة لضروب األعمال يف الضياع‪ ،‬وحتديدا يف‬ ‫الشجر امللَقَّحة‬ ‫لكن ابن وحشيّة اختار ابب اختالف األهوية و ّ‬ ‫الشهر املخصص لضروب األعمال يف متُّوز‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫الزروع ختصب يف‬ ‫ابلرايح‪ .‬ويزداد موقف ابن وحشيّة غموضا حني نعثر على هذا املقطع يف ابب معرفة أي ّ‬ ‫كل سنة‪ ،‬حيث أورد ابن وحشيّة كالما نسبه لشخص مسّاه "سيّد النّاس ُد َو َاان ْي"‪.‬‬ ‫السيد" هو معىن اسم آدون يف‬ ‫ما يلفت االنتباه هنا وصف ابن وحشيّة ُد َو َاان ْي بسيّد النّاس‪ ،‬و" ّ‬ ‫األساطري الكنعانية‪ ،54‬مع العلم أن ال ّدارسني كانوا قد افرتضوا أن يكون ُد َو َاان ْي حتريفا أل َُدون‪ .‬كان هذا‬ ‫اإلله الفاين شفيع مدينة ببلوس‪ ،‬ميوت مث يُْبعث حيّا‪ ،‬لكن جيب التنبيه هنا أ ّن ُد َو َاان ْي ابن وحشيّة مل يَ ُكن‬ ‫أَدون الكنعاين بل كان يف ثوب أَد ِ‬ ‫ون ِِيس اليوانين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نقل أَبُولودور األسطورة عن أَرودوتس‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬ ‫كانت األمرية مسريان ذات مجال ّبراق‪ ،‬يف عنفوان األنوثة‪ ،‬مليئة ابلعواطف‬ ‫والغرائز‪ ،‬أوقعت هبا أَفْ ر ِ‬ ‫وديت عندما دفعتها للعشق امل َحّرم‪ِ ،‬ع ْشق أبيها ثَيَاس‪ ،‬امللك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حتجبَها عن األنظار‪،‬‬ ‫اآلشوري‪ ،‬فأمثر احلرام محال‪ .‬ندمت مسريان ودعت اآلهلة أن ُ‬ ‫حولوها إىل شجرة‪ .‬انشقت الشجرة بعد تسعة شهور وأمثرت‬ ‫فاستجابوا لدعائها أبن ّ‬ ‫ون ِِيس‪ .‬عشقت أَفْ ر ِ‬ ‫مولودا مجيال هو أَد ِ‬ ‫وديت الطفل إىل ح ّد اجلنون وخافت عليه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫حت عشقته‪،‬‬ ‫خبأته يف صندوق وعهدت به إىل بَ ْرسي ُفون‪ ،‬اليت ما أن رأت مجاله ّ‬ ‫‪52‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪54‬‬ ‫عد إىل دراسة فراس السواح عن رمزية أسطورة عشتار وَمتُّو‪ .‬السواح (فراس)‪ ،‬لغز عشتار‪ ،‬دمشق‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫العهد القدمي‪ ،‬سفر حزقيال‪.14 ،8 ،‬‬ ‫عمان‪ ،1999 ،‬ص ص ‪.92-89‬‬ ‫انظر املاجدي (خزعل)‪ ،‬اآلهلة الكنعانيرة‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وس‪،‬‬ ‫ومتسكت به‪ ،‬ورفضت إعادته إىل أَفْ ُروديت‪ .‬رفعت الربّتان أمرمها إىل اإلله َزيُ ْ‬ ‫استمع لكل منهما‪ ،‬ورغب يف إرضائهما‪ ،‬فقضى أن ميضي أ َُدونِيس سنوايً أربعة أشهر‬ ‫عند أَفْ ر ِ‬ ‫وديت وأربعة أشهر عند ب رِسي ُفون ‪ ،‬وأربعة أشهر خيتار أَد ِ‬ ‫ون ِِيس ما يشاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫للصيد‪ ،‬هامجه خنزير ّبري وأحدث له جرجا بليغا‪ ،‬هرعت‬ ‫خرج أ َُدونيس ذات يوم ّ‬ ‫‪55‬‬ ‫أَفْ ر ِ‬ ‫وديت إىل حبيبها اجلريح وبَ َكْته ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رغم التشابه بني سرية أ َُدونِيس ومتُّوز فإن ابن وحشيّة مل يعلّق على ذلك‪ .‬لكن التشابه مل‬ ‫ِ‬ ‫السرية فحسب بل الطّقوس أيضا‪ .‬هذه الطقوس تقام يف اليوم التّاسع عشر من متُّوز‪ ،‬وهو نفس‬ ‫يشمل ّ‬ ‫وماين يُولْيَانُوس‪ ،‬حني دخل مدينة أنطاكية‪ ،56‬راثء النّساء من‬ ‫اليوم الذي قد يكون مسع فيه اإلمرباطور ُّ‬ ‫الر َ‬ ‫‪57‬‬ ‫الشاب ‪ .‬تدوم االحتفاالت يومني‪ ،‬تقام املراثي اللّيلية يف اليوم‬ ‫وه ّن ينُ ْحن على اإلله ّ‬ ‫على سطوح منازهل ّن ُ‬ ‫األول‪ ،‬تبكي النّساء على أدونيس يف موكب حاشد تسوده رقصات احلزن وأغانيه ودموع الباكيات ونوح‬ ‫النادابت والعويل ولطم الصدور‪ ،58‬وكانت النّساء دون الرجال ه ّن الاليت يَْب ِكني أدونيس‪ ،‬ويُ َق ّدم يف هذه‬ ‫اللّيلة القرابن املأمتي‪ .