انتقل إلى المحتوى

سليم الأول: الفرق بين النسختين

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
[نسخة منشورة][نسخة منشورة]
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
الرجوع عن التعديل 6143136 بواسطة الإنكشارى (نقاش)
 
(711 مراجعة متوسطة غير معروضة أجراها أكثر من 100 مستخدم.)
سطر 1: سطر 1:
{{مرشح كمقالة مختارة|20 أكتوبر 2010}}
{{معلومات سلطان عثماني
{{معلومات سلطان عثماني
|اسم_السلطان = سليم الأوّل "القاطع" بن بايزيد الثاني
|اسم_السلطان = سليم الأوَّل
|الاسم_الكامل = سليم الأوّل بن بايزيد الثاني
|الاسم_الكامل = سليم بن بايزيد بن مُحمَّد العُثماني
|لقب = الملكُ الناصر، السُلطان القاهر، ياووز، ظهير الدين والدُنيا، فاتح بلاد العرب والعجم، كاسر الجيشين، ملك البرَّين وخاقان البحرين، غيَّاث السلطنة والخِلافة
|لقب = خان
|صورة = Yavuz Sultan Gazi Selim Han - السلطان الغازي ياووز سليم خان.jpg
|لقب2 = خليفة المسلمين
| حجم = 350
|ألقاب_أخرى = القاطع<br />الشجاع<br />العابس.
|صورة = Selim I.jpg
|التوقيع = Sultan Selim I Tugra.svg
|صورة_طغراء = Tughra of Selim I.JPG
|الدولة = لا
|المهنة = سُلطان العُثمانيين وخليفة المُسلمين
|تعليق = رسم للسلطان سليم الأوّل القاطع لرسام غير محدد
|الديانة = [[الإسلام|مُسلم]] [[أهل السنة والجماعة|سُني]]
|العهد = توسع الدولة العثمانية
|العهد = توسع الدولة العثمانية
|مدة_الحكم = 1512–1520
|مدة_الحكم = [[918 هـ|918]] - [[926 هـ|926هـ]]\[[1512]] - [[1520]]م
|مدة_الحكم2 =
|التتويج =
|التتويج = [[918 هـ|918هـ]]\[[1512]]م
|سبقه = [[بايزيد الثاني]]
|سبقه = [[بايزيد الثاني]]
|خلفه = [[سليمان القانوني|سليمان الأول]]
|خلفه = [[سليمان القانوني|سُليمان القانوني]]
|سنوات =
|سنوات = [[918 هـ|918]] - [[926 هـ|926هـ]]\[[1512]] - [[1520]]م
|نوع_الخلافة = وراثية ظاهرة
|سبقه2 =
|ولي العهد = [[سليمان القانوني|سُلَيمان]] (1512 - 1520م)
|خلفه2 =
|والدة_السلطان = [[كلبهار خاتون الثانية|عائشة گُلبهار خاتون]]
|سنوات2 =
|زوجة = [[سليم الأول#زوجاته وأولاده|انظر]]
|نوع_الخلافة = وراثية ظاهرة
|الأولاد = [[سليم الأول#زوجاته وأولاده|انظر]]
|وريث =
|الأب = [[بايزيد الثاني]]
|والدة_السلطان = عائشة حفصة خاتون
|الأم = [[كلبهار خاتون الثانية|عائشة گُلبهار خاتون]]
|زوجة =
|تاريخ الولادة = [[875 هـ|875هـ]]\[[1470]]م
|زوجة 1 =
|مكان الولادة = [[أماسية]]، [[الأناضول]]، [[ملف:Ottoman red flag.svg|20بك]] [[الدولة العثمانية|الدولة العُثمانيَّة]]
|زوجة 2 =
|تاريخ الوفاة = [[9 شوال|9 شوَّال]] [[926 هـ|926هـ]]\[[22 سبتمبر|22 أيلول (سپتمبر)]] [[1520]]م
|زوجة 3 =
|مكان الوفاة = [[تشورلو|چورلي]]، [[الروملي|الروملِّي]]، [[ملف:Ottoman red flag.svg|20بك]] [[الدولة العثمانية|الدولة العُثمانيَّة]]
|زوجة 4 =
|مكان الدفن = [[مسجد سليم الأول|مسجد السليميَّة]]، [[إسطنبول]]، {{تركيا}}
|زوجة 5 =
}}
|زوجة 6 =
'''خادم الحرمين الشريفين الملكُ الناصر والسُلطان الغازي القاهر ظهيرُ الدين والدُنيا ياووز سليم خان بن بايزيد بن مُحمَّد العُثماني''' ([[اللغة التركية العثمانية|بالتُركيَّة العُثمانيَّة]]: <span style="font-family: Arabic Typesetting; font-size:22px ">الملكُ الناصر غازى ياووز سُلطان سليم خان اوَّل بن بايزيد بن مُحمَّد عُثمانى</font></span>؛ و[[اللغة التركية|بالتُركيَّة المُعاصرة]]: Sultan I. Selim Han ben Bayezid)، ويُعرف اختصارًا باسم '''سليم الأوَّل''' أو '''سليم شاه'''، وبِلقبه '''ياووز سليم''' أي '''سليم القاطع'''،<ref name="محمد فريد1">{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=188}}</ref> هو [[قائمة سلاطين الدولة العثمانية|تاسع سلاطين آل عُثمان]] وسابع من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم بعد والده بايزيد الثاني وأجداده من [[محمد الفاتح|مُحمَّد الفاتح]] إلى [[مراد الأول|مُرادٍ الأوَّل]]، وثالث من حمل لقب «[[قيصر (لقب)|قيصر الروم]]» من الحُكَّام المُسلمين عُمومًا والسلاطين العُثمانيين خُصوصًا بعد والده بايزيد وجدِّه الفاتح، وأوَّل [[قائمة الخلفاء#الخلفاء العثمانيون (1299-1922)|خليفة لِلمُسلمين من بني عُثمان]]، والرابع والسبعين في ترتيب الخُلفاء عُمومًا. والدته هي [[كلبهار خاتون الثانية|عائشة گُلبهار خاتون]]،<ref group="la" name="Resimli">{{استشهاد مختصر|1=Bahadıroğlu|2=2009|ص=157|لغة=en}}</ref> وكان مولده سنة [[875 هـ|875هـ]] المُوافقة لِسنة [[1470]]م، وهو أصغر أولاد السُلطان بايزيد الثاني الذين كُتبت لهم الحياة، وبهذا لم يكن في بادئ أمره [[ولي عهد|وليَّ عهد]] أبيه، بل كان هذا اللقب من نصيب أخيه الأكبر عبد الله، ثُمَّ أحمد بعد وفاة الأخير.
|حدث_بارز =
|النشيد الملكي =
|الأب = [[بايزيد الثاني]]
|الأم = عائشة "گلبهار" خاتون
|تاريخ الولادة = [[10 أكتوبر]] [[1470]]
|مكان الولادة = [[أماسيا]]، [[الأناضول]]، [[تركيا]]، [[ملف:Flag of the Ottoman Empire (1453-1844).svg|20px]] [[الدولة العثمانية]]
|تاريخ الوفاة = [[22 سبتمبر]] [[1520]] (50 عامًا)<ref name="KTB">{{cite web |url=http://www.kultur.gov.tr/TR/Genel/BelgeGoster.aspx?F6E10F8892433CFFA79D6F5E6C1B43FF0D2CC151BEEE94E3|title=Yavuz Sultan Selim Han|date=2010-03-13|publisher=T.C. Kültür ve Turizm Bakanlığı}}</ref><ref name="TTK">{{cite web |url=http://www.ttk.org.tr/index.php?Page=Sayfa&No=116|title=Osmanlı Padişahları|date=2010-03-13|publisher=Türk Tarih Kurumu}}</ref>
|مكان الوفاة = [[تيكيرداغ|تيكيرطاغ]]، [[تراقيا]]، [[تركيا]]، [[ملف:Flag of the Ottoman Empire (1453-1844).svg|20px]] [[الدولة العثمانية]]
|تاريخ الدفن =
|مكان الدفن = مسجد السلطان سليم، [[إسطنبول]]
|}}
'''السلطان الغازي سليم الأوّل القاطع''' ([[لغة تركية عثمانية|بالتركية العثمانية]]: {{نستعليق|غازي ياوز سلطان سليم خان أوّل}}؛ و[[لغة تركية|بالتركية الحديثة]]: '''Yavuz Sultan Selim Han I''' أو '''I. Selim''') هو تاسع [[قائمة السلاطين العثمانيين|سلاطين الدولة العثمانية]] و[[قائمة الخلفاء|خليفة المسلمين الرابع والسبعين]]، وأوّل من حمل لقب "[[أمير المؤمنين]]" من آل عثمان. حكم [[الدولة العثمانية]] من سنة [[1512]] حتى سنة [[1520]].<ref name="Yavuz Sultan Selim Biography">[http://www.sevgi.k12.tr/~ottomanempire/ingosmanli/Sultans/yavuz_sultan_selim_biography.htm Yavuz Sultan Selim Biography] Retrieved on 2007-09-16</ref> يُلقب "'''بالقاطع'''" أو "'''الشجاع'''" عند [[أتراك|الأتراك]] نظرًا لشجاعته وتصميمه في ساحة المعركة، ويُعرف بالغرب، وعند [[إنكليز|الإنگليز]] خصوصًا، باسم "'''سليم العابس'''" ([[لغة إنكليزية|بالإنگليزية]]: '''Selim the Grim''')، نظرًا لما يقوله بعض المؤرخين بأنه كان دائمًا متجهم الوجه.


آل المُلك إلى هذا السُلطان بعد اضطراباتٍ عصفت بِالدولة العُثمانيَّة أواخر عهد والده بايزيد نتيجة صراع أبناءه، بما فيهم سليم، على العرش. وكانت الغلبة في نهاية الأمر لِلأخير نتيجة دعم [[إنكشارية|الإنكشاريَّة]] له، فتنحَّى والده وترك له تدبير شُؤون البلاد والعباد. استطاع سليم تصفية أخويه وأكثر أبنائهم خِلال السنة الأولى من حُكمه بعد أن استشعر منهم الخيانة والغدر، ثُمَّ حوَّل أنظاره شرقًا لِحرب [[الدولة الصفوية|الصفويين]] الذين كانوا [[غلاة|يُغالون]] في تشيُّعهم ويضطهدون [[أهل السنة والجماعة|أهل السُنَّة والجماعة]] في بلاد [[إيران الكبرى|إيران]] و[[عراق العرب|العراق]]. والَّلافت أنَّ استراتيجيَّة العُثمانيين انقلبت في عهد هذا السُلطان، إذ توقَّفت موجة الفُتُوحات بِاتجاه الغرب وتحوَّل الزَّحف ناحية [[الشرق الأوسط|الشرق الإسلامي]] لِأسبابٍ عديدة، منها ما هو مذهبي ومنها ما هو اقتصادي وسياسي وثقافي، فجدَّد السُلطان المُعاهدات العُثمانيَّة السابقة مع الدُول الأوروپيَّة ثُمَّ سار لِقتال الصفويين وانتصر عليهم انتصارًا باهرًا بِفضل الأسلحة المُتطوِّرة التي تزوَّد بها جيشه، ولِكفاءة طوائف الجُند العُثمانيَّة وبالأخص طائفة الإنكشاريَّة. بعد ذلك حارب السُلطان سليم [[الدولة المملوكية|المماليك]] وتمكَّن من الانتصار عليهم وإخراجهم من [[بلاد الشام|الشَّام]]، التي رحَّبت بلادها بمِجيء العُثمانيين وفتحت لهم أبوابها، فدخلوها سلمًا دون قتال، وبقيت الديار الشَّاميَّة جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة إلى سنة [[1918]]م، أي لِأربعة قُرُونٍ مُتتالية. وتتبع السُلطان سليم المماليك حتَّى مصر وأنزل بهم ضربةً قاضية، فدانت لهُ [[تاريخ مصر الإسلامية|الديار المصريَّة]] ودخلت تحت جناح الدولة العُثمانيَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=حلاق|2=2000|ص=28-29}}</ref> وفيما كان السُلطان سليم في [[القاهرة]] قدَّم إليه شريف مكَّة مفاتيح الحرمين الشريفين كرمزٍ لِخُضُوعه وكاعترافٍ بِالسيادة العُثمانيَّة على الأراضي الحجازيَّة، وكانت هذه السيادة لِسلاطين المماليك من قبل. وهكذا أصبح [[الحجاز]] جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة من غير حربٍ أو قتال. وكان آخر [[قائمة الخلفاء العباسيين|الخُلفاء العبَّاسيين]] [[المتوكل على الله الثالث|مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله]] يُقيم بِالقاهرة في ظل المماليك، فاصطحبهُ معهُ السُلطان سليم إلى [[إسطنبول|إسلامبول]] حيثُ تنازل لهُ عن الخلافة. وهُناك من المؤرخين من يُشكك بِصحَّة هذه الرواية، على أنَّهم يعتبرون أنَّ سليمًا كان قد أُعلن خليفةً لِلمُسلمين فعلًا ولكن قبل ضمِّه مصر، وتحديدًا في أوَّل [[خطبة الجمعة|خطبة جُمُعة]] حضرها في الشَّام، وتسلَّم بِوصفه هذا مفاتيح الحرمين الشريفين من شريف مكَّة ما أن أتمَّ سيطرته على البلاد المصريَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=جحا وآخرون|2=1972|ص=135-136}}</ref> نتيجة انتزاعه العديد من البلاد من الصفويين واستيعاب الدولة المملوكيَّة بأكملها في الدولة العُثمانيَّة، اتسعت الأخيرة اتساعًا عظيمًا، فوصلت مساحتها إلى 1,494,000 كلم<sup>2</sup> عشيَّة وفاة السُلطان سليم، أي أنها تضاعفت بِنسبة 70% عمَّا كانت عليه قبل الحملتين على إيران والشَّام ومصر.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Ágoston|2=2009|ص=511-513|لغة=en}}</ref>
وصل سليم إلى تخت السلطنة بعد انقلاب قام به على والده، "[[بايزيد الثاني]]"، بدعم من [[إنكشارية|الإنكشارية]] وخاقان [[شبه جزيرة القرم|القرم]]، ونجح بمؤازرتهم بمطاردة إخوته وأبنائهم والقضاء عليهم الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق له منازع في الحكم. وفي عهده ظهرت [[صفويون|السلالة الصفوية الشيعية]] في [[إيران]] و[[أذربيجان]]، ونشبت بينها وبين العثمانيين حرب ضروس انتصر فيها السلطان سليم، ومن ثمّ حوّل أنظاره نحو [[مماليك مصر|السلطنة المملوكية]] فغزا أراضيها وقضى عليها نهائيًا بعد أن استمرت 267 سنة.


كان السُلطان سليم مُتدينًا مُتمسكًا بِالعقيدة والشعيرة السُنيَّة، وتذكر بعض المصادر أنَّهُ كان [[صوفية|مُتصوفًا]] يتبع [[مولوية|الطريقة المولويَّة]].<ref name="أرمغان1">{{استشهاد مختصر|1=أرمغان|2=2014|ص=61-65}}</ref> وكان يُتقن اللُغات [[اللغة التركية العثمانية|التُركيَّة]] و[[اللغة الفارسية|الفارسيَّة]] و[[اللغة العربية|العربيَّة]] و[[يونانية العصور الوسطى|الروميَّة]] و[[اللغة التتارية|التتريَّة]]،<ref name="الغزي"/> كما كان شاعرًا يُجيد النظم بِاللُغات الثلاثة الأولى، وأحبَّ الآداب والموسيقى، فكانت مجالسه حافلة بِالشُعراء والأُدباء والعُلماء والفُقهاء والفنَّانين. وتنص المصادر أنَّهُ كان يكره البذخ والإسراف ويميلُ إلى البساطة في مأكله وملبسه وزينته.<ref name="أرمغان1"/> وهو أوَّل من حلق لحيته وأطلق شاربيه من آل عُثمان. ومن أهم المآخذ على هذا السُلطان أنَّهُ كان بطَّاشًا ميَّالًا لِسفك الدماء أكثر من ميله لِلحُلُول السلميَّة، فقتل سبعة من وُزرائه لِأسبابٍ واهية، وكان كُلُّ وزيرٍ مُهدَّد بِالقتل لِأقل هفوة تدفع السُلطان لِلشك بِأمره،<ref name="مآخذ">{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=197}}</ref> على أنَّ هذا كان مقصورًا على رجاله وحاشيته وأتباعه، أمَّا الرعيَّة فكان يتحرَّى العدل فيها. وصفهُ المُؤرِّخ [[أحمد بن يوسف القرماني|أحمد بن يُوسُف القرماني]] بِقوله: {{اقتباس مضمن|وَكَانَ {{رحمه الله}} عَالِمًا فَاضِلًا ذَكِيًّا حَسَنَ الطَّبْع بَعِيدَ الْغَوْر، صَاحِبَ رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَحَزْمٍ، وَكَانَ يُعْرَفُ الْأَلْسِنَة الثَّلَاثَة: الْعَرَبِيَّة وَالتُّرْكِيَّة وَالْفَارِسِيَّة وَيَنْظُمُ نَظُمًا بَارِعًا حَسَنًا، وَكَانَ دَائِمَ الْفِكْرِ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَالْمُمَلَكَةِ}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=القرماني|2=1865|ص=316}}</ref> كما وصفه المُؤرِّخ [[ابن أبي السرور البكري|شمس الدين مُحمَّد بن أبي السُرُور البكري المصري]] بِقوله: {{اقتباس مضمن|وَكَان سُلْطَانًا قَهَّارًا ذَا هَيْبَةٍ وَشَهَامَةٍ مُتَكَاثِرَة، كَثِير التَّفَحُّص عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، وَكَانَ فِي التَّجَسُّسِ لَهُ الْغَايَةُ، وَلَهُ الْجَوَاسِيس لِنَقْل الْأَخْبَار، وَمَهْمَا نَقَلُوه فَعَل بِمُقْتَضَاه. وَكَانَ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِلتَوَارِيخِ، جَمْعَ مِنْهَا جُمْلَةً كَبِيرَة بِالتُّرْكِيَّة وَالْعَرَبِيَّة وَغَيْرِهَا. وَكَانَ حَسَنَ النُّظْمِ بِالتُّرْكِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=البكري|2=1995|ص=71-72}}</ref>
يتميز عهد هذا السلطان عما سبقه من العهود بأن الفتوحات تحولّت في أيامه من [[أوروبا|الغرب الأوروبي]] إلى [[الوطن العربي|الشرق العربي]]،<ref name="shsu.edu">[http://www.shsu.edu/~his_ncp/Turkey2.html The Rise of the Turks and the Ottoman Empire] Retrieved on 2007-09-16</ref> حيث اتسعت رقعة الدولة اتساعًا كبيرًا لشملها [[بلاد الشام]] و[[العراق]] و[[الحجاز]] و[[مصر]]، حتى بلغت مساحة أراضيها حوالي مليار فدّان يوم وفاة السلطان. وكان من نتيجة فتوحات السلطان سليم أن ازدهرت الدولة العثمانية في أيام خليفته، "[[سليمان القانوني|سليمان الأوّل]]"، بعد أن أصبحت إحدى أهم دروب التجارة البريّة: [[طريق الحرير]] ودرب التوابل، تمر في أراضي الدولة، ولاكتسابها عدد من المرافئ المهمة في شرق [[البحر المتوسط]] و[[البحر الأحمر]].<ref name="kimkimdir.gen.tr">[http://www.kimkimdir.gen.tr/kimkimdir.php?id=414 kimkimdir.gen.tr] ''Son bakılma tarihi: 20 Kasım 2008.''</ref>


== حياته قبل السلطنة ==
== حياته قبل السلطنة ==
=== ولادته ونشأته ===
[[ملف:Amasya ve şehrin içinden geçen Yeşilırmak.jpg|تصغير|رسم لمدينة أماسيا حيث وُلد السلطان سليم الأوّل.]]
[[ملف:Amasya-eski.jpg|تصغير|جانبٌ من مدينة أماسية، مسقط رأس السُلطان سليم.]]
وُلد سليم الأول للسلطان "[[بايزيد الثاني|بايزيد الثاني بن محمد الفاتح]]" و"عائشة گلبهار خاتون"، الأميرة من سلالة ذي القدر التركمانية،<ref>{{cite web | url = http://www.kultur.gov.tr/EN/BelgeGoster.aspx?17A16AE30572D313A79D6F5E6C1B43FF12460496EB6D6255 | title = Yavuz Sultan Selim Han | accessdate = 2009-02-06 | publisher = وزارة الثقافة والسياحة التركيّة}} {{Dead link|date=October 2010|bot=H3llBot}}</ref> في [[10 أكتوبر]] سنة [[1470]]م، الموافقة سنة [[872 هـ]]، في مدينة [[أماسيا]] على ساحل [[البحر الأسود]] في [[الأناضول]]. وهو أحد الأولاد الذكور الثمانية للسلطان بايزيد، الذين توفي منهم خمسة في صغرهم وبقي اثنان إلى جانب سليم هما "كركود" و"أحمد".<ref name="عصيان السلطان">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 186 ISBN 9953-18-084-9</ref> وكان هؤلاء الأمراء يختلفون في المشارب والآراء، فكان "كركود" محبًا لل[[علوم]] وال[[آداب]] و[[فنون|الفنون]] ومشتغلاً بمجالسة العلماء والدراسة، لذا كان يمقته الجيش لعدم ميله للحرب، وكان "أحمد" محبوبًا لدى الأعيان والأمراء، وكان [[صدر أعظم|الصدر الأعظم]] "علي باشا" مخلصًا له. أما سليم فكان محبًا لل[[حرب]] شرس الطباع ومحبوبًا لدى الجند عمومًا و[[إنكشارية|الإنكشارية]] خصوصًا.<ref name="Selim the Excellent">[http://www.ottomanonline.net/sultans/9.html Sultan Selim the Excellent]</ref> وخوفًا من وقوع الشقاق بين الأمراء لاختلافهم في وجهات النظر وتباينهم في الآراء، قام السلطان بايزيد بالتفريق بين أبنائه وعيّن "كركود" واليًا على إحدى الولايات البعيدة، و"أحمد" على [[أماسيا]]، وسليمًا على [[طرابزون]].<ref name="ref809">[http://www.osmanli700.gen.tr/padisahlar/09index.html osmanli700.gen.tr]</ref>
وُلد سليم الأوَّل على القول الأصح سنة [[875 هـ|875هـ]] المُوافقة لِسنة [[1470]]م،<ref>{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=633}}</ref> وقيل في سنة [[872 هـ|872هـ]] ([[1467]] - [[1468]]م)،<ref name="الغزي">{{استشهاد مختصر|1=الغزي|2=1997|ص=209}}</ref> في مدينة [[أماسية]] بِالأناضول، خلال ولاية أبيه بايزيد على سُنجق تلك الناحية. تتفق مُعظم المصادر على أنَّ والدته هي [[كلبهار خاتون الثانية|عائشة گُلبهار خاتون]] ابنة أمير [[ذو القدر|ذي القدر]] علاء الدولة بوزقورد بك،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Babinger|2=1992|ص=57|لغة=en}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Agoston|2=2011|ص=116|لغة=en}}</ref> ويقول بعض الباحثين أنَّ والدة هذا السُلطان هي امرأة تُدعى «گُلبهار» حصرًا، دون ذكرٍ لِنسبها وما إذا كانت ابنة أحد الأُمراء المُسلمين في الأناضول،<ref group="la" name="Resimli" /> ويقول آخرون أنَّها دُعيت «عائشة خاتون» فحسب، ويُؤيدون كونها ابنة علاء الدولة بوزقورد بك.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Dijkema|2=1977|ص=32|لغة=en}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Solak|2=2006|ص=524|لغة=en}}</ref> [[ختان|اختُتن]] سليم على يد جدِّه السُلطان [[محمد الفاتح|مُحمَّد الفاتح]]، وبحسب رواية المُؤرِّخ أحمد بن يُوسُف القرماني فإنَّ السُلطان الفاتح طلب من ولده بايزيد بِأن يبعث إليه بِإبنيه أحمد وسليم لِيختتنهما بِنفسه، فلمَّا قدما إليه أجلسهما بِجانبه على تخت المُلك وأخذ يُلاعبهما ويُمازحهما، فشدَّ أُذُن سليم إليه فبكى الأخير، فأمر السُلطان بِإحضار طرائف التُحف من الخزينة لِيُرضيهما، فرضي أحمد وقام وقبَّل يد جدِّه، وأبى سليم أن يرضى رُغم مُحاولات السُلطان بإسعاده، فقال له: {{اقتباس مضمن|يَا وَلَدِي نَصْطَلِحُ مَعَك}}، فردَّ عليه سليم: {{اقتباس مضمن|والله مَا اصْطَلَحَ مَعَك، إِنَّ لِي عَلَيْكَ حَقًّا أُبْقِيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}}، فانزعج السُلطان وقال لِوُزرائه: {{اقتباس مضمن|اعْلَمُوا أَنَّ وَلَدِي هَذَا هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ هَذَا التَّخْت}}، ثُمَّ ختنهما وأرسلهما إلى والدهما.<ref>{{استشهاد مختصر|1=القرماني|2=1865|ص=310-311}}</ref>


=== حكم طرابزون ===
=== حُكم طربزون ===
[[ملف:Trebizond fom Boztepe.jpg|تصغير|يمين|منظرٌ لِمدينة طربزون من تلَّة «بوزدپَّه». شكَّلت هذه المدينة مقر حُكم الشاهزاده سليم لِتسعةٍ وعشرين سنة.]]
تولّى سليم إدارة سنجق طرابزون وهو ما زال في ربيعه الحادي عشر، واستمر يديره بحزم ودراية طيلة 29 سنة، من عام [[1481]] حتى عام [[1510]]، فعاصر الأيام الأولى لبروز [[صفويون|السلالة الصفوية]] في [[إيران]] و[[أذربيجان]]، وأدرك أن نفوذ الصفويين المتوسع شيئًا فشيئًا قد يُشكل خطرًا على [[الدولة العثمانية]] في المستقبل.<ref name="ref508">[http://www.karalahana.com/makaleler/tarih/yavuz_sultan_selim.htm Yard. Doç. Dr. Remzi KILIÇ, ''Trabzon Valisi Şehzade Selim ve Faaliyetleri'',Niğde Üniversitesi, Eğitim Fakültesi Yeniçağ Tarihi Ana Bilim Dalı Öğretim Üyesi]</ref> أتقن سليم اللعبة السياسية خلال حكمه [[طرابزون]] وبرع فيها، فحسّن العلاقات العثمانية مع دول الجوار، وحمل على [[جورجيا]] عدّة حملات عسكرية لمعاقبة حكّامها على ما أطلقوه من الدعاية المعادية للعثمانيين، فغزا مدن [[كارس|قارص]] و[[أرضروم]] و[[أرتفين|أرتڤين]] الخاضعة للسيادة الجورجيّة، وضمها للدولة العثمانية سنة [[1508]]،<ref name="سلاطين وباشوات">[http://ottomansultans.blogspot.com/2008/01/yavuz-sultan-selim-selim-i.html سلاطين وباشوات الدولة العثمانية: السلطان سليم القاطع (سليم الأوّل)]</ref> وكان من نتيجة ذلك أن اعتنق جميع الجورجيين المقيمين في تلك المدن [[إسلام|الإسلام]] دينًا، وازداد تعلّق الجنود بسليم وإخلاصهم له على ما أظهره من الشجاعة وحسن التنظيم في تلك الحملات.<ref name="ref809" /><ref name="Çadırdan Saraya Saraydan Sürgüne Osmanlı">{{cite book | last1 = Tektaş | first1 = Nazım | title = Çadırdan Saraya, Saraydan Sürgüne Osmanlı | year = 2007 | publisher = Yeni Şafak Gazetesi | language = التركيّة | id = ISBN 975-7645-70-2 | page = 164 | chapter = Yavuz Sultan Selim}}</ref> وخلال هذه الفترة تزوّج سليم بوالدة وليّ العهد، كما كان يُطلق على زوجات السلاطين، "عائشة حفصة خاتون" التي اختلف المؤرخون في تحديد أصلها ونسبها،<ref name="ref809" /> وأنجب منها ولدًا ذكرًا هو "[[سليمان القانوني|سليمان]]"، في [[27 أبريل]] سنة [[1495]]م، الموافق في [[1 شعبان|أوّل شعبان]] سنة [[900هـ]].<ref name="وفاة سليم"/>
تُشيرُ الدلائل أنَّ الشاهزاده عبد الله بن بايزيد، الأخ الأكبر لِسليم، تولَّى إدارة سنجق [[طربزون]] خلال سلطنة جدِّه الفاتح، واستُدلَّ على هذا بِنقشٍ ظاهرٍ على [[شاذروان]] جامع إيݘقلعة {{تر|İçkale Camii}} في المدينة، يعود إلى سنة [[875 هـ|875هـ]] المُوافقة لِسنة [[1470]]م، ويحملُ اسم الشاهزاده المذكور. ومن المعروف أنَّ الشاهزاده عبد الله استمرَّ يتولَّى سنجق طربزون حتَّى سنة [[886 هـ|886هـ]] المُوافقة لِسنة [[1481]]م.<ref group="la" name="KILIÇ">{{استشهاد مختصر|1=Kiliç|2=2015|ص=|لغة=en}}</ref> وفي هذه السنة تُوفي السُلطان مُحمَّد وخلفه ابنه بايزيد، فنقل ولده عبد الله من طربزون وولَّاه [[مانيسا (مدينة)|مغنيسية]]، وجعل مكانه أخوه سليم، فبقي في منصبه هذا تسعٌ وعشرون سنة (886 - 915هـ \ 1481 - 1510م).<ref group="la" name="KILIÇ" /> خلال ولايته، تلقَّى الشاهزاده اليافع دُرُوسًا في العُلُوم الشرعيَّة والسياسيَّة والآداب على يد [[مولى|المولى]] عبد الحليم بن علي القسطمونئي، الشهير بـ«مولانا عبد الحليم أفندي»، ولاحظ امتعاض أُمراء قبائل التُركُمان الأناضوليين من [[مركزية (إدارة)|الإدارة المركزيَّة]] الشديدة في الدولة العُثمانيَّة، التي أفقدتهم امتيازاتهم وحوَّلتهم إلى رعايا عاديين، فصاروا تحت إمرة المُوظَّف الصغير الذي يُرسله السُلطان من إسلامبول، ولم يعد بإمكانهم جمع الضرائب ولا حشد الجُنُود كما كان الحال في السابق. فلم يجد هؤلاء مُشكلةً في التشيُّع والالتحاق بِالدولة الصفويَّة بِقيادة الشاه [[إسماعيل الصفوي|إسماعيل بن حيدر]] طالما حفظ لهم امتيازات الإمارة، التي كانت بِالنسبة إليهم أهم من مسألة المذهب. فصاروا يذهبون إلى إيران دون تردُّد ويُعلنون ولائهم لِلشاه، فيُصبحون قادةً في جُيُوشه وتستمر امتيازاتهم كُلِّها.<ref name="أوزتونا1">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=202-206}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Çetinkaya|2=2010|ص=464, 472|لغة=en}}</ref>
[[ملف:Selim I in battle.jpg|تصغير|لوحة تخيُّليَّة تُصوِّرُ الشاهزاده سليم الشاب على رأس جيشه في إحدى غزواته المُبكرة دون تحديدٍ أيُّ غزوةٍ هي هذه.]]
[[ملف:BASA-516K-1-2080-8-Bayezid II.JPG|تصغير|السُلطان بايزيد الثاني أواخر سنيّ حُكمه.]]
أدرك سليم بِنظرته الثاقبة مدى الخطر الذي يُمثِّله الصفويُّون على الدولة العُثمانيَّة، وأنَّهم يستغلُّون التُركُمان الميَّالين لِلتشيُّع في سبيل خرق الدولة، فقلق على مُستقبلها، لا سيَّما وأنَّ والده السُلطان بايزيد كان يُسالم الشاه إسماعيل ويتجنَّب الدُخُول معهُ في حربٍ كبيرة. لِذلك رأى أن يعمل على تمتين صلة القبائل التُركُمانيَّة بِالسلطنة، فجنَّد منهم جُمُوعًا غفيرة وغزا بهم [[الكرج]] ثلاث مرَّات دون الرُجُوع إلى والده السُلطان في إسلامبول، وفتح خلال غزواته هذه عدَّة مُدُن وضمَّها إلى الدولة العُثمانيَّة، مثل [[قارص]] و[[أرضروم]] و[[أرتوين]] و[[آخالتسيخه|آخسخة]] و[[آخالكالاكي|آخلكلك]].<ref name="أوزتونا1"/><ref group="la" name="Çadırdan Saraya Saraydan Sürgüne Osmanlı">{{استشهاد مختصر|1=Tektaş|2=2007|ص=164|لغة=en}}</ref> ولم يُؤدِّ سليم [[أداء الخمس من المغنم (إسلام)|خُمس غنائم]] غزواته هذه إلى [[بيت المال]]، بل منحها إلى المُجاهدين التُركُمان الذين رافقوه وقاتلوا معه، في مُحاولةٍ لِاستقطابهم إلى جانب السلطنة والحيلولة دون تعلُّقهم بِالصفويين.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Celalzade|2=1990|ص=446|لغة=en}}</ref> وكان سليم يُبغضُ الصفويين وزعيمهم الشاه إسماعيل بُغضًا شديدًا بِسبب تطرُّفهم المذهبي واضطهادهم أهل السُنَّة والجماعة في البلاد الخاضعة لهم، فلم يِتوانَ عن قتالهم مرَّةٍ بعد أُخرى حتَّى أخذ من أيديهم عدَّة بلاد هي: [[أرزنجان]] و[[بايبرد|بايبُرد]] وكماخ وإيسبر و[[كوموش خانة|گُموشخانة]] وجمكازاد وما جاورها وأضافها إلى ولايته. فما كان من الشاه إلَّا أن أرسل أخاه إبراهيم لِاسترجاع هذه المُدن، باعتبار أنَّها من مُخلَّفات [[آق قويونلو|الدولة الآق قويونلويَّة]] التي قامت الدولة الصفويَّة على أنقاضها، وكونه هو وريث الآق قويونلويين من جهة أنَّه حفيد أميرهم الشهير [[أوزون حسن]]، فله الحق وحده في تلك المناطق. ردَّ سليم على هذا بِأن سار لِقتال الصفويين مُصطحبًا معه ابنه الوحيد الشاهزاده [[سليمان القانوني|سُليمان]] البالغ من العُمر 12 ربيعًا، فقابلهم قُرب أرزنجان وانتصر عليهم وتمكَّن من أسر إبراهيم شقيق الشاه، مُكتسبًا بِذلك اعتبارًا كبيرًا من الأهالي السُنيين ومن قادة الجيش، حتَّى وصل الأمر بِبعضهم أن لحَّن فيه قصيدةً شعبيَّة مطلعُها: «سر سُلطاني سر، فاليوم يومك».<ref name="أوزتونا1"/><ref>{{استشهاد مختصر|1=آق كوندوز وأوزتورك|2=2008|ص=212}}</ref>


سارع الشاه، بعد أن علم بأسر أخيه، إلى إرسال كتاب احتجاج إلى السُلطان بايزيد مُذكِّرًا إيَّاه بِالصداقة الصفويَّة العُثمانيَّة،<ref>{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2007|ص=70-72}}</ref> فكان ذلك ما يحتاجه الوُزراء المُوالين [[أحمد بن بايزيد|لِلشاهزاده أحمد]]، والذين يدعمون وُصوله إلى سُدَّة العرش، لِتأليب السُلطان على ابنه سليم، إذ كانوا مُتوهمين منه لِتهوُّره وسوء خُلُقه وشدَّة سياسته وبطشه، فنصحوا السُلطان أن يكبح جماحه كي لا يُدخل الدولة العُثمانيَّة في حربٍ شاملةٍ مع الصفويين الذين يُسالمونها، وادَّعى هؤلاء بِأنَّ سليم يُخالف أوامر وإرادة السُلطان، ويستبد بِالأمر، فيغزو بلاد الكرج بِلا إذنٍ من والده، وتمادوا حينما صنعوا كُتُبًا مُزوَّرةً نسبوها إلى الشاهزاده المذكور، تتضمَّنُ تهديداتٍ وتنبيهاتٍ إلى الوزراء. وأخذوا يُعدِّدون محاسن الشاهزاده أحمد ومعايب أخوه سليم، فتحرَّك غضب السُلطان على ابنه الأصغر، وكتب إليه ينهاه عن قتال الصفويين وغزو الكرج، ويأمره بِمُحافظة إيالته فقط وإطلاق سراح أخ الشاه وإخلاء جميع المُدن التي استولى عليها وإعادتها لِلصفويين، وهدَّده بِالعقاب فيما لو لم يمتثل لِلأوامر، وفي الوقت نفسه ثبَّت ابنه أحمد في ولاية العهد.<ref name="أوزتونا1"/><ref name="منجم1">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=589-599}}</ref> جديرٌ بِالذكر أنَّ السُلطان بايزيد كان آنذاك يُعاني من أمراضٍ شتَّى، حتَّى وُصف بِأنَّهُ صار «مثل صبيٍّ بِتعاقب الأمراض و[[شيخوخة|كِبر السن]]، فيُقلِّبهُ الوُزراء والنُدماء كيف شاؤوا وإلى حيثُ أرادوا».<ref name="منجم1"/> استجاب سليم لِرغبات أبيه، لكنَّهُ أعلن استيائه بِوُضُوح قائلًا أنَّ هذا العمل يعني انعدام الشرف، وليس لِلشاه حقٌّ في ما يدَّعيه، فأرزنجان على سبيل المِثال كان السُلطان [[بايزيد الأول|بايزيد الأوَّل]] هو من ضمَّها إلى الدولة العُثمانيَّة، وكانت ستبقى من جُملة بلادها لولا اجتياح [[تيمورلنك]] لِلأناضول. ولم تلقَ أوامر السُلطان ارتياحًا سواء لدى الجيش أو أهالي الأناضول أيضًا.<ref name="أوزتونا1"/> بناءً على ما سلف، اطمأنَّ الشاهزاده أحمد إلى موقف والده من أخيه الأصغر، وسعى إلى إبعاد أخيه الآخر [[شاهزاده قورقود|قورقود]] وابن أخيه سُليمان عن دار السلطنة لِيصفى لهُ المُلك، فالتمس من السُلطان أن ينقُل سُليمان بن سليم من سنجق [[بولو (تركيا)|بولي]] وقورقود من سنجق مغنيسية لِقُربهما من العاصمة، فأجابهُ بايزيد رعايةً لِخاطره وعيَّن سُليمانًا على سنجق [[فيودوسيا|كفَّة]] بِالقرم وقورقود على سنجق تكَّة.<ref name="منجم1"/>
=== العصيان على السلطان وتنازله عن المُلك ===
{{طالع أيضا|بايزيد الثاني}}
[[ملف:Sultan II. Bayezit.JPG|تصغير|يمين|السلطان [[بايزيد الثاني]] "الصوفي"، والد السلطان سليم الأول.]]
في أواخر عهد السلطان بايزيد أضرم أولاده نار [[حرب أهلية|الحروب الداخلية]] لأسباب متعددة، ولم تخمد إلا بعد وفاته. فقد أقدم السلطان على تعيين [[سليمان القانوني|الأمير سليمان]] بن ابنه سليم واليًا على "كافا" من [[القرم (شبه جزيرة)|بلاد القرم]]، فلم يرض سليم بهذا التعيين، بل ترك مقر ولايته وسافر إلى كافا بالقرم، وأرسل إلى أبيه يطلب منه تعيينه في إحدى ولايات [[أوروبا]]، فلم يقبل السلطان بل أصرّ على بقائه [[طرابزون|بطرابزون]]. وفي ذات الوقت خشي "أحمد" أكبر أولاد السلطان من أن سليمًا يسعى إلى العرش، فاغتنم مسألة انتصاره حديثًا على جيش مكوّن من تحالف تركماني-صفوي في [[آسيا الصغرى]]، وسار إلى [[القسطنطينية]] على رأس جنوده ليستعرض مقدرته العسكرية أمام والده وأشقاءه على حد سواء.<ref>Finkel, Caroline, Osman's Dream, Basic Books, 2005.</ref> وما أن علم سليم بفعل أخيه حتى أثار فتنة في [[تراقيا]] وعصى والده جهارًا، وسار بجيش جمعه من قبائل [[تتار|التتار]] إلى بلاد الروملّي، فأرسل والده جيشًا لإرهابه، لكنه لمّا وجد من ابنه التصميم على المحاربة وعدم ارتداعه، قبل تعيينه بأوروبا حقنًا للدماء، وعينه واليًا على مدينتيّ "سمندريه" و"[[فيدن|ڤيدن]]" في [[صربيا|الصرب]]، ورفض السماح لابنه الآخر "أحمد" بالدخول إلى العاصمة خوفًا من أن يُقدم الأخير على خلعه أو قتله ليتولى مقاليد السلطنة.<ref name="ref696">Halil İbrahim İnal, ''Osmanlı Tarihi'' Nokta Yayıncılık s.176,179 ISBN 9944-174-37-4</ref>


=== الاضطرابات أواخر عهد السُلطان بايزيد ===
ولمّا وصل إلى "كركود" خبر نجاح أخيه سليم في مسعاه، انتقل إلى ولاية [[صاروخان]] واستلم إدارتها بدون أمر أبيه ليكون قريبًا من [[القسطنطينية]] عند الحاجة.<ref name="عصيان السلطان" /> وفي ذلك الوقت كان السلطان بايزيد قد دعا ديوانه للانعقاد والتشاور في مسألة تنصيب أحد الأمراء خلفًا له، فاستقر الرأي على تنصيب الأمير "أحمد" سلطانًا، فغضب سليم ما أن وصله الخبر، وأعلن الثورة على والده، فسار إلى مدينة [[أدرنة]] واستولى عليها وأعلن نفسه سلطانًا،<ref name="المصور في التاريخ">المصور في التاريخ، الجزء السادس، تأليف: شفيق حجا، منير البعلبكي، بهيج عثمان. دار العلم للملايين. صفحة 129</ref> فأرسل والده إليه جيشًا قوامه 40,000 رجل فهزمه في [[3 أغسطس|الثالث من أغسطس]] سنة [[1511]] وألجأه إلى الفرار [[القرم (شبه جزيرة)|ببلاد القرم]]. وأرسل جيشًا آخر لمحاربة "كركود" ب[[آسيا الصغرى]]، فهزمه أيضًا وفرّق جيشه، ثم كتب إلى "أحمد" يطلب منه المجيء إلى [[القسطنطينية]] فورًا وتولّي مقاليد الحكم،<ref>Hammer,''Osmanlı Tarihi Cilt II'' sf:380</ref><ref name="Yılmaz Öztuna. ''Yavuz Sultan Selim'', s.39.">Yılmaz Öztuna,''Yavuz Sultan Selim'' sf:39 ISBN 975-00981-1-0</ref> فدخل المدينة في اليوم التالي وأًعلن سلطانًا، ويُقال أن من أشاد بضرورة تنصيب "أحمد" على العرش كان [[صدر أعظم|الصدر الأعظم]] "علي باشا"، الذي لم يؤمن بأحقية سليم أو كركود في خلافة بايزيد.<ref name="Uzunçarşılı İH">Ord. Prof. İsmail Hakkı Uzunçarşılı. ''Büyük Osmanlı Tarihi'', Cilt II. Türk Tarih Kurumu Yayınları, 7. baskı. s.233-248. ISBN 975-6945-11-7 ISBN 975-6945-13-3</ref>
كان لِلسُلطان بايزيد ثمانية أبناء: أسنُّهم هو عبد الله، ثُمَّ شاهنشاه فأحمد وعلمشاه وقورقود وسليم ومحمود ومُحمَّد. تُوفيّ أغلب هؤلاء الأبناء في حياة والدهم، ولم يُكتب البقاء - حتَّى ذلك الوقت - إلَّا لِشاهنهشاه وأحمد وقورقود وسليم، وقد فرَّقهم والدهم وعيَّن كُلُّ واحدٍ منهم على بلدٍ مُختلف خشية وُقُوع الشقاق بينهم نظرًا لِاختلافهم في الآراء والمشارب. فكان كبيرهم أحمد محبوبًا لدى الأعيان والأُمراء لِحُسن خُلُقه ولين جانبه، وكان الصدر الأعظم [[علي باشا الخادم]] مُخلصًا له. وكان قورقود مُشتغلًا بِالعُلُوم والآداب ومُجالسة العُلماء، وكان هو نفسه عالمًا كبيرًا وشاعرًا وخطَّاطًا وموسيقارًا ومُلحِّنًا، لهُ مُؤلَّفاتٌ بِالعربيَّة والتُركيَّة في عُلُوم [[فقه إسلامي|الفقه]] و[[علم الكلام|الكلام]] و[[أخلاق إسلامية|الأخلاق]] و[[صوفية|التصوُّف]]، ولِذا كان الجيش يمقته لِعدم ميله إلى الحرب، أضف إلى ذلك أنَّ ولديه الذُكُور توفيا وهُما طفلان ممَّا تركه بلا وريث وأضعف حقَّ ادعائه بِالعرش. أمَّا سليم فكان مُحبًّا لِلحرب والغزو والجهاد كما أُسلف، لذا كان محبوبًا لدى الجُند عُمومًا والإنكشاريَّة خُصُوصًا، ممَّا قوَّى موقفه فيما لو طالب بِالعرش.<ref>{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=186}}</ref><ref name="أوزتونا2">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=207-211}}</ref> ولمَّا كان أعيان البلاد من الساسة والقادة والأُمراء أصحاب الغايات والمصالح، المُناصرين لِلشاهزاده أحمد، يُدركون مدى خُطُورة وُصُول شخصٍ كسليم القوي إلى سُدَّة السلطنة، فإنَّهم أوغروا صدر والده عليه كما أُسلف، ليُقللوا من حُظوظه في تولَّي أُمُور البلاد والعباد، وصوَّروا أحمد على أنَّهُ المُرشَّح الأمثل لِخلافة أبيه، في حين استُبعد قورقود تمامًا.
[[ملف:I.SelimCülus.jpg|تصغير|170بك|تنصيب سليم الأوّل سلطانًا.]]
ثار [[إنكشارية|الإنكشارية]] في المدينة بعد أن تمّ تنصيب الأمير أحمد على العرش العثماني، ورفضوا الاعتراف به حاكمًا عليهم وطالبوا السلطان بايزيد بالعفو عن ابنه سليم وإعادته إلى ولاية سمندرية لشدة تعلقهم به، واعتقادهم بأنه هو الوحيد المؤهل لدرء الخطر الصفوي عن [[الدولة العثمانية]]، لا سيما وأن شاه الصفويين، "[[إسماعيل الصفوي|إسماعيل الأول بن حيدر]]"، كان يناصر الأمير أحمد في نضاله للوصول إلى سدّة الحكم،<ref name="المصور في التاريخ" /> فخاف الإنكشارية من أن يبدأ الصفويين بالتدخل في الشؤون التركية وينشروا [[شيعة|المذهب الشيعي]] في البلاد كما فعلوا في [[إيران]] و[[أذربيجان]]، وكان سليمًا يشاطرهم هذا الخوف ويحمل كرهًا شديدًا للشاه بفعل دعمه لأخيه.<ref name="المصور في التاريخ" /> وبناءً على إلحاح الإنكشارية، عفا السلطان عن ابنه سليم وسمح له بالعودة إلى ولايته، وفي أثناء توجهه إليها قابله الإنكشارية وأتوا به إلى [[القسطنطينية]] باحتفال زائد وساروا به إلى [[الباب العالي|سراي السلطان]] وطلبوا منه التنازل عن المُلك لولده المذكور، فقبل وتنحّى عن العرش في يوم [[25 أبريل]] سنة [[1512]]م، الموافق في [[8 صفر]] سنة [[918هـ]]،<ref name="ref508" /><ref name="Yılmaz Öztuna. ''Yavuz Sultan Selim'', s.39.">Yılmaz Öztuna,''Yavuz Sultan Selim'' sf.39 ISBN 975-00981-1-0</ref> وتولّى سليم مقاليد الحكم رسميًا في [[23 مايو|الثالث والعشرين من مايو]] من نفس السنة.<ref>Hammer,''Osmanlı Tarihi Cilt I'' İlgi Kültür Sanat Yayınları sf:385</ref><ref name="Resimli Osmanlı">{{cite book | last1 = Bahadıroğlu | first1 = Yavuz | title = Resimli Osmanlı Tarihi| year = 2009 | publisher = Nesil Yayıncılık | language = التركيّة | id = ISBN 978-975-269-299-2 | pages = 131-157 | chapter = Yavuz Sultan Selim}}</ref>


وإلى جانب أبناء بايزيد، كان هُناك أحفاده الذين تولَّى كُلٌ منهم سُنجقًا خاصًّا به. وأبرز هؤلاء كان سُليمان بن سليم، الذي نقله جدُّه السُلطان من سنجق بولي إلى سنجق كفَّة [[القرم|بالقرم]] بناءً على طلب عمِّه أحمد، وولَّى مكانه ابن الأخير المدعو [[شاهزاده مراد (ابن أحمد بن بايزيد الثاني)|مُراد]]. وكان هُناك أيضًا مُحمَّدشاه بن شاهنشاه (تولَّى سنجق القرمان لاحقًا بعد وفاة أبيه)، وعُثمان بن علمشاه والي [[جانقري|چانقري]]، وأورخان بن محمود والي [[قسطموني]]، وموسى بن محمود والي [[سينوب|سينوپ]]. بِالإضافة إلى هؤلاء، كان لِمحمود ولدٌ ثالث يُدعى «أميرخان» لم يُولَّى أي منصب كونه كان ما يزال طفلًا.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Uzunçarşılı|2=1990|ص=233-248|لغة=en}}</ref>
وبعد أن تنازل بايزيد عن الحكم، سافر للإقامة ببلدة "[[ذيذيموتيخو|ديموتيقا]]"، فتوفي في الطريق يوم [[26 مايو]] سنة [[1512]]م، الموافق في [[10 ربيع الأول]] سنة [[918هـ]]،<ref>تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 187 ISBN 9953-18-084-9</ref> ويدعي بعض المؤرخين أن سليم دس إليه [[سم|السم]] خوفًا من رجوعه إلى منصة المُلك، بينما جاء في رسالة بعث بها الأمير أحمد إلى سلطان المماليك أن والده توفي لأسباب طبيعية.<ref name="المصور في التاريخ" />
[[ملف:Карло Боссоли. Феодосия.jpg|تصغير|رسمٌ لِمدينة كفَّة. لجأ إليها الشاهزاده سليم احتجاجًا على حجبه عن العتبة السُلطانيَّة بِسعي الوُزراء والساسة المُحركين لِلسُلطان بايزيد الطاعن في السن.]]
امتعض قورقود عندما نقله والده من سنجق مغنيسية إلى تكَّة، ورأى في ذلك مُحاباةً لِأخيه الأكبر على حسابه، فالتمس من السُلطان أن يُعاد إلى سُنجقه، لكنَّ بايزيد لم يُجبه إلى طلبه، فتألَّم لِذلك وتغيَّر على أبيه، وخرج على رأس 137 شخصًا من خاصَّته وركب البحر من مرفأ [[أنطاليا|أنطالية]] وتوجَّه إلى مصر، مُعلنًا أنَّ نيَّته [[الحج في الإسلام|حج البيت الحرام]]، بينما قصد إلقاء الرُعب في قلب والده وتخويفه من احتمال تعامله مع [[الدولة المملوكية|المماليك]]، فمكث في الديار المصريَّة نحو سنة.<ref name="منجم1"/><ref name="أوزتونا2"/> وفي أثناء غياب قورقود في مصر، أدرك شقيقه سليم موقف حاشية والده منه وأنَّهم زوَّروا كُتُبًا ونسبوها إليه، فسعى إلى تبرئة ذمَّته وجنايته أمام العتبة السُلطانيَّة، إلَّا أنَّهُ لم يجسر على الذهاب إلى إسلامبول ومُقابلة السُلطان بلا إذن، فالتمس من أبيه أن يوليه سُنجقًا من سناجق [[الروملي|الروملِّي]]، فيُصبح بِذلك على مقرُبةٍ من العاصمة. لكنَّ الوزراء والحاشية حالوا دون حُصُول سليم على مطلبه، فأرسل ثانيًا وثالثًا يُطالب والده، فلم يُجبه إلى ذلك بِتأثيرٍ من وزرائه. ولمَّا حُرم سليم من سُؤله وعادت رُسلُه خائبين؛ ركب البحر مُتوجِّهًا إلى كفَّة، سنجق ولده سُليمان بِالقرم، وأقام فيها أيَّامًا، وأرسل إلى العتبة قاصدًا آخر يلتمس الإذن في الحُضُور إلى إسلامبول، فحال الوُزراء والساسة المائلون إلى الشاهزاده أحمد دون قُبُول السُلطان مُجدَّدًا وقبَّحوا عنده عُبُور سليم إلى الروملِّي، بل إنَّ الشاهزاده أحمد نفسه كتب إلى خان القرم منكلي كراي وأبلغهُ بِأنَّهُ سيشكيه إلى أبيه ويطلب عزله فيما لو عاون سليم، على أنَّ الخان المذكور لم يلتفت لِهذا التهديد لِارتباطه بِسليم عبر المُصاهرة.<ref name="أوزتونا2"/><ref name="منجم2">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=599-610}}</ref> وأرسل السُلطان بايزيد إلى ابنه بِالقرم أحد العُلماء المُسلمين وهو المولى نور الدين صاروكرز لِينصحه ويُقنعه بِالعودة إلى سنجقه طربزون، فسار المولى المذكور وحاول نصح سليم بِالامتثال لِأمر والده، لكنَّ الأخير أصرَّ ألَّا يعود ما لم يصل إلى عتبة السُلطان، فعاد المولى ثُمَّ رجع مرَّةً أُخرى حاملًا رسالةً من بايزيد يُعلم فيها ابنه بِأن يختار سنجقًا من سناجق الأناضول فيُولِّيه عليه، فلم يُجب ما لم يقترن ذلك بِحُضُوره إلى والده.<ref name="منجم2"/>
[[ملف:شاهقلی بابا تکه لی.jpeg|تصغير|يمين|رسم تخيُّلي لِلداعية الصفوي شاهقُلي بابا بن حسن التِكلوي (أعلى الوسط) وأسفله يظهر الشاه إسماعيل (صاحب [[عمامة|العمامة]] الحمراء الكبيرة) وجماعةٌ من [[مريد|مُريديه]] المُتشيعين مع بعض الرُمُوز الصوفيَّة.]]
خلال تلك الفترة، كانت بلاد الأناضول تموجُ بِنار الفتنة التي أضرمها الشيعة المُوالون لِلشاه إسماعيل، وتزعَّم الثورة أحد دُعاة الشاه المُسمَّى [[شاه قلي|شاهقُلي بابا بن حسن التِكلوي]] ([[اللغة الفارسية|بِالفارسيَّة]]: {{خط/عربي|شاهقُلی بابا بن حسن تکه‌لی}})، و«شاهقُلي» اسمٌ منحوت من كلمتين: «شاه» و«قُلي» ومعناه «خادم الشاه»، أمَّا «التِكلوي» فنسبةً إلى بلاد تكَّة وأهلها من [[بنو تكة|التُركمان التكَّليين]].<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Amanat|2=2017|ص=52|لغة=en}}</ref> وعاث شاهقُلي وأتباعه فسادًا في الأناضول، فاعتدوا على الأهالي وخرَّبوا البلدات والقُرى، وقصدوا مدينة [[كوتاهية]] دار [[بكلربكي (تقسيم إداري)|بكلربكيَّة]] الأناضول، فأحرقوها بعد أن هزموا حاميتها وقتلوا أغلبهم، بما فيهم [[بكلربك]] الأناضول قراكوز أحمد باشا. تكدَّر السُلطان بايزيد ما أن وصلته أخبار الفتنة وما جرى من إحراق كوتاهية وقتل قراكوز أحمد باشا، فاشتدَّ عليه مرضه وقوي ضعفه، وكلَّف ابنه الشاهزاده أحمد بِالقضاء على شاهقُلي وأتباعه، ثُمَّ جمع الوُزراء والأعيان وأعلمهم عزمه على تسليم السلطنة إلى ولده المذكور ما أن ينتهي من مُهمَّته، وأرسل في عقبه الصدر الأعظم علي باشا الخادم في أربعة آلاف [[سباهية|سپاهي]] وألف إنكشاري لِيُعاونه في القضاء على العُصاة، كما أرسل إلى أُمراء الأناضول أن يجتمعوا عليهم بِعساكرهم.<ref name="منجم2"/> وبلغت أخبار هذه الأحداث مسامع الشاهزاده سليم في القرم، فقرَّر استغلال الوضع كي يحصل على مراده بِالقُوَّة، فشقَّ عصا الطاعة وسيَّر عدَّة سُفُن من البحر بِأثقاله ورجاله وسار هو في أصحابه وأتباعه من البر إلى صوب دار السلطنة من طريق [[بيلهورود دنيستروفسكيي|آق كرمان]]. ولمَّا قرُب من [[سيليسترا|سيلسترة]] ونزل بِخارجها، أرسل أميرها قاسم بك إلى السُلطان بايزيد يعرض الحال، فخاف الوُزراء المُخالفون من دُخُول سليم إلى العاصمة وسيطرته على الحُكم، فحرَّكوا السُلطان فورًا لِلتصدِّي له. وتقابل جيشُ بايزيد مع جيش ابنه سليم في موضعٍ يُقال له «جوقورچايري» بِقُرب [[أدرنة]]، لكنَّ أيّ قتالٍ لم يقع، إذ لمَّا رأى الشاهزاده عزم والده على القتال، أرسل إليه أحد خواصه يستعفيه ويطلب منه الرأفة، فبكى بايزيد مُتأثرًا بِالكلمات التي أرسلها ابنه، وردَّ عليه بِأنَّهُ سيمنحه ما يُرضيه سوى دُخُول إسلامبول، فالتمس سليم سنجقًا من ثُغُور الروملِّي لِيغزو من خلاله البلاد الأوروپيَّة المُجاورة، فمنحهُ السُلطان سنجق سمندريَّة أولًا، ثُمَّ أضاف إليه سناجق [[فيدين|ڤيدين]] و[[كروشيفاتس|آلاجة حصار]] و[[نيقوبوليس (بلغاريا)|نيكوبُلي]]، وأرسل له هدايا جليلة مُرفقة بِكتاب عهدٍ على أن لا يولي عهده إلى أحدٍ من أولاده ما دام حيًّا، ويُفوِّض ذلك إلى مشيئة [[الله (إسلام)|الله]]، وهدف من وراء ذلك تطييب قلب سليم وجبر خاطره عمَّا جرى كي لا يتَّسع شق الخلاف ويكبر البغض بين الإخوة، وكان ذلك في سنة [[917 هـ|917هـ]] المُوافقة لِسنة [[1511]]م.<ref name="أوزتونا2"/><ref name="منجم2"/>
[[ملف:Bayezid-Selim.jpg|تصغير|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ اقتتال جُند بايزيد مع جُند ابنه سليم في أوغروش.]]
في ذلك الوقت كان علي باشا قد عبر إلى الأناضول ولقي الشاهزاده أحمد في [[أنقرة]]، فهنَّأه بِالسلطنة في خلوته، ممَّا دفع الأخير إلى بذل الأموال على مُقدَّمي الجُند لِاستمالة قُلُوبهم وضمان وُقُوفهم إلى جانبه حينما يجلس على تخت المُلك. ولم يلبث علي باشا أن عَلِم في غد ذلك اليوم بِقُدُوم سليم إلى صوب أدرنة وبِكُلِّ ما جرى بينه وبين والده، فتكدَّر من ذلك الخبر، إلَّا أنَّهُ كتمه عن الشاهزاده أحمد وعن خواصه أيضًا، ثُمَّ توجَّه معه إلى دفع غائلة الشيعة.<ref name="منجم2"/> تمكَّن العُثمانيُّون من إلحاق هزيمةٍ كُبرى بِشاهقُلي وجماعته، فقتلوا أغلبهم في بضع معارك وشتتوا البقيَّة، على أنَّ ثمن هذا الانتصار كان باهظًا، إذ قُتل الصدر الأعظم في إحدى تلك المُواجهات. ولمَّا وصل خبر مقتله إلى الشاهزاده أحمد حزن واضطرب اضطرابًا عظيمًا وتحيَّر في أمره، فرجع إلى سنجقه أماسية ولم يعقب العُصاة لِلثأر منهم، ممَّا أثار حفيظة عسكره. وفي أثناء ذلك تُوفي الشاهزاده شاهنشاه والي القرمان، ووصل خبر وفاته إلى السُلطان بايزيد مُرفقًا بِخبر مقتل علي باشا، فزاد في ضعفه، واشتدَّت عليه الآلام والاضطرابات، فجمع الوُزراء والأعيان وشاورهم في أمر السلطنة، فأشاروا عليه بِإحضار الشاهزاده أحمد وإجلاسه على تخت السلطنة قبل تفرُّق أُمراء الروملِّي وعساكرها، واجتمعت الكلمة على ذلك. وهكذا أرسل السُلطان أولًا إلى أُمراء الروملِّي أن يحضروا إليه، فلمَّا مثلوا بين يديّه أخذ منهم [[بيعة|البيعة]] لِولده واستحلفهم على طاعته، ثُمَّ أمر الوُزراء بِأن يستدعوا الشاهزاده المذكور، فأرسلوا إليه يستعجلونه إلى إسلامبول. وعلم الشاهزاده سليم بِاتفاق الوُزراء والأعيان على تنصيب أخيه على عرش آل عُثمان عن طريق أحد أعوانه المُخلصين العامل في خدمة والده، فتوجَّه سريعًا إلى صوب العاصمة، وقابل والده في وادي «أوغروش» بِقُرب [[تشورلو|ݘورلي]]، فأرسل أحدًا من خواصه إلى أبيه لِلسُؤال عن سبب نقض العهد والإصغاء إلى أقوال الوُزراء والأعيان أصحاب الأغراض الخبيثة، لكنَّ هؤلاء حالوا دون دُخُول الرسول على السُلطان، وعرضوا إلى الأخير بِأنَّ ولده سليم قد قصده في ثلاثين ألف مُقاتل وهو يعقد العزم على خلعه من السلطنة والجُلُوس مكانه، وحثُّوه على قتاله. وكان عند السُلطان حينئذٍ أربعون ألف مُقاتل، فهجموا على الشاهزاده سليم وعسكره، فاقتتلوا شديدًا حتَّى تشتَّت جُند سليم، وهرب إلى صوب [[البحر الأسود|بحر البنطس (الأسود)]] في جمعٍ قليلٍ من أتباعه، فتبعهُ جمعٌ من عسكر والده وأدركوه، ولم يحل بينه وبين الأسر سوى أحد خواصه المدعو فرحات بك، فأشغل جُند بايزيد في حين أسرع سليم السير على صهوة جواده «قره‌بولوط»، أي «السحاب الأسود»، حتَّى وصل ساحل البحر المذكور، واجتمع عليه ثلاثة آلاف جُنديٍّ من رجاله، فأبحر بهم إلى كفَّة سنجق والده سُليمان، ودخلها خائبًا محزونًا.<ref name="أوزتونا2"/><ref name="منجم2"/><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Öztuna|2=2006|ص=39|لغة=en}}</ref>