‬يعم الفرح يف اليوم الثّاين‪ ،‬مب ّشرا بوالدة أَد ِ‬ ‫ون ِِيس حيث يقع االختيار على رجل‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫للعب دور أَد ِ‬ ‫ون ِِيس عند الطواف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫لكن البكاء والنواح ليس الطقس الوحيد الذي يشرتك فيه متُّوز مع أ َُدونِيس بل هناك طقس آخر‬ ‫يقام يف ليلة اليوم األول من االحتفاالت حيث تَصنَع النّساء فيه ما يسمى جبنان أَد ِ‬ ‫ون ِِيس حيث تزرع‬ ‫ُ‬ ‫َُّ‬ ‫ُّ‬ ‫السالل واألحواض البزور للتعرف على أي النّبااتت تضررت بعد مثانية أايم‪ .‬هذا الطقس يتّفق‬ ‫النّساء يف ّ‬ ‫حت تَْن بُت‪ ،‬بعد ذلك يكون‬ ‫مع ما ذكره ابن وحشيّة عن زرع البزور يف ويف وقت حمدد‪ ،‬تُ ْس َقى املاء ّ‬ ‫الت ّكهن‪:‬‬ ‫الش ْعرى اليمانية‪ ،‬وتظهر من حتت شعاع‬ ‫"وذكر أن بطلوع برج السرطان تطلع ِّ‬ ‫كل سنة‪ ،‬وأن ما‬ ‫الشمس‪ ،‬وأن ِّ‬ ‫للش ْعرى اليمانية قوة تظهر يف مجيع النّبات والبزور يف ّ‬ ‫ضرته الشعرى اليمانية يف تلك السنة مل خيصب ومل يفلح‪ ،‬وما مل تضره وتقصده‬ ‫أخصب ومنا وزكا‪ .‬قال فليؤخذ من كل شيء من احلبوب والبزور النوى من الشجر‬ ‫حب من احلبوب مجلة وكل بزر‪ ،‬فيزرع يف موضع‬ ‫حب العنب‪ ،‬ومن كل ّ‬ ‫ومن داخل ّ‬ ‫‪55‬‬ ‫‪.14 ،3‬‬ ‫‪ 56‬ما يؤكد اتريخ التّاسع عشر من َمتُّو هو ما ذكره البريوين يف كتابه اآلاثر الباقية عن القرون اخلالية‪" :‬وليايل حمسوبة‬ ‫بعد أايمها‪...‬وألجله ظن من يقدم الليايل على األايم أن ليلة اليوم الثامن عشر هي التاسع عشر فجعل أول البواحري من‬ ‫اليوم التاسع عشر وآخرها اليوم اخلامس والعشرين‪ .‬البريوين‪ ،‬اآلاثر الباقية عن القرون اخلالية‪ ،‬ليبزيغ‪ ،1923 ،‬ص ‪.268‬‬ ‫‪ 57‬أميانوس مارسلنوس األنطاكي‪.15 ،9 ،22 ،‬‬ ‫‪ 58‬عد إىل‪Cumont (F.), Adonis et canicule, Syria, tome 16 fascicule 11 1935, pp.46- :‬‬ ‫‪50, p.46.‬‬ ‫حت ينبت‪ ،‬فما ينبت منه قواي‬ ‫قد أعد لذلك يف الوقت الذي ذكر‪ ،‬ويسقى املاء ّ‬ ‫وأسرع نشؤه فهو الذي خيصب يف تلك السنة‪ ،‬وما خرج ضعيفا أو أبطأ الذي ال‬ ‫جربنا سنني متوالية فرأيناه قريبا من الصحة‪ ،‬ألنه‬ ‫خيصب يف تلك السنة وال يفلح‪ .‬وقد ّ‬ ‫‪59‬‬ ‫ال خيلف إال يف القليل اليسري ال يعت ّد به إال يف الكثري" ‪.‬‬ ‫هذا ما جنده كذلك عند البريوين يف كتابه اآلاثر الباقية عن القرون اخلالية‪" :‬ذكر أصحاب‬ ‫حت إذا كانت الليلة اخلامسة‬ ‫التجارب أنّه إذا تقدم قبل ذلك فعمد إىل لوح ُ‬ ‫وزِرع عليه من كل زرع ونبات ّ‬ ‫والعشرين من متُّوز‪ ،‬وهي آخرها‪ ،‬وضع اللّوح ابرزا لطلوع الكواكب وغروهبا‪ ،‬حبيث ال حيول بينه وبني‬ ‫أص َفر وما ال يصلح َريْعه منها يبقى‬ ‫السماء شيء‪ ،‬فإن كل ما يزكو يف تلك السنة من ُّ‬ ‫الزُروع يصبح ْ‬ ‫ّ‬ ‫‪60‬‬ ‫أخضر‪ ،‬وكذلك كانت القبط تفعل ذلك" ‪.‬‬ ‫َتُّوز واملِحنَة املَ ِس ِ‬ ‫يحياة‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫كان ابن وحشيّة ّأول من ربط بني سرية متُّوز وسرية ُج ْورجيس‪ ،‬وللتعرف على هذه السرية‪ ،‬سلك‬ ‫نفس النّهج الذي سلكه مع سرية َمتُّوز‪ ،‬أي حماولة الفصل بني اجلانب التارخيي واجلانب األسطوري من‬ ‫خالل تنويع املصادر املكتوبة والشفوية‪ .‬لكن ينبغي قبل دراسة تعليق ابن وحشيّة على سرية ُج ْورِجيس‬ ‫تقدمي املالحظات التالية‪:‬‬ ‫الس ْرَايين‬ ‫ قد يكون سبب اهتام ابن وحشيّة للنصارى بسرقة سرية متُّوز هو ذلك الصراع اآلرامي‪ُ -‬‬‫الذي اشت ّد يف عصر اخلالفة العبّاسية األول‪ ،‬كان صراع بني اآلراميني‪ ،‬الذين حافظوا على وثنيتهم‬ ‫الس ْرَاين فيما بعد‪ .‬ففي ابب حديثه‬ ‫من جهة واآلراميني الذين تَنَ َّ‬ ‫ص ُروا من جهة اثنية‪ ،‬والذي ُمسُّو ُ‬ ‫عن أسبقية النّ بَط يف العلوم على الفرس‪ ،‬مهس ابن وحشيّة يف أذن أيب طالب‪" :‬مجيع هؤالء‬ ‫ابلروم‬ ‫النّصارى الذين يف هذه البالد وما حوهلا من األقاليم أصوهلم نَبَط كلهم وهم ميخرقون ُّ‬ ‫ويومهون أّنم‪ ،‬من أجل املوافقة يف النصرانية‪...‬فما أعمى قلوهبم واثخن أعينهم"‪.‬‬ ‫ خالفا للمصادر املسيحية اليت أدرجته يف قائمة كبار القديسني و الشهداء‪ ،‬فإن ابن وحشيّة جعله‬‫أحد حواري املسيح‪ .