=== تنازُل بايزيد عن المُلك لِصالح ابنه سليم ===
== إعتلاؤه العرش ومحاربة إخوته ==
[[ملف:La pattuglia turca.jpg|تصغير|يمين|«موكبُ الإنكشاريَّة». ثارت هذه الطائفة العسكريَّة بُعيد إعلان السُلطان بايزيد عزمه التنحي لِصالح ابنه أحمد لِانعدام كفائته لِقيادة الدولة العُثمانيَّة خلال تلك الفترة العصيبة.]]
[[ملف:Yavuzsultanselim.jpg|تصغير|يمين|رسم للسلطان سليم على تخت السلطنة من قصر [[الباب العالي]].]]
بعد انكسار الشاهزاده سليم، عاد السُلطان إلى إسلامبول وجمع الوُزراء لِلمُشاورة ثانيًا، فأشاروا عليه باستعجال الشاهزاده أحمد إلى العاصمة لِتسليمه السُلطة، فوافقهم وأمر بأن يُرسلوا إليه أن يأتي على الفور. وما أن وصل الخبر إلى الشاهزاده المذكور حتَّى نهض من أماسية على الفور وركب فرسه وجدَّ في السير دون أن ينم ليلًا ولا نهارًا حتَّى وصل إلى [[مال تبة (إسطنبول)|مالدپَّة]] قُرب [[أسكدار|أُسكُدار]]، وأرسل إلى السُلطان يستأذنه في العُبُور إليه صباحًا، فأذن له. واقترح أتباع الشاهزاده أحمد، من الوُزراء والساسة، استمالة قُلُوب أُمراء الروملِّي وقادة الجُند بِبذل الأموال لهم، وعرضوا ذلك على السُلطان، فوافقهم، والحقيقة أنَّهُ كان قد أصبح على درجةٍ من المرض والضعف لا يستطيع معها تدبير أي أمرٍ بِمُفرده، فأصبح وُزرائه هُم الحاكمون الفعليُّون لِلدولة.<ref name="منجم3">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=611-620}}</ref> ولمَّا شاع خبر وُصُول الشاهزاده أحمد واستعداده العُبُور إلى إسلامبول، اجتمع [[آغا|آغوات]] الإنكشاريَّة وتشاوروا في أمر السُلطان المُستقبلي، واتفقوا على أنَّ سلطنته مكروهة لِاختياره الدعة والترفُّه في جميع أوقاته، ولِأنَّهُ لم يقدر على حماية البلاد من الصفويين، بل هو لم يَقوَ على دفع غائلة جمع من أوباش التُركمان من أتباع شاهقُلي وهرب منهم، وقالوا أنَّهُ بِهذا قد هتك عرض السلطنة، فكيف يصلح لها؟ واتفقت كلمتهم على أنَّ أحدًا لا يصلح لها سوى الشاهزاده سليم، المقدام في الحرب والجهاد، وعقدوا العزم على المُطالبة بِتولية سليم وتنحيه أحمد. ولمَّا اتفق الإنكشاريُّون على ذلك، قاموا يوم [[18 ذو الحجة|18 ذي الحجَّة]] [[917 هـ|917هـ]] المُوافق فيه [[6 مارس|6 آذار (مارس)]] [[1512]]م،<ref name="أوزتونا2"/> فنهبوا بُيُوت الأعيان المُوالين لِلشاهزاده أحمد؛ منهم الصدر الأعظم الجديد أحمد باشا بن هرسك، والبكلربك حسن باشا، والوزير مُصطفى باشا، و[[قاضي عسكر|قاضي العسكر]] عبد الرحمٰن بن مُؤيَّد، و[[طغراء|الطغرائي]] جعفر چلبي بن تاج، فنجا هؤلاء بِأنفُسهم لكنَّهم خسروا أموالهم وأثقالهم، وظلَّ الإنكشاريُّون ينهبون بُيُوت الساسة والأعيان طوال الليل وهم يهتفون باسم الشاهزاده سليم ويرفعون شعاره، ثُمَّ سيطروا على جميع مراسي السُفُن لِلحيولة دون خُرُوج أحد من إسلامبول أو العُبُور إليها، وبعد ذلك اجتمعوا في باب [[قصر طوب قابي|سراي طوپ قاپي]] وطلبوا من السُلطان العفو عمَّا جرى، والتمسوا منه عزل الرجال الخمسة السابق ذكرهم، فعزلهم إسكانًا لِلفتنة. وحاول أحد الوُزراء، المدعو «سنان بك يولار قصدي» أن يستميل الإنكشاريَّة إلى جانب الشاهزاده أحمد، فلم يقدر على ذلك، وشاهدهم على الثبات والدوام في محبَّة سليم والميل إليه، فخرج من العاصمة بِمشقَّةٍ عظيمة، وتوجَّه إلى برِّ آسيا حيثُ قابل الشاهزاده أحمد وأخبره أنَّ وصوله إلى سُدَّة المُلك بات ميؤوسًا منه.<ref name="منجم3"/>
أقدم سليم بعد أن تُوّج سلطانًا على توزيع المكافآت على [[إنكشارية|الإنكشارية]] كما جرت العادة قبل عهده، وزاد من ضرورتها في أيامه أنه لم يكن ليتربع على العرش لولا مساعي هؤلاء وضغتهم على والده.<ref name="حرب الإخوة">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 188 ISBN 9953-18-084-9</ref> وما أن تولّى سليم مقاليد الحكم حتى أعلن أخاه أحمد العصيان ورفضه الخضوع له، ونصب نفسه حاكمًا على [[أنقرة]]، وأرسل ابنه "علاء الدين" فاحتل مدينة [[بورصة (مدينة)|بورصة]] في [[19 يونيو]] سنة [[1512]]،<ref name="المصور في التاريخ" /> وراسل الوزير "مصطفى باشا" يخبره عن عزمه توطيد نفوذه وخلع أخيه ووعده بمنصب كبير إن نقل إليه جميع تحركات سليم ونواياه.<ref name="المصور في التاريخ" />


دبَّ اليأس والغضب في قلب الشاهزاده أحمد لمَّا علم بِما جرى في دار السلطنة، فعاد شرقًا عبر الأناضول، لكنَّهُ لم يتوجَّه إلى سنجقه أماسية، بل ذهب إلى القرمان وقد عقد العزم على السيطرة على جميع البلاد الأناضوليَّة لِيفرض سلطنته بِحُكم الأمر الواقع. وكان والي القرمان حينذاك هو مُحمَّدشاه بن شاهنشاه، أي ابن أخ الشاهزاده أحمد وحفيد السُلطان بايزيد، فحاصره في قلعة [[قونية]] أيَّامًا حتَّى استسلم، ثُمَّ دخلها وأعلن نفسه سُلطانًا فيها، وبِهذه الحركة أصبح أحمد في وضع المُدَّعي، وفقد صفة وليّ العهد الشرعي،<ref name="أوزتونا2"/><ref name="منجم3"/> وتردَّد صدى ذلك في ردَّة فعل السُلطان بايزيد، إذ غضب على ابنه وتغيَّر عليه لِفعلته هذه، وأرسل إليه يُوبِّخه لِإقدامه على ما فعل بِدون إذنه. واتفق حينذاك أنَّ الشاه إسماعيل كان قد أرسل أحد خُلفائه المُسمَّى «نور الدين خليفة» إلى الأناضول لِيجمع من التُركمان الميَّالين إلى التشيُّع، فاجتمع على نور الدين المذكور نحو ثلاثين ألف مُقاتل، فأغار بهم على نواحي أماسية وتوقاد وسيواس ونهبها وأحرق بُيُوتها، فحاول الشاهزاده أحمد التصدِّي له وأرسل لِقتاله وزيره «سنان بك يولار قصدي»، فسار إلى الصفويين وقاتلهم حتَّى انكسر منهم كسرة قبيحة، وفرَّ ناجيًا بحياته، الأمر الذي زاد من تنفُّر العسكر من الشاهزاده المذكور.<ref name="منجم3"/>
وكان السلطان سليم قد عقد العزم على القضاء على إخوته وأولاد إخوته حتى يهدأ باله بداخليته ولا يبقى له منازعٌ في المُلك، فعيّن ابنه [[سليمان القانوني|سليمان]] حاكمًا [[القسطنطينية|للقسطنطينية]]، وسافر بجيوشه إلى [[آسيا الصغرى]]، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى [[أنقرة]]، ولم يتمكن من القبض عليه لوصول خبر قدومه إليه عن طريق الوزير "مصطفى باشا". لكن علم السلطان بهذه الخيانة فقتل الوزير شر قتلة جزاءً له وعبرة لغيره، ثم ذهب إلى [[بورصة (مدينة)|بورصة]] حيث قبض على خمسة من أولاد إخوته بما فيهم "علاء الدين" سالف الذكر، وأمر بقتلهم جميعًا.<ref>{{cite web |url=http://www.turizm.net/turkey/history/ottoman2.html|title= THE OTTOMAN EMPIRE The Classical Age, 1453-1600|date=2010-01-21|last1=Chambers|first1=Richard|publisher=Turizm.net}}</ref>
[[ملف:MURAT PAŞA CAMİSİ İSTANBUL - panoramio.jpg|تصغير|يمين|مسجد أورطة جامع، أو مسجد [[مراد باشا الخاص|مُراد باشا]]، حيثُ نزل الشاهزاده قورقود في مُحاولةٍ لِاستمالة قُلُوب الإنكشاريَّة.]]
عندما وصل خبر انكسار جيش الشاهزاده أحمد إلى إسلامبول، اجتمع القادة العسكريُّون وكبار العُلماء مع السُلطان بايزيد وأظهروا لهُ أنَّ نظام المُلك قد اختلَّ بِطمع الوُزراء والنزاع على ولاية العهد، وتسلَّط أعداء الدولة عليها من كُلِّ جهة، وبيَّنوا له أنَّ الشاهزاده أحمد لا يليق لِلسلطنة لِانهماكه في الدعة والترفُّه؛ حيثُ وقع منه أمران يدُلَّان على عدم صلاحيَّته لِتولِّي شُؤون البلاد والعباد: وقعة شاهقُلي ووقعة نور الدين خليفة، وكذلك الشاهزاده قورقود لا يصلح لِلمُلك أيضًا - وإن كان عالمًا فاضلًا - لِأنَّ السلطنة لا تتم إلَّا [[جلب المصالح ودرء المفاسد|بِترك الراحة والترفُّه، واختيار الإقدام على المخاوف والشدائد]]، وليس لهُ ذلك، كما أنَّهُ لا عقب له بعد وفاة أبنائه الذُكُور، فليس يصلح لِهذا الأمر سوى الشاهزاده سليم، الذي أثبت شجاعته وحزمه ومقداميَّته وحُسن تدبيره في معاركه مع الصفويين والكرجيين، وهو الوحيد الذي تُعلَّق عليه الآمال في دفع البلية الصفويَّة. والتمس المُجتمعون من السُلطان تقليد العهد لِولده سليم، بل تفويض السلطنة إليه.<ref name="أوزتونا2"/><ref name="منجم3"/> وكان السُلطان أيضًا قد مال إلى جانب سليم بعد [[خروج على الحاكم|خُرُوج]] أحمد عليه وتصرُّفه الطائش مع ابن أخيه مُحمَّدشاه الذي كان قد فقد أبيه حديثًا، فاعتبر بايزيد أنَّ هذه دلالات على عدم رُشد ابنه الكبير، وبِالتالي لا يصح له تولِّي السلطنة. وكان السُلطان قد أرسل إلى سليم براءات السناجق الثلاثة: سمندريَّة وڤيدين وآلاجة حصار، مرَّةً أُخرى مع كتابٍ يستميله فيه ويُطيِّب قلبه بِأنواع المواعيد الجميلة، ويُعلمه بِأنَّهُ سامحه ورضي عنه، ويعتذر إليه عمَّا جرى بينهما من الشقاق بِسعي أصحاب المصالح الشخصيَّة، ففرح سليم بِذلك، وتهيَّأ لِلمسير إلى سنجق سمندريَّة، وبينما هو يتجهَّز وصلهُ قاصدٌ آخر بِبشارة السلطنة، ودعاه إلى إسلامبول على الفور، فتوجَّه إليها. وأمَّا الوُزراء المُناهضين لِسليم والخائفين من شدَّته وسطوته، فإنَّهم لمَّا رأوا ضياع المُلك من الشاهزاده أحمد بِاتفاق الإنكشاريَّة، أرسلوا إلى الشاهزاده قورقود يدعونه إلى دار السلطنة ويستعجلونه في الوُصُول إليها قبل أخيه سليم، وأشاروا عليه بِأن يقدم في جمعٍ قليل ويدخل المدينة مُتنكرًا، وينزل في مساكن الإنكشاريَّة لِيستميلهم إليه.<ref name="منجم3"/> ظنَّ الشاهزاده قورقود أنَّهُ نال السلطنة عندما أصبح أخوه الأكبر في وضع العاصي، لا سيَّما وأنَّهُ يأتي بعده حسب تسلسل العُمر،<ref name="أوزتونا2"/> فتوجَّه وعبر البحر إلى إسلامبول، ودخلها مُتوجهًا إلى مساكن الإنكشاريَّة، ونزل في المسجد القريب من ثكناتهم المشهور بِـ«مسجد أورطة جامع»، وحاول استمالتهم إليه بِحُقُوقٍ سابقة له عليهم من الترقيات والعطيَّات إليهم لمَّا ناب عن أبيه أيَّامًا عند وفاة جدِّه السُلطان مُحمَّد الفاتح، فرحَّب به الإنكشاريَّة وعظَّموه وكرَّموه، إلَّا أنَّهم لم يُساعدوه على مطلبه من إحراز السلطنة، ولمَّا رأى منهم ذلك خاف على نفسه، وأعلن أنَّ سبب قُدُومه ليس لِلمُطالبة بِالعرش وإنَّما خوفًا من غدر أخيه أحمد، فرأى أن يحتمي بِالعاصمة. وأرسل بايزيد يُعاتب ابنه لِقُدومه دون إذنه والتجاؤه لِلإنكشاريَّة عوض أن يلتجأ إليه، فطلب الإنكشاريَّة من السُلطان أن يُسامح ولده على فعلته من واقع تقديرهم لِمكانته العلميَّة، فاستجاب لهم، وأرسل إليه العُلماء والقادة، فأعلموه أنَّ الأُمُور لن تستقيم إلَّا بتولِّي أخوه الأصغر سليم أُمُور المُلك، وأقاموا له الحُجج بِذلك، فرضي بِالأمر الواقع.<ref name="منجم3"/>
[[ملف:I.SelimCülus.jpg|تصغير|[[منمنمات عثمانية|مُنمنمة عُثمانيَّة]] تُصوِّرُ مُبايعة الوُزراء والقادة والأعيان لِلشاهزاده سليم بِعرش آل عُثمان.]]
وفي يوم [[3 صفر]] [[918 هـ|918هـ]] المُوافق فيه [[19 أبريل|19 نيسان (أبريل)]] [[1512]]م، وصل سليم إلى إسلامبول، فاستقبلته الإنكشاريَّة بِاحتفالٍ زائد، وكان على رأسهم الشاهزاده قورقود الذي خرج وسلَّم على أخيه وهنَّأه بِالسلطنة ودعا لهُ بِالتوفيق والنصر، مُعلنًا بِذلك خُضُوعه ومُسالمته.<ref name="أوزتونا2"/><ref name="منجم2"/> وبعد بضعة أيَّامٍ من وُصُوله واستراحته من عناء السفر، جمع سليم أعيان الدولة من مُقدمي الإنكشاريَّة وأُمراء الروملِّي وغيرهم، وصارحهم بِأنَّهُ رجلٌ شديدٌ حاد الطباع، وأنَّهُ قد صمَّم عزيمته على الغزو والجهاد في سبيل الله وتوحيد كلمة المُسلمين ولمّ شملهم في دولةٍ واحدةٍ كما كان الحال زمن [[الدولة الأموية|بني أُميَّة]] وخلال [[العصر الذهبي للإسلام|العصر الذهبي]] [[الدولة العباسية|لِبني العبَّاس]]، وأنَّهُ قرَّر ضم [[المشرق العربي|البلاد العربيَّة]] بعدما ثبُت عجز المماليك وحدهم عن مُواجهة المخاطر المُحدقة بِالأراضي المُقدَّسة والدفاع عن المصالح الاقتصاديَّة والاستراتيجيَّة لِلمُسلمين{{ملا|كان الخطر [[الإمبراطورية البرتغالية|الپُرتُغالي]] قد تصاعد في [[البحر الأحمر|بحر القلزم (الأحمر)]] مُنذُ أن وصل الپُرتُغاليُّون إلى الهند سنة [[1498]]م. ولمَّا كان هؤلاء يُناصبون - بِروحٍ صليبيَّةٍ - المُسلمين في [[الأندلس|الأندلُس]] و[[المغرب الأقصى|المغرب]] أشدَّ العداء، فإنَّهم استهدفوا مُحاربتهم أنَّى كانوا وكسر احتكارهم [[تجارة التوابل|لِتجارة التوابل]] مع الشرق. وتمكَّن الپُرتُغاليُّون فعلًا من القضاء على هذا الاحتكار لِضعف كُلٍ من الدولة المملوكيَّة والدُويلات الإسلاميَّة الهنديَّة والعربيَّة المُطلَّة على [[المحيط الهندي|المُحيط الهندي]] والبحار المُتفرِّعة منه. ولمَّا تمَّ لهم ذلك، عملوا على فرض نظامٍ احتكاريٍّ من جانبهم، وأجبروا أصحاب المراكب حمل تراخيص تُعرف باسم «القرطاس» {{برتغالية|Cartaz}} في مُقابل دفع رسم من قِبل صاحب المركب، وشريطة دفع رُسُومٍ كذلك على البضائع المشحونة. وأصبحت المراكب التي لا تحمل هذه الأوراق - وأحيانًا حتَّى التي تحملها - عُرضةً لِلمُصادرة أو الإغراق من قِبل السُفُن الپُرتُغاليَّة إذ كان التُجَّارُ من المُسلمين.<ref name="الاجتهاد">{{استشهاد مختصر|1=الطيبي|2=1999|ص=163-165}}</ref> وحاول المماليك التصدِّي لِلپُرتُغاليين، فانتصروا عليهم بدايةً في [[معركة شاول|معركةٍ بحريَّةٍ]] لكنَّهم عادوا وهُزموا في السنة التالية و[[معركة ديو|دُمِّر أُسطولهم بِكامله]]. وعلى أثر هذا الانتصار حاول نائب ملك الپُرتُغال في الهند [[ألفونسو دي ألبوكيرك|ألفونسو دي البوقرق]] السيطرة على [[عدن]] واتخاذها مُنطلقًا لِلسيطرة على [[جدة|جدَّة]] واحتلال الحرمين الشريفين والوُصُول إلى [[مدري بحري|مملكة الحبشة]] لِلتحالف مع النجاشي [[دويت الثاني|داود بن ناعود]] [[السلالة السليمانية|السُليماني]] ضدَّ المُسلمين.<ref name="الاجتهاد"/> ولم يتمكَّن السُلطان المملوكي [[قانصوه الغوري]] من فعل شيءٍ إزاء هذا الخطر الكبير، فاستغاث بِنظيره العُثماني بايزيد الثاني الذي سارع إلى مد يد العون فورًا، فأرسل عددٌ من الصُنَّاع والفنيين لِإصلاح الأُسطُول المملوكي وصناعة ثلاثين سفينةً حريَّبةً إضافيَّةً في [[السويس|السُويس]] لِتتكفَّل بِحماية التجارة الإسلاميَّة في بحر القلزم وخارجه.<ref>{{استشهاد مختصر|1=محمود|2=2019|ص=35}}</ref>}}، كما اعتزم القضاء على الدولة الصفويَّة وضمِّ [[إيران الكبرى|البلاد الإيرانيَّة]]، وأنَّهُ لن يتقاعد عن ذلك لا صيفًا ولا شتاءً، ولن يفتر عن الرُكُوب وتحمُّل الشدائد لا ليلًا ولا نهارًا حتَّى يصل [[السند (إقليم)|بلاد السِّند]] و[[هندستان|الهند]] فيضُمَّها أيضًا لِدولة الإسلام. وأضاف أنَّهُ سيُنصف المظلوم من الظالم وإن كان ولده سُليمان، ولن يرحم الجائرين وأهل الفساد، ولن يترك مجالًا لعسكره ولأُمرائه كي يترفَّهوا. ولمَّا أتمَّ سليم الكلام ذكر اتصاف أخويه أحمد وقورقود بِخلاف ذلك من المُلاءمة ولين الجانب واختيار الراحة على الشدَّة، وطلب من المُخاطبين أن يختاروا أحدهم بعدما سمعوا ما سمعوه، فقالوا له: {{اقتباس مضمن|إِنَّ مُنْتَهَى مَطَالِبَنَا مَا ذَكَرْتُمْ لِنَفْسِكُم الشَّرِيفَة، فَاخْتَرنَاكُم، فَاعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّا مُنْقَادُونَ لِأَمْرِك، وَرَاسِخُونَ عَلَى طَاعَتِكَ}}. فلمَّا شاهد سليم ذلك منهم سُرَّ ودعا لهم.<ref name="منجم2"/>


وفي يوم السبت [[8 صفر]] [[918 هـ|918هـ]] المُوافق فيه [[24 أبريل|24 نيسان (أبريل)]] [[1512]]م، توجَّه سليم في موكبٍ إلى سراي طوپ قاپي، ولمَّا وصلها اصطفَّت الإنكشاريَّة على عادتهم من طرفيّ الباب، فدخل السراي ولقي والده السُلطان بايزيد ماشيًا، فقبَّل يده وطلب منه النُصح والرضى، فنصحهُ بايزيد وأوصى إليه بِأُمُور، أهمُّها أن يغض الطرف عن أخوه أحمد ويُسامحه ولا يقتله، ولا يقتل كذلك أخوه الآخر قورقود، ويُطيِّب قلب كُلٌ منهما بِحصَّةٍ من المُلك، ثُمَّ أجلسه على تخت السلطنة وألبسهُ العمامة المخصوصة بِالسلاطين، ودعا لهُ بالتوفيق والعزَّة والنصر. ولمَّا تمَّ أمر التنصيب والإجلاس، سارع جميع الوُزراء والوُكلاء والساسة وأعيان الدولة إلى مُبايعة سليم، وتقدّمُهم أخوه قورقود، فأقطعه سنجقه القديم مغنيسية، وضمَّ إليها جزيرة [[لسبوس|مدللي]] أيضًا، وطيَّب خاطره بكثيرٍ من الإحسانات والوُعُود، ثُمَّ وزَّع العطايا على الجُند وفق ما أصبح ثابتًا في العُرف العُثماني، ومنحهم الترقيات، ثُمَّ أرسل إلى أُمراء الأطراف يدعوهم إلى الحُضُور، وكذلك طلب حُضُور ابنه سُليمان من كفَّة.<ref name="منجم2"/> أمَّا السُلطان بايزيد فإنَّهُ سافر بعد ذلك بِعشرين يومًا إلى مسقط رأسه [[ديموتيقة]] لِيمكث فيها ويتفرَّغ لِلعبادة والتأمُّل، فتُوفي في الطريق وأُعيد جُثمانه إلى إسلامبول حيثُ وُري الثرى.<ref>{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=187}}</ref>
وبعدها توجّه بسرعة إلى صاروخان مقر أخيه "كركود" ففر منه إلى الجبال، وبعد البحث عنه عدّة أسابيع قُبض عليه وقُتل.<ref name="حرب الإخوة" /> أما أحمد فجمع جيشًا من محازبيه وقاتل الجنود العثمانية، فانهزم وقُتل بالقرب من مدينة [[يكي شهر]] في يوم [[24 أبريل]] سنة [[1513]]م، الموافق في [[17 صفر]] سنة [[919هـ]].<ref>Pr. Dr. Ahmet Mumcu. ''Osmanlı Devletinde Siyaseten Katl''. S. 96 ISBN 9944-931-14-4</ref>


== صراع السُلطان سليم وأخويه ==
وبهذا استفرد سليم بالحكم واطمأن خاطره من جهة داخليته، فعاد إلى مدينة أدرنة حيث كان بانتظاره سفراء من قبل [[جمهورية البندقية]] و[[مملكة المجر]] و[[تاريخ روسيا|دوقيّة موسكو]] و[[مماليك مصر|السلطنة المملوكيّة]]، فأبرم مع جميعهم هدنة لمدة طويلة بما أن مطامعه كانت متجهة إلى [[بلاد فارس]] التي كانت أخذت في النموّ والاتساع في عصر ملكها، الشاه "[[إسماعيل الصفوي|إسماعيل الأوّل بن حيدر الصفوي]]".<ref>[http://www.iranica.com/newsite/articles/v8f6/v8f665.html Encyclopedia Iranica. R.M. Savory. Esmail Safawi]</ref>
=== غدر الشاهزاده أحمد واصطدامه بسليم ===
ما أن استقرَّ سليم على تخت السلطنة حتَّى وصلت إليه أنباء عصيان أخيه أحمد من جديد، الذي كان ما يزال رافضًا قرار والده القاضي بِإزاحته وتولية أخيه الأصغر مكانه، واستمرَّ يدَّعي لِنفسه الأحقيَّة بِعرش آل عُثمان، فسيَّر ولده الشاهزاده علاء الدين عليّ في جمعٍ إلى السيطرة على [[بورصة (مدينة)|بورصة]]، فأغار على نواحيها وقصد أخذ البلد أيضًا.<ref name="منجم4">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=634-638}}</ref> ولمَّا كان الشغل الشاغل لِلسُلطان سليم هو الخطر الصفوي، فقد وجد نفسه مُضطرًّا أن يعمل على تأمين الأمن والوحدة في داخل الدولة العُثمانيَّة أولًا قبل أن يتفرَّغ لِقتال الصفويين، وتأمين هذه الوحدة والقضاء على المخاطر الداخليَّة لن يتمَّ إلَّا بِتنحية أخيه الكبير أحمد وأنصاره، وأيُّ طامعٍ يدَّعي حق ولاية العرش.<ref>{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=147}}</ref> بناءً على هذا، نادى سليم بِجمع الجيش وترك ابنه الشاهزاده سُليمان نائبًا عنه في دار السلطنة، وخرج هو في سبعين ألف جُنديّ<ref name="أوزتونا3">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=213-215}}</ref> مُجدًّا إلى صوب بورصة في أواسط جُمادى الأولى [[918 هـ|918هـ]] المُوافق لِأواخر شهر تمُّوز (يوليو) [[1512]]م، فهرب الشاهزاده علاء الدين عليّ إلى والده بِقونية، فتوجَّه السُلطان سليم إلى أنقرة وأرسل أحد قادته، وهو «طور علي بك بن بالي بن مالقوج»، في طليعة الجيش مع عساكر الروملِّي إلى جانب الشاهزاده أحمد، ولمَّا علم الأخير بِكثرة جُند أخيه القادمين إليه سارع بِالهرب إلى أماسية، فتبعه طور علي بك، فهرب أحمدٌ مُجددًا إلى جانب [[ملطية]] و[[طرندة]]. ولمَّا فشل القائد العُثماني بِالقبض على الشاهزاده العاصي، أرسل إلى السُلطان سليم يُعلمه، فأجابه السُلطان بأن يحفظ تلك [[تخم|الثُغُور]] مع أُمراء الروملِّي، وأقطع أماسية لِأحدهم، وهو مُصطفى بك بن داود وأمره بِالسير إليها والتمركز فيها. ثُمَّ عاد السُلطان إلى بورصة حيثُ سرَّح الجيش وشتى في خواص خُدَّامه.<ref name="منجم4"/>


استغلَّ الشاهزاده أحمد إقلاع أخيه عن مُطاردته، فأرسل ابنيه مُراد وعلاء الدين عليّ إلى العاصمة الصفويَّة [[تبريز]] لِطلب المعونة من الشاه إسماعيل الذي كان يتحيَّن الفُرصة لِهدم الدولة العُثمانيَّة والتوسُّع على حسابها.<ref name="أوزتونا3"/> سارع الشاه بِالاستجابة لِطلب الشاهزاده العاصي، فأمدَّهُ بِنحو ألفيّ فارس، فسار فيهم إلى أماسية خلال فصل الشتاء ودخلها بغتةً، فأسر أميرها مُصطفى بك بن داود لِفترةٍ وجيزة، ثُمَّ أطلقه واستوزره، وأرسل إلى أُمراء الروملِّي الذين كانوا يُحافظون الحُدُود والثُغُور مع طور علي بك، واستمالهم إليه، فمالوا، وأرادوا الغدر بِقائدهم المذكور، لكنَّهُ تفطَّن لِغايتهم وهرب في جمعٍ قليلٍ من رجاله ولحق بِالسُلطان سليم في بورصة حيثُ أخبره بِالقضيَّة. اضطرب السُلطان من هذا الخبر، وتخوَّف من بعض الذين يُحتمل أنهم يُبطنون الخيانة، وكان في مُقدِّمتهم أبناء أخوته الذين كانوا قد التجؤوا إليه؛ وهم مُحمَّدشاه بن شاهنشاه وعُثمان بن علمشاه وأورخان وموسى وأميرخان أبناء محمود بن بايزيد، فأمر بِقتلهم جميعًا، فقُتلوا عن آخرهم، ودُفنوا بِجانب جد جدِّهم السُلطان [[مراد الثاني|مُراد الثاني]] في تُربته المعروفة بِـ«كُليَّة المُراديَّة».<ref name="منجم4"/><ref>{{استشهاد مختصر|1=هوتسما وآخرون|2=1998|ص=5771}}</ref> كذلك ضبط السُلطان مُراسلاتٍ سريَّةٍ بين [[صدر أعظم|الصدر الأعظم]] [[خوجة مصطفى باشا|خوجة مُصطفى باشا]] والشاهزاده أحمد،<ref name="أوزتونا3"/> وتبيَّن أنَّ الصدر الأعظم كان يُخبر الشاهزاده بِمقاصد السُلطان وخططه، وهذا ما مكَّنه من الهرب من قونية ثُمَّ أماسية دون أن يتمكَّن الجيش من القبض عليه. كانت عاقبة خيانة الصدر الأعظم أن قتلهُ السُلطان شرَّ قتلة وجعلهُ عبرةً لِغيره،<ref name="محمد فريد1"/> ونصَّب بدلًا منه [[أحمد باشا الهرسكي|أحمد باشا بن هرسك]]، فكانت تلك المرَّة الرابعة التي يتولَّى فيها أحمد باشا [[قائمة الصدر الأعظم للدولة العثمانية|الصدارة العُظمى]].<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Şerafettin|2=1998|ص=236|لغة=en}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Mehmed|2=1996|ص=211-212|لغة=en}}</ref> بعد ذلك قرَّر السُلطان اختبار ولاء أخيه قورقود حتَّى يهدأ باله بِداخليَّته ويطمئن أنَّ مُنازعه الوحيد هو أخيهما الأكبر أحمد، فيتفرَّغ لاستئصال شأفته، فتجهَّز وسار إلى صوب مغنيسية مقر ولاية قورقود.
== الحملة الصفويّة ==
=== خلفيّة النزاع ===
{{طالع أيضا|صفويون|إسماعيل الصفوي}}
[[ملف:LocationSafavid.PNG|تصغير|380بك|الدولة الصفوية في سنة 1512.]]
ظهرت [[صفويون|السلالة الصفويّة الشيعية]] في [[إيران]] على يد الشاه "[[إسماعيل الصفوي|إسماعيل الأوّل بن حيدر الصفوي]]" عام [[1499]]، واستطاعت بزعامته أن تهدد بالخطر [[الدولة العثمانية|إمبراطورية العثمانيين]] في الشرق،<ref name="المصور في التاريخ" /> حيث كان إسماعيل قد وسّع من نفوذه وضمّ إلى ملكه عدد من البلدان، فكان قد فتح ولاية شيروان، وجعل مركزه مدينة [[تبريز]] سنة [[1501]]، وبعدها فتح [[عراق العرب|العراق العربي]] وبلاد [[خراسان]] و[[ديار بكر]] سنة [[1508]]، وأرسل أحد قوّاده فاحتل مدينة [[بغداد]]. وفي سنة [[1510]] كان قد ضمّ إلى أملاكه كل [[بلاد فارس]] و[[أذربيجان]]، وبذلك امتدت مملكته من [[الخليج العربي]] إلى [[بحر قزوين]]، ومن منابع [[نهر الفرات|الفرات]] إلى ما وراء [[جيحون|نهر جيحون]].<ref>تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 189 ISBN 9953-18-084-9</ref>
[[ملف:Сефи 1й 1629-42.jpg|تصغير|يمين|الشاه إسماعيل الأول، مؤسس السلالة الصفوية الإيرانية ([[1501]]–[[1736]]).]]
وكان إسماعيل قد فرض [[شيعة|المذهب الشيعي]] على شعبه،<ref>[http://www.britannica.com/EBchecked/topic/296081/Ismail-I Ismāʿīl I] at ''[[Encyclopædia Britannica]]''</ref> وأعلنه مذهبًا رسميًا للدولة في [[إيران]]، وكانت ردود الفعل عنيفة خاصة وأن كثيرًا من سكان المدن الرئيسية في إيران مثل [[تبريز]] كانوا [[أهل السنة والجماعة|سنّة]].<ref>الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط. للدكتور [[علي الصلابي]]| دار المعرفة بيروت|الطبعة الثانية 2005| ص:200 و 201</ref> فقام باستمالة قبائل [[قزلباش|القزلباش]] [[أتراك|التركية]] [[علويون|علوية]] المذهب إلى جانبه مما جعلهم عماد جيشه، وهي كانت بالأساس متذمرة من التدابير المالية والإدارية [[الدولة العثمانية|العثمانية]] بل وهيأت السبيل لحدوث اضطرابات كبيرة في [[الأناضول]]،<ref>فاضل البيات ص:16</ref> مما جعله يعتمد عليهم بالقضاء على جميع [[معارضة|معارضيه]]، وفرض المذهب الشيعي بالقوة، فقضى على [[آق قويونلو|دولة الخروف الأبيض]] وقد كانت تشكل حاجزًا بينه وبين العثمانيين. فباتت الدويلات الكردية والقبائل التركية في [[جبال طوروس]] الصغرى، والأقليات المسيحية في [[أرمينيا]] كلها من ممتلكات الشاه حسب ادعائهم.<ref>أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث. ستيفن لونكيرك (المفتش الإداري السابق في الحكومة العراقية). ونقله إلى العربية جعفر الخياط. ط. الخامسة 2004 ص:33</ref> وعندما احتل بغداد عام 1508، هدم ما كان فيها من قبور أئمة سنة وذبح جماعة من علمائهم، فسرت شائعة في البلاد التركية بأن مذبحة عظيمة أصابت السنة ببغداد على يد الصفويين.<ref>ستيفن لونكيرك ص:32</ref>


=== القضاء على الشاهزاده قورقود ===
وفي ذات الوقت اتسمت العلاقات بين الصفويين والعثمانيين بالفتور، فبعد أن تسلّم السلطان سليم الحكم لم يصله [[سفير]] من إيران كما باقي الدول، فأدرك الجميع في هذا الوقت بالذات أن [[حرب|الحرب]] ستقع بين سليم وخصمه الشاه إسماعيل.<ref>فاضل بيات. ص:17</ref> وكان سليم الأول ينظر بعين الارتياب إلى تحركات الصفويين، لاسيما بعد إرسال الشاه إسماعيل وفدًا ضخمًا إلى [[قنصوه الغوري]] سلطان المماليك، ضم 200 [[عبودية|عبد]] لإبلاغه عن تلك الحرب المتوقعة ودعوته للتحالف معه ضد السلطان سليم،<ref>فاضل البيات ص:17، نقلا عن مخطوطة (هاممه ر، دولت عثمانية تاريخي، استانبول 1330، ج4، ص 112</ref> حيث بيّن له إنه إن لم يتفقا حاربت [[الدولة العثمانية]] كلاً منهما على حدة وقهرته وسلبت أملاكه،<ref>محمد فريد المحامي ص:74</ref> فعزم سليم على مهاجمة خصمه الصفوي وتسديد ضربة قوية قبل أن يستعد للنزال. لذلك أرسل هو الآخر وفدًا إلى المماليك دعاهم إلى التحالف، لكن بعد مباحثات طويلة آثر المماليك التزام الحياد،<ref>[[ابن إياس]]. بدائع الزهور: ورأى المماليك أنه من المناسب إرسال قوات إلى أطراف حلب لمرابطتها هناك</ref> وإن كانوا يميلون لجانب الصفويين. أضف إلى ذلك أنه لمّا عصى السلطان سليم وإخوته والدهم السلطان [[بايزيد الثاني]]، ساعد الشاه إسماعيل الأمير أحمد على والده ثمّ على أخيه من بعده واستقبل من فرّ من أولاده عنده، فكان هذا سببًا إضافيًا جعل السلطان سليم يعتبر الشاه إسماعيل خصمه الألدّ ويقرر الانتقام منه.<ref name="المصور في التاريخ" />
كان قورقود يكبر سليمًا بِثلاث سنوات، وكان أحبُّ إخوته إليه،<ref name="أوزتونا3"/> لكنَّ هذا لم يمنع السُلطان من اختبار ولائه وتجربته، خوفًا من أن يُعصيه أثناء قتاله أحمد فيطعنه من الخلف، سواء كان هذا العصيان نابعًا من نفسه أم ناتجٌ عن تحريك الساسة والوُزراء أصحاب المصالح الخبيثة، لا سيَّما وأنَّ قورقود سبق أن حاول أخذ السلطنة لِنفسه، ثُمَّ عاد وأعلن خُضُوعه لِسليم كما أُسلف، فرأى السُلطان أنَّ هذه الحادثة إضافةً إلى التحاق الكثير من الساسة الكارهين لِتسلطُنه - أي سليم - بِخدمة أخويه، كافٍ لِجعله يستشعر نقض عهد الطاعة والانقياد من قورقود. فطلب من بعض الوُزراء والأُمراء أن يُحرِّروا رسائل بِأسمائهم تُشوِّق الشاهزاده المذكور إلى طلب المُلك، ويعدونه فيها بِالمُؤازرة والنَّصر. ولمَّا وصلت تلك الرسائل إلى قورقود لم يتردَّد بِالكتابة إلى المُرسلين يعدهم بِالخُرُوج والوصول إليهم، فوقع في ورطةٍ قاتلة، إذ رأى السُلطان أنَّ دفع غائلة أخيه هذا أهم من دفع أحمد، فتجهَّز على الفور لِلمسير إليه.<ref name="منجم4"/><ref name="أوزتونا3"/>
[[ملف:Şehzade Korkut'un Mezarı.jpg|تصغير|قبر الشاهزاده قورقود بن بايزيد الكائن بِجوار قبر السُلطان أورخان غازي.]]
خرج السُلطان من بورصة فيمن كان معهُ من القادة والعساكر وأسرع السير إلى مغنيسية، فوصلها خلال خمسة أيَّام، ولم يشعر قورقود إلَّا وقد أحاطت الجُنُود العُثمانيَّة بِسرايه، فتحيَّر في أمره، ثُمَّ خرج مع أحد خواص [[مملوك (تاريخ)|غلمانه]] يُقال له «بيالة»، من باب حديقةٍ مُلاصقةٍ بِالسراي، وحملا ما أمكن من النُقُود الذهبيَّة والفضيَّة، ثُمَّ ركبا فرسين جيِّدين وهربا إلى أحد الجبال حيثُ تحصَّنا واستترا في كهفٍ نحو عشرين يومًا. ولمَّا عجز السُلطان سليم عن الظفر بأخيه عاد إلى بورصة وأرسل إلى أُمراء الجهات أن يظلُّوا مُتيقظين ويتحسسوا أخبار الشاهزاده الهارب.<ref name="منجم4"/> ولم يلبث قورقود وغُلامه أن خرجا من مخبأهما وتوجَّها على الفور إلى جهة تكَّة لِيركبا منها سفينةً تعبر بهما إلى إحدى [[المشرق العربي|بلاد المشرق العربي]] أو إلى [[مملكة فرنسا|فرنسا]]. ولمَّا كان لِلسُلطان سليم في كُلِّ بلدٍ ومعبرٍ ومضيقٍ جواسيس ينقلون إليه الأخبار، فقد أدرك ما يسعى إليه أخيه وتخوَّف من فراره، فأصدر أمرًا بِمنع الإبحار في شواطئ الأناضول وموانئها، وكلَّف القُبطان إسكندر باشا بِإحراق جميع السُفُن التي تقترب إلى السواحل، فنفَّذ إسكندر باشا الأمر بِحذافيره.<ref name="منجم4"/><ref>{{استشهاد مختصر|1=التر|2=1989|ص=35}}</ref>


لمَّا تبيَّن لِلشاهزاده قورقود صُعُوبة هربه، عاد واختبأ مع غُلامه في كهفٍ مُظلم، فاشتدَّ الأمر عليهما بِقلَّة الزاد، فخرج بيالة لِتحصيل القوت، ووجد أحدًا من تُركمان تلك البلاد، فكشف لهُ أسراره ووعده بالجميل، ثُمَّ أعطاه بضع دنانير وأركبه على فرس قورقود وأرسله إلى إتيان الزاد والطعام والاستخبار عن سفينةٍ يُمكن أن تحملهما إلى مقصدهما. كان من سوء حظ الشاهزاده قورقود أن وقع ذلك التُركماني تحت أنظار جواسيس السُلطان سليم الذين رأوه راكبًا على فرسٍ تحمل العلائم المُلُوكيَّة الخاصَّة بِبني عُثمان، فأمسكوا به واستجوبوه عن مكان الشاهزاده، فأنكر معرفته به، فخوَّفوه وضربوه دون نتيجة، فحملوه إلى قاسم بك والي تكَّة الذي أعاد ضربه وهدَّده بِالقتل إن لم يعترف بِموضع مخدومه، فاعترف التُركُماني بِكُل شيء ودلَّ الوالي على الكهف الذي يحتمي فيه قورقود وغُلامه، فسار إليه قاسم بك واعتقل الشاهزاده وصاحبه ثُمَّ أرسلهما إلى السُلطان سليم.<ref name="منجم4"/> ولمَّا وصل قورقود إلى أخيه سارع بِإعلان خُضُوعه من جديد وتنازل لهُ عن جميع حُقُوقه، فأمر السُلطان بِإنزاله في بيتٍ خاصٍ به، لكنَّهُ على الرُغم من ذلك استمرَّ يخشى فتنته، فأمر بِقتله، فدخل عليه بعض الخُدَّام في ليلة [[10 محرم|10 مُحرَّم]] [[919 هـ|919هـ]] المُوافق فيه [[17 مارس|17 آذار (مارس)]] [[1513]]م،<ref name="أوزتونا3"/> وخنقوه بِوتر [[قوس (سلاح)|قوس]]، ثُمَّ شُيِّع جُثمانه إلى تُربة السُلطان [[أورخان غازي]] حيثُ وُري الثرى. واستأذن بيالة الغُلام من السُلطان سليم أن يُقيم على خدمة مرقد سيِّده، فأذن لهُ في ذلك، وبقي في تلك الخدمة إلى أن أدركه الموت.<ref name="منجم4"/><ref>{{استشهاد مختصر|1=صولاق زاده|2=1297هـ|ص=356}}</ref> يجدرُ بِالذكر أنَّ السُلطان سليم اكتنف تابوت أخيه بِنفسه حين تشييعه، ويُروى أنَّهُ بكى وصرخ قائلًا: {{اقتباس مضمن|أَيَ أَخِي! لَيْتَكَ لَمْ تَفْعَلْ، فَلَوْلَا فِعْلِكَ مَا أُمِرْتُ بِهَذَا}}. ويُروى أيضًا أنَّهُ عرض على بيالة أن يُعيِّنه في أي منصبٍ رفيعٍ من مناصب الدولة ولو كان الصدارة العُظمى، مُكافأةً لهُ على إخلاصه وولائه لِمخدومه قورقود، لكنَّ بيالة قال أنَّهُ كما خدم الشاهزاده القتيل في حياته، فسيخدمه في مماته، فزاد إعجاب السُلطان سليم به، وسمح له بِالإقامة على خدمته كما أُسلف.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Ulusoy|2=2020|ص=28|لغة=en}}</ref>
=== السبب الرئيسي والاستعداد للحرب ===
[[ملف:مسيرة السلطان سليم.jpg|تصغير|250بك|مسيرة الجيش العثماني بقيادة السلطان سليم من أدرنة حتى أرض المعركة في سهل چالديران.]]
بعدما فرغ السلطان سليم من مشاكله مع إخوته، وعقد الصلح مع جيرانه الأوروبيين لا سيما مع [[المجر]]، سعى لإيجاد سبب للحرب، فأمر بحصر عدد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة [[بلاد فارس|لبلاد فارس]] بشرق [[الأناضول]] وقتلهم جميعًا، ويُقال إن عددهم كان يبلغ نحو الأربعين ألفًا من [[قزلباش|القزلباش]]<ref>فاضل البيات ص: 17</ref> ردًا على مجازر الصفويين للسنّة [[العراق|بالعراق]] و[[تبريز]] و[[أذربيجان]]،<ref>علي الصلابي ص:201</ref> وحتى يقضي على أي [[ثورة|تمرد]] قد يحدث مستقبلاً. عندئذ هبّ الشاه إسماعيل يُطالب بثأر هؤلاء، وهاجم آسيا الصغرى،<ref name="المصور في التاريخ" /> فجمع السلطان سليم رجال الحرب والعلماء والوزراء في مدينة [[أدرنة]] بتاريخ [[16 مارس]] سنة [[1514]]م، الموافق في [[19 محرم]] سنة [[920هـ]]، وذكر لهم خطورة إسماعيل الصفوي في إيران، وأنه اعتدى على حدود الدولة العثمانية، وأنه عامل [[أهل السنة والجماعة]] بعنصرية في دولته وفي [[آسيا الوسطى]] و[[الهند]] و[[أفغانستان]] وإنه يجب الذب عن إخوانهم في [[تركيا]] و[[العراق]] و[[مصر]]. ولهذا يرى ضرورة إعلان [[جهاد|الجهاد المقدس]] ضد الدولة الصفوية.<ref>علي الصلابي ص:202</ref> ولم يجد السلطان العثماني صعوبة في إقناع الحاضرين بضرورة محاربة الصفويين، وخرج بعد 3 أيام من هذا الاجتماع على رأس جيش كبير من [[أدرنة]] إلى [[القسطنطينية]] متجهًا إلى الأناضول الشرقي فتبريز بعد أن أوكل أمر العاصمة لابنه [[سليمان القانوني|سليمان]].<ref>عباس صباغ ص:129 نقلا عن هامر ف ب: تاريخ امبراطوري عثماني، ترجمة: ميرزا زكي علي مازندراني، به اهتمام: جمشيد كيان فر، تهران، 1367هـ</ref>


=== القضاء على الشاهزاده أحمد ===
وفي أثناء مسيره، تبادل السلطان سليم والشاه إسماعيل رسائل مفعمة [[شتيمة|بالسباب]] مرفقة بعدد من الأغراض هدف كل منهما إلى التأثير على الآخر من خلالها.<ref>تاريخ الدولة العثمانية. ص:186</ref><ref>فلسفة التاريخ العثماني. محمد جميل بيهم بيروت 1954. ص:115</ref> ولم يبد إسماعيل الصفوي حماسًا للمعركة بسبب التفوق العددي للعثمانيين، وحاول أن يتجنب ملاقاة سليم فأرسل إليه بطلب الهدنة وتجديد علاقات السلم والصداقة بين الدولتين،<ref>علي الصلابي. ص: 204</ref> فلم يقبل سليم وقتل الرسول وأرسل إليه برسالة إعلان الحرب بشكل رسمي يقول فيها و[[لغة تركية عثمانية|باللغة التركية]]: {{اقتباس مضمن|''إن كنت رجلاً فلاقني في الميدان، ولن نمل انتظارك''}}.<ref>تاريخ الدولة العثمانية. د أحمد متولي ص:188 نقلا عن كتاب منشآت الملوك والسلاطين، لأحمد فريدون. مخطوط بمكتبة طوبقبو سراي تحت رقم R1960. ص:359</ref> وأرفقها بمجموعة من الألبسة النسائية والعطور وأدوات الزينة وذلك استهزاءً بشخص الشاه لتهربه وتقاعسه من المسير إليه ويستعجله بالحرب،<ref>عباس صباغ. ص:130 نقلا عن المرجع الفارسي عبد الرضا هوشنك مهدوي. تاريخ روابط خارجي إيران. تهران 1369 هـ</ref> وكان الشاه عازمًا على سحب العثمانيين إلى الجبال الإيرانية حيث تمكنه طبيعة الأراضي ومشاكل التموين من موازنة القوتين، ولكن ضغط قبائل [[قزلباش|القزلباش]] التي أغضبها اتهام العثمانيين لهم بالجبن ومطالبتها له بخوض غمار القتال جعله يقبل تحدي السلطان سليم وواعده بسهل "[[جالديران|چالديران]]" في [[آذربیجان الغربیة]] قائلاً له: {{اقتباس مضمن|'' وأنا أيضا أعد العدة للحرب''}}.<ref>أحمد فريدون. ص:357</ref>
[[ملف:Selim-Ahmed.jpg|تصغير|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ اقتتال قُوَّات السُلطان سليم مع قُوَّات أخيه أحمد قُرب يني شهر.]]
بعد القضاء على الشاهزاده قورقود، سعى السُلطان سليم لِلتخلُّص من أخيه أحمد، فدبَّر لهُ خديعةً لِيظفر به، وأرسل إليه كُتُبًا مختومةً بِأختام الأُمراء والساسة الداعمين له، وأدرج فيها شكاوى من شدَّة نفسه وتهوُّره وقتله أبناء إخوته، ودعاه فيها إلى دار السلطنة ووعده بِالنُّصرة وغير ذلك ممَّا يُحرِّكه على المسير إلى العاصمة. ولمَّا وصلت المكاتيب المُزوَّرة إلى الشاهزاده أحمد انخدع بها، وبادر بالسير إلى صوب إسلامبول، ولمَّا وصل إلى حُدُود [[إيالة قرمان|إيالة القرمان]] سارع واليها همدم باشا بإعلام السُلطان سليم، فما كان من الأخير إلَّا أن سيَّر [[أمير آخور]]ه مُحمَّد بك فيمن معه من العساكر إلى مُقابلة الشاهزاده، وأمر بكلربك الأناضول أيضًا لِيسير في عقبه مع جُنُوده، ثُمَّ وصل الخبر إلى السُلطان بأنَّ أخيه أحمد قد وصل إلى معبر «دربند أرمني» القريب من مدينة [[ينيشهير|يني شهر]]، فتوجَّه لِقتاله ونزل في ظاهر البلد.<ref name="منجم4"/>


ولمَّا رأى الشاهزاده أحمد أنَّ أحدًا من الذين راسلوه لم يظهر، عَلِم أنَّهُ وقع في فخٍّ نصبه لهُ أخوه، فخاف وندم على قُدُومه في وقتٍ لم يعد ينفع فيه الندم، فقابل السُلطان خارج أسوار يني شهر، واصطدم به في قتالٍ عنيفٍ، فانكسر الشاهزاده وتفرَّق جمعه، فسارع إلى الهرب، لكنَّ حصانه كبا به وأسقطه، فهرع إليه الجُند وأسروه وحملوه إلى أخيه سليم، فأمر بِقتله خوفًا من أن يُعاود إثارة المُشكلات في الدولة، فخنقه سنان آغا القبابجي بِوتر قوسه،<ref name="منجم4"/> وكان ذلك يوم [[17 صفر]] [[919 هـ|919هـ]] المُوافق فيه [[24 أبريل|24 نيسان (أبريل)]] [[1513]]م،<ref name="محمد فريد1"/> ووُري الثرى في كُليَّة المُراديَّة إلى جانب أبناء إخوته.<ref name="أوزتونا3"/> ثُمَّ أطلق السُلطان سليم سراح كُل من أُسر من أتباع أحمد وأعلمهم أنَّهُ عفى عنهم. وهرب بعض أبناء الشاهزاده القتيل من وجه عمِّهم خوفًا من أن يُلحقهم بأبيهم، وكان في مُقدِّمتهم مُراد وعلاء الدين عليّ وبعض الآخرين، فتوجَّه مُراد إلى تبريز والتجأ في بلاط الشاه إسماعيل، فجعلهُ أميرًا على إحدى سناجق الدولة الصفويَّة، وبقي فيها إلى أن توفي.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=İnal|2=2017|ص=176, 179}}</ref> أمَّا علاء الدين فهرب إلى مصر مع بعض إخوته والتجأوا إلى السُلطان [[قانصوه الغوري]]، وبقوا في الديار المصريَّة حتَّى ماتوا فيها [[طاعون|بِالطاعون]].<ref name="منجم4"/> وكان سليم قد طالب كُلٌ من الشاه إسماعيل والسُلطان الغوري أن يرُدَّا إليه أبناء أخيه فامتنعا عن ذلك، فأسرَّها سليمٌ في نفسه.<ref>{{استشهاد مختصر|1=سعد الدين|2=1610|ص=504-507}}</ref>
=== معركة چالديران ===
{{رئيسي|معركة جالديران}}
[[ملف:Sekumname1525 Chaldiran battle.jpg|تصغير|الجنود العثمانية والصفوية وجهًا لوجه في [[معركة جالديران|معركة چالديران]].]]
عسكر الجيش العثماني في صحراء "ياس جمن" على مقربة من سهل چالديران، ووصلت السلطان سليم أنباءً من جواسيسه تقول إن الشاه إسماعيل لا ينوي القتال وإنه يؤخره إلى أن يحل الشتاء كي يهلك العثمانيون بردًا وجوعًا فيكونوا لقمةً سائغة للجنود الصفوية.<ref name="جالديران">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 190 ISBN 9953-18-084-9</ref> فأسرع السلطان بالمسير إلى چالديران ووصلها في شهر أغسطس من سنة 1514 واحتل المواقع الهامة بها واعتلى الأماكن الهضبية فيها، مما مكنه من السيطرة على مجرى المعركة بعد ذلك.<ref>علي الصلابي. ص:204</ref> في صبيحة يوم الأربعاء [[23 أغسطس]] سنة [[1514]]م، الموافق في [[2 رجب]] سنة [[920هـ]]، كان الطرفان قد أعدا العدة للحرب واصطفا استعدادًا لبدء المعركة. وما إن أعلنت ساعة البدء حتى هدرت المدافع العثمانية وتعالت أصوات الجند من كلا الفريقين. وبعد معركة حامية الوطيس، انتصر العثمانيون، وانكسر جيش القزلباش وسقط أقوى قادته "محمد خان استاجلو" صريعًا في أرض المعركة ووقع الكثير من قادته بالأسر، وأُسرت أيضا إحدى زوجات الشاه، وتُسمى "تاجلو خانم"،<ref>تاريخ الدولة العثمانية. د أحمد متولي ص:188</ref> فلم يقبل السلطان أن يردها لزوجها بل زوجها لأحد كتابه تشفيًا بالشاه،<ref name="جالديران" /> وأما الشاه فقد جرح في ذراعه وفر من المعركة متجهًا صوب تبريز بعد أن أنقذه أحد ضباطه ويدعى "الميرزا سلطان علي" من الأسر، مما حدا السلطان بأمر قائده "أحمد باشا دوقاقين أوغلو" بتعقب الشاه، الأمر الذي جعله يترك [[تبريز]] ويلوذ بخوي.<ref name="جالديران" /><ref>عباس صباغ ص:130</ref><ref>محمد جميل بيهم. العرب والترك في الصراع بين الشرق والغرب. بيروت 1957. ص:103</ref> أما من وقع بالأسر من قوات الشاه إسماعيل، فقد أمر السلطان [[إعدام|بإعدامهم]] جميعًا، وأن يصنع من [[جمجمة|جماجم]] القتلى هرم لينصب في ساحة المعركة.<ref name="جاف">موسوعة تاريخ إيران السياسي، ج:3 من بداية الدولة الصفوية إلى نهاية الدولة القاجارية.ص: 23-24 د حسن كريم الجاف. الدار العربية للموسوعات. بيروت. ط:الأولى 2008م - 1428هـ</ref>


وعندما اطمئنَّ السُلطان إلى سلامة الجبهة الداخليَّة سار إلى الساحل وعبر إلى [[جاليبولي|قَلِّيبُلِي]]، ومنها توجَّه إلى أدرنة حيثُ قابل سُفراء [[جمهورية البندقية|جُمهُوريَّة البُندُقيَّة]] و[[مملكة المجر (1301-1526)|مملكة المجر]] و[[دوقية موسكو الكبرى|دوقيَّة المسكوب]]، فأبرم معهم هدنةً طويلةً لِيتفرَّغ أخيرًا لِقتال الصفويين والقضاء على خطرهم الكبير.<ref name="محمد فريد1"/>
=== ما بعد چالديران ===
[[ملف:Chaldiran Battlefield Site in 2004.JPG|تصغير|280بك|يمين|النصب التذكاري لمعركة چالديران الواقع على حافة أرض المعركة.]]
بعد انتصار العثمانيين في معركة چالديران، فتحت مدينة تبريز أبوابها ودخلها السلطان منصورًا في يوم [[4 سبتمبر]] سنة [[1514]]، الموافق في [[14 رجب]] سنة [[920هـ]]،<ref name="جالديران" /><ref>[http://coursesa.matrix.msu.edu/~fisher/hst373/readings/morgan.html Morgan, David. ''Shah Isma'il and the Establishment of Shi'ism'']</ref> واستولى على خزائن الشاه وأرسلها إلى [[القسطنطينية]].<ref name="جالديران" /> وبعد أن استراح ثمانية أيام، قام بجنوده وأخلى مدينة [[تبريز]] لعدم وجود المؤونة الكافية لجيوشه بها مقتفيًا أثر الشاه إسماعيل، حتى وصل إلى شاطئ [[نهر أراس]]، ولم يستطع التقدم أكثر من ذلك، فقد لقي معارضةً شديدة من أمراء جيشه، وكان المحرض الأول لهم قاضي عسكر الإنكشارية "جعفر چلبي"، بسبب اشتداد البرد وعدم وجود الملابس والمؤونة اللازمة لهم،<ref>عباس صباغ. ص:130</ref><ref>فاضل بيات. ص:18</ref> خصوصًا بعد أن أحرق جنود القزلباش المنسحبين من المعركة، وبأمر من الشاه إسماعيل، جميع المؤن والأرزاق والمحصولات الزراعية في تبريز وضواحيها،<ref name="جاف"/> وكذلك أثّرت الغارات الليلية التي كان يشنها جنود [[قزلباش|القزلباش]] على القوات العثمانية، ودخولهم تبريز لخطف وقتل الجنود العثمانيين،<ref name="جاف"/><ref>حبيب الله شاملوني: تاريخ ايران ازماد تابهلوي. ص:615 وذكر فيها: أن أهالي تبريز والقزلباش الموجودين فيها قد شكلوا خلايا سرية في منطقة شام غازان وكانت تغير ليلاً على قوات الإنكشارية وتمعن فيهم تقتيلاً.</ref> لذلك قرر السلطان إخلاء المدينة بعد أسبوع فقط من احتلالها ناقلاً معه آلافًا من أبرز تجارها وحرفييها وعلمائها إلى [[الأستانة]].<ref>{{مرجع كتاب
| last = الدكتور
| first = محمد التونجي
| authorlink = الدكتور محمد التونجي
| title = بلاد الشام إبان العهد العثماني
| publisher = [[دار المعرفة]]
| year = 2004
| isbn = 9953-429-79-0 }}
</ref>