‬تكلّم ابن وحشيّة عن ِذ ْكَران يعمل جلُ ْورِجيس‪ ،‬لكنه مل يذكر طبيعة الطّقوس‪،‬‬ ‫هل هناك حزن وبكاء أم ال ؟ مسألة أسطورة التنّني امللتصقة بسرية ُج ْورِجيس‪ ،‬فإن ابن وحشيّة مل‬ ‫يذكرها‪.61‬‬ ‫ تطرح سرية ُج ْورِجيس أو َجا ِورجيُوس عديد اإلشكاالت‪ ،‬منها صعوبة التعامل مع أغلب املصادر‬‫املدون يف أزمنة متأخرة وأماكن خمتلفة‪ .‬يف املقابل جند‬ ‫اليت يطغى عليها الطابع ال ُف ْل ُكلُوِري َّ‬ ‫الش َف ِوي َّ‬ ‫‪59‬‬ ‫‪60‬‬ ‫ابن وحشيّة‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫البريوين‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.268‬‬ ‫‪ 61‬تعود أسطورة التنّني إىل رواايت القرن السادس ب‪.‬م‪ ،.‬جاء فيها أ ّن ابنة أحد امللوك َهتَ ّددها تنّني‪ ،‬فظهر له الق ّديس‬ ‫جاورجيوس وقتله واألمرية واقفة مرتعدة من التنّني وأبواها يُ ْشرفان عليها من فوق األسوار‪.‬‬ ‫بعض اإلشارات يف مصادر مل تنقل هذا اجلانب األسطوري‪ ،‬أقدمها وثيقة تعود إىل حوايل العام‬ ‫‪ 495‬بعد املسيح‪ ،‬تعرف ب (‪ )Decretum Gelasium de libris recipiendis‬وتُْن َسب إىل‬ ‫أُ ْس ُقف رومية جيالسيوس‪ .62‬ورد يف كتاب أفسافيوس القيصري عن "اتريخ الكنيسة" ذكر لشهيد‬ ‫ِ‬ ‫سمه أفسافيوس‪ ،‬لكن البعض رأى فيه الق ّديس جاورجيوس‪ ،63‬هذا اخلرب نقله فيما بعد‬ ‫مل يُ ّ‬ ‫ضطَِه َِ ِدين"‪ .‬أما املصدر األخري فيعود إىل الوسيط املب ّكر ألّفه‬ ‫الَ ْكطَانْسيُوس يف كتابه "موت امل ْ‬ ‫ُ‬ ‫مسَْ َعان املرتجم‪.64‬‬ ‫ِ‬ ‫الس ْرَاينية‪ .‬رواية أوىل‬ ‫يبدو أن ابن وحشيّة وجد روايتني عند نقله سرية ُج ْورجيس من املصادر ُ‬ ‫يواننية تعود إىل القرن اخلامس بعد املسيح‪ ،‬نقلت فيما بعد إىل الالتينية‪ ،‬ومن النسخة الالتينية تَ َوَّز َعت‬ ‫على عديد املخطوطات يف صيغ عديدة‪ .‬أما الرواية الثانية فقد تكون نفس الرواية اليت اعتمدها مسَْ َعان‬ ‫املرتجم‪.‬‬ ‫ففيما يتعلق ابلرواية القدمية وهي الرواية ِ‬ ‫القْب ِطية‪ ،‬فإّنا حتدثت عن إمرباطور فارسي يدعى‬ ‫السجن‬ ‫دانيانوس‪ ،‬كان قد هدد النّصارى يف حياهتم إن مل يَ ْرتَ ُّدوا‪ .‬رفض َجا ِورجيُوس أن ْيرت ّد‪ ،‬فَ ُز ّج به يف ّ‬ ‫طيلة سبع سنوات‪ ،‬عرف خالهلا شت أنواع التعذيب‪ .‬قتل ثالث قتالت قبيحة‪ ،65‬لكنه عاش بعد كل‬ ‫قتلة‪ ،‬واستشهد يف القتلة الرابعة‪.‬‬ ‫أما رواية مسَْ َعان املرتجم فقد احتوت على عناصر اترخيية‪ ،‬فقد ذكر أن الق ّديس َجا ِورجيُوس ُولد‬ ‫ِ‬ ‫أبوين مسيحيّني شريفني‪ .‬رحل هو و ّأمه بعد وفاة والده إىل فلسطني‪.‬كان َجا ِورجيُوس‬ ‫يف بالد ال َقبَادق من َ‬ ‫قوي البنية‪ ،‬جتنّد وصار ضابطاً كبرياً‪ .‬وبفضل جرأته وسريته احلميدة انل حظوة لدى اإلمرباطور‬ ‫ّ‬ ‫‪62‬‬ ‫صحة ِ‬ ‫العامة‪ ،‬بل اعتربهتا‬ ‫جاء يف القوانني ال َكنَ ِسيَّة ما يفيد أ ّن ال َكنِيَسة الغربية كانت تَ ُش ّ‬ ‫الرواايت املتداولة بني ّ‬ ‫ك يف ّ ّ‬ ‫حق‪ ،‬بني النّاس‪ ،‬لكن أعماهلم ال يعرفها أحد‬ ‫مكرمة‪ ،‬عن ّ‬ ‫غري صحيحة‪ ،‬لكنّها أحصت الق ّديس يف عداد "الذين أمساؤهم ّ‬ ‫غري هللا"‪.‬‬ ‫‪ 63‬يوسابيوس القيصري‪ ،‬اتريخ الكنيسة‪ ،‬مكتبة احملبّة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1998 ،‬الكتاب الثامن‪ ،‬الفصل اخلامس‪:‬‬ ‫معني‪ ،‬مل يكن خامل الذكر‪ ،‬بل ذا مركز رفيع‪،‬‬ ‫(‪)1‬حاملا أُذيع األمر امللكي ض ّد الكنائس يف نيكوميداي‪ ،‬تق ّدم شخص ّ‬ ‫ومزقه إرابً كشيء دنس‬ ‫حركته الغرية اإلهلية واشتعلت فيه نريان اإلميان‪ ،‬وأمسك ابألمر امللكي إذ كان َّ‬ ‫معل ِّقاً عالنية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫احتل الثّاين رابع مكان يف‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫اجلميع‬ ‫أكرب‬ ‫ل‬ ‫األو‬ ‫كان‬ ‫)‬ ‫‪3‬‬ ‫(‬ ‫املدينة‬ ‫نفس‬ ‫يف‬ ‫امللوك‬ ‫من‬ ‫اثنان‬ ‫كان‬ ‫إذ‬ ‫هذا‬ ‫مت‬ ‫وقد‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫وقح‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتمل تلك‬ ‫احلكم بعده‪ )4( .