== حرب الصفويين ==
عاد السلطان سليم إلى مدينة [[أماسيا]] ب[[آسيا الصغرى]] للاستراحة زمن ال[[شتاء]] والاستعداد للحرب في أوائل [[الربيع]]، ومرّ في أثناء عودته من بلاد [[أرمينيا]] لكنه لم يفتحها لعدم وجود الوقت الكافي لذلك. وعندما أقبل الربيع، رجع السلطان إلى [[بلاد فارس]] ففتح قلعة "كوماش" الشهيرة، وإمارة ذو القدر التركمانية سنة [[1515]]، ثم رجع إلى [[القسطنطينية]] تاركًا لقواده مهمة فتح الولايات الفارسية الشرقية. ولمّا وصل السلطان إلى عاصمة ممالكه، أمر بقتل عدد عظيم من ضبّاط [[إنكشارية|الإنكشارية]] الذين كانوا سبب الامتناع عن التقدم في [[بلاد فارس]]، وفي مقدمتهم قاضي العسكر "جعفر چلبي" سالف الذكر، خشية من امتداد الفساد وعدم الإطاعة في الجيوش.<ref name="فتح فارس">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 191 ISBN 9953-18-084-9</ref> وبعد عودة السلطان للقسطنطينية، فتحت الجيوش العثمانية مدن [[ماردين]] و[[أورفة]] و[[الرقة]] و[[الموصل]] و[[سنجار]] و[[حصن كيفا]] و[[العمادية]] و[[جزيرة ابن عمر]]، فخضع بهذا الجزء الأكبر من إقليم [[كردستان]] للدولة العثمانية،<ref>نبذة في ذكر ملوك آل عثمان. مخطوط مجهول المؤلف موجود بمكتبة الأسد الوطنية. دمشق. رقم 8434. ص:51</ref> وأصبح الصفويون وجهًا لوجه مع العثمانيين، فبات من الصعب عليهم التوسع على حساب العثمانيين. وأطاعت كافة قبائل [[أكراد|الكرد]] باختيارها،<ref name="فتح فارس" /> ونهض رؤسائها لمساندة العثمانيين وأعلنوا ولاءهم للسلطان سليم، ولم يمض وقت طويل حتى انضمت 23 مدينة للحكم العثماني، على الرغم من الاستحكامات العسكرية التي أقامها [[صفويون|الصفويون]] بها، فعقد السلطان مع الأكراد اتفاقية صداقة وتحالف وذلك بفضل جهود الشيخ "إدريس البدليسي"،<ref>عباس صباغ ص:132</ref><ref>يذكر فاضل بيات عنه بأنه عالم ومؤرخ كردي، كان يعمل كاتبًا في ديوان دولة الخروف الأبيض قبل سيطرة الصفويين، وبعد معركة چالديران دخل في خدمة الدولة العثمانية</ref> الذي نصبه السلطان كمفوض للإدارة الأهلية بتلك الأقاليم مكافأة له على ما قدمه من خدمات للسلطنة.
=== أسباب الحرب ===
[[ملف:Silk route ar.jpg|تصغير|خريطة تُصوِّرُ طريقيّ الحرير (الأحمر) والتوابل (الأزرق). يُعتقد أنَّ سعي السُلطان سليم لِلسيطرة على الطريق الأولى كان من جُملة الأسباب التي أشعلت فتيل الحرب بين العُثمانيين والصفويين.]]
كان لِلحرب العُثمانيَّة الصفويَّة الأولى مجموعتين من الأسباب: الأولى أسبابٌ اقتصاديَّة واستراتيجيَّة، والأُخرى مذهبيَّة وسياسيَّة وفكريَّة. فمن حيث المجموعة الأولى، سعى السُلطان سليم لِلوُصُول إلى [[شبه القارة الهندية|الهند]] وتحقيق سيطرة عُثمانيَّة على طُرُق التجارة الشماليَّة بِفعل احتكار [[الإمبراطورية البرتغالية|الپُرتُغاليين]] [[تجارة التوابل]] وسيطرتهم على الطُرُق التجاريَّة الجنوبيَّة مع الهند. هذا وقد شهدت بداية عهد هذا السُلطان تطوُّرًا في [[بيروقراطية|النظام الدواويني (البيروقراطي)]] العُثماني والحِرَف والأعمال التقنيَّة السائدة في البلاد آنذاك، ما جعل مُتطلِّبات الدولة تزداد مع تطوُّر هذه الأعمال.<ref group="la" name="Inalcik1970209">{{استشهاد مختصر|1=İnalcık|2=1970|ص=213-214|لغة=en}}</ref> ويُعتقد أنَّ استمرار زيادة ارتفاع أسعار [[حبة غذائية|الحُبُوب]] في أوروپَّا خلال ذلك الوقت أفضى إلى ازدهار تصديرها من الأناضول، ممَّا أدَّى إلى توسُّع الإنتاج الزراعي في آسيا الصُغرى وبِالتالي زيادة عدد سُكَّان تلك البلاد.<ref>{{استشهاد مختصر|1=أوين|2=1990|ص=17}}</ref> يُضاف إلى ذلك الاستهلاك المُتزايد في أوروپَّا لِلمنتوجات الشرقيَّة، وبِخاصَّةً التوابل والحرير، ما دفع السُلطان إلى السيطرة على الطُرُق التجاريَّة الشماليَّة واحتكار التجارة بين الشرق والغرب. وحاول السُلطان سليم بدايةً منع الصفويين من الاستفادة من المواد الخام المُستخدمة في صناعة الأسلحة والذخائر، مثل [[نحاس|النُّحاس]] و[[حديد|الحديد]] التي اشتهرت بها بلاد الأناضول، كما فرض حصارًا تجاريًّا على الدولة الصفويَّة، وبِخاصَّةٍ [[طريق الحرير|تجارة الحرير]] التي تمُرُّ عبر الأراضي العُثمانيَّة عن طريق [[حلب]] - [[الإسكندرونة]] في طريقها إلى [[أوروبا الغربية|الغرب الأوروپي]] حيثُ تُقايض بِالذهب، ما خفَّض إيرادات الصفويين بِشكلٍ ملحوظ. وخطا السُلطان خُطوةً أُخرى، حين أخذ يُصادر البضائع الإيرانيَّة من جميع التُجَّار لِشحنها من الجانب الأوروپي في الروملِّي، ما أثَّر على حركة التُجَّار الذين تحولوا نحو الجنوب عبر [[بلاد الرافدين|وادي الرافدين]].<ref group="la" name="Inalcik1970209"/> وأخيرًا قرَّر الاستيلاء على الطُرُق التجاريَّة الشماليَّة مع الهند، ولمَّا كانت الدولة الصفويَّة تقف حجر عثرة في سبيل ذلك فقد قرَّر القضاء عليها.
[[ملف:جامع الإمام الأعظم 1920.jpg|تصغير|يمين|[[جامع الإمام الأعظم|جامع الإمام أبي حنيفة النُعمان]] كما بدا سنة [[1920]]م. أحرقه الشاه إسماعيل لمَّا سيطر على بغداد سنة [[1508]]م.]]
أمَّا من حيث المجموعة الأُخرى، فعلى الصعيد المذهبي كان السُلطان سليم حسَّاسًا لِجهة انتشار الدُعاة [[قزلباش|القزلباش]]{{ملا|القزلباش هو مُصطلح أُطلق على الجُنُود الصفويين، وهو لقبٌ منحوت من كلمتين: «قزل» بِمعنى «[[أحمر|الأحمر]]» و«باش» بِمعنى «الرأس»، فيكون معنى الاسم كاملًا: ذوي الرؤوس الحمراء، وذلك لِاعتمار هذه الطائفة من الجُند عمائم حُمر.<ref>{{استشهاد مختصر|1=حلاق وصباغ|2=1999|ص=174}}</ref>}}، الذين كان يبُثُّهم الشاه إسماعيل في [[منطقة الأناضول الشرقية|شرقيّ الأناضول]] لِينشروا الدعوة الشيعيَّة بين قبائل التُركُمان، فخشي من دُخُول الآلاف من هؤلاء في المذهب الشيعي ما يُشكِّلُ خطرًا مُباشرًا على الدولة العُثمانيَّة ويُساعد الصفويين على التوسُّع بِاتجاهها. وكان لِانفجار الحركة المذهبيَّة، التي بدأها الشاه في بث مذهبه عنوةً، وتوسُّعاته السياسيَّة من أجل تثبيت غاياتها، إثارة واضحة لِيس فقط لِلحفظية المذهبيَّة السُنيَّة لِلعُثمانيين فحسب، بل عاملًا فعَّالًا في تغيير استراتيجيَّتهم السياسيَّة وتوجيه أنظارهم نحو [[غرب آسيا|آسيا الغربيَّة]] بعد أن كانت [[أوروبا الشرقية|أوروپَّا الشرقيَّة]] شُغلهم الشاغل.<ref name="سيار">{{استشهاد مختصر|1=الجميل|2=1997|ص=78-79}}</ref> وكانت أنباء اضطهاد الشاه إسماعيل لأهل السُنَّة والجماعة في إيران والعراق تصلُ العتبة السُلطانيَّة في إسلامبول، فتُثيرُ غضب السُلطان سليم وأعيان الدولة، من ذلك أنَّ الشاه لمَّا سيطر على [[عراق العرب]] سنة [[1508]]م سارع على الفور بِالبطش بِالسُنيين، فأحرق قُبُور ومقامات [[قائمة الخلفاء العباسيين|الخُلفاء العبَّاسيين]] بِالإضافة إلى قبريّ الإمامين [[أبو حنيفة النعمان|أبو حنيفة النُعمان]] و[[عبد القادر الجيلاني]]، وغيرهما من قُبُور عُلماء أهل السُنَّة، وقتل جماعة أُخرى من العُلماء حرقًا بِالنار، واستولى على العديد من المساجد وخصَّصها لِلشيعة،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Shaw|2=1976|ص=95}}</ref> وعمَّر لهم [[العتبات المقدسة في العراق (توضيح)|العتبات المُقدَّسة]]، وراح يعمل على صبغ الديار العراقيَّة بِالصبغة الشيعيَّة.<ref name="مراد">{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=154-155}}</ref> وغالى الشاه في كُرهه أهل السُنَّة، لِدرجة أنَّه لم يكتفِ بِحرق الكُتُب الفقهيَّة والعقائديَّة السُنيَّة، بل أحرق مصاحفهم أيضًا، وفي ذلك يقول المُؤرِّخ [[قطب الدين النهروالي|قُطب الدين مُحمَّد النُّهرُوالي]]: {{اقتباس مضمن|...وَقَتَلَ خَلْقًا لَا يُحْصَوْنَ يَنُوفُ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ نَفَس بِحَيْثُ لَا يُعْهَدُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ قَتَلَ مِنْ النُّفُوسِ مَا قَتَلَهُ إِسْمَاعِيل شَاه. وَقَتْل عَدَدٌ مِنْ أعَاظِمَ الْعُلَمَاءِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ وَأَحْرَق جَمِيع كُتُبِهِم وَمَصَاحِفِهِم لِأَنَّهَا مَصَاحِفُ أَهْلُ السُّنَّةِ. كَمَا أُمِرَ بِقُبُور الْمَشَايِخ نَبَشُهَا وَأَخْرَج عِظَامَهُم وَأَحْرَقَهَا…}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=النهروالي|2=1996|ص=284}}</ref> كما أهان الشاه الزعامة الروحيَّة والسياسيَّة لِلمُسلمين، أي مقام [[خلافة إسلامية|الخلافة]]، فعيَّن أحد غلمانه الخصيان واليًا على [[بغداد]] ولقَّبه «خليفة الخُلفاء».<ref>{{استشهاد مختصر|1=الخربوطلي|2=1969|ص=259|لغة=en}}</ref> وكان آخر حُكَّام العراق [[آق قويونلو|الآق قويونلويين]] [[سلطان مراد بن يعقوب بن حسن قوصون|مُراد بن يعقوب بن حسن البايندري]] (حفيد [[أوزون حسن]]) قد راسل السُلطان المملوكي قانصوه الغوري وطلب منهُ المدد لِإنجاد بغداد من الصفويين، فاتخذ السُلطان بعض الإجراءات التمهيديَّة لِإعداد حملةٍ عسكريَّةٍ لِلتصدَّي لِلطمُوحات التوسُّعيَّة لِلشاه إسماعيل، إلَّا أنَّ الظُرُوف السياسيَّة الصعبة التي كان يمُرُّ بها الغوري آنذاك، وأهمُّها نشاط الأُسطُول الپُرتُغالي حول سواحل [[البحر الأحمر|بحر القلزم (الأحمر)]]، لم تسمح لهُ إلَّا بِمُناوراتٍ عسكريَّةٍ فقط،<ref name="مراد"/> وهكذا أصبحت جميع الآمال مُعلَّقة على الدولة العُثمانيَّة لِدفع الخطر الصفوي أو القضاء عليه.
[[ملف:The Battle between Shah Ismail and Shaybani Khan-edited.jpg|تصغير|يمين|قسمٌ من مُنمنمةٍ فارسيَّة تُصوِّرُ بعض القادة التُركُمان في جيش الشاه إسماعيل رافعين رايةً عليها إحدى شعارات الغُلُوِّ في التشيُّع: «يا عليّ وليُّ الله مدد».]]
[[ملف:Ismaeil i Sahand Ace.jpg|تصغير|رسمٌ لِلشاه إسماعيل الصفوي.]]
وعلى الصعيد السياسي، أدرك السُلطان سليم أنَّ الشاه إسماعيل يُشكِّلُ عاملًا خطرًا من عوامل تفكُّك الأناضول العُثماني، وقد أثبتت أحداث التمرُّد التي قامت في أواخر عهد السُلطان بايزيد الثاني ذلك، فقد وجدت قبائل الحُدُود من التُركُمان الذين كان العُثمانيُّون يُحاولون إخضاعهم لِسيطرتهم - وجدت في الشاه إسماعيل حاميًا وزعيمًا موهوبًا تهوى إليه نُفُوسهم أكثر ممَّا تميل إلى السُلطان العُثماني،<ref name="عمر">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=68-69}}</ref> وسبب ذلك أنَّ الشاه كان بِالنسبة لِأولئك التُركُمان أشباه البدو زعيمًا مثاليًّا، فهو [[أذر|تُركيّ أذريّ]] ذو عقليَّةٍ تُركيَّةٍ تقليديَّة، وإن كان يُجيد الفارسيَّة ومُتأثِّرٌ [[ثقافة فارسية|بِثقافة فارس]]، لكنَّهُ لم يخلع عن نفسه هويَّة أجداده وطريقة تفكير قومه، وكانت قُوَّته العسكريَّة تستند إلى القبائل التُركيَّة وليس إلى [[شعوب إيرانية|الأقوام الإيرانيَّة]] التي أخضعها، عكس الدولة العُثمانيَّة التي كانت جُيُوشها عبارة عن خليطٍ من المُسلمين التُرك والروم والصقالبة. كما شعر تُركُمان الأناضول هؤلاء بِالتقارب مع الشاه بِسبب عقيدته، التي وإن كانت [[شيعة اثنا عشرية|شيعيَّة اثنا عشريَّة]] في الظاهر، غير أنها امتزجت بِكثيرٍ من العقائد [[شامانية|الشامانيَّة]] القديمة التي آمنت القبائل التُركيَّة بها في [[آسيا الوسطى|آسيا الوُسطى]] قبل [[الفتح الإسلامي لما وراء النهر|الفتح الإسلامي]]، فأخذت تُحيط الشاه بِهالةٍ من القداسة. وبِذلك، أصبح تُركُمان الأناضول يرون في الدولة الصفويَّة دولة تُركيَّة مثاليَّة، أفضل بِما لا يُقاس من دولةٍ عُثمانيَّةٍ مركزيَّةٍ، ومن سُلالةٍ حاكمةٍ انقطعت صلتها مُنذُ أكثر من قرنٍ ونصف بِالوسط التُركُماني الذي انبثقت منه، والذي لم تعد تُدرك احتياجاته، ومن نظامٍ إداريٍّ كان مُمثلوه المحليُّون، المُنحدرون من صفواتٍ حضريَّةٍ أو من [[دوشيرمة|الدوشيرمة]]، يبدون لهم غُرباء أيضًا. ولم يتردَّد الشاه في الاستفادة من أنصاره الأناضوليين موفوري الأعداد لِزعزعة السُلطة العُثمانيَّة في الأناضول. أمام هذه الوقائع، رأى السُلطان سليم أنَّ حل المُشكلة الأناضوليَّة يمُر عبر القضاء على الشاه، فمع اختفاء الأخير سينهار المذهب المُؤسس على صورته من تلقاء نفسه، ممَّا سيؤدي إلى ترك أتباعه في حالةٍ من الارتباك.<ref name="مانتران">{{استشهاد مختصر|1=جرامون|2=1992|ص=210-211}}</ref> بِالإضافة إلى ما سلف، كان هُناك دافعٌ سياسيٌّ آخر تجسَّد في التنازع الأُسري بين البيتين الحاكمين في كُلٍ من إسلامبول وتبريز، إذ كانت حماية الصفويين لِلفارِّين من آل عُثمان، والذين تعرَّضوا لِمُلاحقة ومُضايقات السُلطان سليم، ورفضهم تسليمهم، أشبه بِشرارةٍ ساهمت في إشعال نار الحرب بين الدولتين، بعد أن نضجت بِفعل عوامل عديدة أُخرى.<ref name="مراد"/>
[[ملف:Safavid Empire 1501 1722 AD-ar.png|تصغير|خريطة تُبيِّن أقصى امتداد بلغته الدولة الصفويَّة خلال عهد الشاه إسماعيل وكيف أنَّها أصبحت حاجزًا يفصل بين الدولة العُثمانيَّة وبلاد ما وراء النهر ومخزونها البشري الذي اعتمد عليه العُثمانيُّون في فُتُوحاتهم الغربيَّة.]]
أمَّا على الصعيد الفكري، فقد كانت الثقافة في بلاد الأناضول امتدادًا طبيعيًّا [[الثقافة التركية الفارسية|لِلثقافة التُركيَّة الفارسيَّة]] التي كانت مراكزها في إيران و[[بلاد ما وراء النهر]]. ففي حُقُول الحُكم والإدارة، وفي القانون والعُلُوم الشرعيَّة، وفي الآداب والفُنُون، ظلَّ [[دولة سلاجقة الروم|سلاجقة الروم]] والعُثمانيُّون من بعدهم، يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على المُهاجرين من الشرق لِشغل وظائف الحُكُومة وإدارتها، وكان أدب الأناضول السُلجُوقي كُلُّه تقريبًا بِاللُّغة الفارسيَّة، وعندما ظهر الأدب بِاللُّغة التُركيَّة، في ظل حُكم السلاطين العُثمانيين الأوائل، استلهم من نوابغه في إيران وما وراء النهر. ومُنذُ قيام الدولة الصفويَّة في سنة [[908 هـ|908هـ]] المُوافقة لِسنة [[1502]]م، انقطعت الدولة العُثمانيَّة عن منبعيّ العُلماء والفُقهاء والأُدباء والفنانين، اللذين أسهما في تطوُّرها ونُمُوِّها الثقافي إلى حدٍ كبير، واقتصرت مُنذُ ذلك الوقت على منابعها الفكريَّة والدينيَّة في الأناضول والروملِّي، وفي وقتٍ لاحقٍ في المشرق العربي. وقد شعر العُثمانيُّون بِهذا الانقطاع الفكري عن أُصُول ثقافتهم ما كان دافعًا لِإعادة فتح هذه القنوات الفكريَّة الشرقيَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=150}}</ref>


=== القضاء على شيعة الأناضول ===
== الحملة المملوكيّة ==
[[ملف:Imam Ibn Kemal's Fatwa for fighting the Safavids.jpg|تصغير|فتوى شيخ الإسلام المولى ابن كمال التي أجاز فيها لِلعُثمانيين حرب الصفويين لِشدَّة غُلُّوهم وانحرافهم (تبدأ من الكتابة الحمراء).]]
=== خلفيّة النزاع ===
بعد أن توافرت جميع أسباب الحرب، واطمأنَّ السُلطان لِصفاء الدولة وسلامة الجبهة الداخليَّة، صمَّم عزيمته أن يحمل على الديار الإيرانيَّة، فاستدعى كبار رجال دولته من [[القاضي في الإسلام|قُضاةٍ]] وساسةٍ وعُلماء، وذكر لهم مدى خُطُورة الدولة الصفويَّة والشاه إسماعيل على الدولة العُثمانيَّة خُصوصًا والمُسلمين السُنيين عمومًا، وأنَّ على العُثمانيين الدفاع عن مصالحهم الحيويَّة وعن إخوانهم الذين طالهم ظُلم الشاه في إيران والعراق.<ref>{{استشهاد مختصر|1=الصلابي|2=2001|ص=179}}</ref> واستفتى السُلطان العُلماء في جواز قتال الصفويين، فأجمعوا وأفتوا بِأنَّ قتالهم وجهادهم أكثر ثوابًا من جهاد الصليبيين بعد أن بلغ بهم الغُلُوَّ مبلغًا يجعلهم خارجون على الإسلام، وكان في مُقدِّمة كبار العُلماء الذين أفتوا بِذلك الشيخ حمزة أفندي و[[شيخ الإسلام]] المولى [[ابن كمال]] الذي كتب رسالةً طويلةً في جواز قتال الصفويين واستئصال شأفتهم.<ref name="منجم5">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=639-644}}</ref>
{{طالع أيضا|مماليك مصر}}
[[ملف:Selim yavuz and kizilbashes.png|تصغير|يمين|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّر إحضار الجاسوس الصفوي بين يديّ السُلطان سليم.]]
كان لهذه الحملة أسباب عديدة منها الصراع على الحدود بين الدولتين وموقف [[مماليك مصر|المماليك]] من الصفويين وإيوائهم لأمراء عثمانيين فارين من السلطنة العثمانية وإستغاثة أهل [[بلاد الشام|الشام]] بالعثمانيين من ظلم المماليك حيث كتبوا رسالة باسم العلماء والفقهاء والقضاة يطلبون من سليم الأول تخليصهم من ظلم المماليك الذي طال المال والنساء والعيال، كما عطلوا تطبيق [[الشريعة الإسلامية]] في حكم البلاد، وطلبوا أن يرسل السلطان وزير ثقة ليلتقي بكبار الرجالات ليؤمن ويطمئن قلوب الشعب.<ref name="فتح الشام">المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: بهيج عثمان، شفيق جحا، منير البعلبكي. دار العلم للملايين، بيروت: صفحة 130-132</ref>
ولمَّا أخذ الفتوى من العُلماء، أرسل السُلطان أوامره إلى أطراف البلاد لِاجتماع الجُيُوش، وكان قد أرسل في وقتٍ سابقٍ إلى الوُلاة وأُمراء السناجق أن يتحرُّوا أمر شيعة الأناضول المُجاورين لِلحُدود الصفويَّة، ويضبطون كُل من بايع الشاه على السمع والطاعة أو من يميل له ويتعامل معه، فوصل في هذا الوقت إلى العتبة السُلطانيَّة دفترٌ يحوي أسماء كُل شخصٍ تأكَّدت صلته بِالصفويين وكُلُّ من تبعه من الرجال وساهم في إقلاق الراحة العُموميَّة وإثارة الفتنة في الأناضول، وكانوا قُرابة أربعين ألفًا،<ref group="la" name="مولد تلقائيا1">{{استشهاد مختصر|1=McCaffrey|2=1990|ص=656–658|لغة=en}}</ref> فأصدر السُلطان أمره بِقتلهم، فُقتلوا عن آخرهم، وأرسل في الوقت ذاته حملاتٍ تأديبيَّةٍ لِتُلاحق بقايا الغُلاة ممَّن تبقُّوا في الأناضول وتُخرجهم منه.<ref name="عمر"/><ref name="منجم5"/> وأُسر عند ذلك جاسوسٌ لِلشاه إسماعيل وأُحضر مُكبلًا إلى السُلطان سليم، فلم يقتله وأطلق سراحه بعد أن حمَّلهُ كتابًا غليظًا إلى الشاه يتضمَّن إهاناتٍ وتحدِّيًا وتهديدًا، من بعض ما ورد فيه بعد [[تعريب (لغة)|تعريبه]]:<ref>{{استشهاد مختصر|1=رضوان|2=1988|ص=435}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|1=فريدون بك|2=1275هـ|ص=379-380}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Britannica|2=1894|ص=635|لغة=en}}</ref>
[[ملف:Mamluks1279.png|تصغير|300بك|يمين|السلطنة المملوكيّة في أقصى اتساعها قرابة سنة [[1279]].]]
{{اقتباس|{{بسملة}}<br/> قَالَ الله الْمَلِكُ الْعَلَّامِ: {{قرآن|إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}}؛{{قرآن|وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}}؛{{قرآن|فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}}؛ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الهَادِينَ الْمُهْتَدِين غَيْرَ الْمُضِلِّينَ وَلَا الضَّالِّينَ وَصَلَّى الله عَلَى سَيِّدِ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى النَّبِيّ الْأَمِين وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.<br/>أَمَّا بَعْدُ؛ أَنَا زَعِيمُ وَسُلْطَان آلِ عُثْمَانَ، أَنَا سَيِّدُ فُرْسَانِ هَذَا الزَّمَانِ، أَنَا الْجَامِعُ بَيْنَ شَجَاعَة وَبَأْس [[فريدون|أَفْرِيدُون]] الْحَائِز لِعِزّ [[الإسكندر الأكبر|الْإِسْكَنْدَر]]، وَالْمُتَّصِف بِعَدْل [[كسرى الأول|كِسْرَى]]، أَنَا كَاسِرُ الْأَصْنَام وَمُبِيدُ أَعْداءِ الإِسْلامِ، أَنَا خَوْفُ الظَّالِمِينَ وَفَزَعُ الْجَبَّارِين الْمُتَكَبِّرِين، مُرَغِّمُ أُنُوفَ الفَرَاعِيْن مُعَفَّرَ تِيجَانُ الخَوَاقِيْن، سُلْطَانُ الْغُزَاةِ وَالمُجَاهِدِيْن، أَنَا الَّذِي تُذَلُّ أَمَامَهُ الْمُلُوك المُتَّصِفُونَ بِالْكِبْر وَالْجَبَرُوت، وَتَتَحَكَّم لَدَى قُوَّتِي صَوَالِجُ الْعِزَّةِ والعَظَمُوْت،<br/>أَنَا الْمَلِكُ الْهُمَامِ السُّلْطَان سَلِيمْ خَانْ ابْن السُّلْطَانُ الْأَعْظَمُ بَايَزِيْد خَان، أَتَنَازَلُ بِتَوْجِيه إلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِسْمَاعِيل، يَا زَعِيمَ الْجُنُودِ الْفَارِسِيَّة… وَلَمَّا كُنْتُ مُسْلِمًا مِنْ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِين وَسُلْطَانًا لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِين السُنِّيينَ الْمُوَحِّدِين… وَإِِذ أَفْتَى الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا بِوُجُوبِ قَتْلِكَ وَمُقَاتَلَةِ قَوْمِك فَقَد حَقَّ عَلَيْنَا أَنْ نَنْشَطَ لِحَرْبِك وَنُخَلِّصَ النَّاسَ مَنْ شَرِّك…}}
وكان السلطان سليم، في أثناء حملته على الصفويين، قد اتصل بحاكم [[مرعش]] و[[ألبستان]]، "علاء الدولة" أمير سلالة "ذي القدر" التركمانية التي كانت تسيطر على وادي طوروس من مرعش إلى ألبستان و[[ملطية]]، حيث تلتقي منطقة نفوذ [[مماليك شركسية|المماليك الشراكسة]] [[فرس|بالفرس]]، طالبًا منه المساهمة في حرب الصفويين، لكن علاء الدولة اختلق الأعذار في عدم المجيء إليه، متعللاً بكبر سنه وإنه لا يستطيع القيام بأي مجهود لكونه تحت الحماية [[مماليك مصر|المملوكية]]. وماإن مضى السلطان في طريقه حتى هاجم علاء الدولة ساقة الجيش بإيعاز من السلطان [[قنصوه الغوري]]، فأرسل السلطان للغوري يخبره بما فعل علاء الدولة، فرد عليه الغوري بكتاب: "إن علاء الدولة عاص فإن ظفرت به فاقتله"، وفي نفس الوقت أرسل إلى علاء الدولة يشكره على فعله ويغريه بالاستمرار بتصلبه تجاه العثمانيين.<ref>عباس صباغ ص:129 نقلا عن: V.Parry. A History of Ottoman Empire to 1730, Cambridge P:70. وراغب الطباخ: أعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء، حلب، 1988، (3/103)</ref> وبسبب ذلك ترك السلطان سليم 40 ألفًا من جنده ما بين [[سيفاس|سيواس]] و[[قيصرية]]، للحفاظ على الأمن [[الأناضول|بالأناضول]] من أي اختراق قد يحصل من أي جهة من الجهات التي تنافسه، ولحماية مؤخرة الجيش من أنصار الشاه وقوات ذي القدر.<ref>عباس الصباغ ص:129</ref> كذلك أرسل السلطان إلى [[قنصوه الغوري]]، قبل وصوله لچالديران، رسالة فيها تهديد مبطن يخبره بأن الدولة الصفوية غدت قاب قوسين أو أدنى من الزوال.<ref>ابن اياس. بدائع الزهور في وقائع الدهور. القاهرة 1984 (ج4/ص384)</ref> ولم ينس السلطان فعلة علاء الدولة، فانتقم منه عند عودته، وذلك بأن أرسل [[صدر أعظم|الصدر الأعظم]] وابن أخي علاء الدولة "علي بن شاهسوار" للقضاء عليه من جهة، ولإتمام السيطرة العثمانية على التخوم الشمالية للشام من جهة أخرى، ولم يعد الصدر الأعظم للسلطان إلا بعد قتل علاء الدولة في أرض المعركة.<ref name="فتح الشام" /><ref>عباس الصباغ. ص:133</ref> ولمّا كان علاء الدولة قد اعترف قبل ذلك بسيادة المماليك عليه، فقد بدأ النزاع بين السلطان سليم وبين المماليك الذين كانوا يحكمون آنذاك الشام ومصر.<ref name="فتح الشام" />


=== خُرُوج الحملة الهمايونيَّة إلى إيران ===
ومهما يكن من أمر، فقد كانت هناك أسباب للنزاع بين سليم والمماليك أعمق من هذا بكثير. ذلك أن السلطان سليم كان يطمع على ما يظهر في توحيد جميع البلدان السنيّة تحت تاجه، وانتزاع المدينتين المقدستين، [[مكة]] و[[المدينة المنورة]]، من أيدي المماليك. وقد خشي المماليك سياسة سليم التوسعيّة هذه، فعقدوا المحالفة سالفة الذكر مع الشاه [[إسماعيل الصفوي]].<ref name="فتح الشام" />
[[ملف:مسيرة السلطان سليم.jpg|تصغير|خريطة تُصوِّرُ مسير الجُيُوش العُثمانيَّة مُنذُ خُروجها من أوطانها لِحين لقائها بِالصفويين في چالديران حيثُ وقعت المعركة الحاسمة بين الدولتين الكبيرتين.]]
خرج السُلطان سليم من مشتاه في أدرنة إلى إسلامبول في مُحرَّم سنة [[920 هـ|920هـ]] المُوافق فيه شُباط (فبراير) [[1514]]م، ونزل في موضعٍ يُقالُ له «فيل چايري» بِقُرب [[جامع أيوب سلطان|جامع أبي أيُّوب الأنصاري]] ومكث هُناك إلى أن يتم عُبُور الجُند من كُل أنحاء الروملِّي إلى الأناضول، وكان يزور في كُلِّ يومٍ مرقد الصحابي [[أبو أيوب الأنصاري|أبي أيُّوب]] ويدعو الله أن ينصره ومن معه، ويبذل الصدقات على الفُقراء. وفي يوم الخميس [[24 صفر]] [[920 هـ|920هـ]] المُوافق فيه [[19 أبريل|19 نيسان (أبريل)]] [[1514]]م، عبر السُلطان إلى أُسكُدار ونزل في مالدپَّة، وكان بكلربك الروملِّي حسن باشا قد عبر بِعساكر تلك البلاد وأُمرائها من معبر قَلِّيبُلِي، وفوَّض السُلطان في أثناء ذلك بكلربكيَّة الأناضول إلى أمير سنجق البوسنة [[سنان باشا الخادم]].<ref name="منجم5"/> ولمَّا وصل السُلطان إلى مدينة [[إزميد]]، أرسل كتابًا آخر إلى الشاه إسماعيل يدعوه فيه إلى العودة لِلإسلام القويم ويحُثُّه على رفع مظالمه ويُعلمه بِأنَّ عُلماء المُسلمين في الدولة العُثمانيَّة أفتوا بِجواز قتله لِما اقترفت يداه، فإن ثاب إلى رُشده وعاد عن غُلُّوِّه وتشيُّعه، فإنَّهُ سيُرجع إليه ما استولى عليه من أراضيه. ولِلإمعان في تحقير الشاه أرسل إليه السُلطان سليم هديَّةً كانت عبارة عن [[سواك|مسواكٍ]] وعصا وطيلسان، وقصد بِذلك تذكيره بِأنَّهُ ليس من سُلالةٍ مُلوكيَّةٍ كبني عُثمان، بل هو من سُلالة [[درويش|دراويشٍ]] وضيعين، كون تلك الأشياء من رُمُوز هذه الفئة الصوفيَّة.<ref name="متولي">{{استشهاد مختصر|1=متولي وفهمي|2=2005|ص=186-187}}</ref> وأرسل السُلطان أيضًا قاصدًا إلى السُلطان المملوكي قانصوه الغوري يُعلمه بِنيَّته القضاء على الصفويين، وبِضرورة أن يكون أمر المماليك والعُثمانيين واحدًا وقولهم جازمًا على الشاه إسماعيل.<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984|ص=272-273}}</ref>
[[ملف:One of Sultan Selim's letters to Shah Ismail.jpg|تصغير|يمين|نسخةٌ عن قسمٍ من إحدى رسائل السُلطان سليم إلى الشاه إسماعيل التي تحدَّه فيها ودعاه إلى المُبارزة.]]
ارتحل السُلطان بعد ذلك إلى صوب [[ينيشهير|يني شهر]]، وأرسل الوزير [[أحمد باشا بن دوقاقين]]، في عسكر الروملِّي إلى [[سيواس]] لِلتجسُّس على أحوال الشاه إسماعيل.<ref name="منجم5"/> وفي [[8 ربيع الآخر]] [[920 هـ|920هـ]] المُوافق فيه [[1 يونيو|1 حُزيران (يونيو)]] [[1514]]م، وصل السُلطان إلى قونية حيثُ استراح ثلاثة أيَّامٍ زار خلالها مراقد الأولياء وفي مُقدِّمتهم مرقد المولى [[جلال الدين الرومي]]،<ref name="أوزتونا3"/> ثُمَّ ارتحل إلى [[قيصرية (تركيا)|قيصريَّة]] ومنها إلى «جبق أواسي» حيثُ أرسل إلى أمير [[ذو القدر|ذي القدريَّة]] علاء الدولة بوزقورد بك يدعوه إلى مُرافقته في الحملة على الصفويين، فأبى المذكور ذلك، فغضَّ عنهُ السُلطان وتابع زحفه نحو سيواس، وأرسل أمير سينوپ أحمد بك في خمسُمائة فارس لِجمع الأخبار عن تحرُّك الصفويين، ثُمَّ أرسل في عقبه مُحمَّد علي بك ميخائيل أوغلي أيضًا. ولمَّا وصل السُلطان إلى سيواس أمر بِحساب الجيش الحاضر، فبلغ عدد الجُند بحسب المصادر العُثمانيَّة مائة وأربعين ألف مُقاتل، فأمر السُلطان أن يُفرز منهم أربعون ألفًا من الشُيُوخ واليوافع والضُعفاء ومن لا يقدر على إدارة السلاح فيُتركوا في نواحي سيواس وقيصريَّة لِقلَّة الأقوات والذخائر في بلاد العدوُّ.<ref name="أوزتونا3"/><ref name="منجم5"/> إذ كان الصفويُّون ينسحبون من أمام العُثمانيين بِقيادة أحد أعظم قادة الشاه، وهو مُحمَّد خان أُستاجلوه، حارقين في طريقهم المحاصيل لِحرمان الجُيُوش العُثمانيَّة من الإمدادات ولِإبطاء تقدُّمهم، كما أحرق مُحمَّد خان هذا المساكن الموجودة على الطريق الرابط بين أرزنجان وتبريز لِلغاية ذاتها.<ref name="أوزتونا3"/><ref group="la" name="مولد تلقائيا1" /> وعلى الرُغم من أنَّ هذا أبطأ الزحف العُثماني فعلًا، لكنَّ الحال لم يدم طويلًا، إذ كان السُلطان سليم قد احتاط لِلأمر ودبَّر تدبيرًا حسنًا بحيث أرسل ذخائر ومؤن كثيرة بِالسُفُن عبر بحر البنطس (الأسود) إلى طربزون لِتُوزَّع على الجُند عند الحاجة،<ref name="منجم5"/> وهكذا ما أن وصل العُثمانيُّون إلى أرزنجان حتَّى وصلهم المدد من طربزون، فباءت مُحاولات الشاه لِعرقلتهم بِالفشل.<ref name="أوزتونا3"/>
[[ملف:Ottoman March to Çaldıran.png|تصغير|خريطة توضح مسار الجُيُوش العُثمانيَّة نحو چالديران بالإضافة إلى مسار سفينة الذخائر والمُؤن نحو طربزون، والموضع الذي ترك فيه السُلطان سليم قسمًا من الجُند.]]
وفي [[25 جمادى الأولى|25 جُمادى الأولى]] [[920 هـ|920هـ]] المُوافق فيه [[17 يوليو|17 تمُّوز (يوليو)]] [[1514]]م، وصل السُلطان إلى بلدة «يضي جمن»،<ref name="منجم5"/> وفيها وصله رسولٌ من الشاه إسماعيل يحملُ إليه كتابًا يُبلغه فيه أنَّهُ يُعد العدَّة لِلحرب أيضًا، وأرفق الكتاب بِعُلبةٍ ذهبيَّةٍ مليئةٍ [[أفيون|بِالأفيون]] ردًا على إهانة السُلطان سليم له، وقصد الشاه من وراء هذا أنَّ كلام السُلطان وعزمه غزو الدولة الصفويَّة عبارة عن هذيانٍ سببهُ المُخدِّر.<ref name="متولي"/> ثار غضب السُلطان لمَّا قرأ كتاب عدُوِّه، فقتل الرسول وكتب رسالةً أُخرى إلى الشاه يتحداه ويدعوه إلى المُبارزة، ويستفزه لِيُجبره على اللقاء، وممَّا ورد فيها: {{اقتباس مضمن|إِنَّا أَفْرَزْنَا مِنْ عَسْكَرِنَا نَحْوَ أَرْبَعِينَ ألْفًا وَتُرَكْنَاهُمْ فِي نَوَاحِيَ قَيْصَرِيَّةَ لَئَلَّا تَخَافَ وَتَهَرُب، فَأَيْنَ دَعْوَى السَّلْطَنَةِ مِنْ هَذَا الْفِرَارِ وَالتَّسَتُّرِ كَالْنِّسْوَانِ؟! فَلَا يَلِيْقُ لَكَ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ}}.<ref name="منجم5"/> لكن على الرُغم من ذلك، استمرَّ قادة الشاه ينسحبون من أمام الجُيُوش العُثمانيَّة الجرَّارة، ولم يظهر لهم أيُّ أثرٍ أو خبر، ممَّا أثار التململ وسط الجُند وانتشرت بينهم الأقوال والشائعات بِأنَّ زحفهم هذا سيُهلكهم نظرًا لِطول المسافة وبُعد مراكز التموين، وحرَّك بعض أهل الفتن بعض قادة الإنكشاريَّة، فالتمسوا من السُلطان الرجوع وعدم الدُخُول إلى بلاد العدُوّ لِقلَّة الأقوات وعدم ظُهُور الصفويين، فلم يلتفت السُلطان إلى طلبهم وصمَّم عزمه على الوُصول إلى [[أذربيجان (إيران)|أذربيجان]]، فاضطرَّ القادة إلى الرجوع لِوالي القرمان همدم باشا، وكان من المُتربين في خدمة السُلطان ومن نُدمائه الذين يُكالمونه في كُلِّ أمرٍ؛ فألحُّوا عليه في تحويل السُلطان عن عزمه والرجوع إلى الوطن، فعرض الباشا هذا الأمر على السُلطان، لكنَّهُ لم يُتم مُقدماته إلَّا وأمر السُلطان بِضرب عُنُقه، فخاف جميع الجُنُود وقادتهم، وكتموا التذمُّر في أنفُسهم.<ref name="منجم5"/>
[[ملف:One of Sultan Selim's letters to Shah Ismail-2.jpg|تصغير|نسخةٌ عن قسمٍ من إحدى رسائل السُلطان سليم إلى الشاه إسماعيل.]]
بعد هذه الحادثة، أرسل السُلطان سليم كُلٌ من الأُمراء [[علي بك بن شهصوار ذي القدر|علي بك بن شهسوار الذيقدري]] وفرخشاد بك البايندري ومُحمَّد علي بك ميخائيل أوغلي وبالي ويواده، لِلتجسُّس وجمع أخبار الصفويين، ووجَّه كُلٌ منهم إلى جهةٍ مُختلفة؛ فظفر فرخشاد بك وبالي ويواده بِأُمراءٍ من القزلباش، فأسروهم في جمعٍ من جنودهم وحملوهم إلى العتبة السُلطانيَّة، فأطلق السُلطان سراح قزلباشيين فقط، وأرسل معهُما إلى الشاه إسماعيل كتابًا آخرًا لِيُحرِّكه على المُبارزة،<ref name="منجم5"/> وممَّا جاء فيه: {{اقتباس مضمن|إنْ كُنْتَ رَجُلًا فَلَاقِنِي فِي الْمَيْدَان، وَلَن نَمُلَّ انْتِظَارُك}}. وأرسل مع الجُنديين أيضًا [[حجاب (ملابس)|خمارًا]] ومعجرًا{{ملا|{{اقتباس مضمن|المِعْجَر}} هو الثَّوبُ الذي تشُدُّه المرأة على رأسها. يُجمع على {{اقتباس مضمن|مَعَاجِر}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=مسعود|2=1992|ص=751}}</ref>}} لِيُدلِّل لِلشاه على شدَّة احتقاره والاستخفاف به.<ref name="منجم5"/><ref name="متولي"/> ثُمَّ تابع السُلطان زحفه، لكنَّهُ لم يتقدَّم لِمسافةٍ بعيدةٍ حتَّى اعترضت الإنكشاريَّة مُجددًا ورفضت التقدُّم أكثر، والتمس قادتها الرُجُوع، فأجابهم السُلطان قائلًا: {{اقتباس مضمن|مَنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فَلْيَرْجِع، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَرْجِعُ أَبَدًا مَا لَمْ أُقَابِل الْخَصْم، وَإِنَّمَا تَحَمَّلَت أَعْبَاء السَّلْطَنَة لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَخَذ الِانْتِقَامِ مِنْ إسْمَاعِيلَ الْمُلْحِد، وَعَدَدْتُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الشَّدَائِد قَبْلَ أَنْ أَقْبَلَ السَّلْطَنَة، فَاخْتَرْتُم عِنْد الْقَوْل، وَتَكَلَّمْتُم عِنْدَ الْعَمَلِ، وَلَا جَبْرَ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ اخْتَارَ الرُّجُوع فَلْيَرْجِع}}. فاضطرَّت الإنكشاريَّة إلى المُتابعة، إلَّا أنَّهم لم يتوانوا عن إظهار امتعاضهم بِتحريك بِعض الأعيان، حتَّى أنهم أطلقوا رصاص [[قربينة|بنادقهم]] على [[سرادق]] السُلطان في إحدى الليالي لِتخويفه، فلم يلتفت إلى ذلك، وتثبَّت في عزيمته.<ref name="منجم5"/> وخلال تلك الفترة وصلت رسالة من الشاه إسماعيل تضمَّنت خطابًا يدعو السُلطان إلى التهدئة وبنفس الوقت يُحذِّره تحذيرًا مُبطنًا من سوء العاقبة فيما لو تابع الزحف، وممَّا ورد فيه: {{اقتباس مضمن|نُرِيدُ أَنْ تَنْمُوَ الصَّدَاقَةُ بَيْنَنَا كَمَا كَانَتْ أَيَّامَ السُّلْطَانِ بَايَزِيْد وَأَيَّام وِلَايَتِك عَلَى طَربِزُون. لَسْنَا نَدْرِي لِمَاذَا قَامَت الْعَدَاوَةُ بَيْنَنَا؟ نُرِيدُ أَنْ تَعُودَ الصَّدَاقَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ آلِ عُثْمَانَ قَدِيمًا. لَا نُرِيدُ لَكُم نَتِيجَةً سَيِّئَةً كَاَلَّتِي حَدَثَت أَيَّام تَيْمُور}}. فأجابهُ السُلطان قائلًا: {{اقتباس مضمن|اسْتَجَبْنَا لِلدَّعْوَةِ وَقَطَعْنَا الطُّرُق الطَّوِيلَةِ بِجُنُودٍ آيَاتِهَا النَّصْر، وَدَخَلْنَا مَمَالِكَك. وَلَكِنّنَا لَم نَجِدُك فِي الْمَيْدَان، وَإِذَا كَانَتْ عِنْدَك نَخْوَةٌ أَو رُجُولَة، فَاثْبَتَ فِي الْمَيْدَان…}}.<ref name="متولي"/> وخِلال فترةٍ قصيرةٍ من هذا، وقع في أسر علي بك بن شهسوار جماعةٌ من القزلباش، فاستعلم منهم أحوال الشاه وجُيُوشه، فأخبروه بِأنَّهُ وصل قُرب [[مقاطعة تشالدران|سهل چالديران]] وصمَّم العزم على القتال فيه، فسُرَّ السُلطان من هذا الخبر، وأسرع السير إلى الموقع المذكور تمهيدًا لِلمعركة الفاصلة.<ref name="منجم5"/>


=== فتح الشام ===
=== واقعة چالديران ===
{{رئيسي|معركة مرج دابق}}
{{مفصلة|معركة جالديران{{!}}معركة چالديران}}
[[ملف:QIZILBASH.jpg|تصغير|يمين|فارسٌ قزلباشي، عماد الجيش الصفوي.]]
[[ملف:Portrait of Al-Ashraf Qansuh al-Ghawri by Paolo Giovio Paolo 1483 1552.jpg|تصغير|[[قنصوه الغوري|الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قنصوه الغوري الظاهري الأشرفي]]، سلطان المماليك من عام [[1501]] حتى عام [[1516]].<ref>[http://www.bartleby.com/67/320.html The Encyclopedia of World History: The Postclassical Period, 500–1500]</ref> بريشة "پاولو جيوڤيو".]]
[[ملف:آرامگاه سید صدرالدین شیرازی و امیر عبدالباقی و شهدای جنگ چالدران.jpg|تصغير|سهل چالديران حيثُ دارت المعركة بين الصفويين والعُثمانيين، وقد أُقيم على طرفه نصبٌ تذكاريّ لِتخليد هذا الحدث المُهم.]]
أخذ السلطان سليم بالاستعداد لمحاربة المماليك بكل ما أوتي من قوّة بعد أن تغلّب على أمير سلالة ذي القدر، ولما عرف سلطان المماليك بتأهب سلطان [[الدولة العثمانية|آل عثمان]] لمحاربته، أرسل إليه رسولاً يعرض عليه أن يتوسط بينه وبين الفرس لإبرام الصلح، فلم يقبل سليم بهذا الأمر بل طرد السفير بعد أن أهانه،<ref name="مرج دابق" /> فلم يجد السلطان "[[قنصوه الغوري]]" بدًا من الحرب، فسار إلى مدينة [[حلب]] على رأس جيش كبير لكي يكون على استعداد لكل هجوم قد يشنه العثمانيون على [[بلاد الشام|الشام]]. ولم يكد السلطان سليم يعلم باحتشاد المماليك عند حلب حتى عقد ديوانه في [[القسطنطينية]] لمشاورته في الأمر، فقرّر الديوان إعلان الحرب على [[مماليك|المماليك]] بعد أن يوفد إليهم سفراء يفاوضونهم في الدخول في طاعة السلطان سليم.<ref name="فتح الشام" /> وارتكب قنصوه الغوري غلطة سياسية كبيرة عندما أغلط معاملة السفراء العثمانيين وأهانهم ردًا على ما فعله سليم مع سفيره، فلم يكن بُدّ من نشوب الحرب بينه وبين السلطان سليم. وبعد هذه الحادثة، سار السلطان سليم بجيشه إلى [[بلاد الشام]] قاصدًا [[مصر]] ومدينة [[القاهرة]]، مقر السلاطين المماليك.<ref name="مرج دابق">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 192 ISBN 9953-18-084-9</ref>
وصل العُثمانيُّون إلى سهل چالديران يوم [[2 رجب]] [[920 هـ|920هـ]] المُوافق فيه [[22 أغسطس|22 آب (أغسطس)]] [[1514]]م، لِيجدوا أنَّ الصفويين سبقوهم إليه وعسكروا هُناك مُنذ مُدَّة. وفي ليلة ذلك اليوم اجتمع ديوان الحرب العُثماني بِرئاسة السُلطان سليم وتقرَّر البدء بالهُجُوم فجر اليوم التالي.<ref name="أوزتونا4">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=216-220}}</ref> وفي الموعد المذكور، تقابل الجمعان واستعدَّا لِلمعركة التي كان من شأنها تقرير مصير الدولة العُثمانيَّة والمشرق العربي، إذ كان من المُمكن أن يُسفر انهزام العُثمانيين عن فرض الصفويين التشيُّع على المنطقة،<ref name="أوزتونا4"/> لا سيَّما وأنَّ الشاه إسماعيل كان يطمح في إقامة دولةٍ شيعيَّةٍ كُبرى تضم الديار [[إيران الكبرى|الإيرانيَّة]] و[[عراق العرب|العراقيَّة]] و[[بلاد الشام|الشَّاميَّة]] و[[الأناضول|الروميَّة]]، ومن أجل ذلك فاوض الدُول الأوروپيَّة وبِخاصَّةً [[جمهورية البندقية|جُمهُوريَّة البُندُقيَّة]] لِمُساعدته، وعرض عليها مشروعه الرامي بِالقضاء على الدولة العُثمانيَّة، وأنَّهُ يترتب على الدُول الأوروپيَّة، إن كانت تُريد الحُصُول على بعض المكاسب أن تتحرَّك من الروملِّي على أن تكون لها مصر، في حين يستأثر هو بِحُكم الشَّام بِالإضافة إلى الأناضول.<ref group="la" name="Inalcik1970209"/> لكن الغرب خيَّب أمل الشاه إذ كانت أغلب دوله مُنهمكة في مُشكلاتها الداخليَّة، في حين كانت البُندُقيَّة خارجة من [[بايزيد الثاني#حرب البُندُقيَّة|حربٍ خاسرةٍ]] مع العُثمانيين جلبت لها العار والانهيار الاقتصادي، فوجد الشاه نفسه وحيدًا في مُواجهة السُلطان سليم.<ref>{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=158}}</ref>
[[ملف:Selim I in battle.jpg|تصغير|يمين|السلطان سليم الأوّل يخوض المعركة على صهوة جواده.]]
واتصل السلطان الغوري بنائب دمشق من قبل المماليك، "[[جان بردي الغزالي]]"، وطلب منه أن يجمع الجيوش في [[لبنان]] و[[سوريا]] ويسير لملاقاته في [[حلب]]، فطلب الغزالي بدوره من أمراء لبنان، وعلى رأسهم "[[فخر الدين المعني الأول|فخر الدين المعني الأوّل]]"، أمير [[الشوف]]، أن يجمعوا قواتهم ويحضروا إليه. نزل فخر الدين الأول وباقي الأمراء عند رغبة الغزالي، ومشوا إليه على رأس قوّة من الجنود اللبنانيين.<ref name="وضع لبنان ودوره">المصور في التاريخ، الجزء السادس، تأليف: بهيج عثمان، شفيق جحا، منير البعلبكي. دار العلم للملايين، صفحة 138</ref> تقابل الجيشان، العثماني والمملوكي، بالقرب من مدينة حلب في واد يُقال له "[[مرج دابق]]"،<ref name="Mameluke">The Mameluke; Or, Slave Dynasty of Egypt, 1260-1517, A. D. - By William Muir Published by Smith, Elder, 1896,Public Domain</ref> وهناك نشبت المعركة الحاسمة بين الفريقين التي قررت مصير [[سوريا]] كلها، وأبدى المماليك في هذه المعركة ضروبًا من الشجاعة والبسالة، وقاموا بهجوم خاطف زلزل أقدام العثمانيين، وأنزل بهم خسائر فادحة، حتى فكّر السلطان سليم في التقهقر، وطلب الأمان، غير أن هذا النجاح في القتال لم يدم طويلا فسرعان ما دب الخلاف بين فرق المماليك المحاربة، حيث انقلب الغزالي على المماليك، وانضم هو وفخر الدين المعني الأوّل إلى قوّات السلطان سليم، فقاتلا معه. وبذلك رجحت كفّة العثمانيين على كفّة [[قنصوه الغوري]].<ref name="وضع لبنان ودوره" /> وكان [[مدفعية|لسلاح المدفعيّة]] الذي عززه العثمانيين وأهمله المماليك كبير الأثر في نصر العثمانيين.<ref name="مرج دابق" /> وقُتل السلطان الغوري أثناء انسحاب المماليك وسنّه ثمانون سنة، وكان ذلك يوم الأحد في [[24 أغسطس]] سنة [[1516]]م، الموافق في [[25 رجب]] سنة [[922هـ]].<ref name="مرج دابق" />
[[ملف:Fakhreddin I & Yauz sultan Selim.png|تصغير|الأمير فخر الدين المعني الأوّل يلقي خطابه بين يديّ السلطان سليم في [[دمشق]].]]
وبعد هذه الموقعة احتل السلطان سليم بكل سهولة مدن [[حماه]] و[[حمص]] و[[دمشق]]، وعيّن الغزالي واليًا عليها مكافأة له على انحيازه للعثمانيين،<ref name="وضع لبنان ودوره" /> وقابل من بها من العلماء، فأحسن وفادتهم. وفرّق الإنعامات على [[مسجد|المساجد]] وأمر بترميم [[المسجد الأموي]] بدمشق. ولمّا [[صلاة الجمعة|صلّى السلطان الجمعة]] به، أضاف له الخطيب عندما دعا له عبارة "''حاكم الحرمين الشريفين''"، لكن سليمًا فضّل استخدام لقب أكثر ورعًا هو "''خادم الحرمين الشريفين''"،<ref>[http://www.sevgi.k12.tr/~ottomanempire/ingosmanli/Sultans/yavuz_sultan_selim_government.htm Yavuz Sultan Selim Government] Retrieved on 2007-09-16</ref><ref name="The Classical Age, 1453-1600">[http://www.turizm.net/turkey/history/ottoman2.html The Classical Age, 1453-1600] Retrieved on 2007-09-16</ref> واستمر باقي السلاطين من بعده يُلقبون به، وتوارثه بعدهم ملوك [[آل سعود]] في [[القرن العشرين]]. كذلك اسقبل السلطان وفدًا من أمراء لبنان جاء يهنئه بالنصر، وكان في عداد الوفد "فخر الدين المعني الأوّل" أمير [[الشوف]]، و"عسّاف التركماني" أمير [[كسروان]] و[[جبيل]]، و"جمال الدين الأرسلاني". فألقى الأمير فخر الدين بين يديّ السلطان سليم خطبة دعا له فيها بالعز والتوفيق وأن يجعل الله عهده عهد إسعاد للأمة الإسلامية.<ref name="وضع لبنان ودوره" /> فأعجب السلطان ببلاغة فخر الدين إعجابًا شديدًا، لا سيما وأنه كان يفهم ويتحدث [[لغة عربية|اللغة العربية]] بطلاقة،<ref>المصور في التاريخ، الجزء السابع. تأليف: شفيق جحا، بهيج عثمان، منير البعلبكي. دار العلم للملايين. علاقة المعنيين بالعثمانين، صفحة 17</ref> فقدّم فخر الدين على سائر الأمراء اللبنانيين ومنحه لقب "سلطان البر" وأقرّه على ولاية [[الشوف]] وما جاورها، واعترف له بحق سلالته من بعده في أن يحكموها، كما أقرّ باقي الأمراء على مناطقهم. أما الأمراء التنوخيون الذين بقوا موالين للمماليك أثناء [[معركة مرج دابق]]، فقد عزلهم السلطان سليم عن بلاد الغرب - أي المناطق الساحلية الواقعة بين [[بيروت]] و[[صيدا]]، وعيّن مكانهم الأمير جمال الدين الأرسلاني.<ref name="وضع لبنان ودوره" /> وبضم [[بلاد الشام]]، وصلت [[مساحة]] [[الدولة العثمانية]] إلى 5,200,000 كم<sup>2</sup>.<ref name="Osmanlı Tarihi">{{cite book | last1 = Şahiner | first1 = Atilla | title = Osmanlı Tarihi | year = 2008 | publisher = Lacivert Yayıncılık | language = التركيّة | id = ISBN 978944759021 | page = 107 | chapter = Sultan (I.) Selim (Yavuz)}}</ref>


تمركز الشاه إسماعيل في ميمنة جيشه، وكان على قيادة الميسرة والي [[ديار بكر الصفوية|ديار بكر]] مُحمَّد خان أُستاجلوه، ولم يكن هُناك فيلقٌ مركزيّ مُستقل. شكَّل الخيَّالة التُركمان مُعظم عناصر الجيش الصفوي، وكانوا قد فُرزوا حسب ألويتهم وإيالاتهم، وعلى رأس كُلِّ فرقةٍ منهم أُمراءٌ تُركُمانٌ أيضًا. وكان هؤلاء أشد جُنُود الشاه تعصُّبًا لِمذهبهم وإخلاصًا لِشخصه، بحيثُ لم يكن أحدهم لِيتوانى عن التضحية بِروحه في سبيل سيِّده.<ref name="أوزتونا4"/> ولم يكن لِلشاه مدفعيَّة ولا مُشاة من حملة البنادق،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Floor|2=2001|ص=189|لغة=en}}</ref> لكنَّهُ استعاض عن ذلك بِفعاليَّة وكفائة فُرسانه.<ref name="مانتران"/> أمَّا في الجانب العُثماني، فقد وقف بكلربك الأناضول سنان باشا الخادم مع عساكر الأناضول وأُمرائها في الميمنة، وبكلربك الروملِّي حسن باشا مع عساكر تلك البلاد وأُمراء سناجقها في الميسرة، وذلك حسب العُرف العُثماني القاضي بأنَّ الحملة لو كانت في الروملِّي يقف بكلربكها في الميمنة وفي العكس بالعكس؛ ووقف السُلطان في القلب. وجُعلت عجلات [[مدفع|المدافع]] أمام الجُند، ورُبطت ببعضها بِالسلاسل، وسُدَّت ساقة العسكر [[جمل عربي|بِالجمال]] والأحمال والأثقال، وقام الإنكشاريَّة [[مكحلة (سلاح)|بِالمكاحل]] الكبيرة فيما بين عجلات المدافع بين يديّ السُلطان، وقام في جنبيه الصدر الأعظم أحمد باشا بن هرسك، والوزيرين أحمد باشا بن دوقاقين ومُصطفى باشا، وعيَّن لِإمارة الطليعة علي بك بن شهسوار في جمعٍ من أشجع الجُنُود لِمدد الطرفين، وشادي باشا لِإمارة [[ساقة الجيش|الساقة]].<ref name="منجم6">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=645-651}}</ref> ومن المُؤكَّد أنَّ الجيش العُثماني هذا كان حينذاك أحد أقوى جُيُوش عصره من حيثُ عدد الجُنُود ونوعيَّة الأسلحة الناريَّة وكذلك من حيثُ كفاءة من يستخدمونها،<ref name="مانتران"/> بل إنَّ الجُيُوش العُثمانيَّة كانت الوحيدة في العالم التي تستخدم المدافع في الحُرُوب الميدانيَّة، في حين كانت بقيَّة الدُول تستخدمها في قصف ودكّ الأسوار والقلاع.<ref name="أوزتونا4"/>
=== فتح مصر ===
[[ملف:A painting in Chehel Sotoun1.jpg|تصغير|يمين|جداريَّة في قصر [[الأربعون عمودا|چهل‌ستون]] [[أصفهان|بأصفهان]] تُصوِّر واقعة چالديران. يظهر العُثمانيُّون يمينًا والصفويُّون يسارًا.]]
{{رئيسي|معركة الريدانية}}
[[ملف:"Shah Ismail at the Battle of Chaldiran", from Bijan’s Tarikh-i Jahangusha-yi Khaqan Sahibqiran.jpg|تصغير|[[منمنمة فارسية|مُنمنمة فارسيَّة]] تُصوِّرُ هُجُوم الصفويين على ميسرة العُثمانيين، ويظهر الشاه إسماعيل في المُقدِّمة شاهرًا سيفه، والسُلطان سليم في أعلى الزاوية اليُسرى.]]
[[ملف:Yavuz Mısır Seferi.jpg|تصغير|يمين|رسم للسلطان سليم في أثناء حملته على مصر.]]
بدأت المعركة بِهُجُوم الصفويين بِقيادة الشاه نفسه على ميسرة السُلطان، فقاتلهم قتالًا شديدًا حتَّى يُقال أنَّهُ استبدل الفرس الذي تحته سبع مرَّاتٍ، وهجم مُحمَّد خان أُستاجلوه على الميمنة العُثمانيَّة، فأمر سنان باشا المدفعيَّة بأن لا يُطلقوا نيرانهم إلى أن يُعلمهم، وما أن قربت صُفُوف الفُرسان القزلباشيين حتَّى نادى الباشا بإشعال المدافع، فحُصد الصفويُّون حصدًا وهلك منهم الكثير، في حين أُصيب الباقون بِالدهشة والرُّعب، فهاجمهم العُثمانيُّون وقتلوا أغلبهم، وكان من جُملة القتلى مُحمَّد خان أُستاجلوه نفسه، فانكسرت بذلك ميسرة الصفويين انكسارًا تامًّا.<ref name="منجم6"/> أمَّا الميمنة الصفويَّة بِقيادة الشاه فتمكَّنت من تفريق عساكر الروملِّي وقتلوا كثيرًا منهم، وكان من جُملة مشاهير أُمراء الروملِّي الذين قُتلوا: علي بك وشقيقه طور علي بك ابنا بالي بك بن مالقوج قائد غزوة [[كراكوف|قراقوه (كراكوڤ)]] عاصمة [[مملكة بولندا (1385-1569)|مملكة بولونيا]] خلال عهد السُلطان بايزيد الثاني، وكان أحدهما أمير [[صوفيا]] والآخر أمير سيلسترة؛ وكذلك أمير [[المورة]] حسن بك، وفيروز بك، وسُليمان باشا، ومُصطفى بك وإسكندر بك ابنا يوركج بك، وغيرهم. وجُرح البكلربك حسن باشا، وأخرجه أتباعه من أرض المعركة لكنَّهُ مات بعد ذلك بِقليل. ولمَّا رأى السُلطان انكسار ميسرته أرسل إليهم جمعًا من الإنكشاريَّة لِمددهم، فأطلق الإنكشاريُّون نيرانهم على الصفويين حتَّى دفعوهم عن قصد قلب الجيش وأجبروهم على الإلتفاف ورائه، فوقعوا بين الأثقال والأحمال والتفَّت أرجلهم بِسلاسل الدواب، فانقضَّ عليهم العُثمانيُّون يقتلون ويأسرون.<ref name="منجم6"/> وجُرح الشاه على [[عظم عضد|عضُده]] في موضعين، ثُمَّ وقع فرسه في وحلٍ وألقاه عن ظهره، فانقضَّ عليه جمعٌ من العسكر العُثماني وكادوا أن يُمسكوا به لولا أن شغلهم أحد خواص الشاه المدعو ميرزا سُلطان علي، وكان مُشابهًا لِإسماعيل في الهيئة واللباس، فانخدعوا به وحاولوا أسره، في الوقت الذي ركب الشاه على فرس أحد حُرَّاسه ولاذ بِالفرار. وبهذا انكسر الصفويُّون كسرةً قبيحة، فقُتل أكثر أعيانهم وأُسر بعضهم، وكان من جُملة الأسرى زوجة الشاه «[[تاجلي بيجوم|تاجلي خانُم]]»، وقيل بل هي «بهروزة خانم»،<ref name="منجم6"/> ولم يقبل السُلطان أن يرُدَّها لِزوجها بل زوَّجها لِأحد كُتَّاب يده انتقامًا من الشاه.<ref name="تبريز">{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=190-191}}</ref> ولمَّا تمَّت الهزيمة على الصفويين ولم يفلت منهم غير قليلٍ من الجرحى؛ نهب الجُند العُثمانيُّون مُعسكرهم إلى الصباح، فغنموا ما لا يُعد ولا يُحصى، وقُسِّمت الغنائم بين السُلطان والعسكر، وطيَّب السُلطان الجُنُود بِالترقيات،<ref name="منجم6"/> ثُمَّ أمر أحمد باشا بن دوقاقين بِتعقُّب الشاه إسماعيل وسائر الفارِّين إلى تبريز،<ref name="عباس">{{استشهاد مختصر|1=صباغ|2=1999|ص=130}}</ref> ثُمَّ سار هو أيضًا في عقبهم.<ref name="منجم6"/>
بعد أن انتصر السلطان سليم على المماليك في [[سوريا]]، فُتحت أمامه الطريق نحو [[فلسطين]] و[[مصر]].<ref name="Sakaoğlu">Sakaoğlu, N. (1999), ''Bu Mülkün Sultanları''. İstanbul, Oğlak Yayınları s.123. ISBN 975-329-299-6</ref> هذا ولما وصل خبر موت السلطان الغوري إلى مصر، انتخب المماليك "[[طومان باي]]" خلفًا له،<ref name="Mameluke"/> وأرسل إليه السلطان سليم يعرض عليه الصلح بشرط اعترافه بسيادة [[الباب العالي]] على [[وادي النيل|القطر المصري]]، فلم يقبل وقتل المبعوثين العثمانيين،<ref name="Mameluke"/> واستعد لملاقاة الجيوش العثمانية عند الحدود. وبناءً على هذا، عزم السلطان سليم على قتال طومان باي، فاشترى عدّة آلاف من [[جمل عربي|الجمال]] وحمّلها مقادير وافرة من [[ماء|المياه]] ليشرب منها جنده وهم يجتازون ال[[صحراء]] إلى الأراضي المصرية.<ref name="فتح مصر">المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: بهيج عثمان، منير البعلبكي، شفيق جحا. دار العلم للملايين. صفحة 134-136</ref> والتقت مقدمتا الجيشين عند حدود [[بلاد الشام]] حيث هُزمت مقدمة المماليك،<ref name="Mameluke"/> وتابع العثمانيون زحفهم نحو [[مصر]]، فاحتلوا مدينة [[غزة]] على الطريق وساروا عابرين [[سيناء|صحراء سيناء]] حتى وصلوا بالقرب من [[القاهرة]]. وكان طومان باي مرابطًا في [[الريدانية|الريدانيّة]]، وهي قرية صغيرة تقع على الطريق المؤدية إلى القاهرة،<ref name="فتح مصر" /> فحفر خندقًا على طول الخطوط الأمامية، ووضع [[مدفع|مدافعه]] الكبيرة وأعد أسلحته و[[بندقية|بنادقه]] وحاول شحذ همة مماليكه وقواته ولكن دون جدوى؛ فقد جبن كثير منهم عن اللقاء حتى كان بعضهم لا يقيم بالريدانيّة إلا في خلال النهار حتى يراهم السلطان، وفي المساء يعودون إلى القاهرة للمبيت في منازلهم.<ref name="فتح مصر" /> ولم يكن من شأن جيش كهذا أن يثبت في [[معركة]] أو يصمد للقاء أو يتحقق له النصر، فحين علم طومان باي وهو في الريدانية بتوغل العثمانيين في البلاد المصرية حاول جاهدًا أن يقنع أمراءه بمباغتة العثمانيين عند [[الصالحية (مصر)|الصالحية]]، وهم في حالة تعب وإعياء بعد عبورهم ال[[صحراء]]، لكنهم رفضوا، معتقدين أن الخندق الذي حفروه بالريدانيّة كفيل بحمايتهم ودفع الخطر عنهم، لكنه لم يغن عنهم شيئًا، فقد تحاشت قوات العثمانيين التي تدفقت كالسيل مواجهة المماليك عند الريدانيّة عندما علمت تحصيناتها، وتحولت عنها، واتجهت صوب [[القاهرة]]، فلحق بهم طومان باي.<ref name="فتح مصر" />
[[ملف:Ottoman Mamluk horseman circa 1550.jpg|تصغير|مجسّم لجندي مملوكي بكامل درعه من [[القرن السادس عشر]].]]
وفي [[22 يناير]] سنة [[1517]]، الموافق في [[29 ذو الحجة|29 ذي الحجة]] سنة [[922هـ]]، التحم الفريقان في معركة هائلة،<ref name="الريدانية">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 193 ISBN 9953-18-084-9</ref> وعلى الرغم من الخيانة التي بدرت من بعض ضباط المماليك، فقد أبدى سلاح الفرسان المملوكي شجاعة كبيرة في ذلك اليوم، فلم تكد المعركة تبدأ حتى كرّت ثلّة من فرسان المماليك المدججين بالسلاح الكامل على قلب القوّات العثمانية حيث كانت تخفق راية السلطان الخاصة، وكان على رأس الثلّة [[طومان باي]] نفسه. والواقع أن السلطان سليم لم ينجُ من تلك الهجمة إلا بأعجوبة، فقد أخطأ طومان باي بينه وبين [[صدر أعظم|الصدر الأعظم]] "سنان باشا الخادم"، حيث قبض عليه وقتله بيده ظنًا منه أنه السلطان سليم.<ref>''E.J. Brill's First Encyclopaedia of Islam, 1913-1936'', Vol.9, Ed. Martijn Theodoor Houtsma, (BRILL, 1938), 432.</ref> غير أن ما أقدم عليه سلطان المماليك لم ينفع شيئًا، فذهبت كل جهوده أدراج الرياح أمام [[مدفع|المدافع]] العثمانية، فاضطر طومان باي ومن بقي معه إلى الانسحاب إلى نواحي [[الفسطاط]]، تاركين في ساحة الريدانية آلاف القتلى.<ref name="فتح مصر" /> وبهذا انتصر السلطان سليم على المماليك واستعدّ لدخول القاهرة، وكان الثمن الذي دفعه كلاً من العثمانيين والمماليك في هذه الحرب باهظًا للغاية، إذ بلغ مجموع خسائر الفريقين من الجنود حوالي 25,000 جندي.<ref>Dupuy, R. Ernest and Trevor N. Dupuy, '' The Harper Encyclopedia of Military History'', 4th Edition, (HarperCollins Publishers, 1993),540.</ref>


=== ضمّ العُثمانيين مدينة تبريز لِأوَّل مرَّة وعصيان الإنكشاريَّة ===
=== ما بعد الريدانيّة ===
[[ملف:Tabriz-16.PNG|تصغير|يمين|خريطة لِمدينة تبريز في [[القرن 16|القرن السادس عشر الميلادي]]، كما صوَّرها [[الجغرافيا في عصر الحضارة الإسلامية|الجُغرافي]] العُثماني [[نصوح السلاحي|نصوح بن قراكوز بن عبد الله البوسنوي]]، الشهير بِـ«السلاحي» أو «المطرقجي». دخلت المدينة تحت جناح الدولة العُثمانيَّة لِأوَّل مرَّة بُعيد انتصار السُلطان سليم في واقعة چالديران ضدَّ الصفويين سنة 1514م.]]
وبعد المعركة ببضعة أيام، تحديدًا في يوم [[23 يناير]] سنة [[1517]]، الموافق في [[8 محرم]] سنة [[923هـ]]،<ref name="الريدانية" /> دخل السلطان سليم مدينة [[القاهرة]] في موكب حافل وقد أحاطت به جنوده الذين امتلأت بهم شوارع القاهرة، يحملون الرايات الحمراء شعار [[الدولة العثمانية]]، وكُتب على بعضها "''إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا''"، وفي بعضها "''نصرٌ من الله وفتحٌ قريب''". ولم يكد السلطان يهنأ بهذا الفتح حتى باغته [[طومان باي]] في "[[بولاق]]"؛ واشترك معه المصريون في هذه الحملة المفاجئة، وأشعلوا في معسكر سليم الأول النيران، وظن الناس أن النصر آت لا محالة، واستمرت مقاومة المماليك أربعة أيام وليال، وظهروا فيها على العثمانيين، حتى إنه خطب لطومان باي في القاهرة في يوم الجمعة، وكان قد دعي لسليم الأول في الجمعة التي سبقتها، غير أن هذا الفوز لم يحسم المعركة لصالح طومان باي؛ إذ سرعان ما لجأ الجنود العثمانيون إلى [[بندقية|سلاح البنادق]]، وأمطروا به من فوق [[مئذنة|المآذن]] الأهالي والمماليك، فأجبروهم على الفرار، وفرَّ طومان باي إلى "البهنا" التي تقع غربي [[النيل]] في جنوب القاهرة. وذهب ضحيّة هذه المناوشات من العثمانيين والمماليك وأهالي المدينة ما يبلغ خمسين ألف نسمة.<ref name="الريدانية" />
بعد هزيمته النكراء، أدرك الشاه إسماعيل عدم إمكانية الدفاع عن عاصمته تبريز، فتركها وهرب من أمام أحمد باشا بن دوقاقين ولاذ بِمدينة [[خوي]].<ref name="أوزتونا4"/><ref name="عباس"/> وقيل بل التجأ إلى [[درجزين]] في الداخل الإيراني. ويُروى أنَّهُ لمَّا وصل تبريز مع جمعٍ من المُنهزمين، خرج أهلها لِاستقباله وأظهروا الشماتة به بِسبب ما أنزله بهم من ظُلمٍ وإجبارهم على تبديل مذهبهم، فأعطته عجوزٌ قطعة [[شمام|شمَّامٍ]] لِيدفع عطشه وقالت له: {{اقتباس مضمن|غَيِّر نِيَّتُك تُصِبْ خَيْرًا}}، ووقف الناس ناظرين إليه مُستهزئين، وكانوا قبل ذلك لا يقدرون على النظر إليه، بل كانوا يسجدون له حين يمُر بهم خوفًا من قهره وسطوته وجبروته، فأسرَّها الشاه في نفسه حتَّى حين، وانتقم من أهل المدينة شرَّ انتقامٍ حينما استرجعها بعد فترة.<ref name="منجم6"/> وفي [[14 رجب]] [[920 هـ|920هـ]] المُوافق فيه [[4 سبتمبر|4 أيلول (سپتمبر)]] [[1514]]م، دخل السُلطان سليم تبريز في أُبَّهةٍ بالغة،<ref name="تبريز"/> وأمَّن أهلها، و[[صلاة الجمعة|صلَّى الجُمُعة]] في [[جامع تبريز|مسجدها الجامع]] بعد أن أمر بِإظهار الشعائر السُنيَّة وإعادتها كما كانت قبل الصفويين، فتُليت [[خطبة الجمعة|الخطبة]] باسم السُلطان وذُكر فيها أسماء [[الخلفاء الراشدون|الخُلفاء الراشدين]].<ref name="أوزتونا4"/><ref name="منجم6"/> أقام السُلطان وجُنُوده في تبريز نحو تسعة أيَّام أعلن خلالها عن عزمه التوغُّل في عُمق الأراضي الإيرانيَّة لِلقبض على الشاه ومُعاقبته وإفناء دولته، واستشار في ذلك الأُمراء والأعيان وعرض عليهم الإشتاء إمَّا في تبريز أو في [[قره باغ|قره‌باغ]]، فرفضوا ذلك،<ref name="منجم6"/> وفي نفس الوقت ثارت الإنكشاريَّة ورفضت التقدُّم أكثر أو المُكُوث لِفترةٍ أطول في بلاد العدُّو، إذ إنَّ المؤن قد أخذت في النفاذ، واشتدَّ الغلاء بِفعل إقدام السُلطان المملوكي قانصوه الغوري على منع مُرُور المؤن والذخيرة إلى العُثمانيين عن طريق حلب. كما أنَّ الشاه عمد قبل انسحابه إلى إحراق ما لديه من حُبُوبٍ ومُؤن، وباتت الجُيُوش العُثمانيَّة مُتعبة بعد أن خسرت في چالديران بعض قادتها.<ref name="الانسحاب">{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=160-161}}</ref> ويرى المُؤرِّخ [[بريطانيون|البريطاني]] [[أرنولد توينبي]] أنَّ السبب في عصيان الجُنُود العُثمانيُّون وبِالأخص الإنكشاريَّة، أنَّهم كانوا جيشًا أوروپيًّا قلبًا وقالبًا ومن العسير عليهم استيطان أرضًا آسيويَّة، فعندما اتجهوا صوب الشرق وراء الحُدُود القديمة لِلمُجتمع الرومي الأرثوذكسي في الأناضول، شعروا بِأنَّهم غُرباء تمامًا عن تلك البلاد.<ref name="عبد العزيز">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=70}}</ref>


أمام هذا الواقع، وخوفًا من قيام الفتنة بين العسكر، استجاب السُلطان لِجُنده وأمرائه ونادى بٍالرُجُوع، فاستولى على خزائن الشاه وأرسلها إلى إسلامبول، كما أمر بِإجلاء نحو ألف بيتٍ من أصحاب المعارف وأرباب الصنائع من أهل تبريز، ورتَّب زادهم وراحلتهم على أكمل وجه، وعيَّن على رعايتهم أميرًا كبيرًا من أُمرائه، ثُمَّ عيَّن لهم منازل ومساكن ووظائف عند وُصُولهم إلى دار السلطنة، بحيثُ نسوا أوطانهم بِالكُليَّة.<ref name="منجم6"/> وكان أبرز من أرسلهم السُلطان سليم إلى إسلامبول آخر الأٌمراء [[الدولة التيمورية|التيموريين]] [[بديع الزمان ميزرا]] بن [[حسين بايقرا|حُسين بايقرا]]، حفيد حفيد [[تيمورلنك]]، وكان قد لجأ إلى الشاه إسماعيل عندما طرده من دار مُلكه [[هراة]] [[محمد شيباني خان|مُحمَّد خان الشيباني]] صاحب [[خانية بخارى|بُخارى]]، ولقي احترامًا من الشاه، وقد أبدى لهُ السُلطان سليم احترامًا أكبر وخصَّص لهُ راتبًا كبيرًا، وأجلسهُ على عرشٍ أقامه بِجانبه.<ref name="أوزتونا4"/> وفي [[25 رجب]] [[920 هـ|920هـ]] المُوافق فيه [[15 سبتمبر|15 أيلول (سپتمبر)]] [[1514]]م، غادر السُلطان تبريز عائدًا إلى الأناضول، فلمَّا وصل إلى شاطئ [[نهر آراس|نهر الرس]] أمر بِدُخُول قره‌باغ لِلإشتاء فيها كما عزم سابقًا، فامتنعت الإنكشاريَّة عن ذلك بِحُجَّة اشتداد البرد وعدم وُجُود الملابس والمؤونة اللازمة،<ref name="تبريز"/> واتَّفق قادة هذه الطائفة مع عدَّة أُمراءٍ ووُزراءٍ على تحويل عزم السُلطان إلى آسيا الصُغرى، فاضطرَّ سليم إلى الانصياع لهم لمَّا رأى اتفاقهم، وكتم غيظه منهم لِفترةٍ قصيرة، وأضمر لهم عقابًا شديدًا.<ref name="منجم6"/>
ظل طومان باي يعمل على المقاومة بما تيسر له من وسائل، واجتمع حوله كثير من الجنود وأبناء [[صعيد مصر|الصعيد]] حتى قويت شوكته، غير أنه أدرك أن هذا غير كاف لتحقيق النصر، فأرسل إلى سليم يفاوضه في الصلح، فاستجاب له السلطان العثماني، وكتب له كتابًا بهذا، وبعث به مع وفد من عنده إلى طومان باي، إلا أن بعض المماليك هاجموا الوفد وأفنوه عن بكرة أبيه،<ref name="فتح مصر" /> فحنق السلطان سليم وغضب غضبًا شديدًا، وخرج لقتال طومان باي بنفسه، والتقى الجيشان قرب قرية "الوردان" [[الجيزة|بالجيزة]] حيث دارت معركة حامية استمرت يومين وانتهت بهزيمة طومان باي وفراره إلى [[البحيرة (محافظة)|البحيرة]].<ref name="فتح مصر" /> وهنا أعلن السلطان سليم أنه يعفو عمّن يستسلم إليه من المماليك، فاستسلم ثمانمئة من زعمائهم إليه، ولكنه أمر بقتلهم جميعًا.<ref name="فتح مصر" />
[[ملف:Mısırseferihümayun.jpg|تصغير|السطان سليم والجيش العثماني في مصر.]]
لجأ طومان باي إلى أحد مشايخ [[بدو|البدو]] بإقليم البحيرة طالبًا منه العون والحماية فأحسن استقباله في بادئ الأمر، ثم وُشي به إلى السلطان سليم، فسارع بإرسال قوة للقبض عليه فأتت به إليه. وكان السلطان قد أُعجب بشجاعة [[طومان باي]] وحزمه على القتال والدفاع عن ملكه على الرغم من كل العوائق، فلم يفعل شيئًا سوى معاتبته واتهامه بقتل أفراد الوفد الذي أرسله إليه للصلح، فنفى طومان باي التهمة عن نفسه، وبرر استمراره في القتال بإن الواجب يُحتم عليه ذلك.<ref name="Mameluke"/> وكاد السلطان من شدّة إعجابه بجرأة وشجاعة طومان باي أن يعفو عنه، ولكنه لم يفعل تحت تأثير الوشاة الذين حرّضوا السلطان على قتله بحجة أن لا بقاء لملكه في [[مصر]] ما دام طومان باي على قيد الحياة. عندئذ أمر السلطان بقتل طومان باي [[شنق|شنقًا]]، فنُفذ أمره في [[13 أبريل]] سنة [[1517]]، الموافق في [[21 ربيع الأول]] سنة [[923هـ]] بباب زويله، ودُفن الجثمان في القبر الذي كان [[قنصوه الغوري|السلطان الغوري]] قد أعدّه لنفسه.<ref>
"The Soul of Old Cairo" ([[مذكرات|memoir]]),
''"the Courier"'' of [[UNESCO]], May 2000, webpage:
[http://www.unesco.org/courier/2000_05/uk/dici.htm UNESCO-2000-Dici].
</ref> وبذلك انتهت دولة المماليك وسقطت [[خلافة عباسية|الخلافة العبّاسية]]، وأصبحت مصر ولاية عثمانية.