‬على أن هذا الشخص‪ ،‬وقد كان ّأول شهداء ذلك املكان‪ ،‬بعد أن أبرز نفسه هبذه الكيفية‪ّ ،‬‬ ‫حت املوت"‪.‬‬ ‫وظل حمتفظاً ابلثبات وهبجة الروح ّ‬ ‫اآلالم اليت كان حمتّماً أن تنتج عن جرأة كهذه‪ّ ،‬‬ ‫‪64‬‬ ‫الرْهبَنة‪ ،‬عكف على‬ ‫ولد يف مدينة القسطنطينية يف عهد اإلمرباطور الون السادس (‪ 912-886‬م)‪ ،‬اعتزل واختار َّ‬ ‫مجع ِس َري الق ّديسني املبعثرة‪ ،‬فأعاد كتابتها بلغة زمانه‪.‬‬ ‫‪65‬‬ ‫مشهورا يُدعى أثناسيوس أعد له مسًا‬ ‫ساحرا‬ ‫ً‬ ‫من بني العذاابت اليت تعرض هلا القديس جاورجيوس‪ ،‬أحضر له امللك ً‬ ‫قاتال وق ّدمه للق ّديس لكي يشربه‪ ،‬أما الق ّديس فباإلميان شربه ومل ينله أذى‪ ،‬أمر امللك بعصر القديس يف معصرة هبا أسنان‬ ‫حديديّة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وتبوأ مراكز مرموقة‪ .‬فلما محل اإلمرباطور على املسيحيّني طرح َجا ِورجيُوس عن نفسه‬ ‫ديُوقالسيَانُوس ّ‬ ‫عالمات الرفعة واعرتض لدى اإلمرباطور‪ .‬فكان أن ألقوه للحال يف السجن‪ .‬حاولوا استمالته لكنهم فشلوا‪،‬‬ ‫فع ّذبوه تعذيباً شديداً‪ ،‬لكن إميانه مل يتزعزع‪ ،‬فجالوا به عرب املدينة وقطعوا رأسه‪.‬‬ ‫قد يكون االعتماد على روايتني خمتلفتني هو الذي يُ َف ّسر سبب تقسيم ابن وحشيّة روايته إىل‬ ‫جزئيني‪ ،‬أورد يف اجلزء األول اجلانب األسطوري‪ ،‬وحاول يف اجلزء الثّاين البحث عن ما هو اترخيي يف‬ ‫ِ‬ ‫صر لكن مل يذكر امسه‪ ،‬وجعل ُج ْورِجيس من احلواريني‪ ،‬وهو ما ال جنده‬ ‫السرية‪ ،‬فذكر امللك الذي رفض التنَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫الس ْرَاينية‪ .‬لكن ما مييز رواية ابن وحشيّة هو حديثه عن ِذ ْكَران يقام جلُ ْورِجيس يف آخر نيسان‪،‬‬ ‫يف املصادر ُ‬ ‫وهو ما يتفق مع ِذ ْكَران الكنيسة جلَا ِورجيُوس ‪ ،‬فإىل يومنا هذا يقام هذا ال ّذكران يف يوم ‪ 23‬نيسان يف‬ ‫الشرقي‪.‬‬ ‫التقومي الغريب‪ ،‬ويف ‪ 6‬أاير يف التقومي ّ‬ ‫شيعي يف ثوب ََتُّوز‬ ‫العزاء ال ِر‬ ‫كنّا قد أشران إىل ندرة تعاليق ابن وحشيّة على ما نقله من النبطيّة إىل العربية‪ ،‬وإن َعلّق عل شيء‬ ‫ترمجه يف كتاب الفالحة النبطيّة‪ ،‬فال يعدو أن يكون‪ ،‬يف غالب األحيان‪ ،‬سواء تذكري بطريقته يف الرتمجة‪،‬‬ ‫التعرف على أمساء بعض النّبااتت‪ ،‬أو لتفسري األمساء القدمية لبعض املدن‪ ،‬لكنّه اندرا ما كان‬ ‫كصعوبة ّ‬ ‫السحر‪ .‬وهنا يطرح وجود هذا‬ ‫يعلّق على مقاطع نقلها إىل العربيّة َهت ّم العقائد أو ال ّدين أو الكهانة أو ّ‬ ‫حت ّ‬ ‫بتموز إشكاال كبريا‪ ،‬زاده تعليق ابن وحشيّة غموضا ‪ ،‬فهو املصدر الوحيد الذي نقل سرية‬ ‫املقطع اخلاص ُّ‬ ‫متُّوز وحاول البحث عن جذورها‪ ،‬وهو كذلك املصدر الوحيد الذي ذكر طقوس البكاء والنواح والتعديد‪،‬‬ ‫الشيعة؟ قد جيد طرح هذا‬ ‫فكيف مل يتفطّن ابن وحشيّة إىل التشابه الكبري بني ِذ ْكران َمتُّوز والتّعزية لدى ّ‬ ‫السؤال ما يربره إذا ما علمنا أ ّن أاب طالب‪ ،66‬الذي أملى عليه ابن وحشيّة الكتاب‪ ،‬ينحدر من عائلة‬ ‫شيعية إمساعيلية‪ ،‬اشتهر أفرادها بتوليهم الوزارات‪ ،‬لذلك قد ال نفهم سبب صمت ابن وحشيّة عن ذكر‬ ‫الشيعة‪ .‬هل كان خياف َرَّدة فعل صاحبه‪ ،‬أم أن ابن وحشيّة‪ ،‬وكعادته‪ ،‬أوصل الرسالة‬ ‫طقوس التّعزية لدى ّ‬ ‫بطريقة غري مباشرة‪ ،‬معتمدا على أسلوب اإلحياء؟‬ ‫تدفعنا هذه األسئلة إىل تقدمي الفرضيات التالية‪:‬‬ ‫الفرضية األوىل‪ :‬احتمال أ ّن يكون كالم ابن وحشيّة عن تشابه التّعزية وذكران متُّوز قد حذفه أبو‬ ‫طالب‪ .‬هذه الفرضية جائزة لكنها ُم ْستَ ْب َعدة لألسباب التالية‪ :‬لو كانت أليب طالب النيّة يف حذف كل ما‬ ‫ال يتناسب وأراء طائفته اإلمساعيلية‪ ،‬لكان من السهل عليه حذف احلاشية أبكملها‪ .‬زد على ذلك فإ ّن أاب‬ ‫طالب كان قد أظهر‪ ،‬يف مواضع أخرى من الكتاب‪ ،‬نزاهة كبرية يف نقل كل ما أماله عليه ابن وحشيّة‪.67‬‬ ‫‪ 66‬علي بن أيب طالب بن احلسني بن علي بن أمحد بن حممد بن عبد امللك الزايت‪.‬‬ ‫‪ 67‬يتجلى ذلك يف ابب احلديث عن الكروم‪ ،‬فقد قال‪ ":‬وجدت هذا الكتاب يف أصل كتاب ابن وحشيّة يف هذا املوضع‬ ‫بياضا حنو العشرين ورقة‪ ،‬وذلك أن ابن وحسية مل ميلل هذا الكتاب على كإمالء غريه من الكتب اليت نقلها إىل العربيّة‪ ،‬إمنا‬ ‫كتبت إبمالئه منه حنو من مثانني ورقة من كتايب أان خاصة من هذا الكتاب‪ ،‬مث وصى زوجته عند وفاته أن تدفع إيل كتبه‬ ‫مل يكن أبو طالب جمرد حاك لكتاب الفالحة النّ بَطيَّة‪ ،68‬بل كان يسعى للمعرفة‪ ،‬كانت له رغبة قويّة يف‬ ‫االطالع على العلوم‪ ،‬وهذا ليس ابألمر الغريب إذا ما عرفنا أن عائلته كانت تشجع على نقل العلوم‪،69‬‬ ‫لذلك فإن صحبة الرجلني بنيت على أساس ذلك االلتقاء الفكري بني اإلمساعيلية‪ 70‬والغنُ ِ‬ ‫وصيَة‪ ،71‬كان‬ ‫ُ‬ ‫صحبة إىل شراكة‪ ،‬الشراكة يف املعرفة دون قيود‪ .‬فقد‬ ‫جمرد ُ‬ ‫هلذا االلتقاء دور كبري يف انتقال عالقتهم من ّ‬ ‫وجدت اإلمساعيلية ضالتها يف الغنُ ِ‬ ‫وصيَة لالطالع على الفلسفة والعلوم اليواننيّة واإليرانيّة‪ ،‬لكنّها مل تتأثّر‬ ‫السبَئِيّة‬ ‫ابلعلوم فحسب بل أتثرت ذلك ابلعقائد‪ ،‬مثل عقيدة البعث‪ ،‬قد يكون من املفيد هنا التذكري أبن َ‬ ‫كانت أول فرقة شيعية رفضت قبول موت اإلمام علي بن أيب طالب واعتقدت يف عودته‪ ،‬فقد كانت تقول‬ ‫بعودة علي بن أيب طالب بعد املوت لينشر العدل بني النّاس‪ ،72‬غري أن هذا القول مل يكن مبنيا على أسس‬ ‫اليت خلفها‪ ،‬فدفعت إىل كتبه ويف مجلتها كتاب الفالحة هذا‪ ،‬فنسخت من أصل كتابه فكان يف ذلك األصل يف هذا‬ ‫املوضع بياض مقدار عشرين ورقة‪ ،‬و أظن التبييض يف كتاب أىب بكر بن وحشيّة ألحد أمرين إما أن يكون شيئا من‬ ‫مرتوك يف الكتاب املكتوب ابلنبطيّة فرتكه ابن وحشيّة مبيضا كما وجده مبيضا يف األصل النّبَطي‪ ،‬أو يكون وجده فصال‬ ‫مكتواب يف اخلمر وصفة إصالحه ومنافعه فكره أن ينقله من النبطيّة إىل العربيّة ألنه يف شرح شيء حمرم الن أاب بكر بن‬ ‫وحشة كان مييل إىل مذهب الصوفية ويسلك طريقهم فكره أن يؤخذ بعد وفاته كالما طويال جمودا يف شي حمرم فرتك نقله‬ ‫لذلك‪ ،‬فهذا ما ظننته ظنا‪ ،‬وقد جيوز أن يكون لشيء اثلث ال أدري ما هو‪ ،‬إال أنّه مل يذكر ذلك ملا كان حيا"‪ .‬الطرابلسي‬ ‫(بوراوي)‪ ،‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪.261‬‬ ‫‪ 68‬الطرابلسي (بوراوي)‪ ،‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪.224‬‬ ‫‪ 69‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪.261‬‬ ‫‪70‬‬ ‫ابلشيعة بعد نكسة ذي النفس الزكية ووفاة اخلليفة املهدي‪ ،‬لكن احلركة سوف تعرف االنشقاق خالل‬ ‫ازداد البطش ّ‬ ‫السري‪ ،‬ظهرت عديد الطوائف منها اإلمساعيلية و االثين عشرية‪ ،‬كان اخلالف بني هاتني الطائفتني حول تَ ْس ِميَة‬ ‫العمل ّ‬ ‫السابع للحركة‪ ،‬لكن صراع اإلمامة حتول فيما بعد إىل صراع عقائدي‪ .‬عد إىل دفرتي (فرهاد)‪ ،‬اإلمساعيليون‪،‬‬ ‫اإلمام ّ‬ ‫ترمجة سيد الدين القصريي‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ص ‪.92-89‬‬ ‫‪ 71‬اشتقت تسمية الغنُوصية من الكلمة اليواننية غنُوص‪ ،‬ودأب املختصون على ترمجتها ابلعرفانية‪ ،‬والغنوصية تعين املعرفة‬ ‫احلدسية الباطنية‪ ،‬أي معرفة النفس لذاهتا وخالصها و خالصها من اخلطيئة احلادثة‪ ،‬أي خالصها من العامل املادي الذي‬ ‫الرافدين بني أربع فرق‬ ‫وجد عن خطأ‪ .‬فكان لزاما على النفس اإلنسانيّة أن تعلو ألصلها اإلهلي‪ .‬انتشر هذا الفكر يف بالد ّ‬ ‫غنُوصية‪ ،‬من بينها فرقة املْن َدائيّة ابلبطائح‪ ،‬واحلَّرانية حبَّران‪ ،‬لعبت هذه األخرية الدور الكبري يف ظهور فرق إسالمية غنُوصية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لعل أبرزها اإلمساعيلية‪ ،‬وتزامن ذلك مع ازدهار حركة الرتمجة والنّقل‪ .‬عد إىل جاد (أمحد حممد)‪ ،‬أثر األفالطونية احملدثة‬ ‫ّ‬ ‫على بناء اإلهليات عند اإلمساعيلية‪ ،‬القاهرة‪.2004 ،‬‬ ‫‪ 72‬عد إىل‪.:‬‬ ‫‪p.184.