=== عودة السُلطان إلى إسلامبول وضمِّه بعض بلاد الجزيرة وأرمينية ===
مكث السلطان سليم بالقاهرة نحو شهر زار في خلالها جميع المساجد التاريخية بالمدينة وكل ما بها من الآثار، ووزع على أعيان المدينة العطايا والخلع السنيّة،<ref>[http://www.altareekh.com/Pages/Subjects/Default.aspx?id=430&cat_id=63 التاريخ: الدولة العثمانيـة (13) : سـليـم الأول (918 - 926هـ)]</ref> وحضر الإحتفال الذي يُقام في مصر سنويًا لفتح الخليج الناصري عند بلوغ [[النيل]] الدرجة الكافية لريّ الأراضي المصرية، ثم حضر احتفال سفر [[الحج في الإسلام|قافلة الحجاج]] التي تُرسل معها كسوة [[كعبة|الكعبة]] إلى [[الحجاز|الأراضي الحجازية]] وأرسل الصرّة المعتاد إرسالها إلى [[الحرمين الشريفين]]، من عهد السلطان [[محمد الأول|محمد "چلبي" الأوّل]]، بقصد توزيعها على الفقراء، وأبلغها إلى ثمانية وعشرون ألف دوكا.<ref name="بعد الريدانية">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 194-195 ISBN 9953-18-084-9</ref> وفيما كان السلطان سليم في القاهرة قدّم إليه [[شريف مكة]]، "محمد أبو نمي بن الشريف بركات"، مفاتيح الحرمين الشريفين كرمز لخضوعه وكاعتراف بالسيادة العثمانية على الأراضي المقدسة الإسلامية؛ وكانت هذه السيادة لسلاطين المماليك من قبل، وهكذا خضع [[الحجاز]] لسيطرة العثمانيين من غير حرب أو قتال.<ref name="فتح مصر" /> ومما جعل لفتح [[وادي النيل]] أهمية تاريخية عظمى، أن [[المتوكل على الله الثالث|محمد الثالث "المتوكل على الله"]]، آخر ذريّة [[خلافة عباسية|بني العبّاس]]، الذي حضر أجداده [[القاهرة]] بعد [[سقوط بغداد (1258)|الغزو المغولي لبغداد سنة 1258]]، وكانت له الخلافة بمصر اسمًا،<ref>Thompson, J., ''A History of Egypt'', AUC Press 2008, p. 194; Vatikiotis, P.J., ''The History of Modern Egypt'', The Johns Hopkins University Press, 1992, p.20</ref> تنازل عن حقه في [[خلافة إسلامية|الخلافة الإسلامية]] إلى السلطان سليم، على الرغم من أن الأخير كان قد أعلن نفسه قبلاً خليفة للمسلمين في دمشق،<ref name="فتح مصر" /> وسلّمه الآثار النبوية، وهي بيرق وسيف وعباءة نبي الإسلام "[[محمد|محمد بن عبد الله]]".<ref name="shsu.edu"/> ومن ذلك التاريخ حمل كل سلطان عثماني لقب "[[أمير المؤمنين]]" و"[[قائمة الخلفاء|خليفة المسلمين]]".
سار موكب السُلطان سليم حتَّى بلغ [[رواندز]] حيثُ عزل مُصطفى باشا عن الوزارة كونه كان من جُملة مُحركي الإنكشاريَّة على العصيان، ثُمَّ أرسل جمعًا من الجُند لِضمِّ مدينة [[بايبرد|بايبُرد]]، فسيطروا عليها دون عناء وأرسلوا مفتاحها إلى السُلطان، فأقطعها وأرزنجان لِأمير آخوره مُحمَّد باشا البيقلي، وضمَّ إليها طربزون و[[شبين قره حصار|شبين قره‌حصار]] وجانيك، وفوَّض إليه مُحافظة تلك الثُغُور لِحُسن تدبيره وشجاعته. وفي تلك الفترة وصلت إلى السُلطان شكاوى عددٍ من أهالي قُرى ونواحي تلك البلاد يطلبون منه إنصافهم من تطاول بعض الجُند وتعدِّيهم على الآمنين، فغضب السُلطان من هذه الأخبار وحمَّل الصدر الأعظم أحمد باشا بن هرسك والوزير أحمد باشا بن دوقاقين مسؤوليَّة هذه التعدِّيات كونهما مُكلفين بِضبط العسكر، ولِدرايته بأنَّهما كانا يتفقان معهم في سوء الأدب، ولِشدَّة غضبه أمر بِهدم خيمتيهما عليهما، ثُمَّ أخرجهما وعزلهما عن منصبهما.<ref name="منجم7">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=652-657}}</ref> بعد هذه الحادثة سار السُلطان حتَّى بلغ نيكسار ومنها توجَّه إلى أماسية وشتى فيها، وأذن لِلعسكر بِالعودة إلى أوطانهم وأمرهم بِالاجتماع في الربيع لِغزو الصفويين مُجددًا. خِلال فترة إشتاء السُلطان، حصلت بضع وقائع أبرزها ضمّ مدينة بوزاق وأعمالها في [[جنوب شرق الأناضول]]، وإعدام الوزير أحمد باشا بن دوقاقين بعد أن أثار الإنكشاريَّة وحرَّكهم على نهب بيت [[دفتردار|الدفتردار]] پيري باشا ومُعلَّم السُلطان حليمي چلبي. وكان الشاه إسماعيل قد رجع إلى تبريز وأدرك عزم السُلطان سليم العودة إليه قريبًا،<ref name="منجم7"/> فحاول من جديد أن يُوقِّع صُلحًا مع العُثمانيين، فبعث إليه سفيرين هُما كمال الدين حُسين بك وبهران آقا، وحمَّلهما هدايا فاخرة، ولكنَّ سليمًا رفض العرض وزجَّ بِالسفيرين في السجن.<ref name="جمعة والخولي">{{استشهاد مختصر|1=جمعة والخولي|2=1976|ص=86-87}}</ref> وفي روايةٍ أُخرى أنَّ سُفراء الشاه كانوا مير عبد الوهَّاب التبريزي والقاضي إسحٰق الحاوي والمولى شكر الله المعاني وحمزة خليفة بك وجمعٌ من القزلباشيين، وأنَّهم طالبوا السُلطان بِرد زوجة الشاه إليه، إلى جانب طلبهم الصُلح، فرفض وأمر بحبس مير عبد الوهَّاب والقاضي إسحٰق في قلعة يني حصار قُرب إسلامبول، ومن عداهما في قلعة ديموتيقة.<ref name="منجم7"/>


وكان السُلطان سليم أثناء عودته من تبريز قد لمس مدى بُغض [[كرد|القبائل الكُرديَّة]] لِلصفويين وكُرههم لِلشاه إسماعيل، فأرسل إليهم المولى [[إدريس البدليسي|حُسام الدين إدريس بن علي البدليسي]] لِاستمالتهم،<ref name="منجم7"/> وإقناعهم بِوُجُوب اتحاد المُسلمين السُنيين بِوجه تطرُّف الصفويين ومُغالاتهم، وفي مُقابل قُبُولهم الانضواء تحت الراية العُثمانيَّة، قطع السُلطان العُهُود والمواثيق لِلمُلُوك والأُمراء الأكراد بِعدم المس بِاستقلالهم الإداري أو بأن يُفرض عليهم أيُّ أمرٍ لا يرغبونه. والحقيقة أنَّ الأكراد كانوا قد أعلنوا الثورة على الشاه مُنذُ أن علموا بِانهزامه في چالديران، يدفعهم إلى ذلك ظُلمه وعُدوانه الشديدين وما ألحقه بهم من أذىً وإهانات، إذ أسر أحد عشر أميرًا من أُمرائهم رُغم أنَّهم قدَّموا له فُرُوض الطاعة والولاء، وعيَّن بدلًا منهم وُلاةً قزلباش في إماراتهم التي ورثوها أبًا عن جد.<ref>{{استشهاد مختصر|1=عيسى|2=2002|ص=33-35}}</ref> وكان من أبرز من وقع في أسر الشاه أمير [[حصن كيفا]] الملك خليل الأيُّوبي، آخر مُلُوك [[الدولة الأيوبية|بني أيُّوب]]، الذي بقي في سجنه بِتبريز ثلاث سنواتٍ كاملةٍ إلى أن نجا إثر انكسار الشاه أمام السُلطان سليم، فعاد إلى دار مُلكه.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Bruinessen|2=1992|ص=146|لغة=en}}</ref> نتيجة الاستياء العام من الصفويين في الوسط الكُردي، ولِانتظار أهالي [[الجزيرة الفراتية|الجزيرة الفُراتيَّة]] و[[كردستان|كُردستان]] و[[أرمينية (منطقة تاريخية)|أرمينية]] من يُخلِّصهم من التعسُّف الصفوي، بِالإضافة لِفصاحة المولى البدليسي ودبلوماسيَّته وخبرته بِالناس، وتأثير [[ولاية (إسلام)|الولاية]] التي كان يحمل لواءها، بدأت البلاد في المناطق المذكورة تنتفض وتثور على حُكم الشاه، وكان في مُقدمتها: [[آمد]] و[[بدليس]] وأرضروم و[[أرومية]] و[[العمادية|العماديَّة]] وپالو و[[سعرد]] و[[ميافارقين|ميَّافارقين]] وجمكازاد و[[ساسون]] وغيرها، وامتدَّت الانتفاضة حتَّى مدينتيّ [[كركوك]] و[[أربيل]].<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Özcan|2=2007|ص=485-486|لغة=en}}</ref>
وبعد أن أصبح السلطان خليفةً للمسلمين، خلع على نفسه لقب ''ملك البرّين، وخاقان البحرين، وكاسر الجيشين، وخادم الحرمين الشريفين'' - ويقصد بهذا، سيطرته على عدد من الدول الآسيوية والأفريقية، وبالتحديد [[مصر]]، [[الأناضول]]، ومعظم أنحاء [[الهلال الخصيب]]، وسيطرته على [[البحر المتوسط]] وما يتفرع عنه من بحور، والبحار المتفرعة من [[المحيط الهندي]]، وهزيمته للجيوش الصفويّة والمملوكيّة، وحمايته للمدينتين المقدستين عند المسلمين، [[مكة]] و[[المدينة المنورة]].


أمَّا السُلطان سليم فقد جدَّد حملته على المناطق الصفويَّة ما أن أقبل الربيع، فأرسل مُحمَّد باشا البيقلي لِاستخلاص قلعة كماخ جنوب شرق الأناضول في جماعةٍ من الجيش، ثُمَّ خرج هو من أماسية يوم [[5 ربيع الأول|5 ربيع الأوَّل]] [[921 هـ|921هـ]] المُوافق فيه [[18 أبريل|18 نيسان (أبريل)]] [[1515]]م، فتوجَّه إلى أرمينية وسيطر على مدينة [[يريفان|أريوان]]، ثُمَّ سار في عقب مُحمَّد باشا لِيجده قد ضيَّق على المحصورين بِالقصف والقتال، وما أن وصل السُلطان حتَّى فُتحت القلعة بِحد السيف، فأمر سليم بِقتل كُل من وُجد فيها من القزلباش المُحاربين، وأسر أهلهم وعيالهم. وأمر أيضًا بِتعمير القلعة وبناء بُرجٍ آخر فيها لتِحصينها، وولَّى عليها أحمد بك بن قراجين.<ref name="منجم7"/>
== بداية الصدام مع البرتغاليين ==
=== خلفيّة النزاع ===
{{طالع أيضا|ألفونسو دي ألبوكيرك|الغزو البرتغالي للخليج العربي}}
[[ملف:Afonso de Albuquerque 2.jpg|تصغير|[[ألفونسو دي ألبوكيرك]]، قائد العمليّات البحرية البرتغالية في [[البحر الأحمر]] و[[الخليج العربي]].]]
نشط البرتغاليون عبر عملياتهم العسكرية البحرية على مدن [[المغرب العربي]] الساحلية بالإضافة إلى [[المحيط الاطلسي]]،<ref>{{cite web|author=Encyclopædia Britannica |url=http://www.britannica.com/EBchecked/topic/13157/Afonso-de-Albuquerque |title=Afonso de Albuquerque - Britannica Online Encyclopedia |publisher=Britannica.com |date= |accessdate=2010-08-22}}</ref> فبعد اكتشافهم ل[[رأس الرجاء الصالح]] وضع البرتغاليون خطة كبرى هدفت الالتفاف حول العالم الإسلامي عبر المحيط الأطلسي، واقتضت الخطة السيطرة على المضائق المهمة التي تربط [[الوطن العربي|العالم العربي]] ب[[المحيط الهندي]] من مثل [[مضيق هرمز]] و[[باب المندب]] و[[اليمن]] وجزيرة هرمز وغيرها بحيث يتأمن الطريق للمستعمرات البرتغالية في [[الهند]].<ref name="العمانيون رواد البحار">صالح محمد العابد ،الصراع البحري العماني - البرتغالي في الخليج، المعهد الدبلوماسي، وزارة الخارجية العمانية، محاضرات الدورة التاسعة 1994م</ref>


=== ضم إمارة ذي القدريَّة ===
أرادت البرتغال من هذه الخطة ضرب اقتصاد مصر وجمهورية البندقية وإحتكار التجارة البحرية، وقد عُين "[[ألفونسو دي ألبوكيرك]]" قائدًا لهذه الحملة البحرية، وقد كان من أفكار البوكيرك دخول [[البحر الأحمر]] وسرقة قبر النبي محمد ومساومة المسلمين على [[القدس]]،<ref name="مسيحيين مكة" /> بالإضافة إلى محاولة ربط [[النيل]] بالبحر الأحمر تمهيدا للهجوم على مصر.<ref name="ألفونسو" />
{{أيضا|معركة طورنه طاغ}}
[[ملف:Akkoyunlu Elvend Mirzâ’nın Alaüddevle Bey’in huzuruna gelmesi.png|تصغير|يمين|مُنمنمة فارسيَّة تُصوَّرُ الأمير علاء الدولة بوزقورد بك جالسًا على عرشه.]]
ما أن تمَّ أمر فتح كماخ، أرسل السُلطان بكلربك الروملِّي سنان باشا الخادم في نحو خمسة عشر ألف مُقاتل لِتسخير إمارة ذي القدريَّة وأخذها من يد الأمير علاء الدولة بوزقورد بك.<ref name="منجم7"/> وسبب ذلك أنَّ علاء الدولة لم يكتفِ بِرفض مُرافقة العُثمانيين إلى حرب الصفويين كما أُسلف، بل اتخذ موقفًا عدائيًّا من الجُيُوش العُثمانيَّة أثناء مُرورها بِأراضي إمارته، فرفض تزويد العُثمانيين بِالإمدادات والمُساعدات، وأمر أهل [[مرعش (مدينة)|مرعش]] ألَّا يبيعوا لِعسكر السُلطان سليم شيئًا من المأكل ولا من غيرها، كما سمح لِلتُركُمان بِالإغارة على الجُند الزاحفين وهزم طائفةً منهم ونهب ما معها.<ref name="عبد العزيز"/> وكان السُلطان سليم قد أرسل بعد ذلك إلى نظيره المملوكي قانصوه الغوري يُخبره بِتصرُّف علاء الدولة العدائي، ويطلب منه كبح جماحه على اعتبار أنَّ إمارة ذي القدريَّة كانت مشمولةً بِحماية المماليك. فأجاب الغوري قائلًا: {{اقتباس مضمن|إِنَّ عَلَاءَ الدَّوْلَة عَاصِي أَمْرِي، فَإِنْ قَدَرْت عَلَيْهِ فَاقْتُلْه}}، ثُمَّ أرسل كتابًا آخرًا بِالخفية إلى علاء الدولة يشكُره على ما فعل، ويُغريه بِقتال سليم ولا يُمكِّنه من شيءٍ أبدًا.<ref name="عبد العزيز" /> والحقيقة أنَّ موقف السُلطان الغوري هذا وتغيُّر سياسته تجاه العُثمانيين، كان نابعًا من شُكُوكه بِنوايا السُلطان سليم بعد انتصاره على الصفويين، فلم ينظر بِعين الارتياح لِهذا النصر، ولم يُظهر الفرحة والسُرُور أو يأمر بِتزيين [[القاهرة]] كما كان الحال في السابق مع كُلِّ انتصارٍ عُثمانيّ، وفي ذلك يقول [[ابن إياس]]: {{اقتباس مضمن|فَلَمَّا حَضَرَ قَاصِد سُلَيْم شَاه بْنُ عُثْمَانَ بَيْنَ يَدَيْ السُّلْطَانِ وَقُرِئَت مُكَاتَبَتَهِ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ أُخْلَعَ عَلَى الْقَاصِدِ الَّذِي حَضَرَ بِأَخْبَارِ هَذِه النُّصْرَة كَامِلِيَّة مُخْمَلٌ أَحْمَر كَفَوِيٌّ بِصمورٍ عَالٍ مَنْ مَلَابِيسِه، ثُمَّ نَزَلَ الْقَاصِد مِنَ القَلْعَةِ وَلَم يَرْسُم السُّلْطَان بِدَقّ الكُوسَاتِ بِالقَلْعَةِ، وَلَمْ يُنَادِ فِي الْقَاهِرَةِ بِالزِّينَةِ لِأَجْلِ هَذِهِ النُّصْرَة، وَلَمْ يُعْلَمْ مَا سَبَبُ ذَلِكَ}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984|ص=404}}</ref>
[[ملف:Fırat-Dicle Seferi-ar.png|تصغير|خريطة توضح مسار الحملات العسكريَّة العُثمانيَّة في كُردستان والجزيرة الفُراتيَّة وأرمينية بدايةً من ربيع سنة 1515م وانتهاءً بِصيف سنة 1516م. أفضت هذه الحملات إلى القضاء على النُفُوذ الصفوي في تلك البلاد وانتقالها بإجمالها إلى حوزة الدولة العُثمانيَّة واستمرارها على هذه الحال حتَّى سُقُوط الدولة المذكورة بعد نحو أربعة قُرُون.]]
أدرك السُلطان سليم تبدُّل سياسة الغوري تجاه العُثمانيين، وأنَّ الأخير يدعم علاء الدولة سرًّا، فمضى في حملته لِتسخير إمارة ذي القدريَّة، وأرسل علي بك بن شهسوار صُحبة سنان باشا، ولمَّا بلغ ذلك إلى علاء الدولة خاف وهرب من دار مُلكه [[البستان]] إلى جبل «طورنه طاغ» أولًا، فتتبعهُ سنان باشا حتَّى لقيه بسهل «گوکسون» يوم [[29 ربيع الآخر]] [[921 هـ|921هـ]] المُوافق فيه [[11 يونيو|11 حُزيران (يونيو)]] [[1515]]م، في نحو خمسةٍ وعشرين ألف فارسٍ من التُركُمان، [[معركة طورنه طاغ|فاقتتلوا شديدًا]]، وقُتل من الطرفين خلقٌ كثير، ثُمَّ قُتل علاء الدولة في المعركة،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Sevim & Yücel|2=1990|ص=242|لغة=en}}</ref> فانكسر أصحابه وتفرَّقوا، وقُتل جميع أولاده وأحفاده وعددٌ كبير من أعيان إمارته، وأُسر أخوه عبد الرزَّاق بك مع أولاده وجمعٌ من كبار ذي القدريَّة. فأرسل سنان باشا رُؤوس القتلى مع الأسارى إلى السُلطان سليم، فما كان من السُلطان إلَّا أن بعث بِرأس علاء الدولة وأحد أبنائه ووزيره إلى قانصوه الغوري ترعيبًا لهُ وتخويفًا.<ref name="منجم7"/> ولمَّا وصلت تلك الرؤوس إلى السُلطان الغوري شقَّ عليه ذلك واضطرب اضطرابًا شديدًا، وقال لِلقاصد: {{اقتباس مضمن|أَيْش أَرْسَل لِي؟ هَذِه الرُّؤُوس هِي رُؤُوس مُلُوك الْفِرِنْج انْتَصَر عَلَيْهِمْ حَتَّى أَرْسَلَهُم لِي؟}} ويُضيف ابن إياس أنَّ الغوري أمر بِدفن تلك الرُؤوس وبقي حينًا هو وأُمراء المماليك في شدَّة الاضطراب والنَّكد، ولزم [[قلعة صلاح الدين الأيوبي (القاهرة)|القلعة]] طيلة اليوم التالي حتَّى أُشيع بِأنَّهُ مرض من شدَّة خوفه.<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984|ص=262-263}}</ref> وفي [[6 جمادى الأولى|6 جُمادى الأولى]] المُوافق فيه [[17 يونيو|17 حُزيران (يونيو)]]، وصل سنان باشا إلى الركاب العالي، فأكرمهُ السُلطان وولَّاه الصدارة العُظمى. وأرسل حُكَّام قلاع ذي القدريَّة مفاتيحها إلى العتبة السُلطانيَّة، فرتَّب فيها سليم حامياتها وأمر بِتحصينها، ثُمَّ فوَّض ولاية تلك الديار إلى الأمير علي بك بن شهسوار الذي هو ابن أخ علاء الدولة. وبِذلك زالت إمارة ذي القدريَّة وأصبحت [[إيالة ذو القدر|سنجقًا]] من سناجق الدولة العُثمانيَّة، فكانت آخر ما زال من [[إمارات الأناضول|إمارات الأناضول التُركُمانيَّة]] التي وُلدت من رحم [[دولة سلاجقة الروم]]. ووُجدت في خزينة علاء الدولة غنائم نفيسة من الجواهر والنُقُود، فضلًا عن الأمتعة والأثقال والدواب، فمنح السُلطان كُل جُندي من جُنُوده ألف درهم سوى الغنيمة، وأذن لهم بِالعودة إلى أوطانهم، ثُمَّ قفل عائدًا إلى إسلامبول.<ref name="منجم7"/>


=== إعدام مُثيري الفتن من قادة الإنكشاريَّة ===
تمكن البرتغاليون من السيطرة على المضائق الحساسة التي تربط [[العالم الإسلامي]] بالمحيط الهندي، وبعد سيطرتهم على جزيرة هرمز تكون حلف بين [[إسماعيل الصفوي|الشاه إسماعيل]] وألبوكيرك ضد [[الدولة العثمانية]]، وأثرت سياسة الاحتكار هذه على النشاط الاقتصادي في دولة المماليك إبان سقوطها فلم تعد البضائع الشرقية تباع وتشترى في مصر بل في [[لشبونة]] عاصمة [[البرتغال]]، ولم تتمكن السلطنة المملوكية من قهر البرتغاليين لانشغال أسطولها في [[البحر المتوسط]] بمحاربة [[فرسان القديس يوحنا]] وجيوشها البرية بقمع الاضطرابات الداخلية وصد الجيوش العثمانية.<ref>Henry Morse Stephens, "Albuquerque", p.61-62, ISBN 81-206-1524-7</ref><ref>R.S. Whiteway, "Rise of Portuguese Power in India, 1497-1550" p.126, ISBN 81-206-0500-4</ref>
بعد أن وصل السُلطان سليم إلى إسلامبول بِفترةٍ قصيرة، رأى أنَّ من الضروري مُعاقبة كُل من وسوس لِلإنكشاريَّة وشجَّعهم على العصيان أثناء الحملة على الدولة الصفويَّة، خشية من امتداد الفساد في الجُيُوش وشُيُوع فكرة الضغط على السلاطين وعدم إطاعتهم.<ref name="القادة">{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=191}}</ref> فاستدعى إليه جماعةً من [[آغا الإنكشارية|آغوات الإنكشاريَّة]] وأجلسهم في خلوته ولاطفهم في الخِطاب وألحَّ عليهم أن يُعلموه بِأسماء قادتهم الذين حرَّكوهم على سوء الأدب الذي صدر منهم، فأخبروه أنَّ كُلًا من إسكندر باشا و[[سكبان|السكبانباشي]]{{ملا|«السكبانباشي» كلمة مُركبة من «سكبان» و«باشي»، وهي تعني رئيس السكبان. والسكبان كلمة فارسيَّة معناها «مُدرِّب الكلاب» أو «الحارس» أو «المُدرِّب»، وكانت تُطلق على فرقة المُتطوِّعين الذين يُقدمون أنفُسهم لِلجُنديَّة بِمحض اختيارهم وقت الحاجة الشديدة لِلجُند. قيل أيضًا بأنَّ التسمية تُركيَّة الأصل وإنَّها تحريفٌ لِلفظ «سيمن» الذي يعني المقدام. يعود وُجُود هذه الطائفة إلى عهد السُلطان [[مراد الأول|مُراد الأوَّل]]، وكانوا يُرافقونه في الصيد، ثُمَّ أُلحقوا بِالإنكشاريَّة في عهد السُلطان مُحمَّد الفاتح.<ref>{{استشهاد مختصر|1=صابان|2=2000|ص=134}}</ref>}} وقاضي العسكر جعفر چلبي بن تاج هُم المُحركين الرئيسيين. فأحسن السُلطان إلى هؤلاء الآغوات وأرسل الكثير من العطايا إلى ثكنات الإنكشاريَّة لِيُطيِّب قُلُوبهم ويضمن استمرار ولائهم، ثُمَّ أمر بِإسكندر باشا والسكبانباشي فقُتلا، ثُمَّ دعا جعفر چلبي إليه وسأله: {{اقتباس مضمن|إنْ كَانَ زَيْدٌ يُحَرِّكُ عَسَاكِر الْإِسْلَامِ عَلَى الْفِتْنَة، وَيُعَوِّقُهُم عَنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدّوْلَة، هَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ؟}} فقال جعفر چلبي: «يجوز بعد الثُبُوت»، فأمر به السُلطان فقُتل بعد أن عدَّد عليه قبائحه.<ref name="منجم7"/> وخوفًا من حُصُول مثل ذلك العصيان في المُستقبل، جعل السُلطان لِنفسه حق تعيين القائد العام لِلإنكشاريَّة دون أن يكون من بينهم، لِيكون لهُ بِذلك السيطرة عليهم، وكان النظام السابق يقضي بِتعيينه من أقدم ضُبَّاطهم.<ref name="القادة"/>


=== دُخُول كُردستان وديار بكر والجزيرة تحت جناح الدولة العُثمانيَّة ===
=== ضم الجزائر ===
[[ملف:G1895 pg028 MAP OF TURKEY IN ASIA-ar.jpg|تصغير|يمين|الحُدُود التقريبيَّة لِلبلاد الكُرديَّة التي ثارت على الصفويين وانضمَّت طوعًا لِلدولة العُثمانيَّة. الخريطة تعود لِسنة 1895م.]]
[[ملف:Barbarossa Hayreddin Pasha.jpg|تصغير|يمين|خير الدين بربروس باشا.]]
[[ملف:Mardin Kalesi Teslim.png|تصغير|المولى إدريس البدليسي يُسلِّم أمير ماردين كتاب العهد من السُلطان سليم.]]
وعندما تمكن العثمانيون من [[مصر]] في عهد السلطان سليم سارعوا في محاربة البرتغاليين وسار أسطول بحري بقيادة "مير علي بك" إلى الساحل الأفريقي واستطاع تحرير [[مقديشو]] ومدنًا أخرى وأنزل بالبرتغاليين خسائر فادحة. وفي هذه الفترة كان نجم أحد القباطنة المسلمين، واسمه "[[خير الدين بربروس|خير الدين بربروس باشا]]"، قد سطع. وخير الدين هذا من أصول [[اليونان|يونانيّة]]، كان يعمل وأخاه "عرّوج" [[قرصنة|بالقرصنة]] ب[[بحر الروم]]، ثم أسلما ودخلا في خدمة السلطان "محمد الحفصي" صاحب [[تونس]] واستمرّا في حرفتهما وهي أسر المراكب الأوروبية التجارية وأخذ كافة ما بها من بضائع وبيع ركّابها وملاحيها بصفة [[عبودية|رقيق]].<ref name="خير الدين">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 230-231 ISBN 9953-18-084-9</ref> وفي ذات يوم أرسلا إلى السلطان سليم إحدى المراكب المأسورة إظهارًا لخضوعهما لسلطانه، فقبلها منهما، وأرسل لهما خلعًا سنيّة وعشر سفن ليستعينوا بها على غزو السفن البرتغالية ومساندة [[الدولة العثمانية]] في حربها ضد [[البرتغال]]،<ref name="خير الدين" /> فقويت شوكتهما وأقدم خير الدين على الاستيلاء على ثغر مدينة "[[شرشال]]" [[الجزائر|بالجزائر]]، ثم عاد إلى [[تونس]] وأرسل إلى السلطان سليم بمصر رسولاً يؤكد لديه إخلاصه وولائه للسدّة السلطانية العثمانية.<ref name="خير الدين" />
خِلال الفترة المُمتدَّة بين ضمِّ إمارة ذي القدريَّة وعودة السُلطان سليم إلى إسلامبول، كانت الثورة تعُمُّ بلاد [[كردستان|كُردستان]] و[[ديار بكر (منطقة)|ديار بكر]] من أقصاها إلى أقصاها، وأخذ أُمراء ومُلُوك الأكراد الواحد تلو الآخر يُعلنون ولائهم لِلسُلطان سليم وتبعيَّتهم لِلدولة العُثمانيَّة. فبادر شرف بك أمير بدليس بِرفع [[علم الدولة العثمانية|الراية العُثمانيَّة]] على قلاع إمارته طاردًا أخاه خالد بك الذي كان أميرًا على البلاد من قِبل الصفويين. وكان الملك خليل الأيُّوبي يُقاتل الصفويين أينما وجدهم بعد أن استردَّ حصن كيفا وسعرد. واستردَّ أمير ساسون مُحمَّد بك بلاد غرزان من أميرها التابع لِلشاه إسماعيل، وكذلك فعل سيِّد أحمد بك الزرقي الذي استردَّ مدينتيّ عتاق وميَّافارقين، والأمير قاسم بك الذي استعاد بلدة «أگيل». وكذا استولى جمشيد بك المرديسي على مدينة پالو بِاسم السُلطان سليم، وطرد «بختي بك» والي [[جزيرة ابن عمر|جزيرة ابن عُمر]] ومن كان معهُ من الصفويين في تلك الأنحاء. واستردَّ سيِّد بك بن شاه أمير [[سورانيون|السورانيين]] بلاد كركوك وأربيل.<ref name="كردستان">{{استشهاد مختصر|1=عيسى|2=2002|ص=36-37}}</ref> ويذكر المُؤرِّخ العُثماني [[أحمد منجم باشي|أحمد بن لُطف الله السلانيكي الصدِّيقي]] أُمراء إضافيُّون ممن بايعوا السُلطان سليم، منهم أمير خداق دواد بك، وأمير نمران عبدي بك، والأمير ملك بن عز الدين شير بك [[بهدينانيون|العبَّاسي]]، ويقول أنَّ إجمالي أُمراء الأكراد الذين دخلوا تحت جناح الدولة العُثمانيَّة وصل إلى أربعةٍ وعشرين أميرًا.<ref name="منجم8">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=658-663}}</ref> وهكذا دخلت جميع بلاد ديار بكر وأغلب كُردستان في طاعة السُلطان سليم بِسبب ما عاناه الأكراد من عُدوانٍ وأذى على يد الصفويين من جهة، وبِفضل دراية المولى إدريس البدليسي وسياسته الرشيدة وهمَّته الفائقة من جهةٍ أُخرى. بعد ذلك أخذ المولى المذكور يضع الأنظمة الإداريَّة الكافية لِرُقيّ البلاد الكُرديَّة وإزالة آثار الاضطراب فيها، فنالت هذه التدابير قُبُول واستحسان السُلطان سليم، فأرسل إلى المولى البدليسي هديَّةً ثمينة عبارة عن خمسة وعشرين ألف [[الذهب البندقي|دوقيَّة ذهبيَّة]]، وأرفقها بِسبعة عشر علمًا عُثمانيًّا وخمسُمائة خُلعة من الخُلع السُلطانيَّة الفاخرة لِتوزيعها على الأُمراء الأكراد، بِالإضافة إلى [[فرمان|فرمانٍ شاهانيٍّ]] ينص على اعتراف السُلطان بِاحتفاظ الإمارات الكُرديَّة بِاستقلالها الإداري تحت السيادة العُثمانيَّة، وبِحق انتقال الإمارة من الآباء إلى أبنائهم أو التصرُّف بها حسب الأُصُول المحليَّة القديمة، وأنَّ على الأكراد تقديم إتاوةٍ سنويَّةٍ لِبيت المال في إسلامبول تُحتسب من ضمنها [[صدقة|الصدقات]] و[[زكاة|الزكاة]]، كما يلتزم الأُمراء الأكراد بِتقديم عددٍ مُحددٍ من الجُنُود المُسلَّحين في أوقات الحرب، على أن يكونوا تحت أمرة بكلربك الأناضول.<ref name="كردستان"/> وخصَّ السُلطان سليم الملك خليل الأيُّوبي صاحب حصن كيفا بِالتقدير والتوقير والاحترام الزائد، وذلك إجلالًا لِذكرى [[صلاح الدين الأيوبي|الملك الناصر صلاح الدين الأيُّوبي]]، مُؤسس السُلالة المُلُوكيَّة الأيُّوبيَّة و[[حصار القدس (1187)|مُحرِّر بيت المقدس من الصليبيين]].<ref name="أوزتونا4"/>
[[ملف:Old algiers 16th century.jpg|تصغير|250بك|رسم لمدينة الجزائر في [[القرن السادس عشر]]، وقد ظهر في المقدمة مرسى السفن الذي بناه الإسبان.]]
[[ملف:Koçhisar Muharebesi.png|تصغير|مُنمنمة عُثمانيَّة بِيد العالم والمُؤرِّخ [[خواجة سعد الدين أفندي]] تُصوِّرُ واقعة دُنيصر، الشهيرة بِقوجة حصار، بين العُثمانيين والصفويين. يظهر مُحمَّد باشا البيقلي في أعلى اليسار، ويظهر قراخان أُستاجلوه مُقابله في أعلى اليمين. الجُند الصفويُّون هم الذين تظهر الذوائب الحُمر أعلى عمائمهم.]]
أما عرّوج، فبعد أن استولى على [[الجزائر العاصمة|مدينة الجزائر]] وهزم الجيوش الإسبانية التي أرسلها الإمبراطور "[[كارلوس الخامس]]" المعروف باسم "شارلكان"، لمساعدة أمير الجزائر على المقاومة، فتح أيضًا مدينة "[[تلمسان]]"، وقُتل في محاربة [[إسبان|الإسبان]] بعد ذلك، فحفظ خير الدين المدن المفتتحة حديثًا ومنع الإسبان من السيطرة عليها وقتل أمير الجزائر.<ref name="خير الدين" />
لمَّا بلغ الشاه إسماعيل خبر طاعة الأُمراء الأكراد لِلسُلطان سليم، أدرك خُطُورة الوضع وأنَّ نظيره العُثماني لن يُهادنه أبدًا، فأرسل اثنان من قادة القزلباش هُما «نور علي خليفة روملُّوه» والي جمكازاد و«مُحمَّد بك آيقوت أوغلي» وكلَّفهما بِالإغارة على نواحي أرزنجان.<ref name="جمعة والخولي"/> وما أن علم السُلطان سليم بِهذا حتَّى أرسل إلى مُحمَّد باشا البيقلي الذي فوَّضه بِحماية تلك الأنحاء كما أُسلف، يأمره بِالتصدي لِلصفويين، وأرسل معهُ پير حُسين بك بن رُستم، فسارا إليهم خلال شهر جُمادى الآخرة [[921 هـ|921هـ]] المُوافق لِشهر تمُّوز (يوليو) [[1515]]م، وأخذاهم على حين غرَّة في هضاب [[أواجق]] قُرب [[الفرات|نهر الفُرات]]، فأنزلا بهم هزيمةٍ قاسية وقُتل نور علي خليفة ورُفع رأسه على رُمح، فخاف بقيَّة الجُند الصفويين وتضعضعت صُفوفهم، ووقعوا تحت رحمة نيران البنادق العُثمانيَّة، فكادوا أن يفنوا عن بُكرة أبيهم. أدَّى هذا الانتصار إلى سيطرة العُثمانيين على مدينة [[تونجلي]] وأعمالها، ولم يلبث أن أعلن العديد من أُمراء الحُصُون في تلك المنطقة ولائهم وتبعيَّتهم لِلسُلطان سليم، فجعل بلادهم سُنجقًا موحدًا مركزه جمكازاد وعيَّن على إمارته پير حُسين بك بن رُستم، على اعتبار أنَّ والده كان آخر أُمراء المدينة المذكورة قبل أن تسقط في يد الصفويين، فأعاد إليه السُلطان بلاد آبائه لِيحكمها بِاسم السلطنة.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Ünal|2=1991|ص=240-246|لغة=en}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=İlhan|2=1992|ص=116-117|لغة=en}}</ref>
[[ملف:Koçhisar Muharebesi Anlatım-ar.png|تصغير|يمين|مُخطَّط واقعة دُنيصر أو قوجة حصار بين العُثمانيين والصفويين.]]
لم يركن الشاه إسماعيل إلى الهدوء وهو يرى ضياع [[منطقة الأناضول الشرقية|الأناضول الشرقيَّة]] وديار بكر وأغلب كُردستان منه، فأرسل جيشًا آخر قوامه خمسة آلاف قزلباشي إلى حصار آمد واستردادها، وجعل على رأس هذا الجيش قراخان أُستاجلوه أخا مُحمَّد خان أُستاجلوه الذي قُتل في واقعة چالديران، بعد أن فوَّض إليه أمر تلك البلاد. ولمَّا علم السُلطان سليم بِهذا أرسل إلى أمير أماسية شادي باشا ومُحمَّد باشا البيقلي يأمرهما بِإمداد آمد ودفع الصفويين، فخرجا حتَّى أدركا المدينة، فهرب الصفويُّون نحو ماردين ومنها إلى صحاري [[سنجار]] خوفًا من أن يُطبق عليهم العُثمانيُّون ويحصرونهم داخل أسوار المدينة.<ref name="منجم8"/> ولم يلبث أن دبَّ النزاع والشقاق بين مُحمَّد باشا وشادي باشا، فرجع الأخير بِخمسة آلاف فارس من عسكر إمارته إلى أماسية، في حين تحصَّن مُحمَّد باشا والمولى إدريس البدليسي في آمد وعقدوا العزم على الإشتاء فيها. ولمَّا بلغ قراخان أُستاجلوه عودة القسم الأكبر من الجيش العُثماني، رجع بِقُوَّاته من سنجار ودخل ماردين ثُمَّ أرسل إلى الشاه إسماعيل يستمدُّه، فأرسل إليه الشاه والي [[همدان (إيران)|همدان]] «يكان بك» وأمير الكورانيين الأكراد «جوق سُلطان» في جمعٍ عظيمٍ من القزلباش. وأمَّا مُحمَّد باشا فإنَّهُ عرض الحال على العتبة السُلطانيَّة، فغضب السُلطان على شادي باشا وعزله عن منصبه، ثُمَّ أرسل إلى والي [[إيالة قرمان|القرمان]] [[خسرو باشا الدلاتي]] يأمره بالانضمام في عسكر إيالته إلى مُحمَّد باشا، وأرسل إليه أيضًا جمعًا من [[سباهية|السپاهية]] و[[سلحدار|السلحداريَّة]] والإنكشاريَّة. وفي أثناء مسير الطائفة الأخيرة نحو آمد، مرُّوا بِحصن زياد و«أرغني»، وكانتا في أيدي الصفويين بعد، فحاصروها وأخذوهما بِحد السيف، وقتلوا كُل من وجدوا فيهما من القزلباش.<ref name="منجم8"/> وما أن وصل المدد إلى مُحمَّد باشا حتَّى خرج من آمد وسار لِقتال قراخان، فالتقى الفريقان خلال شهر ربيعٍ الآخر [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه شهر أيَّار (مايو) [[1516]]م عند [[دنيصر|دُنيصر]]، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثُمَّ أُصيب قراخان بِرصاصةٍ أودت بِحياته، وقُتل من جُنُوده قُرابة عشرة آلاف قزلباشيّ، وولَّى البقيَّةُ هاربين، فتبعهم العُثمانيُّون يقتلون ويأسرون. وأرسل مُحمَّد باشا أُنُوف القتلى وآذانهم مع رأس قائدهم قراخان إلى العتبة السُلطانيَّة، فولَّاه السُلطان على ديار بكر وكلَّفهُ بِتسخير ما تبقَّى من قلاعٍ بِأيدي الصفويين، فجدَّ في مُهمَّته حتَّى أخرجهم جميعًا بِاستثناء حامية ماردين التي استمرَّت عصيَّة على العُثمانيين بضع سنينٍ أُخريات،<ref name="منجم8"/> بِقيادة سُليمان خان توركمن.


يجدُرُ بِالذكر أنَّ مُحمَّد باشا البيقلي ضمَّ خلال حملته هذه مدينتيّ [[البيرة (أورفة)|البيرة]] و[[الرقة|الرقَّة]]، فأصبحت الأراضي العُثمانية تُتاخم الحُدُود المملوكيَّة بل تتداخل معها،<ref name="أوزتونا4"/> وأدَّى هذا إلى جانب الأسباب المُتراكمة العديدة إلى نُشُوب [[النزاع العثماني المملوكي (1516–1517)|الحرب بين الدولتين العُثمانيَّة والمملوكيَّة]]. أمَّا بِالنسبة لِلصفويين، فعلى الرُغم من قساوة الضربة التي أنزلها بهم السُلطان سليم، إلَّا أنَّها لم تكن القاضية، بل أضعفت طوقهم وقضت على القوى المحليَّة التي أقامها الشاه إسماعيل في وجه العُثمانيين، ممَّا سمح لهُ أن يستعيد قُوَّته ويُعيد تنظيم جيشه وبناء دولته.<ref name="الانسحاب"/>
وفي خضم الأحداث أرسل أهل الجزائر رسالة إلى السلطان سليم [[مصر|بمصر]] باسم الخطباء والفقهاء والعلماء والتجار والأعيان تطلب الإنضواء تحت الراية العثمانية والمساعدة للوقوف في وجه الإسبان والبرتغاليين، فسارع السلطان سليم بمنح بربروس لقب "بكلر بك الجزائر" وأرسل فرقة من [[مدفعية|المدفعية]] وألفي إنكشاري وفتح الباب أمام المتطوعين للذهاب إلى الجزائر لمناصرة أهلها وخص المتطوعين بإمتيازات [[إنكشارية|الإنكشارية]] تشجيعًا لهم كما شرع العثمانيون بإنشاء [[أسطول]] بحري ثابت للجزائر، وصكت النقود باسم السلطان سليم الأول، ودعي له على منابر المساجد في خطب الجمعة، وبذا صار هذا الإقليم ولاية عثمانية.<ref name="خير الدين" />


== دُخُول الإخوة بربروس في طاعة السُلطان سليم ==
== ما بعد الفتوحات ==
[[ملف:Doppelbildnis Horusce und Hareaden Barbarossa (16845279948).jpg|تصغير|يمين|رسمٌ [[هولندا|هولنديٌّ]] تخيُّليٌّ منَ [[القرن 17|القرن السابع عشر الميلاديّ]] للأخوين [[عروج بربروس|عرُّوج]] (يسار) وخير الدين (يمين).]]
[[ملف:Abraham Ortelius - Tvrcici imperii descriptio.jpg|تصغير|يمين|خريطة قديمة بريشة [[رسم الخرائط|الرسّام]] [[فلمنك|الفلمنكي]] "إبراهيم أورتيليوس"، تُظهر حدود [[الدولة العثمانية]] بعد نهاية الحملتين الصفويّة والمملوكيّة.]]
خِلال السنوات التي أمضاها السُلطان سليم في مُحاربة الصفويين، كان الإخوة [[عروج بربروس|عرُّوج]] و[[خير الدين بربروس|خير الدين خضر]] وإسحٰق بربروس [[جهاد بحري|يُجاهدون]] في الحوض الغربي [[البحر الأبيض المتوسط|لِلبحر المُتوسِّط]]، فيأسرون السُفُن الأوروپيَّة ويدفعون الاعتداءات الغربيَّة عن سواحل [[المغرب العربي|بلاد المغرب]]، ويُنجدون الهاربين من [[مورسكيون|المورسكيين]] [[الأندلس|الأندلُسيين]]. وقد حظي الإخوة بربروس بِدعم السُلطان [[أبو عبد الله محمد المتوكل|أبي عبد الله مُحمَّد بن الحسن المُتوكِّل]] [[الدولة الحفصية|الحفصي]]، فأعطاهم قلعة [[حلق الوادي|حلق الواد]] وسمح لهم بِاتخاذها مُنطلقًا ومركزًا لإدارة عمليَّاتهم العسكريَّة، مُقابل منحه خُمس غنائم الغزوات.<ref name="أوزتونا5">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=243-247}}</ref> واشتهر عرُّوجٌ وأخويه بِكفائتهم وقُدراتهم الحربيَّة والملاحيَّة في كامل أنحاء أوروپَّا، لِكثرة ما أسروا من السُفُن، أبرزها [[غليون]]ان كبيران من غلايين البابا [[ليو العاشر|ليون العاشر]]، كان كُلٌ منهما يسيرُ بِواسطة خمسين زوجًا من [[مجداف|المجادف]]. وكان عرُّوج دائم الاستعراض لِقُوَّته، فرسا في جزيرة [[ميورقة]] ورفع فيها [[الرايات والأعلام الإسلامية|رايةً إسلاميَّة]]، وأبحر في [[خليج جنوة]] و[[بحر لغرية|البحر الليغوري]] وعلى ساحل [[سردينيا|سردانية]] وهاجم عدَّة موانئ، ونقل بِالتعاون مع أخويه آلاف الأندلُسيين المُسلمين واليهود الهاربين من اضطهاد [[محاكم التفتيش الإسبانية|محاكم التفتيش الإسپانيَّة]]، وحملوهم إلى المغرب.<ref name="أوزتونا5"/> وفي أوائل سنة [[1515]]م حقَّق خير الدين خضر انتصارًا مُبهرًا على الإسپان، فاستولى على عشرين سفينةٍ من سُفُنهم وأسر 3,800 جُندي وبحَّار، فهرع إليه الكثير من الربابنة والقباطنة العُثمانيين والتحقوا بِأُسطوله وأُسطُول أخويه، وكان من أبرز هؤلاء [[بيري ريس|مُحيي الدين أحمد القرماني (پيري ريِّس)]]، وآيدن ريِّس، و[[كوردوغلو مصلح الدين ريس|مُصلح الدين ريِّس بن قورد]]، و[[صالح ريس|صالح ريِّس]]، إضافةً إلى ابنيّ خير الدين نفسه: حسن الأكبر (بيوك حسن) وحسن الأصغر (كُجُك حسن).<ref name="أوزتونا5"/>
في أوائل شهر سبتمبر سنة [[1517]]، سافر السلطان سليم من [[القاهرة]] عائدًا إلى [[القسطنطينية]]، التي صارت حينها مقر الخلافة الإسلامية، وكان سفره عن طريق [[بلاد الشام]] مصطحبًا معه آخر بني العبّاس، وعيّن الأمير "[[خاير بك|خاير بك الجركسي]]" واليًا على مصر، والأخير هو أحد أمراء المماليك الذين خانوا [[طومان باي]] وانضموا إلى السلطان سليم وعمل لديه سرًا، وكان له دورًا كبيرًا في انكسار جيش المماليك في [[مرج دابق]] و[[الريدانية]]، حيث بثّ إشاعة أن السلطان "[[قنصوه الغوري]]" قُتل أثناء [[معركة مرج دابق]]، فتفرّق شمل جيشه ووقعوا لقمةً سائغة للعثمانيين، كذلك كان قد عمل على بث روح الهزيمة ونشر بذور الفتنة بين قواد المماليك في مصر، مما تسبب في سقوط دولتهم بعد [[معركة الريدانية]].<ref>بلاد الشام إبان العهد العثماني. د محمد التونجي الإستاذ بجامعة حلب. دار المعرفة بيروت. ط: 1425هـ/2004م. ISBN 9953-429-79-0 ص:96</ref>
[[ملف:Algiers and Bejaia by Piri Reis.jpg|تصغير|[[خريطة]]ٌ [[ساحل (توضيح)#جغرافيا|لِساحل]] المغرب الأوسط تَظهرُ أسْفَلَها (في [[شرق|الشرق]]) [[بجاية|بُجّاية]] وقلعتُها، وأعلاها (في [[غرب|الغرب]]) [[الجزائر (مدينة)|الجزائرُ]] وقلعتُها، وبينهما قلعة تنس. [[رسم]]ٌ [[قبطان|للقُبطانِ]] [[بيري ريس|مُحيي الدين پيري ريِّس]] في [[القرن 16|القرن السادس عشر الميلاديّ]].]]
كان عرُّوج مُقتنعًا بِوُجُوب تأسيس دولةٍ قويَّةٍ في المغرب لِإمكان صد الاعتداءات الأوروپيَّة عن سواحل ديار الإسلام، وأراد أولًا تحقيق ذلك في [[إفريقية]]، لكنَّها كانت معقل الحفصيين، وكانوا ما يزالون مُتمكنين من أمرهم، ومن المُحتمل أن تُؤدي إزالتهم إلى نُفُور رعيَّتهم من آل بربروس. وكان [[المغرب الأقصى]] معقل [[الدولة الوطاسية|الدولة الوطاسيَّة]]، أمَّا [[المغرب الأوسط]] فكان معقل [[بنو زيان|الدولة الزيانيَّة]] المُفتتة بِفعل الغزوات الإسپانيَّة المُتكررة، وكان الإسپان قد احتلُّوا بالفعل العديد من مُدُنها [[وهران|كوهران]] و[[تنس (ولاية الشلف)|تنس]] و[[هنين]]، وحاولوا التقدُّم نحو العاصمة [[تلمسان]]، لِذا رأى عرُّوج أنَّ هذه المنطقة هي الأنسب لإقامة دولته بعد تخليصها من أيدي الإسپان.<ref name="أوزتونا5"/> لكنَّ تحقيق هذا المشروع كان يحتاج مزيدًا من السُفُن والذخائر والجُنُود والبحَّارة المُتمرسين، وما كان بِحوزة الإخوة بربروس سوى إثنا عشر سفينةٍ حربيَّة وقُرابة ألف جُندي [[لاوند]]ي{{ملا|«اللاونديُّون» أو «اللاوند» هي تسمية أطلقها العُثمانيُّون على طائفةٍ من الجُنُود البحريَّة. يُقال أنَّ أصلها إيطالي مُحرَّف {{إيطالية|Levantino}}، وأنَّ البنادقة هم أوَّل من أطلقها على البحَّارة الشرقيُّون الذين استخدموهم في أُسطولهم، فاستعارها العُثمانيُّون عنهم. يُقال أيضًا أنَّ التسمية أصلها فارسي وتعني «الخادم» أو «الغُلام سيّئ الخُلُق»، وهذا ما انطبق على هذه الطائفة العسكريَّة في وقتٍ لاحقٍ من تاريخها، فأصبح أفرادها يرتكبون المظالم الكبيرة بِحق الأهالي والبلاد التي يُقيمون فيها، ممَّا دفع السلطنة العُثمانيَّة إلى إلغاء هذا التنظيم وتسريح عناصره سنة [[1186 هـ|1186هـ]] المُوافقة لِسنة [[1771]]م.<ref>{{استشهاد مختصر|1=الخطيب|2=1996|ص=378-379}}</ref>}}، كما انضمَّ إليهم الكثير من المُسلمين المغاربة، لكنَّ هؤلاء لم يكونوا بحَّارة ولا خبرة لهم كالجُنُود النظاميين، لِذا كان لا بُدَّ من توجُّه الإخوة إلى وطنهم الأُم، وطلب المدد من السُلطان سليم. وكان عرُّوج بدايةً يخشى الاتصال بِالسُلطان خوفًا من أن يكون قد أهدر دمه، كونه كان من أتباع الشاهزاده قورقود، ولمَّا علم بِإعدامه خاف على نفسه، ولم يجرؤ على الاقتراب من السواحل العُثمانيَّة. لكن ما لبث هذا الخوف أن تبدَّد لمَّا تواترت أنباء انتصارات العُثمانيين على الصفويين، واتضحت نوايا السُلطان سليم وسياسته الإسلاميَّة الجامعة، فتشجَّع عرُّوج على الاتصال به، وأرسل إلى إسلامبول مُحيي الدين پيري ريِّس وحمَّلهُ هدايا ورسالةً يُعلن فيها ولاء الإخوة بربروس لِلدولة العُثمانيَّة وطلبهم العون والمدد.<ref name="أوزتونا5"/>


استقبل السُلطان سليم پيري ريِّس في أوائل شهر مُحرَّم [[922 هـ|922هـ]] الموافقِ لِشهر آذار (مارس) [[1516]]م، وسُرَّ سُرورًا كبيرًا بِأخبار الجهاد البحري والانتصارات الإسلاميَّة المُتتالية، وتأمَّل الشيء الكثير من الإخوة بربروس في السياسة العُثمانيَّة تجاه المغرب، فأرسل إليهم سفينتين حربيتين مليئتين بِالذخائر والمدافع، إحداهما لِعرُّوج والأُخرى لِخير الدين، و[[سيف]]ين حُلِّي مقبضاهما [[ألماس|بِالألماس]] و[[خلعة سلطانية|خُلعتين سُلطانيَّتين]] و[[وسام الدولة|نيشانين]]. ويروي خير الدين في [[مذكرات خير الدين بربروس|مُذكَّراته]] أنَّ السُلطان سليم لمَّا قرأ الرسالة رفع يديه [[دعاء|بِالدُعاء]] قائلًا: {{اقتباس مضمن|اللّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهَيْ عبدِيْكَ عَرُّوجَ وخَيرَ الدِّينِ في الدُّنْيا والآخرةِ، اللَّهُمَّ سَدّدْ رميتَهُما واخذِلْ أعداءَهُما وانْصُرْهُما في البرِّ والبحرِ}}. وأرسل السُلطان أيضًا رسالةً إلى نظيره الحفصي يحُثُّه فيها على مُساعدة الإخوة بربروس ويُحذِّره من التقصير في ذلك، وممَّا جاء في بدايتها: {{اقتباس مضمن|إلى أميرِ تُونُس، إذا وَصَلَكَ كِتَابِيَ هَذَا فَعَلَيْكَ أنْ تعملَ بِهِ، واحذرْ أنْ تُخالِفَهُ، وإيَّاكَ وأنْ تُقصِّرَ في خدمةِ أيِّ عَوْنٍ لخادِمَيْنا: عَرُّوجَ وخَيرِ الدِّينِ}}. ويُضيف خير الدين أنَّهُ تقلَّد سيف السُلطان سليم وخُلعته في حفلِ بِمدينة [[تونس (مدينة)|تُونُس]]، وأنَّ بادرة السُلطان هذه زادت من شعبيَّته وسط عامَّة الناس بحيث تعالت أصوات المشايخ بِالدُعاء له والثناء عليه، في حين توجَّس السُلطان الحفصي خيفةً من هذا، إذ شعر أنَّ العُثمانيين باتوا يُشكِّلون خطرًا حقيقيًّا يُهدد مُلكه بالزوال.<ref>{{استشهاد مختصر|1=بربروس|2=2010|ص=64-68}}</ref>
ويروي [[ابن إياس]] أن لدى خروج سليم الأول من مصر أخذ معه كميات كبيرة من الكنوز والأموال. كما يُروى انه لدى احتلاله لل[[قاهرة]] نقل أمهر فنانيها وحرفييها إلى [[الأستانة]]. وترك السلطان بالمدينة حامية عسكرية لحفظ الأمن تحت قيادة "خير الدين آغا" الإنكشاري.<ref name="ما بعد الفتوحات">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 196-197 ISBN 9953-18-084-9
</ref> وفي أثناء عبور الجيش العثماني لصحراء [[العريش]]، إلتفت السلطان للصدر الأعظم "يونس باشا"، الذي كان فتح مصر على غير رأيه، وقال له ما معناه أنه قد أتمّ فتحها خلافًا لرأيه، فأجابه يونس باشا بأن فتحها لم يعد عليه بشيء إلا قتل نحو نصف الجيش بما أنه سلّمها لخائن كان غرضه التملك عليها لنفسه، فلا يؤمن ولاؤه للدولة. فغضب السلطان من هذا الكلام الموجه إليه بصفة لوم وأمر بقتل [[صدر أعظم|الصدر الأعظم]] في الحال فقُتل،<ref name="ما بعد الفتوحات" /> وكان ذلك في [[22 سبتمبر]] سنة [[1517]]م، الموافق في [[6 رمضان]] سنة [[923]]هـ، وعيّن بدلاً منه "پير محمد باشا"، الذي كان معينًا قائممقام السلطان في [[القسطنطينية]] أثناء تغيبه في فتح مصر، لثقته به بناءً على ما أظهره من أصالة الرأي في محاربة [[إسماعيل الصفوي|الشاه إسماعيل]].<ref name="ما بعد الفتوحات" />
[[ملف:Muhammad Swords.JPG|تصغير|سيفين من سيوف نبي الإسلام "[[محمد|محمد بن عبد الله]]" في قصر الباب العالي، حيث نقلها السلطان سليم بعد فتحه مصر وحصوله على لقب الخليفة.]]
وفي [[6 أكتوبر]] سنة [[1517]]م، الموافق في [[20 رمضان]] سنة [[923هـ]]، وصل السلطان إلى مدينة [[دمشق]] ومكث بها إلى [[5 مارس]] سنة [[1518]]م، الموافق في [[22 صفر]] سنة [[924هـ]]،<ref name="ما بعد الفتوحات" /> ثم سافر إلى مدينة [[حلب]] بعد أن حضر الاحتفال بإقامة الصلاة لأوّل مرّة في المسجد الذي أقامه بدمشق على قبر الشيخ "[[محيي الدين ابن عربي|محيي الدين بن عربي]]" في [[5 فبراير]] من نفس السنة.<ref name="ما بعد الفتوحات" /> وبعد أن أقام بحلب مدة شهرين ارتحل عنها قاصدًا [[الأستانة]]، فوصلها في [[25 يوليو]]، الموافق في [[15 رجب]]، وأقام بعد ذلك حفلاً ضخمًا ومولدًا نبويًا في [[آيا صوفيا|مسجد آيا صوفيا]] بمناسبة وصول الآثار النبوية إلى العاصمة، وأودعها في جناح خاص في قصر [[الباب العالي]]،<ref name="Pamir">Dr. Aybars Pamir. ''Osmanlı Egemenlik Anlayışında Senedi İttifak'ın Yeri''. Yıl 2004 C.53 Sa.2 sayfa.61-82. [http://auhf.ankara.edu.tr/dergiler/auhfd-arsiv/AUHF-2004-53-02/AUHF-2004-53-02-Pamir.pdf Tam metin]</ref> ثم ارتحل عن العاصمة بعد عشرة أيام إلى مدينة [[أدرنة]] ليستريح من عناء السفر،<ref name="ما بعد الفتوحات" /> وكان الأمير [[سليمان القانوني|سليمان]] معينًا حاكمًا على [[القسطنطينية]] طيلة غياب والده، وبعد وصول الأخير بعشرة أيام استأذنه الأمير سليمان بالسفر إلى ولاية صاروخان المعيّن واليًا عليها.


== حرب المماليك ==
وفي أثناء إقامة السلطان بمدينة أدرنة، وصل إليه سفير من قبل [[تاريخ إسبانيا|مملكة إسبانيا]] ليُخابره بشأن حرية زيارة المسيحيين [[القدس|للقدس]] التي كانت تابعة قبلاً للسلطنة المملوكية، وأصبحت خاضعة للدولة العثمانية، في مقابل دفع المبلغ الذي كان يُدفع سنويًا للمماليك، فأحسن السلطان مقابلته وصرّح بقبوله ذلك إذا أرسل ملكه رسولاً آخر مخولاً له حق إبرام معاهدة مع [[الباب العالي]]، وكذلك أتى إليه سفير من قبل [[جمهورية البندقية]] ليدفع له خراج سنتين. متأخر الخراج المقرر على البنادقة نظير بقائهم في جزيرة [[قبرص]].<ref name="ما بعد الفتوحات" />
{{مفصلة|النزاع العثماني المملوكي (1516-1517)}}
=== أسباب الحرب ===
[[ملف:Büyük Mısır Seferi-ar.png|تصغير|يمين|خريطة توضح تجاور الدُول العُثمانيَّة والصفويَّة والمملوكيَّة، والنُتُوء المملوكي (في الدائرة) الفاصل بين بعض المُمتلكات العُثمانيَّة.]]
شكَّل انتصار السُلطان سليم في چالديران مُفاجأةً غير مُتوقَّعة لِلمماليك، ولم يستطع السُلطان الغوري وأُمراء دولته إخفاء خيبة أملهم من نتيجة تلك الواقعة الفاصلة، فلم يبتهجوا لِهذا الانتصار كما أُسلف. والحقيقة أنَّ المماليك كانوا قد بدأوا يُقابلون بِشيءٍ من الفُتُور تنامي العلاقة بينهم وبين العُثمانيين مُنذُ عهد السُلطان مُحمَّد الفاتح، بعد أن شعروا بِتعاظُم شعبيَّة العُثمانيين بين المُسلمين نتيجة [[فتح القسطنطينية|فتحهم القُسطنطينيَّة]] وانتصاراتهم الكبيرة المُتتالية على الأوروپيين، في الوقت الذي أخذت فيه معالم الشيخوخة والضعف تظهر على الدولة المملوكيَّة، فلم يطل الأمر حتَّى بدأ المماليك يتوجَّسون خيفةً من العُثمانيين، فتبدَّلت نظرتهم إليهم من مشاعر الاعتزاز إلى مشاعر الغيرة.<ref name="حرب المماليك">{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=162-164}}</ref> وكان التنافس على زعامة المُسلمين قد بلغ آنذاك أشُدَّه بين القوى الإسلاميَّة الثلاث: العُثمانيين والمماليك والصفويين، ما دفع السُلطان سليم إلى الاصطدام بالصفويين وتحجيم قُوَّتهم، ومن ثُمَّ الالتفات نحو المشرق العربي لِلاصطدام بِالمماليك. وكان السُلطان الغوري يُدرك تمامًا أنَّ المُنتصر من الجانبين سيعمل على تصفية الموقف في المشرق عبر الاصطدام بِدولته، ومن ثُمَّ كان عليه أن يتخذ موقفًا من التطوُّرات السياسيَّة والعسكريَّة إمَّا عبر الوُقُوف في صف أحد الطرفين، أو عبر التزام الحياد. ويبدو أنَّهُ رأى أنَّ انضمام المماليك إلى جانب العُثمانيين يخل بِالتوازن اختلالًا شديدًا لِصالح هؤلاء، الذين قد يُشكلون خطرًا عليهم إن هم أرادوا التوسُّع في البلاد العربيَّة، أمَّا انضمامه إلى الصفويين فكانت تعترضه عقباتٍ عدَّة، أبرزها المذهبيَّة.<ref name="حرب المماليك"/> لِهذا فضَّل الغوري الوُقُوف على الحياد، تاركًا الدولة العُثمانيَّة وحيدةً في مُواجهة الصفويين، بِدون تبصُّرٍ بِنتائج ما قد يقوم به الشاه في حال انتصاره، من أعمالٍ عُدوانيَّةٍ مُتزايدةٍ ضدَّ المماليك، لا سيَّما وأنَّ الشاه بعد خسارته ديار بكر والجزيرة الفُراتيَّة والجُزء الأكبر من كُردستان، كان يجتهد في تكوين اتحادٍ ضدَّ العُثمانيين من الدُول الأجنبيَّة المُنافسة لِلدولة العُثمانيَّة، وفي مُقدِّمتها [[الإمبراطورية البرتغالية|الإمبراطوريَّة الپُرتُغاليَّة]] التي كانت تُهدِّدُ الهيمنة الإسلاميَّة عُمومًا، والمملوكيَّة خُصوصًا، في بحر القلزم (الأحمر) و[[المحيط الهندي|المُحيط الهندي]].<ref name="حرب المماليك"/><ref>{{استشهاد مختصر|1=جمعة والخولي|2=1976|ص=88}}</ref> ومن جهةٍ أُخرى، أدَّت العمليَّات التوسُّعيَّة العُثمانيَّة في ديار بكر وقيليقية إلى تداخل حُدُود الدولتين، بحيثُ لم يعد العُثمانيُّون قادرون على وصل بلادهم ببعضها إلَّا بِالدوران حول النُتوء المملوكي المُتمثِّل بِأعالي الجزيرة الفُراتيَّة، والذي كان يمتد بعيدًا عن [[عنتاب|عينتاب]] وملطية إلى الشمال بين سيواس وأرزنجان، وقد شكَّل ذلك عقبةً استراتيجيَّةً أثارت القلق لدى السُلطان سليم من منظور شن عمليَّاتٍ أُخرى في المُستقبل على الدولة الصفويَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=جرامون|2=1992|ص=213}}</ref>
[[ملف:Sultan Selim with his war council, Tarikhuna Al-Musawwar.jpg|تصغير|رسمٌ يُصوِّرُ السُلطان سليم مُجتمعًا مع ديوان حربه في سبيل البت بمسألة حرب المماليك.]]
وتأكَّدت مخاوف السُلطان لمَّا عزم إعادة الكرَّة على الدولة الصفويَّة بُعيد انتصاره في دُنيصر، فأرسل الصدر الأعظم سنان باشا الخادم في أربعين ألف مُقاتل وأمره بأن يسير من طريق ملطية ويمكث في حُدُود ديار بكر إلى أن يصل إليه الموكب السُلطاني، علمًا بأنَّ ملطية وأعمالها كانت حينذاك تدخل ضمن نطاق الدولة المملوكيَّة. ولمَّا وصل الصدر الأعظم إلى حُدُود المدينة أرسل إلى أميرها يستأذنه في العُبُور منها إلى ديار بكر، فلم يُجبه الأمير المذكور إلى ذلك بإيعازٍ من السُلطان الغوري. وفي الحقيقة لم يكن مُحرِّك هذا الرفض سوى الشاه إسماعيل نفسه، الذي راسل الغوري والتمس منهُ أن يُصلح بينه وبين السُلطان سليم، أو يمنعه من العُبُور إلى إيران عبر الأراضي المملوكيَّة، فاستجاب لهُ الغوري وحال بين العُثمانيين والصفويين.<ref name="منجم9">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=663-669}}</ref> ويبدو أنَّ مُراسلة الشاه لِلسُلطان الغوري لم تكن الغاية منها إقامة حلفٍ بين الدولتين، لأنَّ الشاه كان يُكِّنُّ في نفسه كراهيَّةً لِلسُلطان المملوكي لا تقل عن كراهيَّته لِلسُلطان سليم، وإنَّما غايته الفعليَّة كانت إلهاء العُثمانيين ريثما يعمل على إعادة تثبيت حُكمه في إيران. ولم يؤدِّ هذا التعاون المملوكي الصفوي إلَّا لِمزيدٍ من التردِّي في العلاقة بين العُثمانيين والمماليك، إذ عدَّ السُلطان سليم هذه المُحاولة طعنة لِلدولة العُثمانيَّة من الخلف، ومظهرًا من مظاهر العداوة السافرة، الأمر الذي لعب دورًا في تسريع الحرب بين الدولتين.<ref>{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=165-166}}</ref> وفي ذلك يقول المُؤرِّخ [[ابن أبي السرور البكري|ابن أبي السرور البكري المصري]]: {{اقتباس مضمن|وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِي تَحَرُّك مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ عَلَى أَخْذِ مِصْرَ مِنْ السُّلْطَانِ الْغُورِيِّ، مُصَافَاتِهِ لِشَاهِ إِسْمَاعِيل، الَّذِي كَانَ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ... وَحِين ذَهَب مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ لِقِتَال شَاه إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور، أَرْسَل الْغُورِيّ مَنَع الْقَوَافِل مِن حَلَب عَن عَسْكَر مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ. وَحِين بَلَغ مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ ذَلِكَ تَحَرَّك لِأَخْذ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=البكري|2=1055هـ|ص=18}}</ref>
[[ملف:Bıyıklı Mehmed Paşa.jpg|تصغير|يمين|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ وُقُوف الأمير خاير بك الجركسي (أسفل اليسار)، نائب السلطنة في حلب، بين يديّ السُلطان سليم مُعلنًا ولاءه ودُخُوله في تبعيَّة الدولة العُثمانيَّة وخلعه طاعة السُلطان الغوري.]]
بناءً على هذا، شاور السُلطان سليم الوُزراء والأعيان في أمر المماليك، ومدى صحَّة تقديم قتالهم على قتال الصفويين، فسكتوا جميعهم ولم يرغب أحد بدايةً في دعم حربٍ يُريق فيها المُسلمون دماء بعضهم، ثُمَّ برز من بين الحُضُور وزيرٌ يُدعى مُحمَّد باشا بن خواجة، وكان من فُضلاء عصره، وقال أنَّ الأصوب والأهم إزالة المانع الذي يحول دون توحيد المُسلمين في دولةٍ واحدةٍ، وذلك لا يكون إلَّا بِقتال المماليك، فوافق ذلك رأي السُلطان.<ref name="منجم9"/> وسيطر على إسلامبول جوٌّ محمومٌ لِلحرب التي صوَّرها العُثمانيُّون ضدَّ المماليك كما لو أنها كانت واجبًا على كُلِّ مُسلمٍ خوضها، وتمكَّن السُلطان سليم من استصدار ثلاث فتاوى تُجيز لهُ حرب المماليك بِحُجَّة تعاونهم مع الكُفَّار.<ref name="نيقولاي">{{استشهاد مختصر|1=إيفانوف|2=1988|ص=60-61}}</ref> بِالمُقابل، لم يتردَّد المماليك بِإثارة الناس ضدَّ العُثمانيين، فوصموا السُلطان سليم [[ردة (إسلام)|بِالارتداد عن الإسلام]]، سيَّما وأنَّهُ يحلق لحيته ويرتدي [[قفطان|القفطان]] والعمامة الكبيرة، بدلًا من الملابس الإسلاميَّة التقليديَّة. لكنَّ تلك الاتهامات لم تُفضِ إلى أي نتيجة وسط اتساع التعاطف الشعبي مع العُثمانيين في الديار المصريَّة والشَّاميَّة، فعمد المصريُّون إلى عرقلة تدابير السلطنة المملوكيَّة لِلتعبئة العامَّة، ومن ذلك أن هجر الكثير من الفلَّاحين قُراهم والتجأوا إلى الشَّام تاركين خلفهم محاصيلهم. وفي القاهرة أقفل الخيَّاطون وصُنَّاع الأسلحة حوانيتهم، وتعالت في الشوارع التهديدات والشتائم المُوجَّهة ضدَّ السُلطان الغوري.<ref name="نيقولاي"/> أمَّا في الشَّام فكان الوضع أسوأ، حيثُ أنَّ الفلَّاحين الشوام لم يكتفوا بِتقويض تدابير التعبئة العامَّة، بل أخذت قُرى ومناطق بِأسرها تخرج عن طاعة المماليك وتُعلن ولائها لِلسُلطان سليم، وفي مُقدمتها أعمال حلب، ويذكر ابن إياس أنَّ سبب هذه النقمة في الشَّام تحديدًا هو تعسُّف واستبداد [[نائب السلطنة|نُوَّاب السلطنة]]،<ref name="نيقولاي"/> ويُضيف المُؤرِّخ التُركي [[يلماز أوزتونا]] أنَّ من أسباب النقمة في مصر انفصال سلاطين وأُمراء وأشراف المماليك المُتأخرين عن واقعهم وعن شعبهم، فكانوا على سبيل المِثال يظنون أنَّ قُدراتهم العسكريَّة ما تزال كما كانت زمن السُلطان [[الظاهر بيبرس]]، كما لم يكونوا مُلتحمين بِالشعب ويستشعرون الامتياز عن عامَّة الناس بحيثُ أنَّ أكثرهم لم يكن يفهم العربيَّة، وكانت لهم امتيازاتهم الإقطاعيَّة الكبيرة التي كفلت لهم حياةً مرموقةً رُغم تدهور اقتصاد الدولة المملوكيَّة في تلك الفترة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=232-233}}</ref> يقول العلَّامة [[محمد كرد علي|مُحمَّد كُرد علي]]: {{اقتباس مضمن|كَانَتِ الشَّامُ أُخْتُ مِصْرَ فِي آخِرِ الدَّوْلَةِ الشَّرْكَسِيَّةِ تُقَاسِمُهَا شقَائِهَا شِقَّ الأَبْلَمَة، فَيَسْتَبِدُّ الْمُتَغَلِّبَةُ مِنَ الْمَمَالِيكِ بِالْأَحْكَامِ بِحَسْبِ ضِعْفَ صَاحِبَ مِصْرَ وَقُوَّتِهِ، وَالصَّالِحُ فِي نُوَّابِهَا وَمُلُوكِهَا قَلِيلٌ. وَلَمْ يَسْعَد الْقُطْرَانِ بَعْدَ فِتْنَةِ تَيْمُورَلَنك بِسُلْطَانٍ عَادِلٍ يَطُولُ عَهْدُهُ لِيَعَرِفَ مَوَاقِعَ الضِّعْفِ فَيَسُدْ خَلَلُهَا، وَيُزِيحَ بِحُسْنِ الْإِدَارَةِ عِلَلَهَا… أَحَسَّ أَكْثَرُ النَّاسِ بِمَا عَرَّضَ لِلدَّوْلَةِ مِنَ الضِّعْفِ فَأَخَذُوا يَتَطَلَّعُونَ إِلَى الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَكَانَتْ إِلَى الشام وَمِصْرَ أقْرَبَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْكُبْرَى… وَقَدْ وَقَرَتْ فِي النُّفُوسِ مُنْذُ أَسَّسَ بُنْيَانِهَا السُّلْطَانَ عُثْمَانَ التُّرْكُمَانِيِّ…}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=كرد علي|2=1983|ص=205}}</ref>
[[ملف:Aleppo, Syria, 1919 Art.IWMART2686.jpg|تصغير|[[حلب القديمة]]، كان عُلماؤها وأعيانها في مُقدِّمة من راسل السُلطان سليم في سبيل إعلان الولاء والطاعة له بعد ضعف الدولة المملوكيَّة وانتشار الفساد والظُلم في بلادها.]]
ولم يقتصر انتشار المشاعر المُعادية لِلسلطنة المملوكيَّة في أوساط العامَّة فحسب، بل انتقلت إلى صُفُوف الجيش، فانخفضت درجة الانضباط بِصورةٍ كبيرة، وأخذ الجُند يتمرَّدون ويُعيثون فسادًا في الشوارع، وانضمَّ إليهم بعض أُمراء المماليك وصاروا يصيحون مُطالبين السُلطان بالسير على نهج أسلافه ووضع حدٍ لِلظُلم. ورفض قُرابة ألف جُندي مغربي كانوا نُواة مدفعيَّة المماليك الاشتراك في القتال عُمومًا، وأعلنوا أنَّهم لن يُحاربوا إلَّا الإفرنج ولن يرفعوا السلاح بِوجه إخوانهم المُسلمين. أدَّت تلك المشاعر التي اجتاحت البلاد والعباد إلى إعدام عددٍ كبيرٍ من أُمراء المماليك بِتُهمة الخيانة، فما كان من نتيجة ذلك إلَّا أن أخذ عددٌ منهم يتواصل سرًّا مع العُثمانيين ويُزوِّد السُلطان سليم بِمعلوماتٍ عن الأوضاع في مصر، وكان في مُقدِّمة هؤلاء الأمير [[خاير بك|خاير بك الجركسي]] نائب السلطنة في حلب.<ref name="نيقولاي"/> بل إنَّ العُلماء في مصر التقوا سرًّا بِالسفير العُثماني واشتكوا لهُ من الأوضاع والمظالم التي طالت الرعيَّة في عهد السُلطان الغوري، وأعلموه أنَّهم ينتظرون السُلطان سليم لِيأتي وينتشل البلاد ممَّا هي فيه. وكذلك فعل عُلماء وأعيان وقُضاة وأشراف حلب، فبعد أن اجتمعوا وتدارسوا الوضع، قرَّروا كتابة عريضة باسم الأهالي ضمَّنوها مطالبهم لِلسُلطان العُثماني، وذكروا فيها أنَّ أهل الشَّام قد ملُّوا من تعسُّف المماليك، وأنَّ رجال الإدارة والحُكم يُخالفون الشريعة الإسلاميَّة، وإنَّهم مُستعدون لِلترحيب بِالسُلطان إن رغب بِالسيطرة على الديار الشَّاميَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=آق كوندوز وأوزتورك|2=2008|ص=231}}</ref> وهكذا ساهمت جميع هذه العوامل المُشجِّعة إلى التعجيل بِمضيّ العُثمانيين قدمًا في مشروع القضاء على الدولة المملوكيَّة وضم المشرق العربي.


=== خُرُوج الحملة الهمايونيَّة إلى الشَّام ===
== ترتيبات السلطان الداخلية ==
خرج السُلطان سليم من إسلامبول وعبر إلى أُسكُدار يوم الخميس [[4 جمادى الأولى|4 جُمادى الأولى]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[4 يونيو|4 حُزيران (يونيو)]] [[1516]]م، وعيَّن لِمُحافظة أدرنة ولده الشاهزاده سُليمان، ولإسلامبول الدفتردار پيري باشا، ولِمُحافظة بورصة الصدر الأعظم السابق أحمد باشا بن هرسك. ولمَّا وصل الموكب إلى قونية أرسل السُلطان إلى مُحمَّد باشا البيقلي، الذي انتصر قبل نحو شهرٍ على الصفويين، أن يلحق به عند عُبُوره من الفُرات.<ref name="منجم9"/> ولمَّا علم السُلطان الغوري بِأنباء التحرُّك العُثماني، حرَّك هو الآخر جيشه الذي خرج به من القاهرة، واصطحب معهُ الخليفة العبَّاسي [[المتوكل على الله الثالث|مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله]] وقُضاة [[مذهب (فقه)#المذاهب الأربعة|المذاهب الأربعة]] وكبار الأُمراء والقادة ومشايخ [[طريقة (صوفية)|الطُرُق الصوفيَّة]]، وسار حتَّى دخل حلب يوم الخميس [[10 جمادى الآخرة|10 جُمادى الآخرة]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[10 يوليو|10 تمُّوز (يوليو)]] [[1516]]م.<ref name="مرج">{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=60-64}}</ref> ولمَّا علم السُلطان سليم بِوُصُول الغوري إلى حلب، أرسل إليه قاضي العسكر المولى رُكن الدين بن زيرك والأمير قراجة باشا وحمَّلهما كتابًا قال فيه: {{اقتباس مضمن|السُّلْطَانُ وَالِدِي وَأَسْأَلُهُ الدُّعَاء، لَكِنْ لَا يَدْخُلُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصُّوفِيّ فَإِنِّي مَا أَرْجِع عَنْهُ حَتَّى أَقْطَع جَادِرَتَهُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا تَدْخُلُ بَيْنَنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الصُّلْح}}، وطلب منهُ بعض السُكَّر والحلوى المصريَّة الفاخرة.<ref name="مرج"/> ولم تكن هذه الرسالة والمُبادرة السلميَّة سوى حركةً بارعةً من السُلطان سليم هدف من خلالها أن يُثني عزم الغوري عن القتال.<ref name="القاصد">{{استشهاد مختصر|1=كرد علي|2=1983|ص=209}}</ref> اطمأنَّ السُلطان الغوري لِرسالة نظيره العُثماني، واعتقد أنَّ الأخير لا يُريد الحرب، وردَّ على الرسولين قائلًا: {{اقتباس مضمن|لَوْلَا أَنَّهُ مِثْلُ وَلَدِي مَا جِئْت مِنْ مِصْرَ إلَى هُنَا بِأَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا حَتَّى نُصْلِح بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيل شَاه}}.<ref name="عمر2">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=74-75}}</ref>
=== الإصلاحات العسكرية ===
[[ملف:Yeniceri aga.jpg|تصغير|رسم لقائد عام للإنكشارية، أو "آغا الإنكشارية".]]
كان للعصيان الذي أظهرته [[إنكشارية|الإنكشارية]] بعد [[معركة جالديران|معركة چالديران]] ورفضها تتبع أثر [[إسماعيل الصفوي|الشاه إسماعيل]] ومن معه إلى الجبال الإيرانية أثرًا كبيرًا على قرار السلطان سليم بتغيير نظام تعيين ضبّاط هذه الفئة، لا سيما وأن المحرّضين على التمرّد كانوا من كبار الضبّاط وعلى رأسهم قاضي العسكر "جعفر چلبي". وبعد أن قتل السلطان سليم قاضي العسكر وجميع من حرّض على هذه الفتنة، جعل لنفسه حق تعيين قائدهم العام، ولم يكن من بينهم، ليكون له بذلك السيطرة الفعليّة عليهم، وكان النظام السابق يقتضي بتعيين القائد العام من أقدم ضبّاط الإنكشارية.<ref name="جالديران" />


وسُرعان ما فوجئ الغوري بتواتر الأخبار حول خلع الكثير من أُمراء القلاع والمُدن الطاعة المملوكيَّة ودُخُولهم في طاعة السُلطان سليم، ومن أبرز هؤلاء يُونُس بك أمير عينتاب، الذي أتى بنفسه وسلَّم مفاتيح المدينة لِلسُلطان العُثماني، إضافةً إلى أُمراء ملطية وبهسنى وكركر وغيرها.<ref name="مرج"/><ref name="أوزتونا6">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=221-225}}</ref> وتحقَّق الغوري من أنَّ الصدام إذا نشب بين المماليك والعُثمانيين فقد يُؤدِّي إلى نتائج خطيرة بِالنسبة له، ولِذلك قرَّر أن يُرسل سفارةً من قبله إلى سليم، واستشار الأُمراء والأعيان في هذا الأمر، فاقتضى رأيهم أن يُرسل رجُلين من أهل العلم والدين لِحقن دماء المُسلمين. ولكنَّ الغوري لم يفعل ذلك، وأرسل كاتم سرُّه الأمير مغلباي الدوادار إلى السُلطان سليم لِيُؤكِّد لهُ رغبته في الصُلح، كما أمر عشرة من خيار العسكر بِاصطحابه.<ref name="عمر2"/> وكان سليم قد وصل إلى مدينة البستان في [[23 جمادى الآخرة|23 جُمادى الآخرة]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[23 يوليو|23 تمُّوز (يوليو)]] [[1516]]م، فتوجَّهت إليه السفارة المملوكيَّة، ولمَّا دخلوا عليه قال لِمغلباي: {{اقتباس مضمن|يَا مَغْلَبَاي، أُسْتَاذَكَ مَا كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُرْسِلُه لَنَا؟! وَإِنَّمَا أَرْسَلَك بِهَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ يُرْعِبَ بِهِم قُلُوبَ عَسْكَرِي وَيُخَوِّفُهُم بِرُؤْيَة أَجْنَادِه، وَلَكِنْ أَنَا أَكِيْدُه بِمَكِيْدَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَكِيدَتِه}}. وقبض على مغلباي وقتل من كان معهُ من الجُند، وكاد أن [[شنق|يشنقه]]، لكنَّ الصدر الأعظم سنان باشا الخادم شفع بِالقاصد المملوكي وذكَّر السُلطان أنَّ السُفراء لا يُقتلون لِمُخالفة ذلك لِحُقوق الدُول والمبادئ السائدة، فعدل السُلطان عن قتله واكتفى بِحلق شعره ولحيته، وأركبه على حمارٍ أعرج أجرب وأعادهُ إلى السُلطان الغوري،<ref name="القاصد"/> وقال له: {{اقتباس مضمن|قُل لِأُسْتَاذِك يُلَاقِيْنَا عَلَى مَرْجِ دَابِق}}. وبِهذا، لم يرَ الغوري مفرًّا من القتال، وأمر قُوَّاته بِالخُرُوج من حلب والاستعداد لِلحرب.<ref name="عمر2"/>
=== إصلاح البحريّة ===
أهمل العثمانيون بناء [[مرفأ|المرافئ]] والترسانات البحرية لتصنيع السفن الحربية في مدينة القسطنطينية بعد أن افتتحها جد السلطان سليم، [[محمد الفاتح|محمد الثاني "الفاتح"]]، فقد اكتفى الأخير، وابنه بايزيد الثاني من بعده، بأن احتفظا ببعض السفن الحربية في مضيق [[القرن الذهبي]] بوصفه مرسى طبيعي للسفن، واقتصر عملها على حماية الشواطئ والمياه الإقليمية من أعمال [[قرصنة|القرصنة]] والتعدي. وفي شهر أغسطس من سنة [[1518]]، عزم السلطان سليم على بناء ترسانة بحرية ضخمة بغية إنشاء أسطول مكوّن من السفن الحربيّة الكبيرة، لمواجهة السفن البرتغالية بعد أن اشتد خطر [[البرتغال]] على [[الوطن العربي|العالم العربي]] ومهد الإسلام،<ref name="مسيحيين مكة">[http://www.alriyadh.com/2005/05/18/article65216.html صحيفة الرياض، مقال حول المسيحيين الذين دخلوا مكة]</ref><ref name="ألفونسو">Afonso de Albuquerque, governor of India: His life, conquests and administration by Edgar Prestage</ref> ولاستخدامه في الغزوات البحرية.<ref>[http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Atrikia51/HokmOsmani/sec01.doc_cvt.htm الدولة العثمانية: نشأتها وتطورها وانحطاطها. أوج القوة والتوسع]</ref> واختار السلطان مضيق [[القرن الذهبي]] لإنشاء المرسى، فعمل المهندسون والمعماريين بكدّ حتى أصبح للعثمانيين أسطول بحري متميز. وأحضر السلطان أمهر [[قبطان|القباطنة]] و[[ملاح|الملاحين]] [[عرب|العرب]] [[مماليك مصر|والمماليك]] [[ملاحة|لقيادة السفن]] الجديدة، لكنه لم يُقدّر له أن يرى ثمار هذا الأسطول، إذ توفي قبل القيام بأي فتوحات أو غزوات بحرية.<ref name="Sakaoğlu"/>


=== العمران والبناء ===
=== واقعة مرج دابق ===
{{مفصلة|معركة مرج دابق}}
[[ملف:Sultan Selim Kart postal.jpg|تصغير|رسم للسلطان سليم على طابع فرنسي.]]
[[ملف:Mercidabık Tertiplenme-ar.jpg|تصغير|يمين|مُخطط واقعة مرج دابق، يُظهر تموضع الجيشان العُثماني والمملوكي.]]
كان للسلطان بضعة إنجازات معماريّة نظرًا لقصر فترة حكمه ولانشغاله بالغزوات والفتوحات طيلة أيامه. بنى السلطان سليم عددًا كبيرًا من [[مسجد|المساجد]] ورمم البعض الآخر، ومن أبرز هذه المساجد: مسجد فاتح باشا ومسجد ألبستان في [[ديار بكر]]، و[[جامع الشيخ محي الدين بن عربي|مسجد ابن العربي]] في [[دمشق]]، وترميمه [[المسجد الأموي|للمسجد الأموي]]، وبدأ العمل في عهده على بناء مسجد يحمل اسمه، ولم يكتمل إلا بعد وفاته.<ref>Cemal Göçmen. ''Universal Transverse Mercator ve Lambert'in Açı Koruyan (Konform) Projeksiyonu Hakkında Eleştirel Bir Derleme.'' MTA Dergisi, 134, 41-58, 2007. [http://www.mta.gov.tr/mta_web/kutuphane/mtadergi/134/5.pdf Tam metin]</ref> كذلك بنى السلطان بضعة [[مدرسة (إسلام)|مدارس]] و[[تكية|تكايا]] وزوايا للمتصوفين،<ref>Yusuf Öztürk. ''Türkiye'de Sağlık Hizmetleri'' [http://tip.erciyes.edu.tr/Ders_Notlari/Dahili_Tip/Halk_Sagligi/Yusuf_Ozturk/T%C3%BCrkiyede%20Sa%C4%9Fl%C4%B1k%20Hizmetleri.doc Tam metin]</ref><ref name="İstanbul">{{cite book | last1 = Akat | first1 = Yücel | title = İstanbul (Türkçe) | year = 2007 | publisher = Keskin Color Yayıncılık | language = التركيّة | id = ISBN 978-975-6691-20-5 | page = 86 | chapter = Yavuz Sultan Selim Camii}}</ref> وحوّل أجمل [[كنيسة|كنائس]] [[القسطنطينية]] إلى مساجد، مع إبقائه على يمين جدّه، السلطان [[محمد الفاتح]]، [[بطريرك|لبطريرك]] [[كنيسة الروم الأرثوذكس|الروم الأرثوذكس]] آنذاك، بعدم مس نصف الكنائس الثاني الذي تركه لهم بعد فتح المدينة.<ref>الفتوح الإسلامية عبر العصور، د. عبد العزيز العمري، صفحة 384.</ref>
[[ملف:Printed form of Sultan Selim's Letter to Sultan Qansuh al-Ghuri.png|تصغير|نسخة مطبوعة من آخر رسالة لِلسُلطان سليم إلى السُلطان قانصوه الغوري. طُبعت هذه النسخة سنة [[1275 هـ|1275هـ]] في دار الطباعة العامرة بِإسلامبول.]]
[[ملف:Mercidabık Muharebesi3.png|تصغير|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ معركة مرج دابق. يظهر السُلطان سليم في أعلى اليمين والسُلطان الغوري في أعلى اليسار.]]
تقابل الجيشان العُثماني والمملوكي في [[مرج دابق (حلب)|مرج دابق]] شمال حلب يوم الأحد [[25 رجب]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[14 أغسطس|24 آب (أغسطس)]] [[1516]]م،<ref name="مرج2">{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=68-71}}</ref><ref name="عبد العزيز2">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=76-77}}</ref> وقُبيل المعركة كتب السُلطان سليم إلى الغوري لِآخر مرَّة يُعاتبه ويُعلمه بأنَّ النصر سيكون في جانب العُثمانيين وأنَّ عاقبة ظُلمه ستحلّ عليه. واللافت أنَّ كتاب السُلطان سليم هذا لم يتضمَّن تبجيلًا وتعظيمًا لِلغوري في ديباجته، كما في المُراسلات السابقة بين العاهلين، وإنَّما افتتحهُ سليم بِقوله: «إلى قانصوه الغوري أصلح الله شأنه»، كما كُتب بِالتُركيَّة وليس بِالعربيَّة. تألَّف الجيش العُثماني من قُرابة ستين ألف جُندي ومائة وخمسين مدفع بحسب التقديرات المُعاصرة،<ref group="la" name="Petry ">{{استشهاد مختصر|1=Petry |2=2008|ص=498|لغة=en}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Emecen|2=2016|ص=227-228|لغة=en}}</ref><ref group="la" name="Petry "/> بينهم قُرابة خمسة آلاف [[مملوك (تاريخ)|مملوك]]،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Hawting|2=2005|ص=76|لغة=en}}</ref> من جُملتهم 944 مملوكًا سُلطانيًّا (مماليك الغوري نفسه)،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Waterson |2=2007|ص=281|لغة=en}}</ref> وكذلك أعدادٌ من [[بدو|البدو]] والتُركُمان إلى جانب جُنُود المُقاطعات الشاميَّة والمصريَّة. ولم يستخدم المماليك المدافع والبنادق في حُرُوبهم الميدانيَّة، بل إنَّ جماعاتٌ كبيرة من جُنُودهم لم يكن لها عهد بِالسلاح الناري، وكانوا مُتشبثين بِالعُرف القديم القاضي بِأنَّ الشجاعة والبُطُولة الشخصيَّة هي العامل الفاصل في القتال.<ref>{{استشهاد مختصر|1=حتي|2=1972|ص=298|ج=2}}</ref>


وقف نائب دمشق الأمير سيباي في ميمنة الجيش المملوكي، ونائب حلب خاير بك، المُوالي سرًا لِلعُثمانيين، في الميسرة. وكان السُلطان قانصوه الغوري والخليفة العبَّاسي في القلب،<ref name="أوزتونا6"/> وحولهما مشايخ الطُرُق [[الطريقة الأحمدية|البدويَّة]] و[[قادرية|القادريَّة]] و[[رفاعية|الرفاعيَّة]]. وقيل أنَّ أوَّل من برز إلى القتال كان الأتابكي سودون العجمي ونائب دمشق سيباي والمماليك القرانصة، فقاتلوا قتالًا شديدًا وتمكَّنوا من دفع العُثمانيين وقتلوا منهم فريقًا،<ref name="مرج2"/> لكن ما لبث أن استعاد العُثمانيُّون زمام المُبادرة، وتمكَّنوا بِفضل تفوُّقهم العسكري والانقسام في قيادة المماليك العُليا من دحرهم والفتك بهم،<ref name="عبد العزيز2"/> فقُتل الأتابكي سودون العجمي، وقُتل سيباي نائب دمشق، فانهزمت الميمنة وفرَّ من بها من العسكر لِلنجاة بأنفُسهم،<ref name="مرج2"/> وفي هذه الفترة التي تحرَّج فيها القتال، سحب خاير بك - نائب حلب وقائد الميسرة - القُوَّات التي تحت إمرته، وأشاع هزيمة المماليك قائلًا: {{اقتباس مضمن|الْفِرَار الْفِرَار، فَإِنَّ السُّلْطَانَ سَلِيمًا أَحَاط بِكُم، وَقَتْل الْغُورِيّ، وَالكَسْرَةُ عَلَيْنَا}}، وأحدثت هذه الشائعة أثرًا خطيرًا، فأخذت الكتائب والفرق المملوكيَّة تنسحب رويدًا من المعركة.<ref name="عبد العزيز2"/> وحاول الغوري تثبيت العسكر وأخذ يستغيثهم، لكنَّ أحدًا لم يُجيبه، وعلا الغُبار بين الجيشين بحيث صار الجُند لا يرى بعضهم بعضًا.<ref name="مرج2"/>
=== إهتمامه بالأدب ===
[[ملف:مرج دابق محاربه سى (عثمانلى).jpg|تصغير|يمين|رسمٌ يُصوِّرُ واقعة مرج دابق بين العُثمانيين والمماليك.]]
كان السلطان سليم محبًا لل[[أدب]] و[[شعر|الشعر]] و[[تاريخ|التاريخ]]، ورغم قسوته فإنه كان يميل إلى صحبة رجال العلم، وكان يصطحب المؤرخين والشعراء إلى ميدان القتال ليسجلوا تطورات المعارك وينشدوا القصائد التي تحكي أمجاد الماضي، وفي هذا انعكاس لشخصيته، حيث وصفه عدد من معاصريه أنه "بطل ملحميّ".<ref name=Necdet127>''Necdet Sakaoğlu'', ''Bu Mülkün Sultanları'', ''pg.127''</ref> كان سليم أيضاً شاعرًا متميزًا يتقن اللغات [[لغة تركية عثمانية|التركية]] و[[لغة فارسية|الفارسية]] و[[لغة عربية|العربية]] وينظم بها الشعر تحت الاسم المستعار "''مـَهـْلـَس سليمي''"؛ وما زالت مجموعة من أشعاره بالفارسية باقية حتى اليوم في [[إسطنبول]] وفي [[برلين]] بعد أن نقلها إلى هناك الإمبراطور "[[فيلهلم الثاني|ڤيلهلم الثاني]]" سنة [[1904]].<ref name=Necdet127/> وفي إحدى أبرز قصائده، كتب السلطان يقول: {{اقتباس مضمن|''إن سجادة تكفي [[صوفية|صوفيـَين]] اثنين، ولكن العالَم كله لا يكفي لملكين''}}،<ref name=Necdet127/> وفي هذا إشارة إلى نزاعه مع الشاه إسماعيل وسلطان المماليك على زعامة [[الشرق الأوسط]].
[[ملف:Ottoman-Mamluk war (cropped)-2.jpg|تصغير|يمين|رسمٌ غربيٌّ يعود لِلقرن السادس عشر الميلادي، يُصوِّر تقابل السُلطان سليم (يمينًا) والخليفة العبَّاسي (يسارًا) بُعيد معركة مرج دابق.]]
وتتفق جميع المصادر على أنَّ السُلطان المملوكي لقى حتفه في هذه المعركة، أمَّا كيفيَّة وفاته فغير معروفة، فيقول ابن إياس أنَّ الغوري لمَّا تحقَّق لهُ الانكسار أصابه [[فالج]] في الحال، فطلب ماءً لِيشرب، ثُمَّ مشى به حصانه خطوتين فانقلب على الأرض ومات، وقيل فُقعت [[مرارة|مرارته]] وخرج دمٌ من فمه، وقيل أيضًا أنَّه [[انتحار|انتحر]] في ساعته.<ref name="مرج2"/> ويقول [[أحمد منجم باشي|مُنجِّم باشي]] أنَّ قلَّة (كُرة) مدفع كبير سقطت قُرب الغوري، فعرضهُ اضطرابٌ شديد من هولها، فخرج من بين عساكره هاربًا، لكنَّ جسده لم يُسعفه على الابتعاد كثيرًا من هول الصدمة، فطلب من غُلامه أن يبسط لهُ فراشًا قُرب نهرٍ لِيتوضَّأ، فاضطجع عليه وتُوفي ساعتئذٍ.<ref name="منجم9"/> ويقول ابن إياس أنَّ أحدًا لم يعثر على جُثَّة الغوري، ولا يُعرف ما حلَّ به «فكأنَّ الأرض قد انشقَّت وابتلعته في الحال»،<ref name="مرج2"/> في حين يقول مُنجِّم باشي أنَّ جاووشًا{{ملا|{{اقتباس مضمن|الجَاوُوش}} أو {{اقتباس مضمن|الجَاوِيش}}، أو {{اقتباس مضمن|الشَاوِيش}} حسب اللفظ العربي المُحرَّف، وبحسب [[أبجدية تركية عثمانية|الرَّسمُ العُثماني]] الأصلي هو {{اقتباس مضمن|چَاوُش}} {{تر|Çavuş}}. هو نوعٌ من المُوظفين في الدولة العُثمانيَّة كانوا يُستخدمون في مجموعةٍ من الوظائف، أهمها: خدمة [[الديوان الهمايوني|الديوان الهُمايُوني]] أثناء انعقاده، ونقل الأخبار بين القادة والعساكر في ساحات القتال على وجه الخُصُوص، وخدمة السُفُن وأُمراء البحريَّة. والجاووش في الأصل يعني الحاجب، وهو صاحب البريد والدليل في الحُرُوب وجامع الأخبار وقائد الفرقة المُكوَّنة من عشرة جُنُود.<ref>{{استشهاد مختصر|1=صابان|2=2000|ص=80-81}}</ref>}} عثر على السُلطان الغوري ميتًا على فراشه، فقطع رأسه وحمله إلى السُلطان سليم على أمل أن يُحسن إليه، فغضب عليه السُلطان لِقطعه رأس ميت ومُخالفته قواعد الأدب مع المُلُوك وإن كانوا أمواتًا، فأراد قتله، ثُمَّ شفع فيه الوُزراء، فاكتفى بِعزله عن وظيفته.<ref name="منجم9"/> وأنشد ابن إياس في هذه المُناسبة قائلًا:<ref name="مرج2"/>
{{أبيات|
إعجبوا لِلأشرف الغوريِّ الذي\\مُذ تزايد ظُلمه في القاهرة
زال عنهُ مُلكُهُ في ساعةٍ\\خسر الدُنيا إذًا والآخرة}}
وقد امتدَّت هذه الواقعة من الضحوة إلى العصر، وتتبَّع العُثمانيُّون فُلُول المماليك المُنهزمين يقتلون منهم ويأسرون، وحاول هؤلاء الدُخُول إلى حلب لولا أن أغلق الأهالي أبواب مدينتهم في وجههم، فاضطرُّوا إلى الهرب نحو [[دمشق]] في ظُرُوفٍ قاسية. وغنم الجُند العُثمانيين جميع ما في المُعسكر المملوكي من سلاحٍ وأرزاقٍ ومالٍ وتُحفٍ، فكانت مغانمهم لا حصر لها، وأقام السُلطان سليم في سرادق السُلطان الغوري قبل أن يأمر الجيش بِمُتابعة الزحف نحو حلب.<ref name="عبد العزيز2"/> وكان من أبرز أُمراء المماليك الذين قُتلوا في هذه المعركة، إلى جانب سودون العجمي وسيباي نائب دمشق: أقباي الطويل وتمراز نائب [[طرابلس (لبنان)|طرابُلس الشَّام]] وطربيه نائب [[صفد]] وأرسلان نائب [[حمص|حِمص]].<ref name="مرج2"/> ووقع الخليفة العبَّاسي مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله في أسر العُثمانيين، فأحاطهُ السُلطان سليم بِالتكريم وجلس بين يديه وخلع عليه، وأنعم عليه بِمالٍ وردَّهُ إلى حلب، ووكَّل به أن لا يهرب، أي وضعهُ في [[إقامة جبرية|إقامةٍ جبريَّةِ]] بالمدينة،<ref name="خطط"/> ثُمَّ استعدَّ لِيسير بِجيشه ويدخلها.


=== ضمّ الديار الشَّاميَّة إلى الدولة العُثمانيَّة ===
== زوجاته وأولاده ==
[[ملف:Al-Atroush Mosque, Aleppo.jpg|تصغير|يمين|جامع الأطروش في حلب، حيثُ صلَّى السُلطان سليم أوَّل صلاة جُمُعة بُعيد ضم المدينة إلى الدولة العُثمانيَّة.]]
تزوّج السلطان سليم بامرأة واحدة حسب الظاهر، وأنجب منها عدد من الأولاد، غير أن بعض المؤرخين يقول بأن السلطان [[تعدد الزوجات|تزوّج بأربع نساء]]،<ref name="Çetinoğlu">Oğuz Çetinoğlu ''Kırım Hanlığı Kronolojisi (Beşinci bölüm)''. Bahçesaray Dergisi, 35. sayı. Eylül - Ekim 2005. s.17. ISSN-1304-7744. [http://www.kirimdernegi.org/istanbul/bahcesaray/pdf/Bahcesaray-35.pdf Tam metin]</ref> إلا أنه ليس هناك من أدلّة كثيرة تدعم هذا القول. وزوجة السلطان سليم هي "عائشة حفصة خاتون" المولودة سنة [[1479]]، وقد اختلف المؤرخون في تحديد أصلها، لكن يُرجّح أنها إبنة "منگلي گراي الأوّل‎"، خاقان [[القرم (شبه جزيرة)|القرم]].<ref>The Imperial Harem : Women and Sovereignty in the Ottoman Empire p. 62 ISBN 0-19-508677-5. Oxford University Press.</ref>
بعد انتصاره الكبير، سار السُلطان سليم على رأس جيشه حتَّى وصل مدينة حلب، فخرج أهلها إلى لقائه بِالمصاحف والأعلام وهم [[تسبيح|يُسبِّحون]] و[[التوحيد في الإسلام|يُهللون]] ويتلون الآية القُرآنيَّة: {{قرآن|وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}}، وطلبوا منه الأمان، فأجابهم إلى سؤالهم وقابلهم بِمزيد الإجلال والتعظيم وأكرمهم بِوافر الصدقات.<ref name="خطط">{{استشهاد مختصر|1=كرد علي|2=1983|ص=212-213}}</ref><ref name="حلب">{{استشهاد مختصر|1=البكري|2=1995|ص=82-84}}</ref> ودخل السُلطان المدينة يوم [[29 رجب]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[28 أغسطس|28 آب (أغسطس)]] [[1516]]م، وكانت حينذاك مدينةً عامرةً بِالتجارة والثراء ويقطُنها قُرابة مائتيّ ألف نسمة أغلبهم يُزاول التجارة على نطاقٍ واسع.<ref name="أوزتونا6"/><ref name="عبد العزيز2"/> وتسَّلم السُلطان [[قلعة حلب|قلعة المدينة]] بِالأمان ووجد فيها أموالًا عظيمة من النُقُود والأمتعة والأسلحة والتُحف التي كان المماليك قد جمعوها فيها، وبحسب ابن إياس فقد بلغت قيمة هذه المتاع نحو «مائة ألف ألف دينار وثمانُمائة ألف دينار»، بينما قدَّرها مؤرخون عُثمانيُّون بِمليون دوقيَّة.<ref name="خطط"/> ومكث السُلطان سليم في حلب ثمانية عشر يومًا نظَّم فيها شؤون المدينة وأعمالها، فعُومل الحلبيُّون وكأنَّهم من الرعايا العُثمانيين مُنذُ القِدم،<ref name="أوزتونا6"/> ووُلِّي عليهم الأمير قراجة باشا، وفُوِّض القضاء إلى كمال چلبي الشهير بـ«جولمكجي زاده»، والدفترداريَّة إلى عبدي چلبي بن عبد الله باشا. وأرسل السُلطان مبعوثين من جانبه لِاستلام مُدن [[الأقاليم السورية الشمالية|الأقاليم الشَّاميَّة الشماليَّة]] وقيليقية ممَّا لم يدخل تحت جناح الدولة العُثمانيَّة بعد، فأطاعت كُلُّها وكانت نحو ثلاثين مدينة، أبرزها: [[طرندة]] و[[ديوريغي|ديوريكي]] و[[أنطاكية (مدينة تاريخية)|أنطاكية]] و[[سيس]] و[[أضنة]] و[[طرسوس]] و[[قلعة الروم]]، وغيرها.<ref name="منجم9"/><ref name="عبد العزيز2"/> وبايع أهل حلب السُلطان سليم على السمع والطاعة بِحُضُور الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل على الله، ونائب السلطنة الأسبق خاير بك، والقُضاة الثلاثة:<ref name="خطط"/> كمال الدين الطويل الشافعي، ومُحيي الدين بن الدميري المالكي، وشهاب الدين الفُتُوحي الحنبلي، أمَّا قاضي القُضاة الحنفي محمود بن الشحنة فكان قد هرب مع العسكر المملوكي إلى دمشق. وعند البيعة أظهر السُلطان سليم التعظيم والتبجيل لِلخليفة العبَّاسي مُجددًا، وجلس بين يديه، وأُشيع أنَّهُ تعهَّد لهُ بإعادة الخلافة العبَّاسيَّة إلى بغداد كما كان الحال قبل [[سقوط بغداد (1258)|سُقُوطها على يد المغول]]. أمَّا القُضاة فيُروى أنَّهُ وبَّخهم قائلًا: {{اقتباس مضمن|إِنْتُوا تَأْخُذُوا الرِّشْوَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَسْعُوا بِالْمَالِ حَتَّى تَتَوَلَّوْا الْقَضَاء. لَيْش مَا كُنْتُوا تَمْنَعُوا سُلْطَانِكُم عَنْ الْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا بِالنَّاس؟}}.<ref name="الجمعة">{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=74-76}}</ref> وأدَّى السُلطان أوَّل [[صلاة الجمعة|صلاة جُمُعةٍ]] لهُ في حلب [[جامع الأطروش|بِجامع الأطروش]]، فزُينت المدينة ودُعي له على جميع منابرها ومنابر أعمالها،<ref name="الجمعة"/> وفي [[خطبة الجمعة|الخطبة]]، دعا إمام المسجد لِلسُلطان سليم مُلقِّبًا إيَّاه بِـ«[[خادم الحرمين الشريفين]]»، وهو اللقب الذي توارثه [[قائمة سلاطين الدولة المملوكية|السلاطين المماليك]] مُنذُ قيام دولتهم عن [[قائمة سلاطين الدولة الأيوبية|السلاطين الأيُّوبيين]]، فأصبح سليمٌ بِهذا أوَّل من حمل هذا اللقب من سلاطين بني عُثمان، ويُروى أنَّهُ قال: {{اقتباس مضمن|الْحَمْدُ لله الَّذِي حَصَلَ لِي هَذَا الْمَقَامِ}}، وحين نزل الخطيب من منبره خلع عليه جميع ما كان يلبسه من مفاخر اللباس.<ref name="حلب"/>
[[ملف:Fakhreddin I & Yauz sultan Selim.png|تصغير|رسمٌ لِلأمير فخر الدين عُثمان المعني وهو يقف بين يديّ السُلطان سليم داعيًا لهُ بِالعزَّة والنصر والتمكين.]]
بعد ترتيبه شؤون حلب، خرج السُلطان بجيشه مُتابعًا زحفه جنوبًا صوب دمشق، فوصل [[حماة]] يوم [[23 شعبان]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[20 سبتمبر|20 أيلول (سپتمبر)]] [[1516]]م،<ref name="عبد العزيز2"/> فتسلَّمها بِالأمان وأقطعها لِأحد من خواص خُدَّام أبيه وهو «گوزلجه قاسم باشا»، وهو الذي تُنسب إليه قصبة قاسم باشا {{تر|Kasımpaşa}} في ناحية [[بك أوغلي]] بِإستانبول، وبعدها بِيومين وصل العُثمانيُّون إلى حِمص وتسلَّموها بِالأمان أيضًا، وفوَّض السُلطان إمارتها إلى «ابن حتمان».<ref name="منجم9"/><ref name="عبد العزيز2"/> وفي [[13 رمضان]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[9 أكتوبر|9 تشرين الأوَّل (أكتوبر)]] [[1516]]م كان السُلطان سليم يدُقُّ أبواب دمشق، فهرب منها المماليك نحو مصر، بينما خرج أهلها وهم يُهلِّلون ويُكبِّرون واستقبلوا حاكمهم الجديد وطلبوا منهُ الأمان، فأجابهم ودخل المدينة وعزم أن يشتي فيها، فإذن لِلعسكر في التفرُّق إلى المشاتي ولِكُلِّ من كان وطنه قريبًا أن يعود إليه.<ref name="منجم9"/><ref name="عبد العزيز2"/> وفي أوَّل جُمُعةٍ من دُخُوله المدينة، خُطب لِلسُلطان سليم على منبر [[الجامع الأموي (دمشق)|الجامع الأُموي]] وسائر مساجد دمشق إعلانًا بِدُخُول البلاد تحت جناح الدولة العُثمانيَّة،<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن طولون|2=1998|ص=338}}</ref> وفي أثناء ذلك تتابع دُخُول البلاد الشَّاميَّة في الطاعة، فتسلَّم السُلطان [[طرابلس (لبنان)|طرابُلس]] و[[بعلبك]] و[[القدس|بيت المقدس]] و[[صفد]] و[[غزة|غزَّة]] سلمًا،<ref name="منجم9"/> ووفد عليه أُمراء الإقطاعيَّات الصغيرة أيضًا مُعلنين ولائهم، وكان في مُقدِّمة هؤلاء أُمراء [[جبل لبنان|جبل لُبنان]] وعلى رأسهم [[فخر الدين المعني الأول|فخر الدين عُثمان المعني]] أمير [[قضاء الشوف|الشوف]]، وجمال الدين اليمني أمير الغرب، وعسَّاف التُركُماني أمير [[قضاء كسروان|كسروان]]. وبحسب الرواية الكلاسيكيَّة اللُبنانيَّة{{ملا|يُشكِّك عدد من المُؤرخين المُعاصرين بِرواية وُفُود الأمير فخر الدين عُثمان المعني، الشهير بِفخر الدين المعني الأوَّل، وإلقائه خطبته الشهيرة بين يديّ السُلطان سليم، بل هُناك شُكُوكٌ حول وُجُود أميرٍ معنيٍّ يُدعى فخر الدين في ذلك الزمن. وسبب ذلك أنَّ المصادر التي عاصرت ضمّ السُلطان سليم لِلديار الشَّاميَّة أو التي كُتبت بعد ذلك بِفترةٍ قصيرة، لا تأتي على ذكر هذا الخبر. فالبطريرك الماروني [[إسطفان الدويهي|أسطفان الدويهي]] ([[1630]] - [[1704]]م) ذكر في كتابه «تاريخ الأزمنة» أنَّ السُلطان سليم ثبَّت على حُكم الشوف أميرًا يُدعى قُرقُماز بن يُونُس المعني، دون أن يتطرَّق لأمر الخطبة المذكورة أو لِأميرٍ يُدعى فخر الدين،<ref name="الدويهي">{{استشهاد مختصر|1=الدويهي|2=1986|ص=394}}</ref> كما أنَّ المُؤرِّخ الدمشقي أحمد بن طولون الصالحي، الذي دوَّن التفاصيل عن يوميَّات السُلطان سليم في دمشق لم يأتِ على ذِكر اسم أيِّ أميرٍ معنيٍّ وفد على السُلطان سنة ضمِّه الشَّام أو حينما رجع من مصر. ويُحتمل أن يكون المُؤرخون قد وقعوا في خطأٍ بين فخر الدين عُثمان وأميرٍ آخر نتيجةً لِتشابه الأسماء والألقاب، إذ أنَّ «فخر الدين» كان إحدى الألقاب الشائعة بين الأُمراء والقادة والسلاطين في ذلك الزمان.<ref>{{استشهاد مختصر|1=فليفل|2=2019|ص=32}}</ref> ويبدو أنَّ فخر الدين عُثمان الفعلي، الذي كان أميرًا لِلشوف، توفي قبل دُخُول العُثمانيين إلى الشَّام بِقُرابة عشر سنوات، إذ يذكر المُؤرِّخ الدُرزي ابن سباط: «في ربيعٍ الآخر [912هـ] تُوفي الأمير فخر الدين عُثمان ابن معن أمير الأشواف من أعمال [[صيدا]]».<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن سباط|2=1993|ص=931|ج=2}}</ref> بناءً على هذا، يرى المُؤرِّخ اللُبناني [[كمال الصليبي]]، أنَّ الأمير المعني الذي وفد على السُلطان سليم في دمشق كان قُرقُماز بن يُونُس، أي حفيد فخر الدين عُثمان، لِتوافق عهده مع زمن دُخُول البلاد تحت جناح الدولة العُثمانيَّة.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Salibi |2=1973|ص=273, 276|لغة=en}}</ref>}}، فإنَّ فخر الدين المذكور ألقى خطبةً بليغةً أمام السُلطان سليم قال فيها:<ref name="مغبغب">{{استشهاد مختصر|1=الشهابي|2=1900|ص=561}}</ref> {{اقتباس|اللَّهُمّ أَدِم دَوَامَ مَن اخْتَرْته لِمُلْكِك، وَجَعَلْتَهُ خَلِيفَةَ عَهْدِك، وَسَلَّطَّتهُ عَلَى عِبَادِكَ وَأَرْضِك، وَقَلَّدْتَهُ سُنَّتِك وَفَرْضِك، نَاصِر الشَّرِيعَة النَّيِّرَة الْغَرَّاء وَقَائِد الْأُمَّةِ الطَّاهِرَةِ الظَّاهِرَة، سَيِّدِنَا وَوَلِيُ نِعْمَتَنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالذَّكِيُّ الْفَاضِل، الَّذِي بِيَدِهِ أَزْمَةُ الْأَمْرِ بَادْشَاه أَدَامَ الله بَقَّاه وَفِي الْعِزّ الدَّائِم أَبْقَاه وَخَلَّدَ فِي الدُّنْيَا مَجْدِهُ وَنِعْمَاه وَرَفَعَ إلَى الْقِيَامَةِ طَالِعَ سَعْدَهُ وَبَلَغَهُ مَأْمُولَهُ وَقَصْدُه، مَنْ مَلَكَ الْمُلْكَ بِالْعَقْلِ وَالتَّدْقِيقِ ومَدَّهُ الله بِالْإِقْبَال وَالتَّوْفِيق. أَعَانَنَا الله بِالدُّعاءِ لِدَوَامِ دَوْلَتِهِ بِالسَّعْدِ وَالتَّخْلِيْدِ، بِأَنْعُمِ الْعِزِّ وَالتَّمْهِيدِ، آمِين}}
فأُعجب السُلطان ببلاغة الأمير فخر الدين وبِفصاحته وجسارته، فأنعم عليه وقرَّبه، وقال: «هذا الرَّجل بالحقيقة واجبٌ أن يُدعى سُلطان البر»، ومُنذُ ذلك الوقت لُقِّب الأمير المعني بِهذا، وقُدَّم [[معنيون|المعنيُّون]] على غيرهم من أُمراء جبل لُبنان.<ref name="مغبغب"/> مكث السُلطان سليم في دمشق قُرابة شهرين وثمانية عشر يومًا أمضاها في زيارة معالم المدينة والتعرُّف عليها، فأمر بِترميم وتوسيع [[جامع الشيخ محي الدين بن عربي|جامع الشيخ مُحيي الدين بن عربي]] و[[ضريح صلاح الدين الأيوبي|ضريح الملك الناصر صلاح الدين الأيُّوبي]]،<ref name="أوزتونا6"/><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Burak|2=2015|ص=2|لغة=en}}</ref> والجامع الأُموي، وفرَّق الإنعامات على سائر المساجد.<ref>{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=192}}</ref> وأنشأ السُلطان أيضًا [[وقف (إسلام)|أوقافًا]] على مسجد الشيخ ابن عربي وبنى بِقُربه مطبخًا لِإطعام [[فقير (صوفية)|الفُقراء]]، وجعل لِلأوقاف ناظرًا يجمع غلَّتها، وبحسب ابن أبي السرور البكري فإنَّ السُلطان سليم كان أوَّل من اهتمَّ بِمقام ابن عربي من الحُكَّام المُسلمين.<ref name="حلب"/> واهتمَّ السُلطان خلال فترة إقامته بِدمشق بِمُجالسة عُلمائها ومشايخها، سيَّما الشيخ مُحمَّد البدخشي الذي زاره في الجامع الأُموي مرَّتين واستجلب دُعاءه.<ref>{{استشهاد مختصر|1=الغزي|2=1997|ص=89}}</ref>


=== خُرُوج الحملة الهمايونيَّة إلى مصر ===
أنجب السلطان عددًا من الأولاد الذكور بحسب ما تقول بعض المصادر، هم: سليمان، أورخان، موسى، وكركود، توفي ثلاثة منهم في صغرهم عدا الأمير "[[سليمان القانوني|سليمان]]".<ref name="ref674">''Yavuz Sultan Selim''. Osmanlı Araştırmaları Vakfı. [http://www.osmanli.org.tr/yazi.php?bolum=5&id=218 osmanli.org.tr] Son erişim tarihi:25 Ocak 2009.</ref> وتنص مصادر أخرى على أن هؤلاء الأمراء بقوا أحياء يرزقون في عهد أبيهم وأخاهم من بعده.<ref name="Uzunçarşılı İH"/><ref name="Zirvede Tek Başına (I. Süleyman 1520-1566)">{{cite book | last1 = Özdamarlar| first1 = Metin | title = Zirvede Tek Başına | year = 2009 | publisher = Timaş Yayıncılık | language = التركيّة | id = ISBN 978-975-263-887-7 | page = 4 | chapter = Tek Oğul}}</ref> كذلك يُقال بأنه كان للسلطان عشرة بنات، منهن: "السلطانة بيهان"، "السلطانة خديجة هانم"، "السلطانة حفصة"، "السلطانة فاطمة"، "السلطانة ينيهان"، "السلطانة شاه"، و"السلطانة هانُم خاتون".<ref name="Çetinoğlu">Oğuz Çetinoğlu ''Kırım Hanlığı Kronolojisi (Beşinci bölüm)''. Bahçesaray Dergisi, 35. sayı. Eylül - Ekim 2005. s.17. ISSN-1304-7744. [http://www.kirimdernegi.org/istanbul/bahcesaray/pdf/Bahcesaray-35.pdf Tam metin]</ref>
[[ملف:Arolsen Klebeband 01 459 2.jpg|تصغير|يمين|رسمٌ لِآخر سلاطين المماليك، الملك الأشرف أبو النصر طومان باي.]]
خِلال الوقت الذي كان السُلطان سليم يفرض فيه سيطرته على الشَّام، اجتمع أُمراء المماليك العائدون إلى مصر لِدراسة الموقف الناجم عن الهزيمة الكبيرة، واختيار سُلطانٍ جديدٍ يتولَّى القيادة ويعمل على تدعيم القُوَّة الدفاعيَّة لِلصُمُود أمام الزحف العُثماني. فوقع اختيارهم على [[طومان باي]]، الذي كان نائبًا عن السُلطان الغوري أثناء غيبته في الشَّام. امتنع طومان باي بدايةً عن قُبُول السلطنة خوفًا من الغدر الذي أصبح أبرز سمات المماليك في أواخر دولتهم، إضافةً لِعلمه بِالانقسامات الخطيرة بين صُفُوفهم والضيق الاقتصادي الذي كانت تُعاني منه الديار المصريَّة. لكنَّ أكابر الأُمراء أجبروه على القُبُول،<ref name="عمر3">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=77-79}}</ref> وجرت بيعته يوم [[14 رمضان]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[11 أكتوبر|11 تشرين الأوَّل (أكتوبر)]] [[1516]]م.<ref>{{استشهاد مختصر|1=حسن|2=2000|ص=14}}</ref> ولم يكن سليم من ناحيته مُتشوقًا لِلاستمرار في الحرب، فقد حقَّق هدفه الرئيسي وهو القضاء على التحالف المملوكي الصفوي،<ref name="عمر3"/> لِذا حاول استقطاب طومان باي سلمًا، وكتب يعرض عليه الدُخُول في طاعته لقاء بقائه وجميع الأُمراء في مناصبهم، فقال: {{اقتباس مضمن|إنَّ لَكُمْ الْأَمَانَ إِن سَلَّمْتُم لَنَا مِصْر، وَأَنْتُمْ عَلَى وَظَائِفِكُم، وَأَنَا أَكْسُو الْكَعْبَة، وَأُوَلِّي فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ مَنْ اخْتَارُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمُوا فَإِنَّا نَأْتِي إلَيْكُم}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن طولون|2=1998|ص=341}}</ref> وحمل هذه الرسالة إلى القاهرة أحد الأُمراء العُثمانيين المدعو مُراد بك الجركسي، فلمَّا عرضها على طومان باي غضب عليه وقتله،<ref name="منجم10">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=670-675}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|1=الصلابي|2=2001|ص=187}}</ref> ويُحتمل أيضًا أن يكون مقتل مُراد بك هذا قد وقع على أيدي الأُمراء المماليك دون رضى طومان باي، إذ يُعتقد أنَّ الأخير مال إلى قُبُول عرض السُلطان سليم لِمعرفته بِعدم مقدرة المماليك على التصدي لِلعُثمانيين الأقوياء، خاصَّةً بعد هزيمتهم المُدوِّية في مرج دابق، لكنَّ أُمرائه قتلوا الرسول لِإجبار سُلطانهم على الدُخُول في الحرب في سبيل الحفاظ على مُلكهم من الضياع.<ref>{{استشهاد مختصر|1=بيات|2=2003|ص=75-76}}</ref>


أثار قتل الرسول العُثماني سخط السُلطان سليم، وجعلهُ يعقد العزم على المضي قدمًا لِضم الديار المصريَّة إلى الدولة العُثمانيَّة. وما أن حلَّ الشتاء حتَّى تجهَّز السُلطان لِلخُرُوج إلى مصر، فوزَّع على الجُند خمسُمائة حِمل من الدراهم زيادةً على ما استحقُّوه من رواتبهم الدوريَّة، واشترى ألف قطارٍ{{ملا|يقول [[ابن منظور]]: {{اقتباس مضمن|والقِطارُ: أَن تَقْطُر الإِبل بَعْضَهَا إِلى بَعْضٍ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ… وقَطَرَ الإِبلَ يَقْطُرها قَطْراً وقَطَّرها: قَرَّب بعضَها إِلى بَعْضٍ عَلَى نَسَقٍ}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن منظور|2=1994|ص=107}}</ref> وكان القطارُ يتألَّف من سبعة رُؤوسٍ، أي أنَّ عدد الجمال التي اشتراها السُلطان سليم بلعت سبعة آلاف جمل.<ref name="منجم10"/>}} من [[جمل عربي|الجمال]] لِحمل المياه لِلعساكر، غير تلك التي خصَّصها لِخاصَّته وحاشيته، لِتُعين الجُمُوع خلال زحفهم في الصحراء. وكان الكثير من الأعيان والأُمراء يودُّون لو يمنعوا السُلطان عن الزحف نحو مصر وأخذها، إلَّا أنَّ أحدًا منهم كان لا يقدر على التفوُّه بِخلاف رأيه، خاصَّةً في هذه النُقطة.<ref name="منجم10"/>
== وفاته وإرثه ==
[[ملف:Büyük Mısır Seferi-ar.jpg|تصغير|خريطة تُصوِّرُ مسار السُلطان سليم وجيشه وأُسطُوله من إسلامبول إلى الشَّام ثُمَّ مصر وأبرز المعارك التي دارت بين العُثمانيين والمماليك.]]
[[ملف:Territorial changes of the Ottoman Empire 1520 ar.jpg|تصغير|الدولة العثمانية عند نهاية عهد السلطان سليم الأوّل سنة 1520.]]
أرسل السُلطان سليم بدايةً الصدر الأعظم سنان باشا الخادم في خمسة آلاف فارس إلى غزَّة لِلاستكشاف والاستخبار، ولمَّا وصلت الأخبار إلى القاهرة بتحرُّك العُثمانيين، أرسل طومان باي الأمير [[جان بردي الغزالي|جانبردي الغزالي]]، وهو أحد قادة الجيش المملوكي في واقعة مرج دابق، في ستَّة آلاف فارس إلى جانب غزَّة، بعد أن عيَّنه نائبًا لِلسلطنة في دمشق.<ref name="منجم10"/> ولمَّا وصل المماليك إلى [[خان يونس]] بيَّتهم (هاجمهم ليلًا) سنان باشا وقاتلهم قتالًا شديدًا امتدَّ إلى اليوم التالي ([[26 ذو القعدة|26 ذي القعدة]] [[922 هـ|922هـ]] = [[21 ديسمبر|21 كانون الأوَّل (ديسمبر)]] [[1516]]م)، ثُمَّ انكسر المماليك ولم يفلت منهم إلَّا جمعٌ قليل مع جانبردي الغزالي، ففرُّوا عائدين إلى مصر، وقُتل وأُسر ما عداهم. أرسل سنان باشا الأسرى ورُؤوس القتلى إلى السُلطان سليم،<ref name="منجم10"/> الذي كان قد غادر دمشق حينذاك وتوجَّه لِزيارة بيت المقدس حيثُ صلَّى [[صلاة الحاجة]] في [[المسجد الأقصى]]، الذي أُنير ترحيبًا بِقُدُومه بِنحو 12,000 قنديل.<ref name="أوزتونا7">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=226-229}}</ref>
[[ملف:Yavuz Sultan I. Selim Han.jpg|تصغير|يمين|الصورة "الرسميّة" للسلطان سليم الأوّل، الموضوعة ضمن صور قائمة السلاطين العثمانيين، والتي غالبا ما توضع في الكتب التي تتحدث عنه.]]
بعد عودة السلطان سليم من [[مصر]]، إنهمك بتجهيز [[أسطول|أسطول بحري]] ضخم لمعاودة الكرّة على جزيرة [[رودس]] بحرًا بعد أن لم يتمكن جدّه، السلطان [[محمد الفاتح]]، من غزوها في أيامه، ويُقال أيضًا أنه كان يُحضّر لحملة على [[المجر]]، كذلك كان يستعد لمحاربة الشاه [[إسماعيل الصفوي]] مجددًا بعد أن تحالف مع [[إمبراطورية برتغالية|البرتغاليين]] ضده وسمح لهم بإقامة مراكز حصينة على الجزر الفارسيّة الواقعة في [[الخليج العربي]]. جمع السلطان خمسة عشر ألف جندي من المشاة تحت قيادة "فرحات باشا" بيلر بك الأناضول، وأرسل إليهم عددًا عظيمًا من [[مدفع|المدافع]] و[[ذخيرة|الذخائر]]، وسار إليهم من [[القسطنطينية]] إلى [[أدرنة]] لقيادتهم في الحملة.