‬‬ ‫‪Virroleaud (Ch.), La legende Hosséïn et le mythe d’Adonis-Tammouz,‬‬ ‫عقائدية وفكرية متينة‪ ،‬فكان على الشيعة انتظار إطالع اإلمساعيلة على الفلسفة الغنُ ِ‬ ‫وصيَة احلَّرانية لبناء‬ ‫عقيدة الغيبة‪.73‬‬ ‫الفرضية الثانية‪ :‬احتمال عدم وجود طقوس التّعزية زمن ترمجة الكتاب يف القرن يف الثالث‬ ‫للهجرة‪ .‬هذا القول جائر إذا ما علما أ ّن طقوس التّعزية احلالية مل تتّخذ شكلها النهائي إال مع الدولة‬ ‫الص َفوية (‪ )1722-1501‬يف بالد فارس‪ ،‬وأن طابعها احلايل يعود إىل بداية القرن التاسع عشر مع الدولة‬ ‫َ‬ ‫‪74‬‬ ‫القاجارية ‪ .‬لكن هذه الفرضية مستبعدة لألسباب التالية‪ :‬السبب األول هو أن املصادر‪ ،‬رغم ندرهتا‬ ‫الش ْعبِيّة الفلكلورية‪ ،‬تشري إىل وجود طقوس تعزية إيرانية قدمية شبيهة بذكران متُّوز والعزاء‬ ‫مقارنتها ابلرواايت ّ‬ ‫‪75‬‬ ‫الشيعي ومسرح التّعزية يف إيران يف التّاريخ القدمي ‪،‬‬ ‫الشيعي‪ .‬األمثلة عديدة‪ :‬التشابه بني مسرح التّعزية ّ‬ ‫‪76‬‬ ‫ِ‬ ‫السرية منذ الفرتة البارثية حيث كان الراوي يسمى نَ ّقال ‪ ،‬ما ذكره البريوين ‪ ":‬اليوم العاشر منه‬ ‫وجود أدب ّ‬ ‫الشيعة فإ ّّنم ينوحون ويبكون أسفا لقتل سيّد الشهداء فيه ويُظهرون ذلك مبدينة السالم‬ ‫حرم)‪...‬و ّأما ّ‬ ‫(املُ ّ‬ ‫وأمثاهلا من املدن والبالد ويزورن فيه الرتبة املسعودة بكربالء"‪ ،‬ما ذكر ابن األثري عن إقامة إبقامة مواكب‬ ‫العزاء ألهل بغداد يف عهد الدولة البُ َويْ ِهيَة بعد مساح معز الدولة بذلك يف سنة ‪.963‬‬ ‫السبب الثّاين‪ :‬موقف ابن وحشيّة من ِذ ْكَران ُج ْورِجيس واهتامه النصارى بسرقة حمنة متُّوز يثري‬ ‫الشك يف مقاصد ابن وحشيّة‪ ،‬قد ُخيفي هذا االهتام تلميحا ُمبطّنا لكثرة حاالت التشابه بني حمنة متُّوز‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحمنة احلسني‪ .‬أوال التشابه يف عقيدة امل َخلّص اليت انتقلت من متُّوز امل َخلّص من القحط واجلدب واملوت‬ ‫وابعث النبات واحلياة‪ ،‬إىل شيث بن ُ‬ ‫آدم عند الصابئة املندائية‪ ،‬إىل ُ‬ ‫إيليا عند اليهود يف العهد القدمي‪ ،‬إىل‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الشيعة االثين‬ ‫اليَ ُسوع عند النّصارى‪ ،‬سواء كان يف ثوب إلياس أو ُج ْرجيس ‪ ،‬واحلسن العسكري عند ّ‬ ‫عشرية‪ .‬اثنيا تشابه املواكب االحتفالية فقد كانت تقام يف اببل احتفاالت رأس السنة اجلديدة‪ ،‬جتوب فيه‬ ‫املواكب الدينية شارع املوكب يف الربيع للبكاء على اإلله متُّوز وترتيل املراثي احلزينة‪ ،‬مث خترتق بوابة ِع ْشتَار‬ ‫حيث تقام املهرجاانت طيلة اثين عشر يوما‪ُ ،‬جيَ ّسد موت متُّوز يف اليوم السابع ‪ ،‬لتختم االحتفاالت يف‬ ‫اليوم الثّاين عشر يف معبد َم ْرُدوخ‪ .‬يف حني كانت جتوب مواكب العزاء احلسيين شوارع مدينة السالم وأمثاهلا‬ ‫‪73‬‬ ‫الشيعي‪ ،‬اعتقد الكنعانيون أ ّن دم آدونيس حتول إىل‬ ‫هناك تشابه كبري بني أسطورة آدونيس وسرية احلسني يف الفلكلور ِّ‬ ‫الشيعة ترى أ ّن دم احلسني حتول إىل شقائق النُّعمان‪ ،‬واخلزامى‪ ،‬والورد‪ ،‬و احلدقى‪ .‬عد إىل تقدمي‪:‬‬ ‫وردة أو شقائق النُّعمان‪ ،‬و ّ‬ ‫‪Virroleaud (Ch.), La légende de Hosséïn et le mythe d’Adonis-Tammouz, p.187.‬‬ ‫‪74‬‬ ‫‪ 75‬راجع‪Chelkowiski (P.), Ta’ziya : Rituel and Drama in Iran, New York 6719 , p.32. :‬‬ ‫‪.University Press, 1979.‬‬ ‫‪ 76‬عد إىل العمل ‪ Malekpur (J.), Adabiyāt-e nemāyeshi dar Irān, théaran,1984.‬الذي ربط بني‬ ‫الشكل املسرحي للتعزية وطقوس ُدوموزي الرافدينية‪.‬‬ ‫من املدن والبالد‪ ،‬يف األايم العشرة األوىل من شهر حمرم من كل سنة‪77،‬هي أايم حزن وبكاء‪ .‬تتخلل هذه‬ ‫املواكب‪ ،‬زايرة ضريح احلسني‪ ،‬وإضاءة الشموع‪ ،‬وقراءة سرية اإلمام احلسني بن علي‪ ،78‬وإقامة اجملالس‬ ‫احلسينية وإقامة مسرح التّعزية‪.