ومن بيت المقدس توجَّه السُلطان إلى مدينة [[الخليل]] وزار [[المسجد الإبراهيمي|الحرم الإبراهيمي]]، ثُمَّ ذهب إلى غزَّة حيثُ التحق بِسنان باشا، وأدَّى في المدينة [[صلاة العيدين|صلاة]] [[عيد الأضحى]]، ومنها اتَّجه إلى [[شبه جزيرة سيناء|سيناء]] وبدء باجتيازها مع جيشه العرمرمي. ومن المعروف أنَّ العُثمانيُّون تمكَّنوا من اجتياز صحراء سيناء خلال ثلاثة عشر يومًا فقط، وممَّا هوَّن عليهم ذلك كان هُطُول الأمطار في كُلِّ يومٍ تقريبًا، بحيثُ يُقدَّر أنَّ الجيش تمكَّن من اجتياز المسافة المُمتدَّة من [[قطية (بلدة)|قطية]] إلى [[القنطرة شرق|القنطرة]]، البالغة 50 كيلومترًا، في يومٍ واحد. فقد ثبَّتت الأمطار الأرض الرمليَّة تحت أرجل الجُند، فلم يتعبوا لا هم ولا دوابهم في المسير، ولم يحصل لهم أي نقصٍ في المياه.<ref name="منجم10"/><ref name="أوزتونا7"/> وسُرعان ما اجتاز العُثمانيُّون برزخ السويس، ودخلوا الديار المصريَّة، لِيبدأ الإعداد لِلمعركة الحاسمة التي كُتب لها أن تُسدل الستار على حياة الدولة المملوكيَّة.
وفي هذه الفترة أصيب السلطان بمرض عُضال يقول البعض أنه كان [[جمرة خبيثة|الجمرة الخبيثة]]، ويخمنون أنه أصيب به لشدّة تعرضه للجثث في ساحات المعارك واستنشاق روائح الأجساد المتحللة، بالإضافة إلى سفره إلى بلدان ذات مناخات مختلفة ومتناقضة أشد النقيض وتعرّضه لما في جوّها من [[داء|أدواء]].<ref name="Yavuz Sultan Selim Biography"/> ويقول آخرون أن ما أصيب به السلطان لم يكن سوى [[سرطان الجلد|سرطان جلديّ]] أصيب به جرّاء تعرّضه الطويل لأشعة [[الشمس]] خلال غزواته وسفره على صهوة جواده.<ref name="Yavuz Sultan Selim Biography"/> بينما يقول البعض أنه جرى [[سم|تسميمه]] من قبل طبيبه الخاص الذي كان يداويه.<ref name="Yavuz Sultan Selim Biography"/> وعلى الرغم من ألمه، استمر السلطان بسيره إلى [[أدرنة]] لإتمام مشروع فتح [[رودس]]، لكن لم يمهله المنون ريثما يتم ذلك، فعالجه في رحلته هذه، وتوفي في يوم [[22 سبتمبر]] سنة [[1520]]م، الموافق في [[9 شوال|9 شوّال]] سنة [[975هـ]]، في السنة التاسعة لحكمه وحوالي الخمسين من عمره.<ref>التاريخ الإٍسلامي لمحمود شاكر 8/99</ref>


=== واقعة الريدانيَّة ===
وأخفى طبيبه الخاص خبر موته عن الحاشية ولم يبلغه إلا للوزراء، فاجتمع كل من پير محمد باشا وأحمد باشا ومصطفى باشا، وقرروا إخفاء هذا الأمر حتى يحضر الأمير سليمان من إقليم صاروخان خوفًا من أن تثور الإنكشارية كما هي عادتهم عند تولّي كل سلطان.<ref name="وفاة سليم" /> فأُرسل إلى سليمان خبر موت أبيه، فقام قاصدًا [[القسطنطينية]] ودخلها في يوم [[29 سبتمبر]]، الموافق في يوم [[16 شوال|16 شوّال]]، من نفس السنة، وبعد ظهر ذلك اليوم وصل الصدر الأعظم پير محمد باشا من أدرنة وأخبر عن وصول جثمان السلطان سليم في اليوم التالي.<ref name="وفاة سليم" /> وعند ظهر يوم [[30 سبتمبر]] وصل الجثمان، فخرج السلطان سليمان والوزراء والأعيان لمقابلة النعش خارج المدينة، ثم ساروا في موكب الجنازة حتى واروا سليمًا التراب على أحد مرتفعات المدينة، حيث كان يبني مسجدًا يحمل اسمه، وأمر السلطان ببناء مدرسة وعمارة لإطعام الفقراء صدقة على روح والده.<ref name="وفاة سليم">تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 198 ISBN 9953-18-084-9</ref>
{{مفصلة|معركة الريدانية}}
[[ملف:YavuzSultanSelimMosqueIstanbul.jpg|تصغير|مسجد السلطان سليم، حيث دُفن سليم الأوّل.]]
[[ملف:Pylos Festung 375.jpg|تصغير|مثالٌ عن مدافع ثابتة من النوع الذي استخدمه المماليك دون أن يكون مُلائمًا لِلحُروب الميدانيَّة.]]
[[ملف:Selim I Tomb.jpg|تصغير|يمين|ضريح السلطان سليم.]]
ما أن أُشيع بين الناس أنَّ العُثمانيين دخلوا مصر حتَّى اضطربت أحوال البلاد، وشرع أهالي القاهرة يُحددون أماكن في أطراف المدينة وجوانبها لِيختفوا فيها إذا ما جرى قتال، بل إنَّ بعض الناس عوَّل على حمل أهله وعياله في مراكب والتوجُّه بهم إلى أعالي [[صعيد مصر|الصعيد]] ريثما تستقر الأوضاع ويُنادى بِالأمان.<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=125}}</ref> أمَّا السُلطان طومان باي فإنَّهُ رغب بِالتصدي لِلعُثمانيين عند [[الصالحية (القاهرة)|الصالحيَّة]] قبل أن يصلوا إلى موارد المياه والرعي وقبل أن يحصل مُشاتُهم وفُرسانهم على راحتهم من مسيرتهم السريعة عبر صحراء سيناء. وكان ذلك اختيارًا مُوفقًا من الناحية الاستراتيجيَّة، إلَّا أنَّ السُلطان المملوكي لم يستطع تنفيذ ذلك إزاء مُعارضة كبار القادة والأُمراء الذين أصرُّوا على الوُقُوف عند [[العباسية (القاهرة)|الريدانيَّة]]، خارج القاهرة مُباشرةً.<ref name="عمر3"/> وهدف أُمراء المماليك من وراء هذا أن يهزموا العُثمانيين ويُجبرونهم على التراجع إلى الصحراء ومُطاردتهم فيها وإبادتهم، ثُمَّ استرداد الشَّام بِيُسر.<ref name="أوزتونا7"/> وعمل طومان باي ومن معهُ على تقوية تحصينات الريدانيَّة على عجل، فنصب قُرابة مائتيّ مدفع حول المُعسكر، وسلَّح بعض الجُنُود بالبنادق، مُعتمدًا على الاشتباك مع العُثمانيين في معركةٍ طويلة.<ref name="عمر3"/> والحقيقة أنَّ الجيش المملوكي حمل في طيَّاته بُذُور إخفاقه أمام الجيش العُثماني، فالمدافع التي نصَّبها طومان باي كانت مدافع ثابتة تُستخدم في الدفاع عن القلاع، ولا تُستعمل في الحُرُوب الميدانيَّة، كما عانى من فُقدان التُركُمان والأكراد الذين كانت بلادهم قد أصبحت جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة، ولا يُقاتلون إلَّا في جُيُوشها، فلم يعد بإمكانه إلَّا الاعتماد على خيَّالته التُركيَّة والشركسيَّة وفُرسان العربان، وكان الأخيرين لا يُركن لهم لِكُرههم الحروب النظاميَّة والميدانيَّة ولِعدم انتظامهم.<ref name="أوزتونا7"/>
يروي المؤرخون الذين عاصروا السلطان سليم الأوّل أنه كان رجلاً فارغ الطول، عريض المنكبين، وذو [[شارب]] عظيم.<ref name="Selim the Excellent" /> وقيل بأنه كان يضع [[قرط|أقراطًا]] في أذنيه، لكن عددًا من المؤرخين يشك بصحة هذا الأمر، ذلك لأن وضع الرجل لأقراط محرّم في [[إسلام|الإسلام]]، بما أنه يُعتبر تشبهًا بالنساء.<ref>Prof. Dr. Ahmed Akgündüz, Doç. Dr. Said Öztürk. ''Bilinmeyen Osmanlı'' s.147 ISBN 975-7268-28-3</ref> كذلك فقد كان عصبيّ المزاج سريع الغضب وذو شخصيّة ملحميّة كما أبطال الروايات. ويؤخذ عليه ميله لسفك الدماء، فكان سريع الفتك بمن يعارضه، مسرفًا في قتل خصومه لا يعرف العفو مطلقًا، فقتل سبعة من وزرائه لأسباب واهية. وكان كل [[وزير]] مهددًا بالقتل لأقل هفوة، حتى صار يُدعى على من يُرام موته بأن يُصبح وزيرًا له.<ref name="وفاة سليم" /> وفي إحدى الروايات أن أحد وزرائه طلب منه مازحًا أن يخبره مقدمًا بتاريخ [[إعدام|إعدامه]]، حتى يرتب أموره، فرد عليه السلطان يقول بأنه في الواقع كان يفكر لفترة من الوقت في إعدامه إلا أنه لم يجد بعد البديل المناسب، ولكنه وعده بإخباره بمجرد العثور على البديل.<ref name=Necdet127/> ويجمع المؤرخون أنه على الرغم من فظاظته، فقد كان سليم الأول فاضلاً ذكيًا، بعيد الغور، وصاحب رأي وتدبير وحزم، وإنه على الرغم من قصر مدة ولايته، فإنه حضّر [[الدولة العثمانية]] لتصل أعلى درجات الكمال والازدهار في عهد إبنه [[سليمان القانوني|سليمان]].<ref name=Necdet127>''Necdet Sakaoğlu'', ''Bu Mülkün Sultanları'', ''pg.127''</ref> وهناك مأثورة شهيرة مفادها أن سليم ملأ الخزينة الملكية حتى اتخمت ثم أقفلها بختمه الشخصي، وقال: "إذا استطاع شخصٌ أن يملأ الخزينة أكثر من ذلك، فليقفلها بختمه"، أي بدلاً من ختم سليم، لكن الخزينة ظلت مغلقة بختم الأخير حتى انهيار الدولة العثمانية بعد حوالي 400 سنة.<ref name="سلاطين وباشوات" /> وقد أُطلق اسم هذا السلطان على عدد من المواقع في [[تركيا]] وخارجها، مثل مسجد السلطان سليم القاطع في مدينة [[مانهايم]] [[ألمانيا|بألمانيا]]،<ref name="yahoo">[http://news.yahoo.com/s/csm/20070726/ts_csm/ominaret In Europe, skylines reflect the rise of Islam], [[Yahoo]]</ref> وفي سنة [[2010]] أنشأ [[فيلم|فيلم سينمائي]] تركي يحمل اسم السلطان ويتحدث عن حياته.<ref>[http://vizyondan.net/?p=9204 عرض لفيلم السلطان سليم القاطع]</ref>
[[ملف:Battle near Cairo 1517 -Merian.jpg|تصغير|يمين|طبعة حجريَّة تُصوِّرُ واقعة الريدانيَّة بِشكلٍ خياليٍّ، بحيثُ يبدو السُلطانان سليم وطومان باي وهما يتقاتلان عند [[قائمة أسوار وأبواب القاهرة القديمة|أسوار القاهرة]].]]
[[ملف:Yavuz Mısır Seferi.jpg|تصغير|السُلطان سليم يُشاهد القتال من إحدى الهضاب.]]
أرسل السُلطان سليم الصدر الأعظم سنان باشا لِلاستطلاع والاستعلام عن الاستعدادات المملوكيَّة، فعاد إليه يقول أنَّ مدافع المماليك مُوجَّهة نحو طريق [[العدلية (الشرقية)|العادليَّة]] على اعتبار أنَّها الطريق المُلائم والمنطقي والمفتوح لِلوافدين إلى القاهرة، وبِهذا فلا يُمكن دُخُول المدينة قبل اجتياز الاستحكامات المملوكيَّة.<ref name="أوزتونا7"/> عندئذٍ رأى السُلطان أن يُباغت المماليك من موضعٍ آخر، فاستشار من يعلم طبيعة تلك البلاد، فاتَّفقت كلمتهم على النُزُول من [[هضبة المقطم|جبل المُقطَّم]]، ورُتِّب الجيش بناءً على هذا، فقام في الميمينة الصدر الأعظم سنان باشا مع عسكر الأناضول، ومعهُ كُلٌ من علي بك بن شهسوار وفرُخشاد بك البايندري ومحمود بك الرمضاني، وقام في الميسرة الوزير [[يونس باشا|يُونُس باشا]] مع عسكر الروملِّي وأُمرائها، وبين يديّ السُلطان الإنكشاريَّة وسائر طائفة القپوقوليَّة.<ref name="منجم10"/>


وفي يوم [[29 ذو الحجة|29 ذي الحجَّة]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[23 يناير|23 كانون الثاني (يناير)]] [[1517]]م، أمر السُلطان عدَّة كتائب عُثمانيَّة بِالتظاهر بِالهُجُوم، في حين سار هو بِبقيَّة الجيش ونزل من الجبل حسب الخطَّة، فأصبح خلف المماليك. ولمَّا شاهد طومان باي العُثمانيين خلفه أدرك حُلُول العاقبة التي كان يخشاها، واضطرَّ إلى الخُرُوج لِلصحراء المفتوحة ومُجابهة أعداءه، فلم يستفد من المدافع في شيء لِعدم إمكان تحريكها.<ref name="منجم10"/><ref name="أوزتونا7"/>
== مصادر ==

{{ثبت المراجع وإطار}}
وأمطر العُثمانيُّون المماليك بِالرصاص فحصدوهم حصدًا، وقُتل منهم ما لا يُحصى،<ref name="القاهرة">{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=146-148}}</ref> لكنَّ فُرسانهم استمرُّوا يُقاتلون بِشجاعتهم المعهودة، فهجم جانبردي الغزالي في نُخبةٍ من العسكر على الصدر الأعظم سنان باشا في الميمنة، فخرق الصُفُوف وحرَّك الجُند من مواضعهم وفرَّقهم، فاضطرَّ سنان باشا إلى مُباشرة القتال بِنفسه، فأصابه الغزالي بِجراحٍ بليغةٍ ثُمَّ انسحب، ولم تُمهل تلك الجراح الصدر الأعظم طويلًا، فتُوفي مُتأثرًا بها. ولم يستفد المماليك من شجاعة فُرسانهم شيئًا، فسُرعان ما انكسروا وقُتل جمعٌ عظيمٌ من أُمرائهم، وفرَّ طومان باي ناجيًا بِحياته بِاتجاه الصعيد، في حين فرَّ جانبردي الغزالي نحو الصالحيَّة.<ref name="منجم10"/>

اغتنم الجُنُود العُثمانيُّون الكثير من الأسلحة والدواب والأقمشة والأمتعة والذخائر ممَّا تركه المماليك خلفهم،<ref name="القاهرة"/> وأمر السُلطان بِتتبًّع الهاربين وإعدام جميع الأسرى، فقُتل منهم عالمٌ عظيم. وكان ممن قُتل من القادة والأُمراء العُثمانيُّون في هذه المعركة: محمود بك الرمضاني، ويُونُس بك أمير عينتاب، وعلي آغا الخزندار، وغيرهم. ويُروى أنَّ السُلطان سليم حزن حُزنًا شديدًا لِمقتل سنان باشا، فبكاه وتأسَّف عليه قائلًا: {{اقتباس مضمن|نِلْتُ مِصْر، وَفَقَدْتُ يُوسُفَ الَّذِي لَا تَعْدِلَهُ مِصْر بِوَجْه}}. بعد الواقعة، عيَّن السُلطان الوزير يُونُس باشا صدرًا أعظمًا، وحدَّد رجالًا لِضبط القاهرة في اليوم التالي، وأمر بِدفن القتلى.<ref name="منجم10"/><ref name="أوزتونا7"/>

=== ضمّ القاهرة وحرب الشوارع مع المماليك ===
[[ملف:Sultan Selim I looks upon Cairo.png|تصغير|رسمٌ تخيُّليّ لِلسُلطان سليم وهو يُشيرُ إلى مدينة القاهرة. أُوكلت مُهمَّة القضاء على أُمراء وأعيان المماليك في المدينة إلى العساكر العُثمانيين قبل أن يدخلها السُلطان.]]
في اليوم التالي لِواقعة الريدانيَّة، أي الجُمُعة [[30 ذو الحجة|30 ذي الحجَّة]] [[922 هـ|922هـ]] المُوافق فيه [[24 يناير|24 كانون الثاني (يناير)]] [[1517]]م، أرسل السُلطان سليم الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل على الله ومعهُ القُضاة الثلاثة: كمال الدين الطويل الشافعي ومُحيي الدين الدميري المالكي وشهاب الدين الفُتُوحي الحنبلي، والأمير خاير بك، وعددٌ من الوُزراء، وحشدٌ غفير من الجُنُود العُثمانيين. فدخلوا جميعهم من [[باب النصر (القاهرة)|باب النصر]] وعلى رأسهم الخليفة وأمامه المشاعليَّة{{ملا|المشاعليَّة هم طائفة من المصريين كانوا يُزاولون عدَّة أعمال ليلًا ونهارًا. مُفردهم «مشاعلي»، واسمهم مُشتق من المشاعل التي كانوا يستخدمونها ليلًا، وكان يُطلق عليهم أيضًا «الضويَّة». من أبرز المهام التي أُنيطت بهم: قراءة الفرمانات السُلطانيَّة والديوانيَّة الصادرة عن السُلطان أو عن والي القاهرة على الملأ، وتنفيذ أحكام الجلد بالباعة والتُجَّار الذين يُخالفون التسعيرة أو يُطففون الميزان والمكيال، وبعض الأعمال الدنيئة مثل نزح آبار البُيُوت والحمَّامات وتسليك المجاري المنزليَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=الشناوي|2=2013|ص=151 (الهامش)}}</ref>}}، الذين جعلوا يُنادون لِلناس بِالأمان والاطمئنان وبِعودة البيع والشراء، وأنَّ لا أحد سيُشوِّش على غيره من الرعيَّة، وقد غُلق باب الظُلم وفُتح باب العدل، وأنَّ على كُلِّ من يحمي مملوكًا من مماليك السُلطان طومان باي أن يُسلِّمه لِلجُند العُثمانيين وإلَّا [[شنق|شُنق]] على باب داره، والدُعاء لِلسُلطان سليم بِالنصر، فضجَّ لهُ عوام الناس بِالدُعاء.<ref name="القاهرة"/> وفي ذلك اليوم خُطب باسم السُلطان على منابر [[حي مصر القديمة|مصر القديمة]] والقاهرة بالشكل التالي: {{اقتباس مضمن|وَانْصُر اللَّهُمّ السُّلْطَان بْنِ السُّلْطَانِ، مَالِك البَرَّيْن وَالْبَحْرَيْن، وَكَاسِر الَجيْشَيْن، وَسُلْطَان العِرَاقَيْن، وَخَادِم الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، الْمَلِك الْمُظَفَّر سَلَيْم شَاه، اللَّهُمّ أُنْصُرُه نَصْرًا عَزِيزًا وَافْتَح لَهُ فَتْحًا مُبِينًا، يَا مَالِكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ}}.<ref name="القاهرة"/> وأرسل السُلطان سليم جماعةً من الإنكشاريَّة وأوقفهم على أبواب المدينة لِيمنعوا سائر طوائف الجُند العُثماني من النهب والسلب، ولِإخافة اللُصُوص الذين قد يستغلُّون فترة الاضطرابات المُرافقة لِانتقال السُلطة، فيُعيثون فسادًا في البلد. وأمر السُلطان أيضًا بِالبحث عن المماليك الهاربين والمُتخفين، فلاحقتهم العساكر العُثمانيَّة ووجدوا بعضهم مُختبئًا في المقابر وبعضهم الآخر في غياض [[حي المطرية (القاهرة)|المطريَّة]]، كما لاحقوا أولئك المُختبئين في القاهرة نفسها، فأتوا بهم إلى السُلطان الذي أمر بِضرب أعناقهم جميعًا دون تفرقةٍ بين الأمير المُقدَّم أو المملوك العادي.<ref name="القاهرة"/>
[[ملف:Rycaut1694bd1 0276 (cropped).jpg|تصغير|يمين|طبعة حجريَّة ألمانيَّة تُصوِّرُ اقتتال العُثمانيين والمماليك داخل القاهرة.]]
أقام السُلطان سليم في [[بولاق]] على شاطئ النيل طيلة ثلاثة أيَّام جرى خلالها تتبُّع المماليك وقتلهم كما أُسلف. وفي يوم الإثنين [[3 محرم|3 مُحرَّم]] [[923 هـ|923هـ]] المُوافق فيه [[27 يناير|27 كانون الثاني (يناير)]] [[1517]]م، أوكب السُلطان ودخل القاهرة من باب النصر وشقَّ المدينة، فاصطفَّ الناس لِلتفرُّج عليه وعلى موكبه الحافل، وارتفعت الأصوات بِالدُعاء لهُ من الناس قاطبةً بحسب شهادة ابن إياس، وسُلِّمت لهُ مفاتيح [[قلعة صلاح الدين الأيوبي (القاهرة)|قلعة الجبل]]، مقر السلاطين المماليك السابقين، لكنَّهُ قرَّر أن لا يمكث فيها، فعاد إلى بولاق،<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=150}}</ref> بعد أن ترك في القاهرة حاميةً صغيرة.<ref name="أوزتونا7"/> وعلم طومان باي بأمر الحامية هذه، فجمع جمعًا من بقيَّة المماليك والعربان ودخل بهم القاهرة وقتل من وجد فيها من الجُنُود العُثمانيين، وسدَّ مداخلها ومخارجها، واستعدَّ لِلقتال مُجددًا،<ref name="منجم11">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=676-681}}</ref> فاتخذ من [[مجموعة الأمير شيخو العمري الناصري|عمارة الشيخونيَّة]] مركزًا لِعمليَّاته الحربيَّة، وحفر عدَّة خنادق في الشوارع لِيُعيق تقدُّم العُثمانيين.<ref name="عمر4">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=79-81}}</ref> ولمَّا وصل الخبر إلى السُلطان سليم، عيَّن الصدر الأعظم يُونُس باشا، والبكلربك مُصطفى باشا، وإياس [[آغا الإنكشارية|آغا الإنكشاريَّة]]، والعلمدار فرحات آغا، في نُخبة العسكر لِقتال طومان باي، فساروا إليه ودار بين الطرفين قتالٌ وضربٌ عنيف من وراء السُدُود التي أقامها المماليك، فامتدَّ القتال نحو ثلاثة أيَّام قُتل فيه من الجمعين خلقٌ كثير، فما كان من سليم إلَّا أن ركب بِنفسه في اليوم الثالث وبين يديه الإنكشاريَّة، فوجد طريقًا لِلالتفاف حول المماليك من جهة [[مسجد السلطان الناصر حسن ومدرسته|عمارة السُلطان حسن]]، وصعد الإنكشاريُّون إلى سُطُوح الأبنية وأطلقوا نيرانهم على الأعداء،<ref name="منجم11"/> فتقهقر المماليك واحتموا في [[زاوية (مدرسة)|الزوايا]] والمنازل والإسطبلات خوفًا من سطوة العُثمانيين،<ref name="عمر4"/> فجرَّ هؤلاء المدافع الصغيرة وأطلقوها على تلك الأبنية فهدموها على رؤوس المُقاتلين. وامتدَّ القتال إلى آخر الليل دون أن ينقطع ساعة، حتَّى كان يوم الجُمُعة [[7 محرم|7 مُحرَّم]] [[923 هـ|923هـ]] المُوافق فيه [[31 يناير|31 كانون الثاني (يناير)]] [[1517]]م، حين انكسرت أعضاد المماليك وتفرَّقوا، فهرب طومان باي إلى مصر القديمة ومنها إلى الصعيد. وأُسر من المماليك نحو ثمانمائة رجُل بحسب مُنجِّم باشي، فأُحضروا عند السُلطان سليم الذي أمر بِضرب أعناقهم، فقُتلوا عن آخرهم.<ref name="منجم11"/> وامتلأت شوارع القاهرة وأزقَّتها بِجُثث الجُنُود وجيف الدواب بحيثُ كان لا يُمكن العُبُور منها، وخيف من انتشار الأوبئة والأمراض نتيجة ذلك، فأمر السُلطان بإحراق البُيُوت التي تحصَّن فيها المماليك وبِإلقاء الجُثث والجيف في النيل لِلحيلولة دون فساد الهواء.<ref name="منجم11"/>
[[ملف:السلطان سليم يدخل القاهرة.jpg|تصغير|السُلطان سليم يدخل القاهرة.]]
ولمَّا تحقَّق انكسار المماليك والنصر العُثماني الحاسم، أرسل الأمير جانبردي الغزالي إلى السُلطان سليم يستأمنه ويطلب العفو، ويُعلن خُضُوعه وتبعيَّته. فأجابه السُلطان إلى مطلبه وعفا عنه، وأكرمه بِخُلعٍ فاخرة.<ref name="منجم11"/> وفي يوم السبت [[23 محرم|23 مُحرَّم]] [[923 هـ|923هـ]] المُوافق فيه [[15 فبراير|15 شُباط (فبراير)]] [[1517]]م، دخل السُلطان سليم القاهرة بِمراسم هائلة،<ref name="أوزتونا7"/><ref name="منجم11"/> بعد أن نُظِّفت شوارعها وأزقَّتها من الجُثث والجيف، وأمر بِضرب سككٍ نقديَّةٍ ذهبيَّةٍ بِاسمه في دار السك القاهريَّة.<ref name="أوزتونا7"/> وفي الجُمُعة التالية، صلَّى السُلطان في [[مسجد السلطان المؤيد شيخ|مسجد المُؤيَّد شيخ]]، ويُروى أنَّهُ لمَّا سمع تلقيبه بِخادم الحرمين الشريفين نزع عمامته وقلب [[سجادة صلاة|سجَّادته]] ثُمَّ سجد على الأرض باكيًا شُكرًا لله لِحُصُوله على هذا الشرف. وبعد الفراغ من الصلاة أعطى الخطيب مائتيّ دينار وألبسهُ ثلاث خُلع.<ref name="منجم11"/> وأقام السُلطان سليم في قلعة الجبل هذه المرَّة، واحتجب فيها عن الناس ولم يظهر لِأحد بحسب ما يروي ابن إياس، وأمر بإغلاق أبواب القاهرة ودُرُوبها وقت صلاة الجُمُعة خوفًا من المماليك أن لا يهجموا على المدينة ويدخلونها على حين غفلةٍ من أهلها، لا سيَّما وأنَّ الأخبار كانت قد بدأت ترد من الصعيد ومفادها أنَّ طومان باي قويت شوكته والتفَّ حوله جمعٌ من العربان والشراكسة، وأنَّهُ يعقد العزم على مُتابعة القتال.<ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=162-164}}</ref>

=== أسر طومان باي وإعدامه ===
[[ملف:Tomanbay İdam.png|تصغير|يمين|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ إعدام طومان باي شنقًا.]]
جمع طومان باي نحو ثلاثة آلافٍ من بقيَّة المماليك وقبائل العربان بُغية استرداد مُلكه المفقود،<ref name="منجم11"/> وحاول أولًا مُفاوضة السُلطان سليم لِيسترجع منه البلاد سلمًا، مُعلنًا استعداده لِأن يحكم مصر تحت جناح الدولة العُثمانيَّة كوالٍ من وُلاتها، إذا جلا العُثمانيُّون عن الديار المصريَّة، فكتب إلى سليم يقول: {{اقتباس مضمن|إنْ كُنْت تُرَوِّم أَنْ أَجْعَلَ الْخُطْبَة وَالسِّكَّة بِاسْمِك، وَأَكُون نَائِبًا عَنْك بِمِصْر، وَأَحْمِلُ إلَيْك خَرَاج مِصْر حَسْبَمَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ بَيْنَنَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَحْمِلُهُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَارْحَل عَنْ مِصْرِ أَنْتَ وَعَسْكَرُك إلَى الصَّالِحِيَّة وَصِن دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَنَا، لَا تَدْخُلُ فِي خُطْبَةِ أَهْلِ مِصْرَ مِنْ كِبَارِ وَصِغَارٍ وَشُيُوخٍ وَنِسَاء، وَإِنْ كُنْت مَا تَرْضَى بِذَلِكَ، فَاخْرُج وَلَاقِيْنِي فِي بَرٍّ الجِيزة، وَيُعْطِي الله تَعَالَىٰ النّصْرَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَّا}}. ويُقال أنَّ حاشية الرسالة اشتملت على تهديدٍ أكثر: {{اقتباس مضمن|لَا تَحْسَب أَنِّي أَرْسَلْتُ أَسْأَلُكَ فِي أَمْرِ الصُّلْحِ عَنْ عَجَزٍ، فَإِنّ مَعِي ثَلَاثِين أَمِيرًا وَمَعِي مِنْ الْمَمَالِيكِ السُّلْطَانِيَّة وَالعِرْبَان نَحْوَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَا أَنَا بِعَاجِزٍ عَنْ قِتَالِك، وَلَكِن الصُّلْح أَصْلَح إلَى صَوْن دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ}}.<ref name="عمر4"/> واستقبل السُلطان سليم هذا العرض بِجديَّةٍ تامَّة، وأرسل سفارةً من كبار العُلماء كان من بين أعضائها قُضاة مصر الأربعة، لِيتفاوضوا مع طومان باي، وأرسل صُحبتهم أميرًا من أُمرائه وجماعة من الجُند العُثمانيين. ولمَّا وصلت السفارة إلى مُعسكر طومان باي لم يُوافق على شُرُوط السُلطان سليم، كما حال الأُمراء المماليك دون حُصُول أي تفاهم بين الجانبين، فثاروا على الوفد العُثماني وقتلوا أغلب أعضائه، بما فيهم قاضي القُضاة الحنفي محمود بن الشحنة وعبد السلام قاضي [[البهنسا]].<ref name="الجيزة">{{استشهاد مختصر|1=ابن إياس|2=1984أ|ص=171-174}}</ref> وحنق السُلطان سليم وتحقَّق أنَّ طومان باي لا يُريد إلَّا الحرب، فأمر بِضرب أعناق القادة المماليك الكبار الذين سجنهم، واستعدَّ لِلقتال بعد أن رأى أنَّ هذا وحده ما سيحسم الأمر بينه وبين نظيره المملوكي.<ref name="عمر4"/>

تقدَّم طومان باي عن طريق النيل وتقابل مع العُثمانيين وجهًا لِوجه عند [[حي جنوب (الجيزة)|الجيزة]] في [[6 ربيع الأول|6 ربيع الأوَّل]] [[923 هـ|923هـ]] المُوافق فيه [[28 مارس|28 آذار (مارس)]] [[1517]]م، فكان بين الفريقين وقعة مهولة قيل أنها كانت أشد من واقعة الريدانيَّة، تقدَّم المماليك في بدايتها وكسروا العُثمانيين، لكنَّ هؤلاء سُرعان ما تمكَّنوا من أعدائهم بِفضل أسلحتهم الحديثة وكفائتهم القتاليَّة، فأمطروا المماليك بالرصاص فهزموهم شرَّ هزيمة، وولَّى طومان باي هاربًا إلى [[البحيرة (عمل)|البحيرة]]،<ref name="الجيزة"/> حيثُ احتمى عند مشايخ [[بنو محارب|بني مُحارب]]، وكان بين كبيرهم الشيخ حسن بن مرعي والسُلطان المملوكي صداقة قديمة، فأركن الأخير لِلشيخ حسن، لا سيَّما بعد أن [[قسم (لغة)|أقسم]] لهُ على المُصحف ألَّا يخونه أو يغدره.<ref name="الجيزة"/> لكنَّه حنث بِيمينه، فأحاط رجاله بِطومان باي من كُل جانب وأمسكوا به، ثُمَّ أرسل إلى السُلطان سليم يُعلمه بِذلك، فأرسل السُلطان جماعةً من عسكره قبضوا على نظيره المملوكي ووضعوه في الحديد وعادوا به إلى القاهرة.<ref name="الجيزة"/> ولمَّا وقف طومان باي بين يديّ السُلطان سليم، أمر بِإحضار عرشٍ ووضعه بجانبه، وأجلسه عليه،<ref name="أوزتونا8">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=230}}</ref> واحتفظ طومان باي بِشجاعته وهيبته ووقاره في حُضُور السُلطان سليم، فأُعجب به إعجابًا كبيرًا، وقال له: {{اقتباس مضمن|أَنَّا مَا جِئْتُ عَلَيْكُمْ إلَّا بِفَتْوَى عُلَمَاءِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، وَأَنَا كُنْتُ مُتَوَجِّهًا إلَى جِهَادٍ الرَّافِضَة وَالْفُجَّار، فَلَمَّا بَغَى أَمِيرُكُم الْغُورِيّ وَجَاء بِالعَسَاكِر إلَى حَلَب، وَاتَّفَق مَع الرَّافِضَة وَاخْتَارَ أنْ يَمْشِيَ إلَى مَمْلَكَتِي الَّتِي هِيَ مُوَرِّث آبَائِي وأجدادي. فَلَمَّا تَحَقَّقَت تَرَكْت الرَّافِضَة وَمَشَيْت إلَيْه}}.<ref name="عمر4"/> ثُمَّ استطرد قائلًا: {{اقتباس مضمن|وَالله مَا كَانَ قَصْدِي أَذَيَّتُك، وَنَوَيْتُ الرُّجُوعَ مِنْ حَلَب، وَلَو أَطَعْتنِي مِنْ الْأَوَّلِ وَجَعَلَتَ السِّكَّة بِاسْمِي مَا جِئْتُ لَك وَلَا دِسْتُ أَرْضِك}}. فردَّ عليه طومان باي قائلًا أنَّ الأنفُس التي تربَّت في العز لا تقبل الذُل، وأنَّ [[أسد|الأسد]] لا يخضع [[ذئب رمادي|لِلذئب]]، وأنَّ أحدًا من فُرسان العُثمانيين لا يقدر على مُقارعته في حومة الميدان. وزاد إعجاب السُلطان سليم بِطومان باي لِشجاعته وحُجَّته ومنطقه، وتردَّد في اتخاذ قراره النهائي بِشأنه،<ref name="عمر4"/> ويُقال أنَّهُ كان يعتزم إطلاق سراحه وإكرامه،<ref name="منجم11"/> لكنَّ الأُمراء والقادة المماليك الذين كانوا قد التحقوا بِالعُثمانيين خافوا نقمة طومان باي فيما لو أطلقه السُلطان وعيَّنه واليًا على الديار المصريَّة، فأخبروا سليمًا بِأنَّهُ ما يزال يسعى وراء سلطنة مصر والاستقلال بها، وشرحوا لهُ ذلك بِإسهاب، وأقنعوه بِوُجُوب قتله.<ref name="أوزتونا8"/> ويبدو أنَّ سليم رأى في إطلاق طومان باي فسادًا عظيمًا وعدم استقرار لِمُلك العُثمانيين في الديار المصريَّة، فأمر به فشُهِّر مُعتقلًا بين أسواق القاهرة ومحلَّاتها، ثُمَّ شُنق على [[باب زويلة (القاهرة)|باب زويلة]]، وبقيت جُثَّته مُعلَّقة نحو ثلاثة أيَّام حتَّى عَلِم القريب والبعيد.<ref name="منجم11"/> بعد ذلك أُقيم لِطومان باي تشييعٌ عظيم بحيثُ قيل أنَّهُ لو مات وهو على العرش لِما أُقيم لهُ مثل هذا الاحتفال، واكتنف السُلطان سليم تابوت طومان باي وشارك في تشييعه جميع أعيان البلاد، كما وزَّع السُلطان النُقُود الذهبيَّة على الفُقراء طيلة ثلاثة أيَّام صدقةً وتطييبًا لِروح آخر سلاطين المماليك.<ref name="أوزتونا8"/>

=== دُخُول الحجاز واليمن تحت جناح الدولة العُثمانيَّة ===
[[ملف:Portuguese attack on Jiddah 1517.jpg|تصغير|الأُسطُول العُثماني المملوكي المُشترك بِقيادة سلمان ريِّس و[[حسين الكردي|حُسين الكُردي]] في مياه مدينة جدَّة [[حصار جدة (1517)|دفاعًا عنها ضدَّ الپُرتُغاليين]]. جرت هذه الواقعة قُبيل ضم العُثمانيين لِلقاهرة بِبضعة شُهُور.]]
كان طبيعيًّا أن يكون [[الحجاز]] محط آمال السُلطان سليم المُتطلِّع إلى توحيد ديار الإسلام تحت سلطنته، فقد ظفر بِلقب خادم الحرمين الشريفين دون أن تكون لهُ السيادة الفعليَّة [[الحرمان الشريفان (توضيح)|عليهما]]، وبعد أن دخلت الشَّام ومصر تحت جناح الدولة العُثمانيَّة، لم يبقَ من الأقاليم المملوكيَّة السابقة خارجًا عن نطاق السلطنة العُثمانيَّة سوى الحجاز و[[إقليم اليمن|اليمن]]. وكان السُلطان سليم عندما تمَّت لهُ السيطرة على مصر قد وجد كثيرًا من العُلماء والمشايخ والقُضُاة الحجازيين في القاهرة، حيثُ كان السُلطان الغوري قد اعتقلهم بعد الاضطرابات التي حدثت في الحجاز وقادها [[شرافة مكة|الأشراف]] ضدَّ المماليك.<ref name="الحجاز">{{استشهاد مختصر|1=عبد المعطي|2=1999|ص=18-19}}</ref> والمعلوم أنَّ الأشراف [[بنو هاشم|الهاشميُّون]] كانوا الحُكَّام الفعليين لِلديار الحجازيَّة، ويُدينون بِالولاء لِلسُلطان المملوكي والخليفة العبَّاسي، لكنَّ العلاقة سائت بينهم وبين السلطنة في مصر في أواخر دولة المماليك بِفعل فشل الغوري في إيقاف التحوُّل التجاري الذي نتج عن النُفُوذ الپُرتُغالي في مياه [[المحيط الهندي|المُحيط الهندي]] وما يتفرَّع عنه من بحار وفي مُقدِّمتها [[الخليج العربي]] و[[البحر الأحمر|بحر القلزم (الأحمر)]]، ما أدَّى إلى حرمان الحجاز من مصدرٍ ماليٍّ مُهم.<ref name="الاستراتيجيا">{{استشهاد مختصر|1=محمود|2=2019|ص=58-60}}</ref> ولمَّا أفرج السُلطان سليم عن الأسارى الحجازيين أشاروا عليه بِأن يكتب إلى شريف [[مكة|مكَّة]] [[بركات بن محمد|بركات بن مُحمَّد]] يدعوه إلى قُبُول السيادة العُثمانيَّة والدُعاء لهُ على المنابر. وتعهَّدوا لهُ بِأن يكتبوا لِلشريف بركات في هذا المعنى؛ فقبل الأخير العرض العُثماني لِحاجته إلى مُساندة دولة إسلاميَّة كُبرى كالدولة العُثمانيَّة في مُواجهة الخطر الپُرتُغالي في بحر القلزم، حيثُ تعرَّضت الموانئ الإسلاميَّة وعلى الأخص [[جدة التاريخية|جدَّة]] لِكثيرٍ من الهجمات الپُرتُغاليَّة الشرسة، وهدَّد الپُرتُغاليُّون بِمُهاجمة بلاد الحرمين والعبث بِمُقدَّسات المُسلمين، ولم يكن لدى شريف مكَّة القُوَّات والعتاد التي يستطيع بها صد تلك الاعتداءات الصليبيَّة، كما كان يُدرك أنَّ الحجاز يعتمد من الناحية الاقتصاديَّة على المُخصَّصات الثابتة التي كانت تأتيه سنويًّا من مصر، وفي مُقدِّمتها الغلال ومُرتَّبات الأشراف والعاملين على خدمة الحرمين الشريفين و[[الحج في الإسلام|حُجَّاج البيت الحرام]].<ref name="الحجاز"/>

بناءً على ما سلف، أرسل الشريف ابنه [[محمد أبو نمي الثاني|جمال الدين مُحمَّد أبا نُمِّي]] إلى مصر حاملًا إلى السُلطان سليم تهاني والده ومفاتيح الحرمين الشريفين، وكان هذا إقرارًا بِالسيادة العُثمانيَّة. فأكرم السُلطان سليم وفادته، وأعطاه تفويضًا بِحُكم والده، ولمَّا عاد أبو نُمِّي إلى مكَّة احتفل به الناس، وقُرئ عليهم التفويض، وخُطب باسم سليم في جميع مساجد مكَّة و[[المدينة المنورة|المدينة المُنوَّرة]]، وبِذلك دخلت الديار الحجازيَّة سلمًا تحت جناح الدولة العُثمانيَّة.<ref name="الحجاز"/> كسبت الحجاز كثيرًا من وراء ارتباطها السريع بِالدولة العُثمانيَّة القويَّة، إذ كانت حملات الپُرتُغاليين على بحر القلزم مُتتالية ومُوجَّهة في سنة 1517م إلى جدَّة تحديدًا، وردَّ العُثمانيُّون على ذلك بِإرسال قُوَّاتٍ إليها تحميها من تكرار الاعتداءات. وفرضت الدولة العُثمانيَّة تقليدًا يقضي بِمنع دُخُول المراكب المسيحيَّة في بحر القلزم بِحُجَّة أنَّهُ يطُل على الأماكن المُقدَّسة لِلمُسلمين، وظلَّ العُثمانيُّون مُتمسكون بِهذا التقليد حتَّى أواخر [[القرن 18|القرن الثامن عشر الميلادي]].<ref name="الاستراتيجيا"/> وحافظ السُلطان سليم على الاستقلال الذاتي لِلحجاز، واعترف بِوضعه الخاص وبِالحُقُوق الموروثة لِلهاشميين، ولم يتعرَّض لِلبناء الداخلي والإدارة الداخليَّة اللذين لم يُصبهما أيَّة تغيُّراتٍ جوهريَّة، واكتفى العُثمانيُّون بِتولِّي حراسة الشواطئ البحريَّة وحماية قوافل الحُجَّاج والمُؤن والاعتناء بِأحوال الطُرُق وإهراءات الحُبُوب وآبار وخزَّانات المياه.<ref>{{استشهاد مختصر|1=طقوش|2=2013|ص=176}}</ref>
[[ملف:Yemen Pt06-ar.jpg|تصغير|المُستعمرات والتحرُّكات الپُرتُغاليَّة في اليمن و[[حضرموت]] وبحر القلزم.]]
أمَّا بالنسبة لليمن فقد كان حينذاك مرتعًا لِلصراع بين [[الدولة الطاهرية (اليمن)|الطاهريين]] و[[الإمامة الزيدية|الزيديين]] وحُلفائهم المماليك بِقيادة أميرٍ يُدعى برسباي، وكانت سواحل البلاد قد تضرَّرت تضرُّرًا كبيرًا من الحصار الپُرتُغالي،<ref name="الاستراتيجيا"/><ref name="اليمن">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=96-98}}</ref> وأُنيط بالمماليك المُرابطين فيها بِحماية الثُغُور من الاعتداءات الصليبيَّة إلى جانب دعم الزيديين وتقليص قُوَّة الطاهريين. ولمَّا علم المماليك بِسُقُوط دولتهم في مصر والشَّام، شاع الاضطراب في صُفُوفهم، وزاد الطين بلَّة مقتل أميرهم برسباي، لكنَّ خليفته الأمير إسكندر الجركسي سُرعان ما تدارك الوضع، ورأى أنَّ لا مفرَّ من الاعتراف بِالسيادة العُثمانيَّة لِتقوية الدفاعات الإسلاميَّة في اليمن ولِلقضاء على الخلافات التي ثارت بين صُفُوف جيشه. واعترف السُلطان سليم بِدوره بِالأمر الواقع في تلك البلاد، وأرسل كتابًا إلى إسكندر الجركسي يُعلمه بِتثبيته في حُكم اليمن وبِإقامة الخِطبة له وبِضرب السكَّة بِاسمه، فامتثل إسكندر لِهذه الأوامر.<ref name="اليمن"/> وهكذا دخل اليمن سلمًا تحت جناح الدولة العُثمانيَّة كما الحجاز، على أنَّ السيادة العُثمانيَّة على الديار اليمنيَّة بقيت مُتذبذبة في تلك الفترة، لِأنَّ بعض القادة المماليك لم يذعنوا لِأوامر السُلطان سليم وتمسَّكوا بِاستقلالهم وخرجوا على من أعلن الطاعة منهم، واستمرَّ الوضع على هذه الحال حتَّى عهد السُلطان سُليمان القانوني.<ref>{{استشهاد مختصر|1=أباظة|2=1986|ص=21}}</ref>

=== ترتيبات السُلطان سليم في الديار المصريَّة وبحر القلزم (الأحمر) ===
[[ملف:I. Selim İskenderiye.png|تصغير|يمين|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ سفر السُلطان سليم إلى الإسكندريَّة.]]
لمَّا صفت البلاد المصريَّة والحجازيَّة واليمنيَّة لِلسُلطان سليم، أمر بِإرسال كُتب الفتح والتبشير إلى أطراف البلاد والدُول المُجاورة، وبلغه من مُحمَّد باشا البيقلي خبر ضمّ ماردين وأخذها من أيدي الصفويين، فزاد هذا من سُروره. ثُمَّ أبحر السُلطان عبر [[نهر النيل|النيل]] إلى [[الإسكندرية|الإسكندريَّة]] لِيزورها ويتعرَّف عليها، ومكث فيها أيَّامًا حيثُ قابل قائد الأُسطُول العُثماني جعفر آغا الذي وصل حاملًا ذخائر وعتاد من إسلامبول، فأمر السُلطان بِتوزيعها على الجُند.<ref name="منجم12"/> وفي أثناء مُكُوثه بِالإسكندريَّة وفد عليه أيضًا الحاج حُسين ريِّس، وهو أحد أوثق رجال الإخوة بربروس، فقدَّم لِلسُلطان بضعة هدايا أرسلها عرُّوج ومعها طلب بِإمداد الإخوة بِالرجال والسلاح في سبيل إعانتهم على حرب الإسپان، فاستجاب السُلطان وأرسل إلى [[المغرب الأوسط]] قُرابة ألفيّ جُندي عُثماني وعددًا كبيرًا من البنادق والمدافع، وأمر أيضًا بِإعلان النفير في [[غرب الأناضول|الأناضول الغربيَّة]] وفتح باب التطوُّع أمام الجُنُود الراغبين بالجهاد في غرب البحر المُتوسِّط، فتطوَّع عددٌ كبيرٌ من هؤلاء، انتُخب منهم أربعة آلاف [[عزب]]يّ أُرسلوا خصيصًا لِلتدريب وتعلُّم استعمال البنادق والمدافع.<ref>{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=253}}</ref> بعد ذلك عاد السُلطان إلى القاهرة حيثُ منح الترقيات لِلجُند وأمر ببناء قصرٍ في [[الروضة (القاهرة)|جزيرة الروضة]] ونقش على جداره بيتين عربيين:<ref name="منجم12">{{استشهاد مختصر|1=منجم باشي|2=2009|ص=681-696}}</ref>
{{أبيات|
المُلكُ لِلَّهِ مَن يَظفَر بِنَيلِ غِنىً\\يَردُدهُ قَسراً وَتَضمَن نَفسُهُ الدَرَكا
لَو كانَ لي أَو لِغَيري قَدرُ أُنمُلَةٍ\\فَوقَ التُرابِ لَكانَ الأَمرُ مُشتَرَكا}}
وأمر بِحكِّهما على [[مرمر]]ٍ أبيض، وكتب تحتهما: خادم الفُقراء سليم. وشرع بعد ذلك في ترتيب أُمُور الديار المصريَّة وتنظيم حُكُومتها.<ref name="منجم12"/> مكث السُلطان في مصر نحو ثمانية أشهُر،<ref>{{استشهاد مختصر|1=مبارك|2=1886|ص=56}}</ref> قسَّم خلالها الحُكُومة إلى ثلاثة أقسام وجعل في كُلِّ قسمٍ رئيسًا وجعلهم كُلُّهم مُنقادين لِلقرارات الصادرة عن الديوان الكبير في القاهرة المُكوَّن من الوالي المُعيَّن مُباشرةً من السُلطان، ومن أُمراء السبع [[أوجاق]]ات التي خُصِّصت لِضبط أمن الديار المصريَّة. وجعل لِلوالي مزية توصيل أوامر السُلطان إلى الديوان وحفظ البلاد وتوصيل الخِراج إلى إسلامبول، ومنع كُلًا من الأعضاء العُلُوّ على صاحبه، على أنَّهُ منحهم مزية نقض أوامر الوالي بِأسبابٍ تبدو لهم وعزله إن رأوا ذلك والتصديق على جميع الأوامر التي تصدر منه في الأُمُور الداخليَّة.<ref name="الحكومة">{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=194-195}}</ref>

وقسَّم السُلطان البلاد المصريَّة إلى أربعةٍ وعشرين [[مديرية|مُديريَّة]]، جعل على رأس كُلٍّ منها حاكمًا من المماليك الذين أعلنوا ولائهم لِلسلطنة العُثمانيَّة، وخصَّهم بِمزية جمع الخراج في البلاد وقمع العربان وصدِّهم عنها والمُحافظة على ما في داخلها، وكُل ذلك بِأوامر تصدر لهم من الديوان، وجرَّدهم عن التصرُّف من تلقاء أنفُسهم، ولُقِّب أحدهم المُقيم بِالقاهرة بِـ«شيخ البلد».<ref name="الحكومة"/> أمَّا سبب اعتماد السُلطان سليم لِهذه الإجراءات فكان تخوُّفه من بُعد الديار المصريَّة عن العاصمة العُثمانيَّة، وكثرة الأُمراء وأصحاب النُفُوذ فيها من المماليك الذين ورثوا مُلكهم عن ساداتهم، فهؤلاء وإن خضعوا لِلعُثمانيين، قد يأتي يومٌ ويستغلون نُفُوذهم ويخرج أحدهم عن الطاعة ويسعى لِلاستقلال عن الدولة نتيجة أي اضطرابٍ قائم. ورتَّب السُلطان الخِراج وقسَّمه أقسامًا ثلاثة: خُصِّص القسم الأوَّل لِدفع مُرتَّبات عشرين ألف عسكري مُرابط في مصر من المُشاة واثني عشر ألفًا من الخيَّالة، وخُصِّص القسم الثاني لِيُصرف على الحرمين الشريفين، أمَّا القسم الثالث فيُرسل إلى بيت المال بِإسلامبول.<ref name="الحكومة"/> وتقرَّر أن تحتل مصر الدرجة الأولى في قائمة تشريفات [[قائمة إيالات الدولة العثمانية|الإيالات العُثمانيَّة]]، لتحُلَّ بِذلك مكان [[إيالة الروملي|إيالة الروملِّي]]، وبقي الحال هذا على ما هو عليه حتَّى [[الاحتلال البريطاني لمصر|فصل البريطانيُّون مصر]] نهائيًّا عن الدولة العُثمانيَّة سنة [[1914]]م.<ref name="أوزتونا9">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=234-239}}</ref>
[[ملف:BASA-1771K-1-1172-10.jpg|تصغير|رسمٌ لِمدينة السُويس، مقر إمارة بحر القلزم زمن السُلطان سليم.]]
وقرَّر السُلطان بدايةً تفويض ولاية مصر إلى الصدر الأعظم يُونُس باشا، لكنَّهُ رأى أن يختبره قبل تثبيته في منصبه، فولَّاه البلاد أيَّامًا وتجسَّس أحواله خلالها، فبلغهُ أنَّهُ صادر حريم الأُمراء المماليك المقتولين واستولى على أموالهم، وكذلك طالب مشايخ العربان بِتعويضاتٍ ماليَّةٍ بِحُجَّة أنَّهم أمدُّوا المماليك ودعموهم، فسارع السُلطان حينئذٍ إلى عزل يُونُس باشا وعيَّن بدلًا منه الأمير خاير بك، ونصحهُ بِالعدل والإخلاص وترك الطمع، فالتزم هذا المسار بدايةً، ثُمَّ عدل عنه لاحقًا وصار من أشرِّ من وُلِّي البلاد المصريَّة.<ref name="منجم12"/> أمَّا على صعيد بحر القلزم، فقد أسَّس السُلطان سليم إمارة السُويس البحريَّة، وسُمي أميرها «قبطان السُويس» أو «قُبطان الهند»، وجُعل مقرُّه [[ميناء السويس|ميناء السُويس]]، وتحت إشرافه ترسانة لِصُنع السُفُن، ولم يكن تابعًا أو خاضعًا لِوالي مصر، وإنَّما يتعاون معهُ في سبيل ضبط الثُغُور، ويرتبط بِالصدر الأعظم مُباشرةً. عيَّن السُلطان سليم أوَّل قُبطانٍ لِلِثغر المذكور في سنة [[1517]]م، وهو سلمان ريِّس، وكلَّفهُ بِصيانة وإغلاق [[باب المندب|مضيق باب المندب]] ومنع أي سفينة لا ترفع الراية العُثمانيَّة من أن تمخر عباب بحر القلزم. كما فكَّر السُلطان في شقِّ قناةٍ تربطُ بحريّ القلزم والمُتوسِّط وإعادة النشاط التجاري في البحر الأخير إلى ما كان عليه، لكن لم يُكتب لهُ تحقيق هذا المشروع الضخم.<ref>{{استشهاد مختصر|1=محمود|2=2019|ص=86 و88}}</ref> وكان السُلطان سليم قد أمر أيضًا بِتوسيع الترسانة البحريَّة في القاهرة وإنشاء سُفُنٍ جديدةٍ فيها في سبيل حماية مجرى النيل.<ref name="أوزتونا9"/>

== عودة السُلطان سليم إلى إسلامبول وترتيباته في الشَّام ==
[[ملف:Selim I & Piri Mehmed Paşa.jpg|تصغير|يمين|السُلطان سليم يُجالس الصدر الأعظم الجديد پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي.]]
بعدما فرغ السُلطان سليم من ترتيباته في مصر، خرج منها يوم [[22 شعبان]] [[923 هـ|923هـ]] المُوافق فيه [[8 سبتمبر|8 أيلول (سپتمبر)]] [[1517]]م مُتوجهًا إلى الشَّام، واستصحب معهُ الخليفة العبَّاسي.<ref name="منجم12"/><ref name="الحكومة"/> ولمَّا وصل إلى [[الخطارة (الشرقية)|الخطارة]] في [[6 رمضان]] المُوافق فيه [[21 سبتمبر|21 أيلول (سپتمبر)]] أمر الصدر الأعظم يُونُس باشا بِأن يُصاحبه في التنزُّه، ثُمَّ قتله. ولا يُعرف على وجه اليقين سبب قتل الباشا، لكن يُتفق أنَّهُ قال شيئًا لِلسُلطان سليم حرَّك غضبه وتهوُّره، فمن المعلوم أنَّ يُونُس باشا كان من جُملة الساسة العُثمانيين المُعارضين لِحرب المماليك وضمِّ الشَّام ومصر، ويُقال أنَّهُ لمَّا خرج لِلتنزُّه مع السُلطان سليم قال لهُ الأخير ما معناه أنَّهُ أتمَّ أخذ مصر خلافًا لِرأيه، فأجابه يُونُس باشا بِأنَّ هذه الحملة لم تعد عليه بِشيءٍ إلَّا قتل نحو نصف الجيش بما أنَّهُ سلَّم البلاد المصريَّة لِخائنٍ (أي خاير بك) كان غرضه التملُّك عليها لِنفسه، فلا يُؤمن ولاؤه لِلدولة، فغضب السُلطان سليم من هذا الكلام المُوجَّه إليه بِصفة لومٍ،<ref name="الحكومة2">{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=196-197}}</ref><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Uzunçarşılı|2=1990|ص=544|لغة=en}}</ref> وأمر [[صولاق|الصولاقيين]] الذين يمشون بين يديه بِقتل الصدر الأعظم، فضرب أحدهم عُنُقه وألقى جسده ورأسه في البريَّة، ولم يُنصَّب أحدًا بعده إلى أن وصل السُلطان دمشق في [[22 رمضان]] المُوافق فيه [[7 أكتوبر|7 تشرين الأوَّل (أكتوبر)]]، فأرسل إلى مُحافظ إسلامبول [[بيري محمد باشا|پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي]] يأمره أن يأتي إلى الشَّام لِتولِّي الصدارة العُظمى. ودخل السُلطان دمشق يوم الجُمُعة [[6 شوال|6 شوَّال]] المُوافق فيه [[21 أكتوبر|21 تشرين الأوَّل (أكتوبر)]]، ونزل في [[المدرسة النورية|المدرسة النُوريَّة]]،<ref name="منجم12"/><ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن طولون|2=1998|ص=373}}</ref> وشرع في ترتيب شؤون الديار الشَّاميَّة.
[[ملف:Cedid Atlas (Syria) 1803.jpg|تصغير|خريطة بالتُركيَّة العُثمانيَّة لِلديار الشَّاميَّة.]]
كانت فاتحة تنظيمات السُلطان سليم في الشَّام أن عيَّن مجلسًا وأناط به مُهمَّة مسح جميع الأراضي في سبيل تنظيم الخراج المفروض عليها، على أن يحتفظ لِبيت المال بِقسمٍ كبيرٍ من مردود [[وادي البقاع (لبنان)|سهل البقاع]] الخصيب و[[نهر العاصي|وادي العاصي]] المُثمر، ورأى الإبقاء على التدبير الذي اعتمده المماليك في تلزيم الضرائب على سبيل المُزايدة. وأبقى السُلطان سليم الدوائر الإداريَّة في الشَّام على ما كانت عليه في العصر المملوكي؛ لكنَّهُ بدَّل بعض الشيء في نظام التسمية: فأصبحت «النيابة» «إيالة»، وعُرف نائب السلطنة بِـ«الوالي»، وكما هو الحال في سائر أرجاء الدولة العُثمانيَّة، صار [[لقب شرفي|لقب التعظيم]] الذي يلي اسم الوالي «[[باشا]]»، فصار لِلـ«باشويَّة» و«الولاية» مدلولٌ واحد. وقُسِّمت الديار الشَّاميَّة إلى إيالتين: [[إيالة حلب|حلب]] و[[إيالة دمشق|دمشق]]، واشتملت الإيالة الأولى على سبعة سناجق بدايةً، والإيالة الأُخرى على اثنا عشر سنجق، ووُلِّي عليها الأمير جانبردي الغزالي.<ref name="حتي">{{استشهاد مختصر|1=حتي|2=1972|ص=306-310}}</ref> واعترف السُلطان بِمكانة الأُمراء الإقطاعيين في جبل لُبنان من [[موحدون دروز|دُرُوزٍ]] ومُسلمين وثبَّتهم في إقطاعاتهم، وترك لهم الامتيازات الاستغلاليَّة التي طالما نعموا بها في عهد المماليك،<ref name="حتي"/> فاستمرَّ المعنيُّون يتولُّون بلاد الشوف، واليمنيُّون بلاد الغرب، والعسَّافيُّون بلاد كسروان.<ref name="الدويهي"/> أمَّا [[تنوخيون|التنُّوخيُّون]]، الذين وقفوا في صف المماليك، فقد أخذ شأنهم يتضائل مُنذ ذلك الحين لِصالح المعنيين.<ref>{{استشهاد مختصر|1=زهر الدين|2=1994|ص=124}}</ref> ونزع السُلطان إقطاعيَّة البقاع من الأمير ناصر الدين مُحمَّد بن الحنش، الذي استمرَّ يُوالي المماليك وآوى كثيرًا منهم ممن فرَّ من موقعة مرج دابق، وأعطاها لِأميرٍ آخر هو مُحمَّد آغا بن قُرقُماز الجركسي، وأضاف إليه حُكم [[سنجق صيدا-بيروت|بيروت وصيدا]].<ref name="منجم12"/><ref>{{استشهاد مختصر|1=ابن طولون|2=1998|ص=377}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|1=أبو نحل|2=2003|ص=72}}</ref>

وعيَّن السُلطان على [[محتسب|حسبة]] البلاد الشَّاميَّة وأعمالها جماعةً من كبار القُضاة والمُحتسبين، وجعلهم كُلِّهم خاضعين لِقاضي حلب كمال چلبي جولمكجي زاده، الذي عيَّنه دفتردارًا، ففوَّض حسبة طرابُلس الشَّام وحِمص وحماة إلى أبي الفضل بن إدريس البدليسي، وحسبة دمشق إلى نوح چلبي الفناري، وحسبة حلب إلى عبد الكريم چلبي بن عبد الله باشا.<ref name="منجم12"/> وفي هذه الأيَّام خرج أوَّل [[محمل الحج الشامي|محمل عُثماني لِلحج]] من دمشق، ووفد رسولٌ من عند الشاه إسماعيل الصفوي يلتمس الصُلح، فلم يلتفت إليه السُلطان وزجَّ به في السجن كونه كان ما يزال عازمًا على تسخير جميع الديار الإيرانيَّة، ولولا ضعف العسكر وتعبهم من طول السفر وتتابُع الحُرُوب لكان سار بهم من الشَّام مُباشرةً، لكنَّهُ رأى إرجاء هذا المشروع لِلسنة القادمة. وبعد أربعة أشهر من إقامته في دمشق، خرج السُلطان بجيشه نحو حلب وأقام فيها نحو شهرين، ثُمَّ ارتحل منها ووصل إسلامبول يوم [[17 رجب]] [[924 هـ|924هـ]] المُوافق فيه [[24 يوليو|24 تمُّوز (يوليو)]] [[1518]]م، ثُمَّ ارتحل منها إلى أدرنة بعد عشرة أيَّامٍ قضاها في الاستراحة من أتعاب السفر، فاستقبله ولده الشاهزاده سُليمان قبل أن يُغادر إلى مقر ولايته في مغنيسية.<ref name="منجم12"/> وفي أثناء إقامة السُلطان في أدرنة وصل إليه سفيرٌ من قِبل [[الإمبراطورية الإسبانية|الإمبراطوريَّة الإسپانيَّة]] لِيُخابره بِشأن حُريَّة زيارة الرعايا الإسپان لِبيت المقدس التي كانت قبلًا تابعة لِلدولة المملوكيَّة، مُقابل دفع المبلغ الذي كان يُدفع سنويًا لِلمماليك. فأحسن السُلطان مُقابلته وصرَّح بِقُبُوله ذلك إذا أرسل الإمبراطور [[شارلكان]] رسولًا آخر مُخوَّلًا لهُ حق إبرام مُعاهدة مع السلطنة العُثمانيَّة، وكذلك أتى إليه سفير من قِبل جُمهُوريَّة البُندُقيَّة لِيدفع لهُ خراج سنتين مُتأخرًا.<ref name="الحكومة2"/>

== انتقال الخلافة من بني العبَّاس إلى بني عُثمان ==
{{مفصلة|الخلافة العثمانية}}
[[ملف:William H. Seward's travels around the world (1873) (14782506784).jpg|تصغير|داخل جامع آيا صوفيا. تنُصُّ إحدى الروايات أنَّ الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل تنازل عن الخِلافة لِلسُلطان سليم في مراسم أُقيمت بهذا المسجد.]]
بحسب الرواية الكلاسيكيَّة، التي تُجمع عليها الكثير من المصادر التاريخيَّة، فإنَّ الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل على الله تنازل عن [[خلافة إسلامية|الخِلافة]] لِلسُلطان سليم بُعيد انتقاله معه إلى إسلامبول.<ref name="عمر5">{{استشهاد مختصر|1=عمر|2=1985|ص=84-85}}</ref> وتقول إحدى الروايات أنَّ هذا التنازل جرى بِمراسم في [[آيا صوفيا|جامع آيا صوفيا]]، في حين تقول رواية أُخرى أنَّ المُتوكِّل قلَّد السُلطان سليم سيف الخلافة وألبسهُ الخُلعة في [[جامع أيوب سلطان|جامع أبي أيُّوب الأنصاري]]،<ref name="الخلافة">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=224-225}}</ref> وسلَّمهُ مُخلَّفات الرسول، وهي [[البردة النبوية|البُردة الشريفة]] التي كان يلبسُها [[قائمة الخلفاء العباسيين|الخُلفاء العبَّاسيُّون]] في بغداد، وبعضٌ من شعر لحية النبيّ، والسيف ذو الوشاح أي سيف الخليفة [[عمر بن الخطاب|عُمر بن الخطَّاب]].<ref name="عمر5"/><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Drews|2=2011|ص=1|لغة=en}}</ref>

وقد اشترك في هذه المراسم عُلماء [[الجامع الأزهر|الأزهر الشريف]] الذين جُلبوا إلى إسلامبول، إلى جانب العُلماء العُثمانيين وقاضي قُضاة الشافعيَّة في مصر وابنا عُمومة المُتوكِّل أبا بكر وأحمد، ومُحمَّد بن قانصوه الغوري وعائلته. وأمر السُلطان سليم بِنقل مُخلَّفات الرسول وما بقي من أماناتٍ مُقدَّسةٍ في القاهرة ومكَّة إلى [[قصر طوب قابي|سراي طوپ قاپي]] في العاصمة العُثمانيَّة، حيثُ أودعها في جناحٍ خاص عُرف بـ«جناح خُرقة شريفة».<ref name="الخلافة"/> وهكذا أصبح العُثمانيُّون أوَّل سُلالة خُلفاءٍ مُسلمين غير [[قريش|قُرشيين]]، وقد أجاز العُلماء [[حنفية|الأحناف]] صحَّة انتقال الخِلافة إلى بني عُثمان بعد أن اجتمعت لِلسُلطان سليم - وخُلفائه من بعده - الحُقُوق الخمسة الواجب على كُلِّ خليفةٍ أن يتمتَّع بها:<ref>{{استشهاد مختصر|1=الخربوطلي|2=1969|ص=262-263}}</ref>
# '''حق السيف''': ومعنى ذلك أنَّ طالب الخِلافة يجب أن يقوم بِدعوته أنصارٌ لا يقوى عليهم مُناظرٌ آخر على وجه الأرض، وقد كان ذلك شأن السُلطان سليم يوم التمس الخِلافة بعد ضمِّه الديار الشَّاميَّة والمصريَّة والحجازيَّة.
# '''حق الإنتخاب''': أي مُصادقة [[أهل الحل والعقد]]، وهو مجلسٌ من الأئمة والعُلماء، وحُجَّتهم في ذلك أنَّ هذا المجلس كان في أوَّل عهد الإسلام بِالمدينة المُنوَّرة، ثُمَّ انتقل إلى دمشق، ثُمَّ إلى بغداد، ونُقل من بغداد إلى القاهرة، فيجوز أيضًا نقله من القاهرة إلى إسلامبول. فلمَّا سيطر السُلطان سليم على مصر حمل معهُ جماعةً من عُلماء الأزهر كما أُسلف، وأضاف إليهم عدَّة من العُلماء العُثمانيين، وألَّف من الفئتين مجلسًا صادق على انتخابه. ومُنذ ذلك الوقت أصبحت هذه هي العادة الجارية في تقليد الخُلفاء العُثمانيين السيف من أيدي العُلماء.
# '''الوصاية''': وهي وصاية الخليفة لِمن يخلفه بعد موته. وبحسب هذه الرواية فإنَّ المُتوكِّل كان قد أوصى بِمصر يوم أخذها السُلطان سليم بأن تؤول الخِلافة إليه، أي لِسليم.
# '''حماية الحرمين الشريفين''': أي يجب على الخليفة أن يكون قائمًا على حماية الحرمين الشريفين من الأخطار الخارجيَّة وخدمتهما وصيانتهما، وقد تحقَّق هذا لِلسُلطان سليم بعد أن مَلَكَ الحجاز وسلَّمه شريف مكَّة مفاتيح الحرمين.[[ملف:Turkey-3089 (2217259580).jpg|تصغير|بعض الآثار النبويَّة المحفوظة في جناح الخرقة الشريفة بِسراي طوپ قاپي. نصلا السيفان باقيان من عصر الرسول، أمَّا الغمدان والمقبضان صُنعت خلال العصر العُثماني لِاهتراء الأصليَّة.]]
# '''الاحتفاظ بِالأمانات المُقدَّسة''': وهي المُخلَّفات النبويَّة التي سلمت من أيدي المغول حينما اجتاحوا بغداد، فحملها الخُلفاء العبَّاسيُّون معهم إلى القاهرة، وما زالت فيها حتَّى نُقلت إلى إسلامبول.
وأجاز عُلماءٌ آخرون عاصروا السُلطان سليم انتقال الخِلافة إليه، منهم الفقيه المُحدِّث [[عبد الوهاب الشعراني|عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني]] [[شافعية|الشافعي]]، فقال في كتابه «[[اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر]]»: {{اقتباس مضمن|… وَفِي كُتُبِ أَصْحَابِ إمَامِنَا الشَّافِعِيّ {{رضي الله عنه}} يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ بَالغًا، عَاقِلًا، مُسْلمًا، عَدلًا، حُرًّا، ذَكَرًا، مُجْتَهِدًا، شُجَاعًا، ذَا رَأْيٍ وَكِفَايَة، قُرَشِيًا… فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قُرَشِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ، فَكِنَانِيّ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فغيره…}}.<ref>{{استشهاد مختصر|1=الشعراني|2=1889|ص=274}}</ref>

يُشكك بعض الباحثين المُعاصرين بِتنازل الخليفة العبَّاسي فعلًا عن منصبه لِلسُلطان سليم، وحُجَّتهم في ذلك أنَّ بعض المُؤرخين الذين عاصروا حملة السُلطان على مصر وعودته إلى إسلامبول بِرفقة المُتوكِّل، لم يُشيروا ولو إشارة عابرة إلى تبدُّل أمر من أُمُور الخِلافة، فابن إياس مثلًا لم يتطرَّق لهذا، واستمرَّ يُلقِّب سليم بالسُلطان والمُتوكِّل بِالخليفة. كما أنَّ أحمد فريدون بك، في كتابه «مُنشآت السلاطين» الذي وضع فيه يوميَّات الحملة إلى الشَّام ومصر وجميع أفعال السُلطان سليم مُنذُ مُغادرته عاصمته وحتَّى عودته إليها، لم يُشر بِأيِّ كلمةٍ عن قضيَّة الخلافة، بل إنَّهُ كان حريصًا على وصف المُتوكِّل بِالعبارات التالية: {{اقتباس مضمن|الْخَلِيفَة المُتَوَكِّل عَلَى الله مَوْلَانَا مُحيي الدَّيْنِ مِنْ آلِ العَبَّاس الَّذِي هُوَ بقيَّة الْخِلَافَة العبَّاسيَّة فِي الْمَحْرُوسَة المصريَّة}}.<ref name="عمر5"/> كما لم يذكر [[خواجة سعد الدين أفندي|سعد الدين أفندي]] في مُؤلَّفه الشهير «تاج التواريخ» شيئًا عن الخلافة، علمًا بأنَّ كتابه هذا هو أقرب ما كُتب من مُؤلَّفاتٍ تاريخيَّةٍ إلى عهد السُلطان سليم. وأخيرًا يقول المُشكِّكون في هذا الأمر أنَّ السُلطان سليم نفسه لم يذكر شيئًا عن انتقال الخلافة إليه في رسائله إلى الحُكَّام المُجاورين لدولته، وإنَّما أشار إلى نفسه باعتباره سُلطانًا فحسب، وبأنَّهُ صار خادمًا لِلحرمين الشريفين.<ref name="عمر5"/> يُرجِّح بعض الباحثين أنَّ السُلطان سليم لم يعبأ بِلقب «خليفة» بعد أن أصبح لقبًا رخيصًا مُبتذلًا نتيجة تحوُّل الخلافة إلى منصبٍ صوريّ مُنذُ قُرون، لكنَّهُ لُقِّب به رُغم ذلك قبل ضمِّه مصر، تمامًا كما تلَّقب آباؤه بهذا اللقب مُنذُ قرنٍ ونصف،<ref>{{استشهاد مختصر|1=الخربوطلي|2=1969|ص=259-260}}</ref> ونتيجة انتقال الآثار النبويَّة ومفاتيح الحرمين الشريفين إليه، ومُمارسته لِجميع مهام الخِلافة على أرض الواقع، أصبح بِحُكم هذا خليفةً فعليًّا، وفي ذلك يقول [[محمد فريد|مُحمَّد فريد بك]]: {{اقتباس مضمن|... وَمِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ صَارَ كُلُّ سُلْطَانٍ عُثْمَانِيِّ أَمِيرًا لِلْمُؤْمِنِين وَخَلِيفَةً لِرَسُول رَبِّ الْعَالَمِينَ اسْمًا، وَفِعْلًا}}.<ref name="الحكومة"/>

== الأحداث أواخر عهد السُلطان سليم ==
=== دُخُول المغرب الأوسط تحت جناح الدولة العُثمانيَّة ===
[[ملف:Zayyanid Kingdom Map Algeria.png|تصغير|يمين|خريطة توضح الحُدُود التقريبيَّة لِإقليم المغرب الأوسط.]]
[[ملف:رسالة أهالي الجزائر إلى السلطان سليم سنة 1519.jpg|تصغير|نسخة عن رسالة خير الدين خضر بربروس إلى السُلطان سليم، باسم أهل الجزائر.]]
ما أن استقرَّ السُلطان سليم على تخت المُلك بعد عودته من حملته على مصر والشَّام، حتَّى وفد عليه الحاج حُسين ريِّس، مبعوث الإخوة بربروس الذي سبق وأن قابله في الإسكندريَّة، وفي هذه المرَّة حمل إليه خبرًا سيئًا مفاده أنَّ عرُّوج وإسحٰق قضيا نحبهما وهُما يُقاتلان الإسپان، فحزن السُلطان عليهما.<ref name="الجزائر">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=254}}</ref> وسلَّم الحاج حُسين السُلطان سليم كتابًا من الأخ الوحيد الباقي، أي خير الدين خضر، حرَّره باسم أهل [[الجزائر (مدينة)|الجزائر]] وخُطبائها وقُضاتها وفُقهائها وأئمتها وتُجَّارها وأعيانها، وجاء فيه أنَّ عُمُوم الأهالي يطلبون الانضواء تحت حماية الدولة العُثمانيَّة بعد أن تكاثر عليهم الأعداء في الداخل والخارج،<ref>{{استشهاد مختصر|1=الصلابي|2=2001|ص=211-212}}</ref> إذ كان عددٌ من البحَّارة الأشدَّاء قد تخلُّوا عن خير الدين بعد مقتل أخيه عرُّوج لِشُعُورهم بأنَّهُ لن يكون بديلًا مُلائمًا له،<ref>{{استشهاد مختصر|1=التر|2=1989|ص=70}}</ref> كما ثارت قبيلة [[زواوة]] بِقيادة [[أحمد بن القاضي]]، واستعان السُلطان [[أبو حمو موسى الثالث|أبو حمو موسى بن عبد الله الزياني]] بالإسپان ضدَّ خير الدين ومن معه، واستغلَّ السُلطان الحفصي هذه الاضطرابات فأرسل إلى خير الدين يطلب منهُ الدُخُول في طاعته بعد أن قطع عنهُ البارود، وفوق هذا كُلُّه كان يُتوقَّع أن يزحف الإسپان نحو الجزائر لِلقضاء على القائد العُثماني والحامية المُرابطة معه.<ref>{{استشهاد مختصر|1=الميلي|2=1964|ص=51}}</ref>

وهكذا لم يرَ خير الدين والجزائريين بُدًّا من الدُخُول تحت جناح الدولة العُثمانيَّة ومُبايعة السُلطان سليم على السمع والطاعة. سارع السُلطان إلى إجابة طلب خير الدين، فمنحهُ رُتبة بكلربك وولَّاه على المغرب الأوسط، مُعلنًا أنَّ هذا الإقليم أصبح من تلك اللحظة [[إيالة الجزائر|إيالةً عُثمانيَّةً مركزها الجزائر]]،<ref name="الجزائر"/> وأرسل إلى المغرب الأوسط ما بين أربعة آلاف،<ref>{{استشهاد مختصر|1=المدني|2=1968|ص=198}}</ref> إلى ستة آلاف جُنديٍّ منهم ألفي إنكشاريّ مُسلحين بِالبنادق وعددًا من المدافع مع سَدَنَتها، وعددًا آخر من المُتطوِّعة، وأعلن السُلطان تأمينه نفقاتِ السفر لِلمُتطوعين الراغبينَ بالذهابِ إلى الجزائرِ للجهاد، ووعدهم بِالامتيازات التي يحصلُ عليها الإنكشاريَّة.<ref>{{استشهاد مختصر|1=التر|2=1989|ص=72-73}}</ref> وبذلك صار المغرب الأوسط جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة يُدعى فيه في خطبة الجُمُعة باسم السُلطان سليم وتُضرب السكَّة بِاسمه.

=== عصيان الأمير ناصر الدين مُحمَّد بن الحنش ===
كان الأمير ناصر الدين مُحمَّد بن الحنش يتولَّى البقاع و[[صيدا]] ويُوالي المماليك، واستمرَّ على حاله هذا بعد أن سيطر السُلطان سليم على الديار الشَّاميَّة، فخلعه عن منصبه وولَّى مكانه الأمير مُحمَّد بك بن قُرقُماز الجركسي كما أُسلف. لِهذا، أشهر الأمير ناصر الدين العصيان، والتفَّ حوله جمعٌ من العربان،<ref name="منجم12"/> كما ناصره أربعة من الأُمراء الدُّروز: شرف الدين يحيى بن أبي بكر التنُّوخي، وزين الدين وقُرقُماز وعلم الدين سُليمان المعنيين.<ref name="ذخائر">{{استشهاد مختصر|1=الأسود|2=2018|ص=108}}</ref><ref name="أبو حسين">{{استشهاد مختصر|1=أبو حسين|2=2017}}</ref>

يُرجِّح الدكتور [[عبد الرحيم أبو حسين|عبد الرحيم أبو حُسين]]، أستاذ التاريخ العُثماني في [[الجامعة الأميركية في بيروت|الجامعة الأميركيَّة في بيروت]]، أنَّ مُولاة الأُمراء الدُرُوز لِناصر الدين مُحمَّد، كانت بِسبب نزع مدينة [[بيروت]] من أيدي بني تنُّوخ، والمعروف أنَّ الأُمراء والزُعماء الدُرُوز كانوا يُتاجرون مع البنادقة عبر [[مرفأ بيروت|ميناء المدينة]] أواخر العصر المملوكي، ويُحقِّقون أرباحًا ماليَّةً كبيرة، فلا بُدَّ أنَّهم خسروا الكثير بِانتزاعها منهم، فأشهروا العصيان، ويظهر أنَّ السلطنة العُثمانيَّة شكَّت بِتواطؤ هؤلاء الأُمراء مع جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، بِدليل أنَّ مُمثليها في كُلٍّ من الشَّام و[[قبرص]] تابعوا مُجريات هذا العصيان بِاهتمامٍ كبيرٍ ونقلوا مُلاحظاتهم إلى حُكُومتهم،<ref name="أبو حسين"/> فكان على السُلطان أن يُنهي حركتهم قبل توسُّع تدخُّل البنادقة في البلاد العُثمانيَّة. وتمكَّن العُثمانيُّون من أسر الأُمراء الدُرُوز، فساقوهم بدايةً إلى قلعة صفد، ثُمَّ إلى [[قلعة دمشق]]، فقلعة حلب حيثُ أمر السُلطان بإبقائهم لحين انتهاء العصيان.<ref name="ذخائر"/> أمَّا الأمير ناصر الدين مُحمَّد، فقد ظفر به أمير طرابُلس الشَّام مُصطفى بك بن إسكندر، الذي كان بينه وبين ابن الحنش مُصادقة، فخدعهُ وأظهر لهُ المُلائمة والمُلاطفة ودعاه أن يحضر إليه، ولمَّا فعل انقضَّ عليه بجُنُوده وقبض عليه بعد قتالٍ شديد، وقتلهُ مع جمعٍ كثيرٍ من أصحابه، وأرسل رؤوسهم إلى العتبة العليَّة في إسلامبول.<ref name="منجم12"/> وما أن تسلَّم السُلطان سليم رأس ابن الحنش حتَّى أمر بإخلاء سبيل الأُمراء الدُرُوز، فعاد كُلٌ منهم إلى بلده.<ref name="ذخائر"/>

=== تجدُّد فتنة الشيعة في الأناضول ===
وفي سنة [[925 هـ|925هـ]] المُوافقة لِسنة [[1519]]م، ظهر في الأناضول شخصٌ من غُلاة الصوفيَّة يُدعى «جلال البوزاقي»، نسبةً إلى وطنه [[يوزغات|بوزاق]]، وكان من أتباع [[قلندرية|الطريقة القلندريَّة]]، وفي أوَّل أمره اجتمع عليه جمعٌ من الأوباش وسار بهم إلى صوب [[توقاد]] حيثُ أقام في كهفٍ عند قلعة «طورحال»، وكان أهل تلك البلاد يميلون إلى التشيُّع، فصار يقول لهم أنَّ [[محمد بن الحسن المهدي|الإمام المهدي]] سيظهر من هذا الغار وأنَّهُ ينتظره، فعظُم جمعه والتفَّ حوله الكثير من الناس حتَّى وصلوا إلى قُرابة عشرين ألفًا. ثُمَّ ما لبث أن أعلن لِأتباعه أنَّهُ هو المهدي المُنتظر، وأعلن الثورة في وجه السلطنة العُثمانيَّة.<ref name="منجم12"/> ولم يتمكَّن عساكر تلك النواحي من الوُقُوف في وجه هؤلاء المُغالين، فأرسلوا إلى السُلطان سليم يُعلمونه الحال، فاستجاب وأرسل إليهم بكلربك الروملِّي فرحات باشا بعد أنَّ عيَّنه وزيرًا، ولمَّا علم جلال البوزاقي أنَّ العُثمانيِّين قادمون إليه، فرَّ هاربًا إلى بلدة «أرتق آباد» ومنها إلى سيواس، فعقبه الأمير علي بك بن شهسوار بعد أن تأخَّر فرحات باشا في الوُصُول، واستمرَّت المُطاردة عدَّة أيَّام بِلياليها إلى أدركه في نواحي آق شهر، وقاتلهُ قتالًا شديدًا حتَّى هزمه وقبض عليه، فقطَّعهُ إربًا وقتل جميع أصحابه من الرجال وسبى نسائهم وأولادهم.<ref name="منجم12"/> وأرسل علي بك رأس جلال البوزاقي إلى السُلطان سليم، فسُرَّ منه وأرسل إليه خُلعًا وسيفًا مُرصَّعًا، إلَّا أنَّ فرحات باشا اغتاظ من علي بك، فأسرَّها في نفسه مُتنظرًا الفُرصة المُلائمة لِينتقم منه بعد أن أحرجه أمام السُلطان.<ref name="منجم12"/>

=== استعداد السُلطان لِفتح جزيرة رودس ===
[[ملف:Castle at Rhodes.jpg|تصغير|قلعة فُرسان الإسبتاريَّة في جزيرة رودس.]]
وفي هذه السنة أيضًا ([[925 هـ|925هـ]] = [[1519]]م)، أخذ السُلطان سليم بِالاستعداد لِمُحاربة الصفويين مُجددًا، فجمع خمسة عشر ألف فارس بِمدينة قيصريَّة وضمَّ إليهم ثلاثين ألف جُندي من المُشاة تحت قيادة البكلربك فرحات باشا، وأرسل إليهم عددًا عظيمًا من المدافع والذخائر.<ref name="الحكومة2"/> ولمَّا علم الوزارء والساسة وقادة الجُند بِنيَّة السُلطان سليم قرَّروا إشغاله عن حملته هذه لِنفرة الجُند عن السفر إلى إيران، كما تبيَّن من الحملة الأولى، فعرضوا عليه فتح جزيرة [[رودس]] معقل [[فرسان الإسبتارية|فُرسان الإسبتاريَّة]]، كون هؤلاء كانوا دائمي الإغارة على سُفُن المُسلمين التجاريَّة، ويقطعون الطريق البحريَّة بين إسلامبول ومصر. فأذن لهم السُلطان في بناء السُفُن وإعداد العدَّة اللازمة لِحصار قلاع الجزيرة، إلَّا أنَّهُ كان غير عازمًا على ذلك، ويُحكى أنَّهُ خرج يومًا عبر البحر لِزيارة مقام الصحابي أبي أيُّوب الأنصاري، فرأى أكبر السُفُن الحربيَّة تسير في المياه، فغضب وأمر بِقتل القُبطان جعفر باشا، فشفع فيه الصدر الأعظم پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي، واعتذر لِلسُلطان قائلًا أنَّ تلك السفينة جديدة وقد أُنزلت إلى البحر لِتُختبر، فخلَّص القُبطان من القتل.<ref name="منجم12"/> ويُروى أنَّ السُلطان قال حينئذٍ لِلصدر الأعظم: {{اقتباس مضمن|أَنَا أُرِيدُ أَخْذَ إقْلِيمٍ وَمُلْكٍ عَظِيمٍ، وَلَا تُسَاعِدُونِي عَلَيْه، وَتَسُوقُونِي إلَى أَخْذِ إحْدَى قِلَاع اللُّصُوص وَالمَسِيِرِ إلَيْهَا؛ فَمَا أَعْدَدتُم مِن مُهِمَّاتِه؟}} فقال الصدر الأعظم أنَّهم أعدُّوا ما يكفي أربعة أشهر، فردَّ عليه سليم أنَّ مثل هذه الحملة تتطلَّب ضعف هذا الإعداد، فكان كما قال، ولم تُفتتح الجزيرة إلَّا بعد تسعة أشهُرٍ من الحصار والقتال، في عهد خليفته سُليمان. ويُروى أيضًا أنَّ سليمًا قال بعد ذلك: {{اقتباس مضمن|لَا سَفَرَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ إلَّا سَفَرَ الْآخِرَةِ}}.<ref name="منجم12"/>

== وفاة السُلطان سليم ==
[[ملف:Selim I - deathbed.jpg|تصغير|يمين|السُلطان سليم على فراش الموت.]]
[[ملف:Mausoleum of Yavuz Selim Sultan Mosque 9495.jpg|تصغير|قبر السُلطان سليم داخل مسجد السليميَّة المُسمَّى نسبةً إليه، كما بدا سنة [[2018]]م.]]
سنة [[926 هـ|926هـ]] المُوافقة لِسنة [[1520]]م، تجهَّز السُلطان سليم لِلخُرُوج في حملةٍ يُرجَّح أنها كانت نحو المجر، فأرسل العتاد اللازم مع الصدر الأعظم وخرج في أثره نحو أدرنة. وفي [[1 شعبان]] [[926 هـ|926هـ]] المُوافق فيه [[1 يوليو|1 تمُّوز (يوليو)]] [[1520]]م، ظهر [[دمل|دمَّلٌ]] بين كتفيه، فلم يعتد به بدايةً ولم يفسخ عزمه، لكنَّ الوجع والاضطراب استمرَّ يقوى ويشتد يومًا فيومًا، ولمَّا وصل إلى موضع [[تشورلو|چورلي]]، وهو نفس المكان الذي حارب فيه والده بايزيد قبل عدَّة سنوات، لم يعد قادرًا على المسير، فأقام في مكانه حتَّى يُعالجه [[الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية|الأطبَّاء والجرَّاحون]].<ref name="منجم12"/> لكنَّ العلاج لم يُفضِ إلى نتيجة، ولم تنفع تدابير الأطبَّاء في التخفيف عن السُلطان، فاستمرَّ يُعاني آلامًا مُبرحة نحو شهرين. وفي ليلة السبت [[9 شوال|9 شوَّال]] [[926 هـ|926هـ]] المُوافق فيه [[22 سبتمبر|22 أيلول (سپتمبر)]] [[1520]]م، تُوفي السُلطان سليم في سرادقه، وهو في الحادية والخمسين من عُمره، وفي السنة التاسعة من حُكمه.<ref name="منجم12"/><ref name="الحكومة2"/> وأخفى طبيبه الخاص خبر موته عن الحاشية ولم يُبلغه إلَّا لِلصدر الأعظم ولِلوُزراء، فاجتمع كُلٌّ من پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي ومُصطفى باشا وأحمد باشا وقرَّروا إخفاء هذا الأمر حتَّى يحضر الشاهزاده سُليمان من مغنيسية خوفًا من أن تثور الإنكشاريَّة كما هي عادتهم.<ref name="الحكومة2"/> وأنشد شيخ الإسلام المولى ابن كمال مرثيَّةً بكى فيها السُلطان سليم، فقال:<ref name="منجم12"/>
[[ملف:Territorial changes of the Ottoman Empire 1520 ar.jpg|تصغير|خريطة تُظهر الحُدُود التقريبيَّة لِلدولة العُثمانيَّة عشيَّة وفاة السُلطان سليم. يُشيرُ الأخضر الداكن إلى المناطق التي سيطرت عليها الدولة مُباشرةً، ويُشيرُ الأخضر الفاتح إلى المناطق التي كان لِلدولة عليها سيادة غير مُباشرة.]]
{{أبيات|
حيف سُلطان سليم حيف ودريغ\\هم قلم اغلسون انى هم تيغ}}
وتعريبها: «واحسرتاه على فُراق السُلطان سليم، فإنَّ القلم والسيف يبكيان على فراقه».<ref name="منجم12"/> بقي خبر وفاة السُلطان طي الكتمان طيلة تسعة أيَّام،<ref name="الوفاة">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=236-237}}</ref> حتَّى وصل الشاهزاده سُليمان إلى إسلامبول ودخلها في يوم [[16 شوال|16 شوَّال]] المُوافق فيه [[29 سبتمبر|29 أيلول (سپتمبر)]]، وبعد ظُهر ذلك اليوم وصل الصدر الأعظم پيري مُحمَّد باشا وأخبر عن وُصُول جُثمان السُلطان سليم في اليوم التالي. وعند ظُهر [[17 شوال|17 شوَّال]] المُوافق فيه [[30 سبتمبر|30 أيلول (سپتمبر)]] وصل موكب جنازة السُلطان، فخرج سُليمان لِمُقابلتهم عند [[أسوار القسطنطينية|أسوار المدينة]]، واكتنف تابوت أبيه حتَّى [[مسجد الفاتح (إسطنبول)|مسجد الفاتح]] حيثُ أقيمت [[صلاة الجنازة]]،<ref name="الوفاة"/> ثُمَّ خرج الجمع بالسُلطان الراحل حتَّى وُري الثرى على أحد مُرتفعات البلد، وأمر السُلطان سُليمان ببناء جامعٍ شاهقٍ عُرف [[مسجد سليم الأول|بِمسجد السليميَّة]]، ومدرسةٍ في المحل الذي دُفن فيه والده،<ref>{{استشهاد مختصر|1=فريد بك|2=1981|ص=198}}</ref> ومن المعروف أنَّ السُلطان سليم يرقُد في قبره هذا وحيدًا، تمامًا كجدِّه السُلطان مُحمَّد الفاتح، الذي لم يُدفن معه أحدٌ من بني عُثمان.<ref name="الوفاة"/>

ترك السُلطان سليم خلفهُ دولةً عالميَّةً حقيقيَّة، فبعد أن كانت الدولة العُثمانيَّة إحدى القوى الإسلاميَّة في المنطقة حين تربُّعه على العرش، أصبحت عند وفاته إمبراطوريَّةً كبيرة تمتد أراضيها عبر [[أوروبا الشرقية|أوروپَّا الشرقيَّة]] و[[غرب آسيا|آسيا الغربيَّة]] و[[شمال إفريقيا|أفريقيا الشماليَّة]]، وتحوز الخِلافة الإسلاميَّة التي عادت لِلمرَّة الأولى مُنذُ قُرُون، خِلافةً غير صوريَّة. وأعاد السُلطان سليم تحقيق وحدة الأناضول كما كانت زمن السُلطان بايزيد الأوَّل، ولم يبقَ سوى بضع بلادٍ في آسيا الصُغرى خارجة عن نطاق الدولة العُثمانيَّة، وكان مُعظمها داخلًا تحت جناح الدولة الصفويَّة.<ref name="صفات">{{استشهاد مختصر|1=أوزتونا|2=2010|ص=238-239}}</ref>

== شخصيَّته وصفاته ==
[[ملف:Selim I.jpg|تصغير|يمين|الصورة الشهيرة التي تُصوِّرُ السُلطان سليم واضعًا قرطًا بِلُؤلُؤة.]]
تقول بعض المصادر أنَّ السُلطان سليم كان طويل القامة نسبيًّا، وعريض المنكبين، وحاد النظرات، ومُستدير الوجه، وعاقد الحاجبين الأسودين، وكبير الرأس، و[[بشرة زيتونية|أسمر البشرة]]، وغليظ الأنف، وكثّ الشارب، وخفيف اللحية، وقصير الجذع نسبةً إلى الساقين، ومُمتلئ الجسم. وبحسب تاريخ [[محمد صولاق زاده|صولاق زاده]] فهو مُتوسِّط القامة، وبدين، وأسنانه بيضاء لُؤلُؤيَّة لامعة، وحاجباه مُقوَّسان، وقويّ العضلات، و[[عرق أبيض|أبيض الوجه]]. وبحسب ابن إياس الذي شاهد السُلطان في القاهرة، فهو غير مُلتحٍ، وحنطيّ البشرة، وطويل نسبيًّا، وعريض الأنف، وواسع العينين، وقصير القامة، ومحني الظهر قليلًا، وسريع الخُطى.<ref name="أرمغان2">{{استشهاد مختصر|1=أرمغان|2=2014|ص=56-60}}</ref>
[[ملف:Paolo Veronese (Nachfolger) - Sultan Selim I. - 2240 - Bavarian State Painting Collections.jpg|تصغير|لوحة بِريشة الرسَّام البُندُقي [[باولو فرونزه|بولس فرونزه]]، الذي عاش خلال فترةٍ قريبةٍ من عهد السُلطان سليم، تُصوِّرُ السُلطان المذكور بِشكلٍ أكثر دقَّة من لوحة القرط.]]
[[ملف:Poetry by Sultan Selim.jpg|تصغير|إحدى قصائد السُلطان سليم.]]
من المعروف أنَّ السُلطان سليم كان يُحب البساطة كوالده بايزيد، ولم يولِ أهميَّةً لِلمظاهر، وعند دُخُوله القاهرة كان يعتمر [[عمامة]]ً صغيرةً ويرتدي [[قفطان]]ًا حريريًّا. عدا ذلك اشتهر بأنَّهُ لم يكن كثير العناية بِهندامه وزينته، ولا يُجدد ثيابه عندما تُبلى، ولهذا كان رجال الدولة يحرصون على عدم الظُهُور بكامل أُبَّهتهم أمامه احترامًا له وخجلًا منه في الوقت عينه. وصفه مُعاصره الطبيب والمُؤرِّخ الإيطالي [[باولو جيوفيو|بولس جيوڤيو]] {{إيطالية|Paolo Giovio}} لِلإمبراطور شارلكان قائلًا: «إنَّهُ مُعتدل في الطعام واللهو».<ref name="أرمغان1"/> وهُناك روايتان تعكسان عُزُوف السُلطان سليم عن الفخفخة، تقول الأولى أنَّهُ سخر من ابنه سُليمان الذي كان شديد العناية بهيئته ويُحب الثياب المُزركشة، فقال لهُ: {{اقتباس مضمن|يَا وَلَدِي يَا سُلَيْمَان!... إنْ كُنْت تَلبَسُ هَكَذَا فَمَا أَبْقَيْت لِأُمِّك؟!!}}.<ref name="أوزتورك">{{استشهاد مختصر|1=آق كوندوز وأوزتورك|2=2008|ص=233-234}}</ref> وتقول الرواية الأُخرى أنَّ وُزراء السُلطان طلبوا منه يومًا بِواسطة الصدر الأعظم أن يسمح لهم بارتداء ملابس جديدة لِيستقبلوا بها أحد السُفراء الأوروپيين، كي يُعطوه انطباعًا جيِّدًا، وأنهم يأملون لو يفعل السُلطان المثل، فأجاز لهم التزيِّي بما شاؤوا، لكنَّهُ استقبل السفير بِملابسه القديمة عندما حضر بين يديه. وشهد الحاضرون أنَّ السفير لم يرفع عينيه وينظر إلى السُلطان سليم طيلة اللقاء، ولمَّا غادر قال السُلطان لِوُزرائه: {{اقتباس مضمن|طَالَمَا بَقِيَ حَدُّ السَّيْفِ بَتَّارًا لَا تَرَى عَيْن الْكَافِر لِبَاسَنَا، وَلَا تَنتَبِه إلَيْه. الله لَا يُرِينَا الْيَوْمِ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ سَيْفَنَا غَيْر بَتّار، وَنَنْشَغِل بِاللِّبَاس وَالْمُظَاهِر. لِأَنَّ الْكَافِرَ حِينَئِذٍ سَيَرفَع عَيْنَهُ عَنْ الْأَرْضِ، وَيَضَعُهَا عَلَى سُلْطَانِ سَلَاطِينَ آلِ عُثْمَانَ!}}.<ref name="أرمغان1"/> تُصوِّرُ إحدى اللوحات المعروضة في سراي طوپ قاپي السُلطان سليم واضعًا [[قرط (مجوهرات)|قرطًا]] بِلُؤلُؤةٍ في أُذُنه اليُسرى، إلَّا أنَّ جميع المصادر التي عاصرته لا تذكر أنَّهُ فعل ذلك، علمًا بأنَّ إحدى الروايات تقول بأنَّهُ كان يُعلِّق في أُذُنه قرطًا نُحاسيًّا. وهُناك من ينسب هذه اللوحة إلى الشاه إسماعيل بِسبب التاج ذي الإثني عشر فصًّا، إلَّا أنَّ هذا النوع من التيجان المُرصَّعة لم يكن موجودًا في الشرق قبل [[القرن 18|القرن الثامن عشر الميلادي]]، وكان يوضع على الأغلب فوق العمامة، ويتمثَّل بِعدَّة ريش ذات أحجارٍ كريمة.<ref name="أرمغان2"/> لِهذا يغلب الظن أنَّ هذه اللوحة إمَّا أن تكون رُسمت من محض الخيال أو أنَّها زُوِّرت قصدًا لِلإساءة لِهذا السُلطان والتاريخ العُثماني عُمومًا، على اعتبار أنَّ الأقراط كانت من علامات [[الرق في الإسلام|العُبُوديَّة]] أو [[مثلية جنسية|الشُذُوذ الجنسي]]. وفي هذا المجال، تقول إحدى التفسيرات الضعيفة أنَّ غاية السُلطان سليم من وراء وضعه قرطًا الإشارة إلى عُبُوديَّته لله.<ref name="أوزتورك"/>

أبرز ما اشتهر به السُلطان سليم من حيث هيئته كان شاربه الكث الكبير، فهو أوَّل من خرج عن تقاليد آبائه وأجداده بإطلاق اللحى، فلم يلتحِ حتَّى وفاته، ويُقال أنَّه منع أبنائه وأحفاده من إطالة لِحاهم.<ref name="صفات"/> وكان سنده الشرعي في ذلك الفتاوى المُجيزة لِلِغُزاة والمُجاهدين في سبيل الله أن يُطلقوا شواربهم كي يُلقوا الرُعب في قُلُوب الأعداء، أي من باب الحرب النفسيَّة، فقد ورد في إحدى فتاوى شيخ الإسلام الإمام [[أبو السعود أفندي]]: {{اقتباس مضمن|...السُنَّة هِي حَفّ الشَّوَارِب حَتَّى تَكُونَ بِعَرْض الْحَاجِب، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى الْغُزَاة مِنْ هَذَا لِأَنَّهُ مِنْ الْمَنْدُوبِ لَهُم إطَالَتُهَا لِكَي يَرْهَبُهُم الْأَعْدَاء}}.<ref name="أوزتورك"/>

لمَّا كان هذا السُلطان نشأ في أماسية، التي كانت بيئةً خصبةً لِلعُلُوم والآداب والفُنُون، فقد انعكس ذلك عليه، فكان يهوى [[صائغ|الصياغة]] ولعب [[شطرنج|الشطرنج]]، وتعلَّم اللُغات العربيَّة والفارسيَّة والروميَّة والتتريَّة، وكان قادرًا على صياغة الشعر بِالُّلغتين الأوَلتين إلى جانب التُركيَّة في بعض المصادر؛ وأحبَّ الفارسيَّة بِالذات حُبًا كبيرًا بحيثُ أنَّ لهُ ديوانٌ بها يضمُّ ثلاثُمائة قصيدة غزل، وقد طُبع هذا الديوان سنة [[1890]]م في إستانبول. وعندما سعى الإمبراطور الألماني [[فيلهلم الثاني|غليوم الثاني]] لِمُجاملة السُلطان [[عبد الحميد الثاني]]، أمر بِإعادة طباعة هذا الديوان بِحجمٍ كبير، وأعدَّ خمسُمائة نسخة مُذهَّبة سنة [[1904]]م وأُرسلت إحداها إلى السُلطان. كما طُبع هذا الديوان بِالتُركيَّة.<ref name="أرمغان2"/> والسُلطان سليم هو الوحيد من بني عُثمان الذي لديه ديوانٌ كاملٌ بِالفارسيَّة، وبحسب أسطون الشعر العُثماني عبد اللطيف بن خطيب القسطمونئي (الشهير بِـ«لطيفي») والمُؤرِّخ مُحمَّد صولاق زاده، فإنَّ سليم لم يكتب شعرًا بِالتُركيَّة على الإطلاق. والمعروف أنَّهُ استخدم الاسم الفني «سليمي»، علمَّا أنَّ البعض يدَّعي بأنَّ هذا الاسم يعود لِشاعرٍ آخر، وقد أُسندت قصائده إلى السُلطان بسبب تقارُب أُسلوبيهما. والسُلطان سليم هو أوَّل من عانى من بني عُثمان من [[مد البصر]] بِسبب كثرة القراءة، إذ كان يكتفي بِنوم ثلاث إلى أربع ساعات في الليل، ويقضي بقيَّته قارئًا، فكان عاقبة ذلك أن صار يستخدم [[نظارة طبية|نظَّارة مُكبِّرة]].<ref name="أرمغان2"/> وإلى جانب الشعر، كان لدى السُلطان سليم مُيُولٌ موسيقيَّة، وإن لم تكن بِمُستوى شقيقه قورقود، حتَّى أنَّهُ جلب معهُ بعض الموسيقيين [[أذر|الآذر]] من تبريز بعد انتهاء حملته على الدولة الصفويَّة.<ref name="أرمغان2"/>
[[ملف:Sultan Selim Hunts a Crocodile in Egypt.jpg|تصغير|السُلطان سليم وقد اصطاد تمساحًا على ضفَّة النيل بِمصر.]]
[[ملف:Sultan Selim and Halîmî Çelebi.jpg|تصغير|يمين|السُلطان سليم يُجالس الشيخ عبد الحليم أفندي، الشهير بِـ«حليمي چلبي».]]
كان التاريخ المجال الخاص لاهتمام السُلطان سليم، فقد كان يأخذ معهُ في حملاته كتاب «تاريخ الوصَّاف» الذي يروي [[غزوات وفتوحات المغول|حُرُوب المغول في الشرق]]، وحزن كثيرًا عندما سلب البدو هذا الكتاب في طريق حملته إلى مصر. وبعد ضم الديار المصريَّة وجد خطَّاطًا مشهورًا بِسُرعة كتابته، وطلب منهُ أن يُعيد تدوين الكتاب المذكور، واحتجزه في داره حتَّى أتمَّ عمله. كما طلب من شيخ الإسلام المولى ابن كمال ترجمة كتاب [[النجوم الزاهرة|النُجُوم الزاهرة]] [[ابن تغري|لِابن تغري بردي]]، وأمر بِنقل مكتبة شقيقه قورقود من مغنيسية إلى سراي طوپ قاپي في سبيل الاستفادة منها. وكان يُحب أن يحضر الشُعراء والعُلماء مجلسه، ومن أبرز المُداومين على ذلك من رجال العلم والفكر: علي أفندي الزنبيلي و[[كمال باشا زاده]] والمولى إدريس البدليسي والشيخ عبد الحليم أفندي بن علي القسطمونئي، الشهير بِـ«حليمي أفندي» أو «حليمي چلبي»، وجعفر چلبي بن تاج. أمَّا الشُعراء فكان أبرزهم إلياس بن عبد الله الأدرني، الشهير بِـ«رواني».<ref name="أرمغان1"/> ومن هوايات السُلطان سليم جمع التحُف والطرائف، فقد أتى بِمجموعةٍ من القطع الخزفيَّة وجدها بِخزينة قلعة الجبل بالقاهرة، ووضعها في سراي طوپ قاپي، ويروي ابن إياس أنَّهُ اصطحب معهُ مجموعة [[خيال الظل|مسرح خيال ظل]] عند عودته من القاهرة بعد أن أُعجب بهذا الفن وقرَّر نقله إلى عاصمة مُلكه وتعريف أهلها عليه، فكان أوَّل من أدخل خيال الظل إلى [[ثقافة عثمانية|الثقافة العُثمانيَّة]].<ref name="أرمغان2"/> وكان السُلطان سليم فائق الاطلاع على السياسة العالميَّة في زمنه، ولم يكن يستغني عن قطع [[خريطة بيري ريس|خريطة العالم]] التي رسمها [[بيري ريس|پيري ريِّس]]،<ref name="صفات"/> ويُروى أنَّهُ بعد سيطرته على مصر طلب من [[الجغرافيا في عصر الحضارة الإسلامية|الجُغرافيين]] أن يرسموا له خرائط [[شبه القارة الهندية|للهند]] و[[الصين (منطقة)|الصين]]، دون أن تُعرف غايته من وراء ذلك.<ref name="أرمغان2"/> بِالإضافة إلى هذا، كان لهُ ولعٌ شديد بِالخُيُول، وامتلك عدَّة رؤوسٍ مُطهَّمة،<ref name="صفات"/> وكان صيَّادًا ماهرًا، تعلَّم صناعة الأقواس وتمرَّس بِالرماية مُنذُ صغره، وكان يخرج بِرحلات صيدٍ تمتدُّ شُهُورًا، وأورث هذه الهواية لِابنه سُليمان، وكان ماهرًا بِاستخدام السيف بحيثُ استعمله في الصيد أيضًا، ومن أبرز الأحداث المُسجَّلة التي تؤكِّد مهارة السُلطان سليم كصيَّاد، أنَّه حينما كان في مصر اصطاد [[تمساح النيل|تمساحًا]] على ضفَّة النيل وقطع رأسهُ بِضربةٍ واحدةٍ من سيفه.<ref name="أرمغان1"/>
[[ملف:Ulu Camii - Kaaba Curtain - Kabe Örtüsü (2).jpg|تصغير|كسوة باب الكعبة المحفوظة في مسجد أولو جامع. رُممت هذه الكسوة سنة [[2009]]م بعد أن اهترأت بشدَّة جرَّاء عرضها مكشوفةً لأربعمائة سنة.]]
أمَّا على الصعيد الديني، فمن المعروف أنَّ السُلطان سليم كان مُتمسكًا بِالعقيدة والشعيرة السُنيَّة، وأكنَّ احترامًا وإعجابًا كبيرًا لِلشيخ مُحيي الدين بن عربي،<ref name="صفات"/> لِدرجة أنَّهُ كلَّف الشيخ مكِّي أفندي بِكتابة رسالة يُدافع فيها عن نظريَّة ابن عربي حول [[وحدة الوجود|وحدة الوُجُود]].<ref name="أرمغان2"/> وتذكر بعض المصادر أنَّ هذا السُلطان كان [[مولوية|مولويًّا]]، إذ كان يكُّنُّ احترامًا للمولى جلال الدين الرومي أيضًا، وزار قبره في قونية في طريق حملته إلى الشَّام. ومن مآثر السُلطان سليم أنَّهُ لمَّا انتقل إليه مُلك مصر [[وقف (إسلام)|أوقف]] عدَّة قُرى إلى جوار القاهرة وخصَّص ريعها لِصناعة [[كسوة الكعبة]]، وأمر بِصناعة شمعٍ خاص وإرساله إلى الحرمين الشريفين لِإنارتهما، وهو شمعٌ أبيض أُضيف لهُ [[كافور (نبات)|الكافور]] ويُسمَّى «شمع كافوري»، يُستخرج من دُهن الحيتان. ومن مآثره أيضًا أن أمر بِإنشاء بيمارستان ومأوىً لِمرضى [[جذام|الجُذام]] قُرب [[مقبرة قراجة أحمد]]، واستمرَّ هذا البيمارستان يُعالج مرضى الجُذام حتَّى سنة [[1938]]م، أي تاريخ هدمه.<ref name="أرمغان1"/> وأمر السُلطان سليم بِتخصيص موضعٍ في [[مسجد أولو جامع]] بِبورصة لِتُعلَّق فيه أوَّل كسوةٍ لِلكعبة أعدَّها العُثمانيُّون بعد انتقال خدمة الحرمين الشريفين إليهم. فقد كانت العادة عند نهاية موسم الحج أن تُرسل كسوة السنة السابقة إلى السُلطان الحاكم لبلاد الحرمين، ولمَّا آن أوان موسم الحج الثاني في سلطنة سليم، أرسل إليه شريف مكَّة الكسوة القديمة بحسب العادة الجارية، فرغب السُلطان بِتخليد هذا الحدث الذي يرمز إلى انتقال خدمة الحرمين إلى بني عُثمان، فعلَّق الكسوة في مسجد أولو جامع، وجدَّد [[خط عربي|التخطيط]] الظاهر في أعلاها، ونصُّه (كما هو بِأخطائه): {{اقتباس مضمن|الله الله الله، أَمَر بِعَمَل ھَذِهِ لْمَحْمَل شَرِیْف مَوْلَانَا الْمَلِك الْمُعَظَّم الْمُظَفَّر الْمَلِكِ الْعَادِلِ الْمُجَاهِد الْمُرَابِط المُثَاغِر سُلْطَان الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مُحْيِي الْعَدْلِ فِي الْعَالَمِين خَادِمِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إسْكَنْدَر الزَّمَان سُلْطَان سَلَيْم شَاه بْنِ السُّلْطَانِ بَايَزِيد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُرَاد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّد خَان بْنِ السُّلْطَانِ بَايَزِيد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُرَاد خَان بْنِ السُّلْطَانِ أُرْخاَن بْنِ السُّلْطَانِ عُثْمَان خَلَّدَ الله مِلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَنَصَر جُيُوشِه وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ بِتَارِيخ خَامِسَ عَشَرَ شَهْرِ شَوَّالٍ الْمُبَارَك مِنْ شُهُورِ سَنَةِ الِاثْنَيْن وَعِشْرِين وَتِسْعُ مِائَة بِدِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ}}.<ref name="أوزتونا6"/><ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Okumura |2=2012|ص=1, 6-8, 10-11 |لغة=en}}</ref>

== زوجاته وأولاده ==
[[ملف:BustOfAyseHafsaSultan ManisaTurkey.jpg|تصغير|تمثالٌ نصفيّ لِعائشة حفصة سُلطان.]]
[[ملف:EmperorSuleiman.jpg|تصغير|سُليمان بن سليم، السُلطان سُليمان القانوني لاحقًا، بِريشة رسَّام غربي مجهول.]]
تزوَّج السُلطان سليم بامرأتين فقط حسب ما هو شائع، ويُقال تزوَّج بِأربعة،<ref group="la" name="Çetinoğlu">{{استشهاد مختصر|1=Çetinoğlu |2=1985|ص=17|لغة=en}}</ref> وأنجب منهُنَّ خمس بنات، وقيل تسعة.<ref group="la" name="Çetinoğlu"/> والرواية الأكثر قبولًا وشُيُوعًا أنَّهُ لم يكن له من الأبناء الذُكُور حين وفاته سوى وليّ عهده سُليمان، ويُقال أنَّهُ كان لهُ أبناءٌ آخرين ماتوا جميعهم في صغرهم،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Özdamarlar|2=2009|ص=4|لغة=en}}</ref> ويُقال أيضًا أنَّ لهُ ابنٌ آخر غير سُليمان كُتبت لهُ الحياة، وقد أنجبه من إحدى [[محظية|مُحظياته]] التي طُردت من [[حرملك|الحرملك]].<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Emecen|2=2009|ص=414|لغة=en}}</ref> أما زوجاته وأولاده فهم:
;زوجاته
* '''[[عائشة حفصة سلطان|عائشة حفصة سُلطان]]''': حسب الرواية الشائعة فهي ابنة خان القرم منكلي كراي. وبحسب هذه الرواية فإنَّ سليمًا تزوَّجها خلال عهد جدِّه مُحمَّد الفاتح في سبيل توثيق عُرى الاتحاد بين العُثمانيين ومغول القرم عبر المُصاهرة. أصبحت فيما بعد أوَّل امرأة تحمل لقب [[السلطانة الأم|السُلطانة الأُم أو والدة السُلطان]] في عهد ابنها سُليمان. مصادر أُخرى تقول أنها جارية مسيحيَّة الأصل، أو أنَّها مُسلمة حُرَّة ابنة رجل يُدعى عبد المُعين.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Sakaoğlu|2=2008|ص=148|لغة=en}}</ref> تُوفيت سنة [[1534]]م ودُفنت في الجهة القبليَّة من مسجد السليميَّة حيثُ يرقد زوجها.
* '''[[عائشة خاتون (زوجة سليم الأول)|عائشة خاتون]]''': تكاد تجمع المصادر أنَّها هي ابنة خان القرم منكلي كراي. كانت في البداية زوجة مُحمَّد شقيق سليم، ولمَّا تُوفي دخلت حرملك سليم وتزوَّجها فيما بعد.
;أبناؤه
* '''[[سليمان القانوني|سُليمان]]''': ابن عائشة حفصة سُلطان، ووليّ عهد أبيه. قُدِّر لهُ أن يُصبح أعظم سلاطين بني عُثمان في التاريخ ومن أعظم الحُكَّام المُسلمين عُمومًا.
* '''أُويس باشا''': يُقال أنَّهُ ابن السُلطان سليم من مُحظيةٍ مجهولة طُردت من الحرملك لِسوء أخلاقها، وزُوِّجت لِأحد أُمراء الدولة العُثمانيَّة، وهو من تكفَّل بِتربية ابنها حينما وُلد. حُجَّة القائلين بِهذا روايةٌ تقول أنَّ السُلطان سُليمان لمَّا بلغه وفاة أُويس المذكور، بكاه قائلًا: «فقدتُ أخي».
:أمَّا الأبناء الآخرون الذين يُقال بأنَّ السُلطان سليم رُزق بهم وماتوا في طفولتهم، فهم: '''الشاهزاده صالح'''، و'''الشاهزاده أورخان'''، و'''الشاهزاده موسى'''، و'''الشاهزاده قورقود'''.
;بناته
* '''[[فاطمة سلطان (ابنة سليم الأول)|فاطمة سُلطان]]''': ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت ثلاث مرَّات: الأولى بِمُصطفى باشا، والثانية بالصدر الأعظم [[قرة أحمد باشا|قره‌أحمد باشا]]، والثالثة بِالبكلربك إبراهيم باشا الخادم. توفيت سنة [[1573]]م ودُفنت بِتُربة قره‌أحمد باشا بإسلامبول.
* '''[[السلطانة خديجة|خديجة سُلطان]]''': ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت القُبطان إسكندر باشا سنة [[1509]]م. اعتُقد لِفترةٍ طويلة أنَّها تزوَّجت من الصدر الأعظم [[إبراهيم باشا الفرنجي]]، نديم شقيقها سُليمان، لكنَّ الأبحاث المُعاصرة تُشكك في ذلك. يُعتقد أنها رُزقت بابنةٍ واحدةٍ على الأقل.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Turan |2=2009|ص=3–36|لغة=en}}</ref> دُفنت بِمسجد السليميَّة حيثُ يرقد والداها.
* '''حفصة سُلطان''': تزوَّجت بدايةً بالوزير [[أحمد باشا بن دوقاقين]]، ويُحتمل أنَّها تزوَّجت لاحقًا بِجوبان مُصطفى باشا بن إسكندر. أنجبت والدًا واحدًا هو عُثمان باشا الشهير بِـ«قره‌عُثمان شاه».
* '''[[شاه سلطان|شاه سُلطان]]''': ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت الصدر الأعظم [[لطفي باشا]] سنة [[1523]]م وأنجبت ابنة تُدعى «أسمهان خانم سُلطان». تُوفيت قُرابة سنة [[1572]]م ودُفنت في جامع أبي أيُّوب الأنصاري.<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Haskan|2=2008|ص=535|لغة=en}}</ref>
* '''[[بيخان سلطان (ابنة سليم الأول)|بيخان سُلطان]]''': يُحتمل أنها ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت سنة [[1521]]م بالبكلربك فرحات باشا وأنجبت ابنة وحيدة بحسب الظاهر. توفيت سنة [[1559]]م ودُفنت في مسجد السليميَّة حيثُ يرقد والداها وشقيقاتها.

== في الثقافة الشعبيَّة ==
ظهرت شخصيَّة السُلطان سليم الأوَّل في عدَّة أعمالٍ مرئيَّة ومكتوبة، منها على سبيل المِثال لُعبة «[[أساسنز كريد: ريفليشنز|عقيدة الحشاشين: الوُحِيّ]]» ([[اللغة الإنجليزية|بِالإنگليزيَّة]]: Assassin's Creed: Revelations) حيثُ يلعب دورًا محوريًّا في القصَّة،<ref group="la">{{استشهاد مختصر|1=Bıktım|2=2018|لغة=en}}</ref> ومنها أيضًا مجموعة من المُسلسلات التلفزيونيَّة، أبرزها: [[حريم السلطان (مسلسل)|حريم السُلطان]]، وفيه أدَّى المُمثل مُحرَّم گُلمز {{تر|Muharrem Gülmez}} دور السُلطان سليم، وكذلك في مُسلسل [[السلطان والشاه (مسلسل)|السُلطان والشاه]] الذي يتناول الصراع العُثماني الصفوي وأثره على البلاد العربيَّة، وفيه أدَّى المُمثل السوري [[سامر المصري]] دور السُلطان، وأيضًا مُسلسل [[الزيني بركات (مسلسل)|الزيني بركات]] الذي يتحدث عن الفترة الأخيرة من حياة الدولة المملوكيَّة، وفيه أدَّى المُمثل المصري [[نبيل الدسوقي]] دور السُلطان سليم.