‬‬ ‫يبدو أن هذه الفرضيات قد ال حترران من دائرة التخمينات‪ ،‬ولو أن التشابه كبري بني ذكران متُّوز‬ ‫وعاشوراء‪ ،‬قد يكون التخلص من الفرضيات ونقيضها مير عرب العودة إىل أسلوب ابن وحشيّة يف نقل‬ ‫َ‬ ‫السرية وعدم إغفال انتمائه املذهيب والفكري‪ .‬فلو عدان إىل ما جاء يف آخر التعليق حني قال أليب طالب‪:‬‬ ‫" مث وقع يل بعد ذلك كتاب من كتب النّ بَط فيه شرح قصة متُّوز‪ ،‬أنّه دعا ملكا إىل عبادة السبعة واالثين‬ ‫عشر‪ ،‬وأ ّن امللك قتله وعاش بعد القتلة له‪ ،‬مث قتل قتالت بعد ذلك قبيحة يف كلّها يعيش‪ ،‬مث مات يف‬ ‫السرية للمذهب‪ ،‬من خالل اللجوء إىل أسلوب‬ ‫آخرها"‪ .‬هنا يتجلى بوضوح الفكر الغنُوصي والعقيدة ّ‬ ‫الرمزية إلبالغ رسالته بطريقة ُمبَطَّنَة‪ .‬يبدو يف الظاهر أ ّن املقصود "بعبادة السبعة" الكواكب السبع‬ ‫اإلحياء و ّ‬ ‫يف اببل‪ ،‬أو عبادة الثَُرَّاي‪ ،‬أو قدتكون إشارة إىل اليوم السابع من االحتفاالت اليت تقام لتَ ُّموز‪ ،‬لكن يبدو يف‬ ‫السبعية الشيعية اليت انفصلت عن اإلمساعيلية‪ ،‬قد يكون الدليل على ذلك ذكر‬ ‫الباطن أن املقصود هنا فرقة ّ‬ ‫االثين عشرية‪ ،‬فقد يكون املقصود يف الظاهر جممع اآلهلة يف الفرتة البابلية القدمية‪ ،‬أو اإلله َم ْرُدوخ الذي‬ ‫احتفال يف اليوم الثّاين عشر‪ ،‬لكن األكثر احتماال هو التلميح للفرقة الشيعية االثين عشرية‬ ‫كان يقام له‬ ‫ٌ‬ ‫واليت انفصلت بدورها عن اإلمساعيلية‪.‬‬ ‫‪ 77‬تُطلق على اليوم العاشر من شهر ُحمَّرم ‪ ،‬وهو يوم مقتل احلسني بن علي بن أيب طالب وأهل بيته يف كربالء على يد‬ ‫جيش يزيد بن معاوية يف السنة الواحدة والستني هجريّة‪ ،‬بعد حصار دام ثالثة أايم‪.‬‬ ‫‪ 78‬تُ ْسَرد األحداث كما يلي‪ :‬كان اإلمام حسني يعمل على نشر القضيّة‪ ،‬أي دين اإلسالم‪ ،‬فأتى يزيد بن معاوية‪ ،‬وهو‬ ‫س ّكري ينتهك حرمة النّساء وال صلة له يف ال ّدين‪ ،‬وطلب ّإما أن يبايعه أو أن يعلن احلرب عليه‪ .‬رفض احلسني ودخل يف‬ ‫صلُوا إىل مكان ابلقرب من كربالء‪ ،‬حاصرهم فيه‬ ‫مواجهة معه‪ .‬مشى احلسني وعائلته وأهله وأصحابه يف الصحراء إىل أن َو َ‬ ‫جيش يزيد بن معاوية‪ ،‬ومنع عنهم املياه مل ّدة يومني‪ .‬خالل فرتة احلصار‪ ،‬نزل أصحاب احلسني وأوالده وأخوه العباس إىل‬ ‫املعركة لكنّهم استشهدوا‪ ،‬ويف اليوم األخري نزل احلسني مع ابنه الرضيع (علي األصغر) فقتال ابألسهم‪ ،‬وبقيت جثته يف‬ ‫أرض املعركة‪ ،‬فيما بقي ابنه زين العابدين يف اخليمة نتيجة اشتداد مرضه فحافظ على نسل احلسني‪ .‬بعد استشهاد‬ ‫وحتومن حوله‪ ،‬عندها أتى الشمر فأبعد النّساء وقطع رأس احلسني وعلّقه على السيف‪،‬‬ ‫احلسني‪ ،‬خرجت النّساء من اخليم‪ّ ،‬‬ ‫فيما حرق جنود يزيد بن معاوية اخليم‪ ،‬وذحبوا الرجال‪ ،‬وسبوا النّساء وساروا هبم يف الصحراء‪ .‬يف هذه األثناء دفن زين‬ ‫تنص على ضرورة دفن اإلمام من‬ ‫العابدين األجساد يف كربالء ومن ضمنها جثة والده اإلمام حسني‪ ،‬خصو ً‬ ‫صا أن العقيدة ّ‬ ‫إمام آخر‪ .‬يف هذا الوقت وصلت النّساء إىل قصر يزيد بن معاوية‪ ،‬هنا اعرتضت السيّدة زينب وصرخت أبّنن أحفاد‬ ‫هز معاوية‪ ،‬فأمر إبرساهلن إىل سوراي‪ ،‬حيث عشن‬ ‫الرسول ولسن سبااي‪ ،‬ال يبعن وال يشرتين‪ ،‬وألقت خطاهبا الشهري الذي ّ‬ ‫أصرت زينب على العودة‬ ‫يف أكواخ وعانني ّ‬ ‫الذل واالضطهاد‪ ،‬قبل أن ميشني ابجتاه احلجاز‪ .‬يف طريق العودة إىل احلجاز ّ‬ ‫املنورة‪ ،‬وكان ذلك ابلتزامن مع أربعني احلسني‬ ‫إىل كربالء لتدفن رأس احلسني مع جسده‪ ،‬قبل أن تذهب إىل املدينة ّ‬ ‫فأقيمت جمالس عزاء‪ ،‬مثّ دخلت السيّدة زينب إىل املدينة وروت ما حصل معهم‪.‬‬ ‫هذا األسلوب جنده يف موضع آخر ويف تعليق نسبه ابن وحشيّة ألحد مؤلفي كتاب الفالحة‬ ‫النبطيّة عن سبب بكائه يف ِذ ْكَران متُّوز‪ ،‬قال قُواثمى‪ ":‬فهذه أحاديث قد َد َّونوها‪ ،‬يَْت لُوّنا يف اهلياكل بعقب‬ ‫وإين إذا حضرت مع النّاس يف اهليكل‪ ،‬خاصة يف عيد متُّوز‬ ‫الصلوات ويَب ُكون ويَنُوحون من ذلك كثريا‪ِّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫صته وبَ ُكوا‪ ،‬فاين أبكي معهم دائما‪ ،‬مساعدة له ورقة مين لبكائهم‪ ،‬ال إمياان‬ ‫الذي يكون يف شهره‪ ،‬وتلوا ق ّ‬ ‫صته‪ ،‬فإذا تَلَ َوها وبكوا بكيت معهم بكاء خالف‬ ‫مين مبا يذكون من ذلك‪ ،‬فأما ينبوشاذ فين أومن بِِق َّ‬ ‫بكائي على متُّوز‪ ،‬والعلة يف هذا أن عهد ينبوشاذ إىل زماننا هذا أقرب من عهد متُّوز‪ ،‬فخربه أثبت واصح‪،‬‬ ‫وقد جيوز أن يكون بعض قصة متُّوز صحيحة‪،‬لكن لبعد زمانه من زماننا شككت يف بعض خربه"‪.‬‬ ‫تبدو األمور أكثر وضوحا اآلن‪ ،‬إن تعليق ابن وحشيّة على سرية متُّوز كان القصد منه تنبيه صاحبه‬ ‫الشيعة‪ ،‬قد يكون تفطّن ابن وحشيّة إىل حرج أيب طالب‬ ‫إىل التشابه الكبري بني ذكران متُّوز والتّعزية لدى ّ‬ ‫فلمح له بكالم نسبه إىل قواثمى‪ ،‬ليبني له ثالثة أمور‪ :‬أوال‪ ،‬أ ّن الراثء والبكاء من طبع‬ ‫من هذا التشابه‪ّ ،‬‬ ‫اإلنسان الرتباطها ابملشاعر‪ ،‬فال خجل وال عيب أن تبكي يف ِذ ْكَران شخص ال جتمعك به أيّة صلة‪ ،‬ألن‬ ‫البكاء يذكرك مبن تريد البكاء عليه‪ .‬اثنيا‪ ،‬ال عيب يف حضور ذكران متُّوز‪ ،‬فإن بكيت على متُّوز فإن تبكي‬ ‫على احلسني لقرب زمانه منك‪ .‬األمر الثالث‪ ،‬ال فائدة من البحث عن جذور طقوس البكاء‪ ،‬وال يهم‬ ‫تشابه طقوس متّوز مع طقوس عاشوراء‪ ،‬املهم هي احلاجة إىل البكاء‪.‬‬ ‫اخلاَتة‬ ‫كان ابن وحشيّة أول من تتّبع سفر متُّوز من بالد الراقدين إىل البلدان األخرى‪ ،‬وحاول فهم العالقة اليت‬ ‫تربط السرية ابلطّقوس‪ ،‬ألنّه كان يبحث عن إجابة لسؤال ُحم ّري‪ :‬كيف هلذه السرية أن تدوم وتتواصل عرب‬ ‫األزمان؟ وكانت إجابته واضحة ودقيقة‪ ،‬أن هذه السرية بنيت على مأساة‪ ،‬هذه املأساة ولدت صنفا أدبيا‬ ‫جديدا ‪ ،‬مل تعرفه اإلنسانية من قبل‪ ،‬هو أدب الراثء‪ ،‬والراثء اقرتن ابلبكاء‪ ،‬والبكاء مشاعر إنسانية‪ ،‬كانت‬ ‫الشرق القدمي‪ ،‬ألن لكل منها مأساة‪،‬‬ ‫ومزي‪ ،‬طقوس كانت قد تبنتها شعوب ّ‬ ‫هذه املشاعر جوهر ذكران ُد ُ‬ ‫ومزي وتواصلها من متُّوز إىل‬ ‫ولكل منها الرغبة يف البكاء على ذكرِ‪ ،‬هذا ما يفسر خلود أسطورة ُد ُ‬ ‫وموِزي‪:79‬‬ ‫عاشوراء‪ .‬هذا الوصف للمأساة جنده يف أشعار اببلية َرثَت ُد ُ‬ ‫ِ‬ ‫وموِزي حلَّ ًة فاخرة واعتلى جالساً على منصته‬ ‫ارتدى ُد ُ‬ ‫فأمسكه الشياطني من فخذيه‬ ‫هجم عليه الشياطني السبعة كما يفعلون ابلرجل املريض‬ ‫فانقطع الرعاة عن نفخ الناي واملزمار أمامه‬ ‫ثبتت إان ّان نظرها عليه‪ ،‬إّنا نظرة املوت‬ ‫‪79‬‬ ‫بشور‪ .‬املرجع‪ ،‬ص‪.‬ص ‪.243-235‬‬ ‫ومعربة قام هبا الدكتور وديع ّ‬ ‫هي ترمجة مجيلة ّ‬ ‫ونطقت ابلكلمة ضده‪ ،‬إّنا كلمة السخط‬ ‫وفاهت بصرخة ضده‪ ،‬إّنا صرخة التجرمي‪:‬‬ ‫أما هو فخذوه‬ ‫وموِزي الراعي أليديهم‬ ‫لقد سلَّمت إان ّان الطاهرة ُد ُ‬ ‫َّ‬ ‫إن الذين رافقوه‬ ‫َّ‬ ‫وموِزي‬ ‫إن الذين رافقوا ُد ُ‬ ‫كانوا خملوقات ال يعرفون الطعام وال يعرفون املاء‬ ‫ال أيكلون الطحني املبسوس‬ ‫وال يشربون ماء القرابني‬ ‫ال يتمتعون يف حضن املرأة‬ ‫وال يُ َقبِلو َن األطفال األصحاء‬ ‫إّنم أيخذو َن اِبن الرجل من فوق ركبتيه‬ ‫ويسلبون ال َكنَّة من بيت محيها‬ ‫ِ‬ ‫ضَّر وجهه‬ ‫حت ا ْخ َ‬ ‫وموِزي ّ‬ ‫بكى ُد ُ‬ ‫السماء رفع يديه إىل أُوتُو‬ ‫حنو ّ‬ ‫اي أُوتُو‪ ،‬أنت أخو زوجيت وأان زوج أُختك‬ ‫أان من أييت ابلزبد إىل بيت أُمك‬ ‫ضر احلليب إىل بيت ننجال‬ ‫وأان من ُْحي ُ‬ ‫ِّ‬ ‫حو ِِ ْل يدي إىل يد َحيَّة‬ ‫وح ِّو ْل قدمي إىل قدم َحيَّة‬ ‫َ‬ ‫دعين أختلص من شياطيين وال تدعهم ميسكوين‬ ‫وموِزي‬ ‫أُوتُو مل يستجب لتضرعات ُد ُ‬ ‫جند صدى هذا األدب الفريد من نوعه يف كتاابت أحد ّرواد األدب الوجودي يف تونس حيث‬ ‫تستوقفنا هنا قولة األديب حممود املسعدي‪" :‬األدب مأساة أو ال يكون‪ ،‬مأساة اإلنسان يرتدد بني‬ ‫األلوهية واحليوانية‪ ،‬تزف به يف أودية الوجود عواصف آالم العجز والشعور ابلعجز‪ :‬العجز أمام القضاء‪،‬‬ ‫أمام املوت‪ ،‬أمام احلياة‪ ،‬أمام الغيب‪ ،‬أمام اآلهلة‪ ،‬أمام نفسه‪."...‬‬