== هوامش ==
{{ملاحظات}}
== المراجع ==
=== فهرست المراجع ===
;بِاللُغتين العربيَّة والعُثمانيَّة
{{مراجع}}

;باللُغات التُركيَّة والأوروپيَّة
{{مراجع|مجموعة="la"|2|محاذاة=نعم}}

=== ثبت المراجع <small>(مُرتَّبة حسب تاريخ النشر)</small> ===
;<u>كُتُب ودوريَّات باللُّغة العربيَّة:</u>
{{بداية المراجع|2}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1=[[ابن أبي السرور البكري]]|عنوان= الكواكب السائرة في أخبار مصر والقاهرة|سنة= [[1055 هـ|1055هـ]]|مسار= https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b110010884/f25.item|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210704223117/https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b110010884/f25.item|تاريخ أرشيف=2021-07-04|مرجع=البكري1055هـ}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q119792227|مرجع=القرماني1865}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127175828|مرجع=مبارك1886}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127428792|مرجع=الشعراني1889}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q125258899|مرجع=الشهابي1900}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127428986|مرجع=الميلي1964}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127457269|مرجع=المدني1968}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q123735153|مرجع=الخربوطلي1969}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q119020382|مرجع=جحا وآخرون1972}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127155770|مرجع=حتي1972}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126436743|مرجع=جمعة والخولي1976}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q113541212|مرجع=فريد بك1981}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127061047|ج=2|مرجع=كرد علي1983}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126454729|مرجع=ابن إياس1984}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q123956503|مرجع=ابن إياس1984أ}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q125899225|مرجع=عمر1985}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127289013|مرجع=الدويهي1986}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127171416|مرجع=أباظة1986}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126941538|مرجع=رضوان1988}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q125952959|مرجع=إيفانوف1988}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126925723|مرجع=التر1989}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126926099|مرجع=أوين1990}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1=جان لوي باكي جرامون|مترجم=بشير السباعي|الفصل=أوج الإمبراطوريَّة العُثمانيَّة: الأحداث (1512 - 1606)|عنوان=تاريخ الدولة العُثمانيَّة|طبعة=1|سنة= [[1992]]|ناشر= دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع|مكان= [[القاهرة]]|مسار=https://archive.org/details/kaoikaprophe_20180503/page/n209/mode/2up|مرجع=جرامون1992}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q115308810|مرجع=مسعود1992}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127463975|مرجع=ابن سباط1993}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q114878607|ج=5|مرجع=ابن منظور1994}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127427726|مرجع=زهر الدين1994}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q125850560|مرجع=البكري1995}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126941002|مرجع=النهروالي1996}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127460948|مرجع=الخطيب1996}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126926485|مرجع=الجميل1997}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q120985041|مرجع=الغزي1997}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126336050|مرجع=ابن طولون1998}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= م.ت.هوتسما|مؤلف2= ت.و.أرنولد |مؤلف3= ر.باسيت|مؤلف4= ر.هارتمان|عنوان= موجز دائرة المعارف الإسلاميَّة|طبعة= 1|سنة= [[1418 هـ|1418هـ]] - [[1998]]م|المجلد=18|ناشر= مركز الشارقة للإبداع الفكري|مكان= [[الشارقة]]|مسار=https://ia600301.us.archive.org/30/items/WAQ89412/89412.pdf| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20210628055814/https://ia600301.us.archive.org/30/items/WAQ89412/89412.pdf | تاريخ أرشيف = 28 يونيو 2021|مرجع=هوتسما وآخرون1998}}
* {{استشهاد بدورية محكمة|مؤلف= أمين توفيق الطيبي|دورية=مجلَّة الاجتهاد|عنوان=المُواجهة العُثمانيَّة البُرتُغاليَّة في القرن السادس عشر|المجلد=11|العدد=43|سنة= [[1420 هـ|1420هـ]] - [[1999]]م|مرجع=الطيبي1999|ناشر=دار الاجتهاد للأبحاث والترجمة والنشر|مسار= https://ebook.univeyes.com/154011/pdf-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%b1%d8%aa%d8%ba%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%af%d8%b3-%d8%b9%d8%b4%d8%b1#|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20240609190144/https://ebook.univeyes.com/154011/pdf-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%b1%d8%aa%d8%ba%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%af%d8%b3-%d8%b9%d8%b4%d8%b1|تاريخ أرشيف=2024-06-09}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q118039384|مرجع=حلاق وصباغ1999}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127168749|مرجع=عبد المعطي1999}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126955817|مرجع=صباغ1999}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127165052|مرجع=حسن2000}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q119079207|مرجع=حلاق2000}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q124168574|مرجع=صابان2000}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q123643510|مرجع=الصلابي2001}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126956357|مرجع=عيسى2002}}
* {{استشهاد بدورية محكمة|مؤلف= أسامة محمد أبو نحل|تاريخ= [[2003]]|عنوان= جان بردي الغزالي المملوكي والدولة العُثمانيَّة - رؤية تاريخيَّة جديدة |دورية= مجلَّة جامعة النجاح للأبحاث (العُلُوم الإنسانيَّة)|المجلد= 17|العدد= 1|issn=1727-8449|مسار= https://journals.najah.edu/media/journals/full_texts/mamluk-jan-bardi-el-ghazali-and-ottoman-empire-new-historical-out-look.pdf|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210715191045/https://journals.najah.edu/media/journals/full_texts/mamluk-jan-bardi-el-ghazali-and-ottoman-empire-new-historical-out-look.pdf|تاريخ أرشيف=2021-07-15|مرجع=أبو نحل2003}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127165371|مرجع=بيات2003}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126955174|مرجع=متولي وفهمي2005}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q107406680|مرجع=طقوش2007}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q114411691|مرجع=آق كوندوز وأوزتورك2008}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q119705199|مرجع=منجم باشي2009}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126963796|مرجع=بربروس2010}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q119025953|مرجع=أوزتونا2010}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف=عبد العزيز الشناوي|عنوان= الأزهر جامعًا وجامعة|المجلد=1|سنة= [[2013]]|ناشر= [[مكتبة الأنجلو المصرية]]|مكان= [[القاهرة]]|مسار= https://books.google.com.lb/books?id=8AktEAAAQBAJ&pg=PT133&lpg=PT133&dq=%D9%85%D8%B9%D9%86%D9%89+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A9&source=bl&ots=G3roDQIAc_&sig=ACfU3U2CEd1ZcDe8D0c7pVb6ZKTYP5f2vQ&hl=en&sa=X&ved=2ahUKEwjmyPbkmsrxAhVlyoUKHVjMCGoQ6AEwBXoECAUQAw#v=onepage&q=%D9%85%D8%B9%D9%86%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A9&f=false|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210711164557/https://books.google.com.lb/books?id=8AktEAAAQBAJ&pg=PT133&lpg=PT133&dq=معنى+المشاعلية&source=bl&ots=G3roDQIAc_&sig=ACfU3U2CEd1ZcDe8D0c7pVb6ZKTYP5f2vQ&hl=en&sa=X&ved=2ahUKEwjmyPbkmsrxAhVlyoUKHVjMCGoQ6AEwBXoECAUQAw|تاريخ أرشيف=2021-07-11|مرجع=الشناوي2013}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q107311111|مرجع=طقوش2013}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q119023002|مرجع=أرمغان2014}}
* {{استشهاد ويب|مؤلف=[[عبد الرحيم أبو حسين]]|تاريخ=15-09-2017|عنوان=حُدُود الدور الذي لعبته البُندُقيَّة في النزاعات اللُّبنانيَّة المُبكرة |مسار=https://ademocracynet.com/Arabic/index.php?page=articles&id=8655&action=Detail |مسار أرشيف=https://web.archive.org/web/20210720174236/https://ademocracynet.com/Arabic/index.php?page=articles&id=8655&action=Detail|تاريخ أرشيف =20-07-2021|موقع=الشبكة العربيَّة لدراسة الديمقراطيَّة|تاريخ الوصول =20-07-2021|مرجع=أبو حسين2017}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q127458547|مرجع=الأسود2018}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q105632845|مرجع=فليفل2019}}
* {{استشهاد بويكي بيانات|Q126280074|مرجع=محمود2019}}
{{نهاية المراجع}}
;<u>باللُّغة العُثمانيَّة:</u>
{{بداية المراجع}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[خواجة سعد الدين أفندي|سعد الدين محمد حسن جان التبريزي]]|عنوان= تاج التواريخ في تاريخ آل عثمان|سنة= [[1601|۱٦٠١]]-[[1615|١٦١٥]]|لغة= ota|مسار=https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b8559118h/f1015.item| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20210508021102/https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b8559118h/f1015.item | تاريخ أرشيف = 8 مايو 2021|مرجع=سعد الدين1610}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= أحمد فريدون بك|عنوان= مجموعه مُنشآت السلاطين|المجلد=١|سنة= [[1275 هـ|١٢٧٥هـ]]|ناشر= دار طباعه عامره|مكان= [[إسطنبول|إستانبول]]|لغة= ota|مسار=https://curiosity.lib.harvard.edu/islamic-heritage-project/catalog/40-990078556280203941| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20200216150535/https://curiosity.lib.harvard.edu/islamic-heritage-project/catalog/40-990078556280203941/ | تاريخ أرشيف = 16 فبراير 2020|مرجع=فريدون بك1275هـ}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[محمد صولاق زاده]]|عنوان= تاريخ صولاق زاده|طبعة=١|سنة= [[1297 هـ|١٢٩٧هـ]]|ناشر= محمود بك مطبعەسى|مكان= [[إسطنبول|إستانبول]]|لغة= ota|مسار=https://www.loc.gov/resource/amedhamid2.437039598/?sp=374&r=-0.16,0.095,1.172,0.577,0| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20210512163408/https://www.loc.gov/resource/amedhamid2.437039598/?sp=374 | تاريخ أرشيف = 12 مايو 2021|مرجع=صولاق زاده1297هـ}}
{{نهاية المراجع}}
;<u>باللُغات التُركيَّة والأوروپيَّة:</u>
{{بداية المراجع|محاذاة=نعم|2}}
* {{استشهاد بموسوعة|موسوعة =Encyclopædia Britannica|عنوان =Persia|مسار = https://en.wikisource.org/wiki/Page:Encyclop%C3%A6dia_Britannica,_Ninth_Edition,_v._18.djvu/665|تاريخ = 1894|ناشر = Charles Scribner's Sons|المجلد = 18|الطبعة=9|لغة=en| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20210516125903/https://en.wikisource.org/wiki/Page:Encyclopædia_Britannica,_Ninth_Edition,_v._18.djvu/665 | تاريخ أرشيف = 16 مايو 2021|مرجع=Britannica1894}}
* {{استشهاد بكتاب |الأخير=İnalcık |الأول=Halil |مؤلف-وصلة=خليل إينالجك |محرر-الأخير=Cook |محرر-الأول=M. A. |عنوان=Studies in the Economic History of the Middle East: from the Rise of Islam to the Present Day |الفصل=The Ottoman Economic Mind and Aspects of the Ottoman Economy |ناشر=Oxford University Press |سنة=1970 |isbn=978-0-19-713561-7 |لغة=en|مرجع=İnalcık1970}}
* {{استشهاد بدورية محكمة |الأخير=Salibi |الأول=Kamal S. |عنوان=The Secret of the House of Ma'n |صحيفة=International Journal of Middle East Studies |تاريخ=July 1973 |المجلد=4 |العدد=3 |لغة=en|doi=10.1017/S0020743800031469 |jstor=162160 |مسار= http://www.jstor.org/stable/162160|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210310101649/https://www.jstor.org/stable/162160|تاريخ أرشيف=2021-03-10|مرجع=Salibi1973| issn=0020-7438 }}
* {{استشهاد بكتاب |الأخير=Shaw |الأول=Stanford J. |سنة=1976 |عنوان=History of the Ottoman Empire and Modern Turkey|ناشر=Cambridge University Press |isbn=9780521212809 |لغة=en|التسجيل=registration |مسار=https://archive.org/details/historyofottoman00stan | مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20200608103658/https://archive.org/details/historyofottoman00stan | تاريخ أرشيف = 8 يونيو 2020|المجلد=1, Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire 1280-1808|مرجع=Shaw1976}}
* {{استشهاد |الأخير= Dijkema|الأول= F.TH|سنة= 1977|عنوان= The Ottoman Historical Monumental Inscriptions in Edirne|ناشر= BRILL|لغة= en|مرجع=Dijkema1977|isbn= 9004050620}}
* {{استشهاد بدورية محكمة |الأخير= Çetinoğlu |الأول= Oğuz |تاريخ= January 1985 |عنوان= Kırım Hanlığı Kronolojisi (Beşinci bölüm)|دورية= Bahçesaray Dergisi|المجلد= Eylül - Ekim 2012|العدد=35|لغة= tr|issn=1304-7744|مسار=http://www.kirimdernegi.org/istanbul/bahcesaray/pdf/Bahcesaray-35.pdf|مسار أرشيف=https://web.archive.org/web/20160402200857/http://www.kirimdernegi.org/istanbul/bahcesaray/pdf/Bahcesaray-35.pdf|تاريخ أرشيف=2 أبريل 2016|مرجع=Çetinoğlu1985}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= Celalzade, Mustafa Çelebi|عنوان= Selimname|لغة= tr|سنة= [[1990]]|ناشر=Kültür Bakanlığı|مكان= [[أنقرة|Ankara]]|isbn =9751706459|مرجع=Celalzade1990}}
* {{استشهاد بموسوعة | مؤلف1-الأخير = McCaffrey | مؤلف1-الأول = Michael J. | مسار = http://www.iranicaonline.org/articles/calderan-battle | موسوعة = Encyclopaedia Iranica|المجلد=IV, Fasc. 6| سنة = 1990 |عنوان=ČĀLDERĀN |تاريخ الوصول=2021-07-22|لغة=en|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210712134805/https://iranicaonline.org/articles/calderan-battle|تاريخ أرشيف=2021-07-12|مرجع=McCaffrey1990}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير1 =Sevim|الأول1 =Ali|الأخير2=Yücel|الأول2=Yaşar|عنوان =Türkiye Tarihi|المجلد=2|سنة =1990|ناشر =Türk Tarih Kurumu Basımevi|مكان =Ankara|لغة =tr |isbn =9751602580|مرجع=Sevim & Yücel1990}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1=Uzunçarşılı, İsmail Hakkı|وصلة مؤلف=إسماعيل حقي أوزون تشارشيلي|عنوان= Büyük Osmanlı tarihi|طبعة=7|لغة=tr|سنة= [[1990]]|المجلد=II|ناشر= Türk Tarih Kurumu Yayınları|مكان= [[أنقرة|Ankara]]|isbn=9756945133|مرجع=Uzunçarşılı1990}}
* {{استشهاد بدورية محكمة |الأخير= Ünal|الأول= Mehmet Ali|تاريخ= [[1991]]|عنوان= XVI. YÜZYILDA MAZGİRD, PERTEK VE SAĞMAN SANCAKBEYİLERİ -PİR HÜSEYİN BEY OĞULLARI |دورية = Journal of The Center for Ottoman Studies Ankara University|العدد= 2|لغة=tr|مسار= http://dergiler.ankara.edu.tr/dergiler/19/834/10557.pdf|ناشر= The Center for Ottoman Studies Ankara University|doi= 10.1501/OTAM_0000000312 |issn=1019-469X|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20200904163534/http://dergiler.ankara.edu.tr/dergiler/19/834/10557.pdf|تاريخ أرشيف=2020-09-04|مرجع=Ünal1991}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير=Babinger|الأول=Franz|عنوان=Mehmed the Conqueror and His Time|سنة=1992|ناشر=Princeton University Press|isbn=0691010781|لغة=en|مرجع=Babinger1992}}
* {{استشهاد بكتاب |مؤلف1-الأخير=Bruinessen |مؤلف1-الأول=Martin Van |عنوان=Agha, Shaikh and State The Social and Political Structures of Kurdistan |مسار=https://archive.org/details/aghashaikhstates0000brui |تاريخ=1992 |ناشر=Zed Books |مكان=Atlantic Highlands |isbn=978-1856490184|لغة=en|مرجع=Bruinessen1992}}
* {{استشهاد بموسوعة |الأخير= İlhan|الأول= Mehdi |موسوعة = TDV İslâm Ansiklopedisi |عنوان= Bıyıklı Mehmed Paşa|مسار= https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/6/C06002263.pdf|تاريخ= 1992 |المجلد= 6|لغة=tr|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210627002415/https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/6/C06002263.pdf|تاريخ أرشيف=2021-06-27|مرجع=İlhan1992}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير=Mehmed|الأول=Süreyya|عنوان=Sicill-i Osmani |مسار=https://archive.org/details/sicill-i.osmani_01/Sicill-i.Osmani_01/page/n223/mode/2up|المجلد=1|سنة=1996 |isbn=9753330391|المجلد=I|لغة=tr|مرجع=Mehmed1996}}
* {{استشهاد بموسوعة|الأخير=Şerafettin|الأول=Turan|عنوان=Hersekzade Ahmet Paşa|مسار= https://islamansiklopedisi.org.tr/hersekzade-ahmed-pasa| ناشر= Islam Ansiklopedisi |سنة=1998 |المجلد=17 |لغة=tr|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210305041515/https://islamansiklopedisi.org.tr/hersekzade-ahmed-pasa|تاريخ أرشيف=2021-03-05|مرجع=Şerafettin1998}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1-الأخير=Floor|مؤلف1-الأول=Willem|عنوان=Safavid Government Institutions|مسار=https://archive.org/details/safavidgovernmen0000floo|تاريخ=[[2001]]|ناشر=Mazda Publishers|مكان=Costa Mesa, California|isbn=978-1568591353|لغة=en|مرجع=Floor2001}}
* {{استشهاد بموسوعة|الأخير=Emecen|الأول=Feridun |عنوان=Mercidâbık Muharebesi |مسار= https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/29/C29009453.pdf|موسوعة =TDV İslam Ansiklopedisi|تاريخ=[[2004]]|لغة=tr|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210624202809/https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/29/C29009453.pdf|تاريخ أرشيف=2021-06-24|مرجع=Emecen2004}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير=Hawting|الأول=G.R.|سنة=2005|عنوان=Muslims, Mongols and Crusaders|ناشر=Routledge|isbn=0-415-45096-9|لغة=en|مرجع=Hawting2005}}
* {{استشهاد بدورية محكمة |الأخير=Solak|الأول=İbrahim |مسار= http://dergisosyalbil.selcuk.edu.tr/susbed/article/viewFile/592/572|عنوان= 916 H. / 1510 M. Tarihli Alaüddevle Bey Vakfiyesi|المجلد= 0|العدد= 15|سنة= [[2006]]|لغة=tr|ناشر= Selçuk Üniversitesi, Fen Edebiyat Fakültesi|issn= 1302-1796|مسار أرشيف=https://web.archive.org/web/20210722220951/http://dergisosyalbil.selcuk.edu.tr/susbed/article/viewFile/592/572|تاريخ أرشيف=23-07-2021|مرجع=Solak2006}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[يلماز أوزتونا|Öztuna, Yılmaz]]|عنوان= Yavuz Sultan Selim|لغة= tr|سنة= [[2006]]|ناشر= Babıali Kültür Yayıncılığı|مكان= [[إسطنبول|İstanbul]]|isbn =9750098110|مرجع=Öztuna2006}}
* {{استشهاد بموسوعة |الأخير= Özcan|الأول= Abdülkadir |موسوعة = TDV İslâm Ansiklopedisi |عنوان= İDRÎS-i BİTLİSÎ|مسار= https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/21/C21007177.pdf|تاريخ= 2007 |المجلد= 21|لغة=tr|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210626234910/https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/21/C21007177.pdf|تاريخ أرشيف=2021-06-26|مرجع=Özcan2007}}
* {{استشهاد بكتاب| الأخير= Tektaş | الأول= Nazım | عنوان= Çadırdan Saraya, Saraydan Sürgüne Osmanlı | وصلة= https://archive.org/details/osmanl2ciltadrda0000unse | سنة= 2007 | ناشر= Yeni Şafak Gazetesi |isbn= 9789758845118 | لغة=tr| الفصل= Yavuz Sultan Selim|مرجع=Tektaş2007}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير=Waterson |الأول=James |سنة=2007|عنوان= The Knights of Islam: The Wars of the Mamluks |ناشر=Greenhill Books, London |isbn=978-1-85367-734-2|لغة=en|مرجع=Waterson2007}}
* {{استشهاد بكتاب|الأول=Mehmet Nermi|الأخير=Haskan|عنوان=Eyüp Sultan Tarihi|المجلد=2|ناشر=Eyüp Belediyesi Kültür Yayınları|سنة=2008|لغة=en|مرجع=Haskan2008|isbn=978-9-756-08704-6}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير=Petry |الأول=Carl F.|سنة=2008|عنوان=The Cambridge History of Egypt: Islamic Egypt, 640-1516|ناشر=Cambridge University Press|isbn=978-0-521-47137-4|المجلد=I|لغة=en|مرجع=Petry2008}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير=Sakaoğlu|الأول=Necdet|سنة=2008|عنوان=Bu mülkün kadın sultanları: Vâlide sultanlar, hâtunlar, hasekiler, kadınefendiler, sultanefendiler|مسار= https://books.google.com/?id=6WUMAQAAMAAJ&q=havatin+hatun&dq=havatin+hatun|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20200304183712/https://books.google.com/?id=6WUMAQAAMAAJ&q=havatin+hatun&dq=havatin+hatun|تاريخ أرشيف=2020-03-04|ناشر=Oğlak Yayınları|مكان=İstanbul |مرجع=Sakaoğlu2008|isbn=9789753296236|لغة=tr}}
* {{استشهاد بكتاب |الأخير=Ágoston |الأول=Gábor |محرر-الأخير=Ágoston |محرر-الأول=Gábor |محرر2=Bruce Masters |عنوان=Encyclopedia of the Ottoman Empire |مسار=https://archive.org/details/encyclopediaotto00agos |التسجيل=limited |الفصل=Selim I |تاريخ=2009 |لغة=en| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20210711230030/https://archive.org/details/encyclopediaotto00agos | تاريخ أرشيف = 11 يوليو 2021|مرجع=Ágoston2009}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير1 =Bahadıroğlu|الأول1 =Yavuz|عنوان =Resimli Osmanlı Tarihi|طبعة =15|سنة =2009|ناشر =Nesil Yayınları|مكان =İstanbul|لغة =tr|isbn =9789752692992|مرجع=Bahadıroğlu2009}}
* {{استشهاد بموسوعة|الأول=Feridun|الأخير=Emecen|عنوان=SELİM I: Yavuz lakabıyla tanınan Osmanlı padişahı (1512-1520).|مسار= https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/36/C36011972.pdf| ناشر= Islam Ansiklopedisi |سنة=2009|المجلد=36 |لغة=tr|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210722224221/https://cdn2.islamansiklopedisi.org.tr/dosya/36/C36011972.pdf|تاريخ أرشيف=2021-07-22|مرجع=Emecen2009}}
* {{استشهاد بكتاب| الأخير= Özdamarlar| الأول= Metin | عنوان= Zirvede Tek Başına | سنة= 2009 | ناشر= Timaş Yayıncılık |ردمك= 978-975-263-887-7 | لغة=tr| الفصل= Tek Oğul|مرجع=Özdamarlar2009}}
* {{استشهاد بدورية محكمة |الأخير=Turan |الأول=Ebru |عنوان=The Marriage of Ibrahim Pasha (ca. 1495–1536): The Rise of Sultan Süleyman's Favorite to the Grand Vizierate and the Politics of the Elites in the Early Sixteenth-Century Ottoman Empire |صحيفة=Turcica |المجلد=41 |تاريخ=2009 |لغة=en|doi=10.2143/TURC.41.0.2049287|مرجع=Turan2009}}
* {{استشهاد بكتاب|الأخير=Çetinkaya|الأول=Nihat|عنوان= Kızılbaş Türkler: Tarihi, Oluşumu ve Gelişimi |لغة= tr|سنة= [[2010]]|ناشر= Kripto|isbn =9786054125333|مرجع=Çetinkaya2010}}
* {{استشهاد |الأخير= Agoston|الأول= Gabor|سنة= 2011|الفصل= The Ottomans: From Frontier Principality to Empire |عنوان= The Practice of Strategy: From Alexander the Great to the Present|محرر1-الأخير= Olsen|محرر1-الأول= John Andreas|محرر2-الأخير= Gray|محرر2-الأول= Colin S. |ناشر= Oxford University Press|لغة=en|مرجع=Agoston2011|isbn=978-0140270563}}
* {{استشهاد بكتاب |مسار الفصل= https://my.vanderbilt.edu/robertdrews/files/2014/01/Chapter-Thirty.-The-Ottoman-Empire-Judaism-and-Eastern-Europe-to-1648.pdf |الفصل=The Ottoman Empire, Judaism, and Eastern Europe to 1648 |عنوان=Coursebook: Judaism, Christianity and Islam, to the Beginnings of Modern Civilization |مسار= https://my.vanderbilt.edu/robertdrews/publications/ |تاريخ=August 2011 |ناشر=Vanderbilt University |الأخير=Drews |الأول=Robert |مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210527092830/https://my.vanderbilt.edu/robertdrews/publications/|تاريخ أرشيف=2021-05-27|لغة=en|مرجع=Drews2011}}
* {{استشهاد بدورية محكمة |الأخير= Okumura |الأول= Sumiyo |تاريخ= September 2012|عنوان= The Mamluk Kaaba Curtain in the Bursa Grand Mosque |دورية= Textiles and Politics|ناشر=Textile Society of America Symposium Proceedings|لغة=en |مسار= https://digitalcommons.unl.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1720&context=tsaconf|مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20170808153504/http://digitalcommons.unl.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1720&context=tsaconf|تاريخ أرشيف=2017-08-08|مرجع=Okumura2012}}
* {{استشهاد بكتاب |الأخير= Burak |الأول= Guy |عنوان= The Second Formation of Islamic Law: The Ḥanafī School in the Early Modern Ottoman Empire |مكان= Cambridge |ناشر= Cambridge University Press |تاريخ= 2015 |isbn= 978-1-107-09027-9 |لغة= en|مرجع=Burak2015}}
* {{استشهاد ويب|الأخير=Kiliç|الأول=Remzi|تاريخ= [[18 سبتمبر|18 Eylül]] [[2015]]|عنوان= Trabzon Valisi Şehzade Selim ve Faaliyetleri|مسار= http://www.karalahana.com/makaleler/tarih/yavuz_sultan_selim.htm|موقع= Niğde Üniversitesi, Eğitim Fakültesi Yeniçağ Tarihi Ana Bilim Dalı Öğretim|تاريخ الوصول= 5-09-2019|لغة=tr|مرجع=Kiliç2015}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= Emecen, Feridun|مرجع=Emecen2016|عنوان= Yavuz Sultan Selim|لغة=tr|سنة= [[2016]]|ناشر= Kapı yayınları|مكان= İstanbul|isbn =9786055147624}}
* {{استشهاد بكتاب |مؤلف1-الأخير=Amanat |مؤلف1-الأول=Abbas|عنوان=Iran: A Modern History |تاريخ=2017 |ناشر=Yale University Press |isbn=978-0300231465|لغة=en|مرجع=Amanat2017}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1= İnal, Halil İbrahim|مرجع=İnal2017|عنوان= Osmanlı Tarihi|لغة=en|سنة= [[2017]]|ناشر= Nokta Yayıncılık|مكان= [[أسكدار|Üsküdar]]|isbn =9944174378}}
* {{استشهاد بخبر |مسار=https://www.cnnturk.com/teknoloji/yeni-assassins-creed-ile-turkiye-topraklarina-geri-donebiliriz |عنوان=Yeni Assassin's Creed ile Türkiye topraklarına geri dönebiliriz |تاريخ=March 20, 2018 |تاريخ الوصول=September 25, 2018 |عمل=CNN Türk |ناشر=[[سي إن إن|CNN]] |وكالة=[[وارنر ميديا|WarnerMedia Company]] |الأول=Ecevit |الأخير=Bıktım |مسار أرشيف=https://web.archive.org/web/20190508155024/https://www.cnnturk.com/teknoloji/yeni-assassins-creed-ile-turkiye-topraklarina-geri-donebiliriz |تاريخ أرشيف=May 8, 2019 |حالة المسار=live|لغة=tr|مرجع=Bıktım2018}}
* {{استشهاد بكتاب|مؤلف1=Ulusoy, Adem |عنوان=Doğunun Sultanı: Yavuz Sultan Selim|لغة= tr|سنة= [[2020]]|ناشر= ADEM ULUSOY|مسار=https://books.google.com.lb/books?id=-YXzDwAAQBAJ&pg=PA28&lpg=PA28&dq=Ey+karde%C5%9Fim!+Ne+sen+b%C3%B6yle+yapsa+idin,+ne+de+ben+b%C3%B6yle+yapmak+mecburiyetinde+kalsayd%C4%B1m!&source=bl&ots=vtP_z33_rH&sig=ACfU3U04a2zLS44sWoRVkHSVjEQrjDMHQQ&hl=en&sa=X&ved=2ahUKEwiti5e6tbbwAhURzIUKHR3QASAQ6AEwBXoECAcQAw#v=onepage&q=Ey%20karde%C5%9Fim!%20Ne%20sen%20b%C3%B6yle%20yapsa%20idin%2C%20ne%20de%20ben%20b%C3%B6yle%20yapmak%20mecburiyetinde%20kalsayd%C4%B1m!&f=false| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20210509091304/https://books.google.com.lb/books?id=-YXzDwAAQBAJ&pg=PA28&lpg=PA28&dq=Ey+kardeşim!+Ne+sen+böyle+yapsa+idin,+ne+de+ben+böyle+yapmak+mecburiyetinde+kalsaydım!&source=bl&ots=vtP_z33_rH&sig=ACfU3U04a2zLS44sWoRVkHSVjEQrjDMHQQ&hl=en&sa=X&ved=2ahUKEwiti5e6tbbwAhURzIUKHR3QASAQ6AEwBXoECAcQAw#v=onepage&q=Ey%20kardeşim!%20Ne%20sen%20böyle%20yapsa%20idin,%20ne%20de%20ben%20böyle%20yapmak%20mecburiyetinde%20kalsaydım!&f=false | تاريخ أرشيف = 9-05-2021|مرجع=Ulusoy2020}}
{{نهاية المراجع}}


== وصلات خارجية ==
== وصلات خارجية ==
{{روابط شقيقة}}
{{بوابة تاريخ الشرق الأوسط}}
* {{استشهاد ويب|تاريخ =21-09-2018|عنوان =السلطان سليم الأول يمتثل لشيخ الإسلام|مسار =https://www.e3tidal.com/81|مسار أرشيف =https://web.archive.org/web/20240728102632/https://www.e3tidal.com/81|تاريخ أرشيف =28 يوليو 2024|موقع =مؤسسة اعتدال|تاريخ الوصول =23 يوليو 2021}}
{{بوابة تاريخ المماليك}}
* {{استشهاد ويب|مؤلف =محمد شعبان|تاريخ =10-12-2019|عنوان =منامات وأدلة من علم الغيب... روايات أسطورية رافقت غزو السلطان سليم الأول لمصر|مسار =https://raseef22.net/article/1076324-%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A3%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%8A%D8%A8-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D8%B3%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%82%D8%AA-%D8%BA%D8%B2%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1|مسار أرشيف =https://web.archive.org/web/20240728103214/https://raseef22.net/article/1076324-%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A3%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%8A%D8%A8-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D8%B3%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%82%D8%AA-%D8%BA%D8%B2%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1|تاريخ أرشيف =28 يوليو 2024|موقع =رصيفـ22|تاريخ الوصول=23 يوليو 2021}}
{{تصنيف كومنز|Selim I}}
* {{استشهاد ويب|مؤلف =إحسان الفقيه|تاريخ =13-06-2022|عنوان =هل كان السلطان سليم الأول طائفيًا؟|مسار =https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D9%87%D9%84-%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D9%81%D9%8A%D9%8B%D8%A7-%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/2612211|مسار أرشيف =https://web.archive.org/web/20240728103559/https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D9%87%D9%84-%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D9%81%D9%8A%D9%8B%D8%A7-%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/2612211|تاريخ أرشيف =28 يوليو 2024|موقع =[[وكالة الأناضول]]|تاريخ الوصول =28 يوليو 2024}}
* [http://www.altareekh.com/Pages/Subjects/Default.aspx?id=434&cat_id=63 السلطان سليم الأول وشيخ الإسلام!] من موقع التاريخ.
* [http://archnet.org/library/sites/one-site.jsp?site_id=7910 مجمّع السلطان سليم الأوّل.]
* [http://www.encyclopedia.com/topic/Selim_I.aspx معلومات وصور عن السلطان سليم الأوّل.]
* [http://ottomansultans.blogspot.com/2008/01/yavuz-sultan-selim-selim-i.html السلطان سليم الأوّل "القاطع" من موقع السلاطين والباشوات العثمانيين.]
* [http://vizyondan.net/?p=9204 الإعلان عن فيلم سينمائي عن السلطان سليم الأوّل.]{{وصلة تركية}}
* [http://www.youtube.com/watch?v=HLjGfymLw9c قصيدة السلطان سليم "هلمّوا يا قدامى المحاربين" التي أصبحت نشيد الجيش العثماني] من موقع [[يوتيوب]].{{وصلة تركية}}{{وصلة إنجليزية}}
{{بداية صندوق}}
{{بداية صندوق}}
{{S-hou|[[قائمة السلالة العثمانية|عاهل آل عُثمان]]||1470||22 أيلول (سپتمبر) 1520}}
{{s-off}}
{{S-reg|}}
{{Succession box
{{صندوق تعاقب/سبقه|before=[[بايزيد الثاني]]}}
| سبقه = [[المتوكل على الله الثالث|محمد الثالث المتوكل على الله]]
{{تعاقب-لقب|title=[[قائمة سلاطين الدولة العثمانية|سُلطان الدولة العُثمانيَّة]]|years=25 نيسان (أبريل) 1512 – 22 أيلول (سپتمبر) 1520}}
| تبعه = [[سليمان القانوني|سليمان الأول القانوني]]
{{صندوق تعاقب/تبعه|after=[[سليمان القانوني|سُليمان القانوني]]}}
| العنوان = [[خلافة إسلامية|الخلافة الإسلامية]]
{{s-rel|su}}
| الأعوام = [[1517]]–[[1520]]
{{صندوق تعاقب/سبقه|before=[[المتوكل على الله الثالث|مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله]]|as= [[الخلافة العباسية في مصر|الخليفة العبَّاسي في مصر]]}}
}}
{{تعاقب-لقب|title=[[قائمة الخلفاء|أمير المُؤمنين]]<br />أوَّل [[قائمة الخلفاء|الخُلفاء العُثمانيين]]|years=1517–1520}}
{{end box}}
{{سلاطين عثمانيون|بايزيد الثاني|سليمان القانوني}}
{{صندوق تعاقب/تبعه|after=[[سليمان القانوني|سُليمان القانوني]]}}
{{s-break}}
{{الخلفاء المسلمون}}
{{صندوق تعاقب/سبقه|before=[[قانصوه الغوري]]}}
{{تعاقب-لقب|title=[[خادم الحرمين الشريفين]]|years=1516–1520}}
{{صندوق تعاقب/تبعه|after=[[سليمان القانوني|سُليمان القانوني]]}}
{{s-pre|}}
|-
{{صندوق تعاقب/سبقه|before=[[بايزيد الثاني]]}}
{{تعاقب-لقب|title=[[قائمة الأباطرة البيزنطيين|قيصر الرُّوم]]|years=25 نيسان (أبريل) 1512 – 22 أيلول (سپتمبر) 1520}}
{{s-non|reason=[[سليمان القانوني|سُليمان القانوني]]}}
{{نهاية صندوق}}
{{سلاطين الدولة العثمانية}}
{{سلاطين الدولة العثمانية}}
{{أبناء السلاطين العثمانيين}}
{{بوابة تاريخ}}
{{الخلفاء المسلمون}}
{{سلاطين الدولة العثمانية2}}
{{ضبط استنادي}}
{{شريط بوابات|أعلام|الإسلام|التاريخ الإسلامي|الدولة العثمانية|السياسة|ملكية}}
{{شريط محتوى متميز|مختارة|النسخة=6143737|التاريخ=16 فبراير 2011}}
{{لا لربط البوابات المعادل}}


[[تصنيف:سليم الأول| ]]
[[تصنيف:السلالة العثمانية]]
[[تصنيف:أتراك عثمانيون]]
[[تصنيف:أسرة سليمان القانوني]]
[[تصنيف:أشخاص من أصل طوراني]]
[[تصنيف:أشخاص من أماسية]]
[[تصنيف:حكام ترك]]
[[تصنيف:خادم الحرمين الشريفين]]
[[تصنيف:سلاطين عثمانيون في القرن 16]]
[[تصنيف:سليمان القانوني]]
[[تصنيف:شعراء اللغة الفارسية]]
[[تصنيف:شعراء ديوانيون عثمانيون]]
[[تصنيف:شعراء فرس في القرن 16]]
[[تصنيف:شعراء وشاعرات أتراك]]
[[تصنيف:عثمانيون من أعلام الحروب الفارسية العثمانية]]
[[تصنيف:قادة عسكريون مسلمون]]
[[تصنيف:قادة عسكريون مسلمون]]
[[تصنيف:قادة وصلوا إلى السلطة عن طريق انقلاب]]
[[تصنيف:مدفونون في تركيا]]
[[تصنيف:مسلمون أتراك]]
[[تصنيف:مواليد 1465]]
[[تصنيف:مواليد 1470]]
[[تصنيف:مواليد 1470]]
[[تصنيف:مواليد 870 هـ]]
[[تصنيف:مواليد 875 هـ]]
[[تصنيف:مواليد عقد 1470]]
[[تصنيف:مواليد في أماسية]]
[[تصنيف:مؤيدو ابن عربي]]
[[تصنيف:وفيات 1520]]
[[تصنيف:وفيات 1520]]
[[تصنيف:سلاطين عثمانيون]]
[[تصنيف:وفيات 926 هـ]]
[[تصنيف:وفيات بأمراض معدية في الدولة العثمانية]]
[[تصنيف:ماتردية]]
[[تصنيف:وفيات بسبب جمرة خبيثة]]

[[تصنيف:وفيات في تشورلو]]
{{وصلة مقالة جيدة|tr}}

[[af:Selim I]]
[[arz:سليم الاول]]
[[az:I Səlim]]
[[be:Селім I]]
[[bg:Селим I]]
[[bn:উসমানীয় সাম্রাজ্যের শাহেনশাহ প্রথম সেলিম]]
[[br:Selim I]]
[[bs:Selim I]]
[[ca:Selim I]]
[[de:Selim I.]]
[[en:Selim I]]
[[es:Selim I]]
[[fa:سلیم یکم]]
[[fi:Selim I]]
[[fr:Selim Ier]]
[[gl:Selim I]]
[[he:סלים הראשון]]
[[hr:Selim I.]]
[[hu:I. Szelim oszmán szultán]]
[[hy:Սելիմ I]]
[[id:Selim I]]
[[it:Selim I]]
[[ja:セリム1世]]
[[ka:სელიმ I]]
[[ko:셀림 1세]]
[[la:Selimus I (sultanus Ottomanicus)]]
[[lv:Selims I]]
[[mk:Селим I]]
[[mn:I Селим]]
[[mr:पहिला सेलीम, ओस्मानी सम्राट]]
[[ms:Selim I]]
[[nl:Selim I]]
[[no:Selim I]]
[[pl:Selim I Groźny]]
[[pnb:سلیم ۱]]
[[pt:Selim I]]
[[ro:Selim I Yavuz]]
[[ru:Селим I]]
[[sh:Selim I.]]
[[sq:Selimi i I]]
[[sr:Селим I]]
[[sv:Selim I]]
[[th:สุลต่านเซลิมที่ 1 แห่งจักรวรรดิออตโตมัน]]
[[tr:I. Selim]]
[[uk:Селім I Грізний]]
[[ur:سلیم اول]]
[[vi:Selim I]]
[[zh:塞利姆一世]]

النسخة الحالية 19:20، 5 سبتمبر 2024

سليم الأوَّل
(بالتركية العثمانية: سليم اوَّل)‏  تعديل قيمة خاصية (P1559) في ويكي بيانات
الحكم
مدة الحكم 918 - 926هـ\1512 - 1520م
عهد توسع الدولة العثمانية
اللقب الملكُ الناصر، السُلطان القاهر، ياووز، ظهير الدين والدُنيا، فاتح بلاد العرب والعجم، كاسر الجيشين، ملك البرَّين وخاقان البحرين، غيَّاث السلطنة والخِلافة
التتويج 918هـ\1512م
العائلة الحاكمة آل عثمان
السلالة الملكية العثمانية
نوع الخلافة وراثية ظاهرة
ولي العهد سُلَيمان (1512 - 1520م)
معلومات شخصية
الاسم الكامل سليم بن بايزيد بن مُحمَّد العُثماني
الميلاد 875هـ\1470م
أماسية، الأناضول، الدولة العُثمانيَّة
الوفاة 9 شوَّال 926هـ\22 أيلول (سپتمبر) 1520م
چورلي، الروملِّي، الدولة العُثمانيَّة
سبب الوفاة جمرة خبيثة  تعديل قيمة خاصية (P509) في ويكي بيانات
مكان الدفن مسجد السليميَّة، إسطنبول،  تركيا
الديانة مُسلم سُني
الزوجة انظر
الأولاد انظر
الأب بايزيد الثاني
الأم عائشة گُلبهار خاتون
إخوة وأخوات
الحياة العملية
المهنة سُلطان العُثمانيين وخليفة المُسلمين
اللغة الأم العثمانية  تعديل قيمة خاصية (P103) في ويكي بيانات
اللغات العثمانية،  والعربية،  والفارسية،  والرومية،  والتترية  تعديل قيمة خاصية (P1412) في ويكي بيانات
الطغراء
مؤلف:سليم الأول  - ويكي مصدر
مُعرِّف موقع الحوار المتمدن 13649  تعديل قيمة خاصية (P10582) في ويكي بيانات

خادم الحرمين الشريفين الملكُ الناصر والسُلطان الغازي القاهر ظهيرُ الدين والدُنيا ياووز سليم خان بن بايزيد بن مُحمَّد العُثماني (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: الملكُ الناصر غازى ياووز سُلطان سليم خان اوَّل بن بايزيد بن مُحمَّد عُثمانى؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: Sultan I. Selim Han ben Bayezid)، ويُعرف اختصارًا باسم سليم الأوَّل أو سليم شاه، وبِلقبه ياووز سليم أي سليم القاطع،[1] هو تاسع سلاطين آل عُثمان وسابع من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم بعد والده بايزيد الثاني وأجداده من مُحمَّد الفاتح إلى مُرادٍ الأوَّل، وثالث من حمل لقب «قيصر الروم» من الحُكَّام المُسلمين عُمومًا والسلاطين العُثمانيين خُصوصًا بعد والده بايزيد وجدِّه الفاتح، وأوَّل خليفة لِلمُسلمين من بني عُثمان، والرابع والسبعين في ترتيب الخُلفاء عُمومًا. والدته هي عائشة گُلبهار خاتون،[la 1] وكان مولده سنة 875هـ المُوافقة لِسنة 1470م، وهو أصغر أولاد السُلطان بايزيد الثاني الذين كُتبت لهم الحياة، وبهذا لم يكن في بادئ أمره وليَّ عهد أبيه، بل كان هذا اللقب من نصيب أخيه الأكبر عبد الله، ثُمَّ أحمد بعد وفاة الأخير.

آل المُلك إلى هذا السُلطان بعد اضطراباتٍ عصفت بِالدولة العُثمانيَّة أواخر عهد والده بايزيد نتيجة صراع أبناءه، بما فيهم سليم، على العرش. وكانت الغلبة في نهاية الأمر لِلأخير نتيجة دعم الإنكشاريَّة له، فتنحَّى والده وترك له تدبير شُؤون البلاد والعباد. استطاع سليم تصفية أخويه وأكثر أبنائهم خِلال السنة الأولى من حُكمه بعد أن استشعر منهم الخيانة والغدر، ثُمَّ حوَّل أنظاره شرقًا لِحرب الصفويين الذين كانوا يُغالون في تشيُّعهم ويضطهدون أهل السُنَّة والجماعة في بلاد إيران والعراق. والَّلافت أنَّ استراتيجيَّة العُثمانيين انقلبت في عهد هذا السُلطان، إذ توقَّفت موجة الفُتُوحات بِاتجاه الغرب وتحوَّل الزَّحف ناحية الشرق الإسلامي لِأسبابٍ عديدة، منها ما هو مذهبي ومنها ما هو اقتصادي وسياسي وثقافي، فجدَّد السُلطان المُعاهدات العُثمانيَّة السابقة مع الدُول الأوروپيَّة ثُمَّ سار لِقتال الصفويين وانتصر عليهم انتصارًا باهرًا بِفضل الأسلحة المُتطوِّرة التي تزوَّد بها جيشه، ولِكفاءة طوائف الجُند العُثمانيَّة وبالأخص طائفة الإنكشاريَّة. بعد ذلك حارب السُلطان سليم المماليك وتمكَّن من الانتصار عليهم وإخراجهم من الشَّام، التي رحَّبت بلادها بمِجيء العُثمانيين وفتحت لهم أبوابها، فدخلوها سلمًا دون قتال، وبقيت الديار الشَّاميَّة جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة إلى سنة 1918م، أي لِأربعة قُرُونٍ مُتتالية. وتتبع السُلطان سليم المماليك حتَّى مصر وأنزل بهم ضربةً قاضية، فدانت لهُ الديار المصريَّة ودخلت تحت جناح الدولة العُثمانيَّة.[2] وفيما كان السُلطان سليم في القاهرة قدَّم إليه شريف مكَّة مفاتيح الحرمين الشريفين كرمزٍ لِخُضُوعه وكاعترافٍ بِالسيادة العُثمانيَّة على الأراضي الحجازيَّة، وكانت هذه السيادة لِسلاطين المماليك من قبل. وهكذا أصبح الحجاز جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة من غير حربٍ أو قتال. وكان آخر الخُلفاء العبَّاسيين مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله يُقيم بِالقاهرة في ظل المماليك، فاصطحبهُ معهُ السُلطان سليم إلى إسلامبول حيثُ تنازل لهُ عن الخلافة. وهُناك من المؤرخين من يُشكك بِصحَّة هذه الرواية، على أنَّهم يعتبرون أنَّ سليمًا كان قد أُعلن خليفةً لِلمُسلمين فعلًا ولكن قبل ضمِّه مصر، وتحديدًا في أوَّل خطبة جُمُعة حضرها في الشَّام، وتسلَّم بِوصفه هذا مفاتيح الحرمين الشريفين من شريف مكَّة ما أن أتمَّ سيطرته على البلاد المصريَّة.[3] نتيجة انتزاعه العديد من البلاد من الصفويين واستيعاب الدولة المملوكيَّة بأكملها في الدولة العُثمانيَّة، اتسعت الأخيرة اتساعًا عظيمًا، فوصلت مساحتها إلى 1,494,000 كلم2 عشيَّة وفاة السُلطان سليم، أي أنها تضاعفت بِنسبة 70% عمَّا كانت عليه قبل الحملتين على إيران والشَّام ومصر.[la 2]

كان السُلطان سليم مُتدينًا مُتمسكًا بِالعقيدة والشعيرة السُنيَّة، وتذكر بعض المصادر أنَّهُ كان مُتصوفًا يتبع الطريقة المولويَّة.[4] وكان يُتقن اللُغات التُركيَّة والفارسيَّة والعربيَّة والروميَّة والتتريَّة،[5] كما كان شاعرًا يُجيد النظم بِاللُغات الثلاثة الأولى، وأحبَّ الآداب والموسيقى، فكانت مجالسه حافلة بِالشُعراء والأُدباء والعُلماء والفُقهاء والفنَّانين. وتنص المصادر أنَّهُ كان يكره البذخ والإسراف ويميلُ إلى البساطة في مأكله وملبسه وزينته.[4] وهو أوَّل من حلق لحيته وأطلق شاربيه من آل عُثمان. ومن أهم المآخذ على هذا السُلطان أنَّهُ كان بطَّاشًا ميَّالًا لِسفك الدماء أكثر من ميله لِلحُلُول السلميَّة، فقتل سبعة من وُزرائه لِأسبابٍ واهية، وكان كُلُّ وزيرٍ مُهدَّد بِالقتل لِأقل هفوة تدفع السُلطان لِلشك بِأمره،[6] على أنَّ هذا كان مقصورًا على رجاله وحاشيته وأتباعه، أمَّا الرعيَّة فكان يتحرَّى العدل فيها. وصفهُ المُؤرِّخ أحمد بن يُوسُف القرماني بِقوله: «وَكَانَ رحمه الله عَالِمًا فَاضِلًا ذَكِيًّا حَسَنَ الطَّبْع بَعِيدَ الْغَوْر، صَاحِبَ رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَحَزْمٍ، وَكَانَ يُعْرَفُ الْأَلْسِنَة الثَّلَاثَة: الْعَرَبِيَّة وَالتُّرْكِيَّة وَالْفَارِسِيَّة وَيَنْظُمُ نَظُمًا بَارِعًا حَسَنًا، وَكَانَ دَائِمَ الْفِكْرِ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَالْمُمَلَكَةِ».[7] كما وصفه المُؤرِّخ شمس الدين مُحمَّد بن أبي السُرُور البكري المصري بِقوله: «وَكَان سُلْطَانًا قَهَّارًا ذَا هَيْبَةٍ وَشَهَامَةٍ مُتَكَاثِرَة، كَثِير التَّفَحُّص عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، وَكَانَ فِي التَّجَسُّسِ لَهُ الْغَايَةُ، وَلَهُ الْجَوَاسِيس لِنَقْل الْأَخْبَار، وَمَهْمَا نَقَلُوه فَعَل بِمُقْتَضَاه. وَكَانَ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِلتَوَارِيخِ، جَمْعَ مِنْهَا جُمْلَةً كَبِيرَة بِالتُّرْكِيَّة وَالْعَرَبِيَّة وَغَيْرِهَا. وَكَانَ حَسَنَ النُّظْمِ بِالتُّرْكِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ».[8]

حياته قبل السلطنة

[عدل]

ولادته ونشأته

[عدل]
جانبٌ من مدينة أماسية، مسقط رأس السُلطان سليم.

وُلد سليم الأوَّل على القول الأصح سنة 875هـ المُوافقة لِسنة 1470م،[9] وقيل في سنة 872هـ (1467 - 1468م[5] في مدينة أماسية بِالأناضول، خلال ولاية أبيه بايزيد على سُنجق تلك الناحية. تتفق مُعظم المصادر على أنَّ والدته هي عائشة گُلبهار خاتون ابنة أمير ذي القدر علاء الدولة بوزقورد بك،[la 3][la 4] ويقول بعض الباحثين أنَّ والدة هذا السُلطان هي امرأة تُدعى «گُلبهار» حصرًا، دون ذكرٍ لِنسبها وما إذا كانت ابنة أحد الأُمراء المُسلمين في الأناضول،[la 1] ويقول آخرون أنَّها دُعيت «عائشة خاتون» فحسب، ويُؤيدون كونها ابنة علاء الدولة بوزقورد بك.[la 5][la 6] اختُتن سليم على يد جدِّه السُلطان مُحمَّد الفاتح، وبحسب رواية المُؤرِّخ أحمد بن يُوسُف القرماني فإنَّ السُلطان الفاتح طلب من ولده بايزيد بِأن يبعث إليه بِإبنيه أحمد وسليم لِيختتنهما بِنفسه، فلمَّا قدما إليه أجلسهما بِجانبه على تخت المُلك وأخذ يُلاعبهما ويُمازحهما، فشدَّ أُذُن سليم إليه فبكى الأخير، فأمر السُلطان بِإحضار طرائف التُحف من الخزينة لِيُرضيهما، فرضي أحمد وقام وقبَّل يد جدِّه، وأبى سليم أن يرضى رُغم مُحاولات السُلطان بإسعاده، فقال له: «يَا وَلَدِي نَصْطَلِحُ مَعَك»، فردَّ عليه سليم: «والله مَا اصْطَلَحَ مَعَك، إِنَّ لِي عَلَيْكَ حَقًّا أُبْقِيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، فانزعج السُلطان وقال لِوُزرائه: «اعْلَمُوا أَنَّ وَلَدِي هَذَا هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ هَذَا التَّخْت»، ثُمَّ ختنهما وأرسلهما إلى والدهما.[10]

حُكم طربزون

[عدل]
منظرٌ لِمدينة طربزون من تلَّة «بوزدپَّه». شكَّلت هذه المدينة مقر حُكم الشاهزاده سليم لِتسعةٍ وعشرين سنة.

تُشيرُ الدلائل أنَّ الشاهزاده عبد الله بن بايزيد، الأخ الأكبر لِسليم، تولَّى إدارة سنجق طربزون خلال سلطنة جدِّه الفاتح، واستُدلَّ على هذا بِنقشٍ ظاهرٍ على شاذروان جامع إيݘقلعة (بالتركية: İçkale Camii)‏ في المدينة، يعود إلى سنة 875هـ المُوافقة لِسنة 1470م، ويحملُ اسم الشاهزاده المذكور. ومن المعروف أنَّ الشاهزاده عبد الله استمرَّ يتولَّى سنجق طربزون حتَّى سنة 886هـ المُوافقة لِسنة 1481م.[la 7] وفي هذه السنة تُوفي السُلطان مُحمَّد وخلفه ابنه بايزيد، فنقل ولده عبد الله من طربزون وولَّاه مغنيسية، وجعل مكانه أخوه سليم، فبقي في منصبه هذا تسعٌ وعشرون سنة (886 - 915هـ \ 1481 - 1510م).[la 7] خلال ولايته، تلقَّى الشاهزاده اليافع دُرُوسًا في العُلُوم الشرعيَّة والسياسيَّة والآداب على يد المولى عبد الحليم بن علي القسطمونئي، الشهير بـ«مولانا عبد الحليم أفندي»، ولاحظ امتعاض أُمراء قبائل التُركُمان الأناضوليين من الإدارة المركزيَّة الشديدة في الدولة العُثمانيَّة، التي أفقدتهم امتيازاتهم وحوَّلتهم إلى رعايا عاديين، فصاروا تحت إمرة المُوظَّف الصغير الذي يُرسله السُلطان من إسلامبول، ولم يعد بإمكانهم جمع الضرائب ولا حشد الجُنُود كما كان الحال في السابق. فلم يجد هؤلاء مُشكلةً في التشيُّع والالتحاق بِالدولة الصفويَّة بِقيادة الشاه إسماعيل بن حيدر طالما حفظ لهم امتيازات الإمارة، التي كانت بِالنسبة إليهم أهم من مسألة المذهب. فصاروا يذهبون إلى إيران دون تردُّد ويُعلنون ولائهم لِلشاه، فيُصبحون قادةً في جُيُوشه وتستمر امتيازاتهم كُلِّها.[11][la 8]

لوحة تخيُّليَّة تُصوِّرُ الشاهزاده سليم الشاب على رأس جيشه في إحدى غزواته المُبكرة دون تحديدٍ أيُّ غزوةٍ هي هذه.
السُلطان بايزيد الثاني أواخر سنيّ حُكمه.

أدرك سليم بِنظرته الثاقبة مدى الخطر الذي يُمثِّله الصفويُّون على الدولة العُثمانيَّة، وأنَّهم يستغلُّون التُركُمان الميَّالين لِلتشيُّع في سبيل خرق الدولة، فقلق على مُستقبلها، لا سيَّما وأنَّ والده السُلطان بايزيد كان يُسالم الشاه إسماعيل ويتجنَّب الدُخُول معهُ في حربٍ كبيرة. لِذلك رأى أن يعمل على تمتين صلة القبائل التُركُمانيَّة بِالسلطنة، فجنَّد منهم جُمُوعًا غفيرة وغزا بهم الكرج ثلاث مرَّات دون الرُجُوع إلى والده السُلطان في إسلامبول، وفتح خلال غزواته هذه عدَّة مُدُن وضمَّها إلى الدولة العُثمانيَّة، مثل قارص وأرضروم وأرتوين وآخسخة وآخلكلك.[11][la 9] ولم يُؤدِّ سليم خُمس غنائم غزواته هذه إلى بيت المال، بل منحها إلى المُجاهدين التُركُمان الذين رافقوه وقاتلوا معه، في مُحاولةٍ لِاستقطابهم إلى جانب السلطنة والحيلولة دون تعلُّقهم بِالصفويين.[la 10] وكان سليم يُبغضُ الصفويين وزعيمهم الشاه إسماعيل بُغضًا شديدًا بِسبب تطرُّفهم المذهبي واضطهادهم أهل السُنَّة والجماعة في البلاد الخاضعة لهم، فلم يِتوانَ عن قتالهم مرَّةٍ بعد أُخرى حتَّى أخذ من أيديهم عدَّة بلاد هي: أرزنجان وبايبُرد وكماخ وإيسبر وگُموشخانة وجمكازاد وما جاورها وأضافها إلى ولايته. فما كان من الشاه إلَّا أن أرسل أخاه إبراهيم لِاسترجاع هذه المُدن، باعتبار أنَّها من مُخلَّفات الدولة الآق قويونلويَّة التي قامت الدولة الصفويَّة على أنقاضها، وكونه هو وريث الآق قويونلويين من جهة أنَّه حفيد أميرهم الشهير أوزون حسن، فله الحق وحده في تلك المناطق. ردَّ سليم على هذا بِأن سار لِقتال الصفويين مُصطحبًا معه ابنه الوحيد الشاهزاده سُليمان البالغ من العُمر 12 ربيعًا، فقابلهم قُرب أرزنجان وانتصر عليهم وتمكَّن من أسر إبراهيم شقيق الشاه، مُكتسبًا بِذلك اعتبارًا كبيرًا من الأهالي السُنيين ومن قادة الجيش، حتَّى وصل الأمر بِبعضهم أن لحَّن فيه قصيدةً شعبيَّة مطلعُها: «سر سُلطاني سر، فاليوم يومك».[11][12]

سارع الشاه، بعد أن علم بأسر أخيه، إلى إرسال كتاب احتجاج إلى السُلطان بايزيد مُذكِّرًا إيَّاه بِالصداقة الصفويَّة العُثمانيَّة،[13] فكان ذلك ما يحتاجه الوُزراء المُوالين لِلشاهزاده أحمد، والذين يدعمون وُصوله إلى سُدَّة العرش، لِتأليب السُلطان على ابنه سليم، إذ كانوا مُتوهمين منه لِتهوُّره وسوء خُلُقه وشدَّة سياسته وبطشه، فنصحوا السُلطان أن يكبح جماحه كي لا يُدخل الدولة العُثمانيَّة في حربٍ شاملةٍ مع الصفويين الذين يُسالمونها، وادَّعى هؤلاء بِأنَّ سليم يُخالف أوامر وإرادة السُلطان، ويستبد بِالأمر، فيغزو بلاد الكرج بِلا إذنٍ من والده، وتمادوا حينما صنعوا كُتُبًا مُزوَّرةً نسبوها إلى الشاهزاده المذكور، تتضمَّنُ تهديداتٍ وتنبيهاتٍ إلى الوزراء. وأخذوا يُعدِّدون محاسن الشاهزاده أحمد ومعايب أخوه سليم، فتحرَّك غضب السُلطان على ابنه الأصغر، وكتب إليه ينهاه عن قتال الصفويين وغزو الكرج، ويأمره بِمُحافظة إيالته فقط وإطلاق سراح أخ الشاه وإخلاء جميع المُدن التي استولى عليها وإعادتها لِلصفويين، وهدَّده بِالعقاب فيما لو لم يمتثل لِلأوامر، وفي الوقت نفسه ثبَّت ابنه أحمد في ولاية العهد.[11][14] جديرٌ بِالذكر أنَّ السُلطان بايزيد كان آنذاك يُعاني من أمراضٍ شتَّى، حتَّى وُصف بِأنَّهُ صار «مثل صبيٍّ بِتعاقب الأمراض وكِبر السن، فيُقلِّبهُ الوُزراء والنُدماء كيف شاؤوا وإلى حيثُ أرادوا».[14] استجاب سليم لِرغبات أبيه، لكنَّهُ أعلن استيائه بِوُضُوح قائلًا أنَّ هذا العمل يعني انعدام الشرف، وليس لِلشاه حقٌّ في ما يدَّعيه، فأرزنجان على سبيل المِثال كان السُلطان بايزيد الأوَّل هو من ضمَّها إلى الدولة العُثمانيَّة، وكانت ستبقى من جُملة بلادها لولا اجتياح تيمورلنك لِلأناضول. ولم تلقَ أوامر السُلطان ارتياحًا سواء لدى الجيش أو أهالي الأناضول أيضًا.[11] بناءً على ما سلف، اطمأنَّ الشاهزاده أحمد إلى موقف والده من أخيه الأصغر، وسعى إلى إبعاد أخيه الآخر قورقود وابن أخيه سُليمان عن دار السلطنة لِيصفى لهُ المُلك، فالتمس من السُلطان أن ينقُل سُليمان بن سليم من سنجق بولي وقورقود من سنجق مغنيسية لِقُربهما من العاصمة، فأجابهُ بايزيد رعايةً لِخاطره وعيَّن سُليمانًا على سنجق كفَّة بِالقرم وقورقود على سنجق تكَّة.[14]

الاضطرابات أواخر عهد السُلطان بايزيد

[عدل]

كان لِلسُلطان بايزيد ثمانية أبناء: أسنُّهم هو عبد الله، ثُمَّ شاهنشاه فأحمد وعلمشاه وقورقود وسليم ومحمود ومُحمَّد. تُوفيّ أغلب هؤلاء الأبناء في حياة والدهم، ولم يُكتب البقاء - حتَّى ذلك الوقت - إلَّا لِشاهنهشاه وأحمد وقورقود وسليم، وقد فرَّقهم والدهم وعيَّن كُلُّ واحدٍ منهم على بلدٍ مُختلف خشية وُقُوع الشقاق بينهم نظرًا لِاختلافهم في الآراء والمشارب. فكان كبيرهم أحمد محبوبًا لدى الأعيان والأُمراء لِحُسن خُلُقه ولين جانبه، وكان الصدر الأعظم علي باشا الخادم مُخلصًا له. وكان قورقود مُشتغلًا بِالعُلُوم والآداب ومُجالسة العُلماء، وكان هو نفسه عالمًا كبيرًا وشاعرًا وخطَّاطًا وموسيقارًا ومُلحِّنًا، لهُ مُؤلَّفاتٌ بِالعربيَّة والتُركيَّة في عُلُوم الفقه والكلام والأخلاق والتصوُّف، ولِذا كان الجيش يمقته لِعدم ميله إلى الحرب، أضف إلى ذلك أنَّ ولديه الذُكُور توفيا وهُما طفلان ممَّا تركه بلا وريث وأضعف حقَّ ادعائه بِالعرش. أمَّا سليم فكان مُحبًّا لِلحرب والغزو والجهاد كما أُسلف، لذا كان محبوبًا لدى الجُند عُمومًا والإنكشاريَّة خُصُوصًا، ممَّا قوَّى موقفه فيما لو طالب بِالعرش.[15][16] ولمَّا كان أعيان البلاد من الساسة والقادة والأُمراء أصحاب الغايات والمصالح، المُناصرين لِلشاهزاده أحمد، يُدركون مدى خُطُورة وُصُول شخصٍ كسليم القوي إلى سُدَّة السلطنة، فإنَّهم أوغروا صدر والده عليه كما أُسلف، ليُقللوا من حُظوظه في تولَّي أُمُور البلاد والعباد، وصوَّروا أحمد على أنَّهُ المُرشَّح الأمثل لِخلافة أبيه، في حين استُبعد قورقود تمامًا.

وإلى جانب أبناء بايزيد، كان هُناك أحفاده الذين تولَّى كُلٌ منهم سُنجقًا خاصًّا به. وأبرز هؤلاء كان سُليمان بن سليم، الذي نقله جدُّه السُلطان من سنجق بولي إلى سنجق كفَّة بالقرم بناءً على طلب عمِّه أحمد، وولَّى مكانه ابن الأخير المدعو مُراد. وكان هُناك أيضًا مُحمَّدشاه بن شاهنشاه (تولَّى سنجق القرمان لاحقًا بعد وفاة أبيه)، وعُثمان بن علمشاه والي چانقري، وأورخان بن محمود والي قسطموني، وموسى بن محمود والي سينوپ. بِالإضافة إلى هؤلاء، كان لِمحمود ولدٌ ثالث يُدعى «أميرخان» لم يُولَّى أي منصب كونه كان ما يزال طفلًا.[la 11]

رسمٌ لِمدينة كفَّة. لجأ إليها الشاهزاده سليم احتجاجًا على حجبه عن العتبة السُلطانيَّة بِسعي الوُزراء والساسة المُحركين لِلسُلطان بايزيد الطاعن في السن.

امتعض قورقود عندما نقله والده من سنجق مغنيسية إلى تكَّة، ورأى في ذلك مُحاباةً لِأخيه الأكبر على حسابه، فالتمس من السُلطان أن يُعاد إلى سُنجقه، لكنَّ بايزيد لم يُجبه إلى طلبه، فتألَّم لِذلك وتغيَّر على أبيه، وخرج على رأس 137 شخصًا من خاصَّته وركب البحر من مرفأ أنطالية وتوجَّه إلى مصر، مُعلنًا أنَّ نيَّته حج البيت الحرام، بينما قصد إلقاء الرُعب في قلب والده وتخويفه من احتمال تعامله مع المماليك، فمكث في الديار المصريَّة نحو سنة.[14][16] وفي أثناء غياب قورقود في مصر، أدرك شقيقه سليم موقف حاشية والده منه وأنَّهم زوَّروا كُتُبًا ونسبوها إليه، فسعى إلى تبرئة ذمَّته وجنايته أمام العتبة السُلطانيَّة، إلَّا أنَّهُ لم يجسر على الذهاب إلى إسلامبول ومُقابلة السُلطان بلا إذن، فالتمس من أبيه أن يوليه سُنجقًا من سناجق الروملِّي، فيُصبح بِذلك على مقرُبةٍ من العاصمة. لكنَّ الوزراء والحاشية حالوا دون حُصُول سليم على مطلبه، فأرسل ثانيًا وثالثًا يُطالب والده، فلم يُجبه إلى ذلك بِتأثيرٍ من وزرائه. ولمَّا حُرم سليم من سُؤله وعادت رُسلُه خائبين؛ ركب البحر مُتوجِّهًا إلى كفَّة، سنجق ولده سُليمان بِالقرم، وأقام فيها أيَّامًا، وأرسل إلى العتبة قاصدًا آخر يلتمس الإذن في الحُضُور إلى إسلامبول، فحال الوُزراء والساسة المائلون إلى الشاهزاده أحمد دون قُبُول السُلطان مُجدَّدًا وقبَّحوا عنده عُبُور سليم إلى الروملِّي، بل إنَّ الشاهزاده أحمد نفسه كتب إلى خان القرم منكلي كراي وأبلغهُ بِأنَّهُ سيشكيه إلى أبيه ويطلب عزله فيما لو عاون سليم، على أنَّ الخان المذكور لم يلتفت لِهذا التهديد لِارتباطه بِسليم عبر المُصاهرة.[16][17] وأرسل السُلطان بايزيد إلى ابنه بِالقرم أحد العُلماء المُسلمين وهو المولى نور الدين صاروكرز لِينصحه ويُقنعه بِالعودة إلى سنجقه طربزون، فسار المولى المذكور وحاول نصح سليم بِالامتثال لِأمر والده، لكنَّ الأخير أصرَّ ألَّا يعود ما لم يصل إلى عتبة السُلطان، فعاد المولى ثُمَّ رجع مرَّةً أُخرى حاملًا رسالةً من بايزيد يُعلم فيها ابنه بِأن يختار سنجقًا من سناجق الأناضول فيُولِّيه عليه، فلم يُجب ما لم يقترن ذلك بِحُضُوره إلى والده.[17]

رسم تخيُّلي لِلداعية الصفوي شاهقُلي بابا بن حسن التِكلوي (أعلى الوسط) وأسفله يظهر الشاه إسماعيل (صاحب العمامة الحمراء الكبيرة) وجماعةٌ من مُريديه المُتشيعين مع بعض الرُمُوز الصوفيَّة.

خلال تلك الفترة، كانت بلاد الأناضول تموجُ بِنار الفتنة التي أضرمها الشيعة المُوالون لِلشاه إسماعيل، وتزعَّم الثورة أحد دُعاة الشاه المُسمَّى شاهقُلي بابا بن حسن التِكلوي (بِالفارسيَّة: شاهقُلی بابا بن حسن تکه‌لی)، و«شاهقُلي» اسمٌ منحوت من كلمتين: «شاه» و«قُلي» ومعناه «خادم الشاه»، أمَّا «التِكلوي» فنسبةً إلى بلاد تكَّة وأهلها من التُركمان التكَّليين.[la 12] وعاث شاهقُلي وأتباعه فسادًا في الأناضول، فاعتدوا على الأهالي وخرَّبوا البلدات والقُرى، وقصدوا مدينة كوتاهية دار بكلربكيَّة الأناضول، فأحرقوها بعد أن هزموا حاميتها وقتلوا أغلبهم، بما فيهم بكلربك الأناضول قراكوز أحمد باشا. تكدَّر السُلطان بايزيد ما أن وصلته أخبار الفتنة وما جرى من إحراق كوتاهية وقتل قراكوز أحمد باشا، فاشتدَّ عليه مرضه وقوي ضعفه، وكلَّف ابنه الشاهزاده أحمد بِالقضاء على شاهقُلي وأتباعه، ثُمَّ جمع الوُزراء والأعيان وأعلمهم عزمه على تسليم السلطنة إلى ولده المذكور ما أن ينتهي من مُهمَّته، وأرسل في عقبه الصدر الأعظم علي باشا الخادم في أربعة آلاف سپاهي وألف إنكشاري لِيُعاونه في القضاء على العُصاة، كما أرسل إلى أُمراء الأناضول أن يجتمعوا عليهم بِعساكرهم.[17] وبلغت أخبار هذه الأحداث مسامع الشاهزاده سليم في القرم، فقرَّر استغلال الوضع كي يحصل على مراده بِالقُوَّة، فشقَّ عصا الطاعة وسيَّر عدَّة سُفُن من البحر بِأثقاله ورجاله وسار هو في أصحابه وأتباعه من البر إلى صوب دار السلطنة من طريق آق كرمان. ولمَّا قرُب من سيلسترة ونزل بِخارجها، أرسل أميرها قاسم بك إلى السُلطان بايزيد يعرض الحال، فخاف الوُزراء المُخالفون من دُخُول سليم إلى العاصمة وسيطرته على الحُكم، فحرَّكوا السُلطان فورًا لِلتصدِّي له. وتقابل جيشُ بايزيد مع جيش ابنه سليم في موضعٍ يُقال له «جوقورچايري» بِقُرب أدرنة، لكنَّ أيّ قتالٍ لم يقع، إذ لمَّا رأى الشاهزاده عزم والده على القتال، أرسل إليه أحد خواصه يستعفيه ويطلب منه الرأفة، فبكى بايزيد مُتأثرًا بِالكلمات التي أرسلها ابنه، وردَّ عليه بِأنَّهُ سيمنحه ما يُرضيه سوى دُخُول إسلامبول، فالتمس سليم سنجقًا من ثُغُور الروملِّي لِيغزو من خلاله البلاد الأوروپيَّة المُجاورة، فمنحهُ السُلطان سنجق سمندريَّة أولًا، ثُمَّ أضاف إليه سناجق ڤيدين وآلاجة حصار ونيكوبُلي، وأرسل له هدايا جليلة مُرفقة بِكتاب عهدٍ على أن لا يولي عهده إلى أحدٍ من أولاده ما دام حيًّا، ويُفوِّض ذلك إلى مشيئة الله، وهدف من وراء ذلك تطييب قلب سليم وجبر خاطره عمَّا جرى كي لا يتَّسع شق الخلاف ويكبر البغض بين الإخوة، وكان ذلك في سنة 917هـ المُوافقة لِسنة 1511م.[16][17]

مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ اقتتال جُند بايزيد مع جُند ابنه سليم في أوغروش.

في ذلك الوقت كان علي باشا قد عبر إلى الأناضول ولقي الشاهزاده أحمد في أنقرة، فهنَّأه بِالسلطنة في خلوته، ممَّا دفع الأخير إلى بذل الأموال على مُقدَّمي الجُند لِاستمالة قُلُوبهم وضمان وُقُوفهم إلى جانبه حينما يجلس على تخت المُلك. ولم يلبث علي باشا أن عَلِم في غد ذلك اليوم بِقُدُوم سليم إلى صوب أدرنة وبِكُلِّ ما جرى بينه وبين والده، فتكدَّر من ذلك الخبر، إلَّا أنَّهُ كتمه عن الشاهزاده أحمد وعن خواصه أيضًا، ثُمَّ توجَّه معه إلى دفع غائلة الشيعة.[17] تمكَّن العُثمانيُّون من إلحاق هزيمةٍ كُبرى بِشاهقُلي وجماعته، فقتلوا أغلبهم في بضع معارك وشتتوا البقيَّة، على أنَّ ثمن هذا الانتصار كان باهظًا، إذ قُتل الصدر الأعظم في إحدى تلك المُواجهات. ولمَّا وصل خبر مقتله إلى الشاهزاده أحمد حزن واضطرب اضطرابًا عظيمًا وتحيَّر في أمره، فرجع إلى سنجقه أماسية ولم يعقب العُصاة لِلثأر منهم، ممَّا أثار حفيظة عسكره. وفي أثناء ذلك تُوفي الشاهزاده شاهنشاه والي القرمان، ووصل خبر وفاته إلى السُلطان بايزيد مُرفقًا بِخبر مقتل علي باشا، فزاد في ضعفه، واشتدَّت عليه الآلام والاضطرابات، فجمع الوُزراء والأعيان وشاورهم في أمر السلطنة، فأشاروا عليه بِإحضار الشاهزاده أحمد وإجلاسه على تخت السلطنة قبل تفرُّق أُمراء الروملِّي وعساكرها، واجتمعت الكلمة على ذلك. وهكذا أرسل السُلطان أولًا إلى أُمراء الروملِّي أن يحضروا إليه، فلمَّا مثلوا بين يديّه أخذ منهم البيعة لِولده واستحلفهم على طاعته، ثُمَّ أمر الوُزراء بِأن يستدعوا الشاهزاده المذكور، فأرسلوا إليه يستعجلونه إلى إسلامبول. وعلم الشاهزاده سليم بِاتفاق الوُزراء والأعيان على تنصيب أخيه على عرش آل عُثمان عن طريق أحد أعوانه المُخلصين العامل في خدمة والده، فتوجَّه سريعًا إلى صوب العاصمة، وقابل والده في وادي «أوغروش» بِقُرب ݘورلي، فأرسل أحدًا من خواصه إلى أبيه لِلسُؤال عن سبب نقض العهد والإصغاء إلى أقوال الوُزراء والأعيان أصحاب الأغراض الخبيثة، لكنَّ هؤلاء حالوا دون دُخُول الرسول على السُلطان، وعرضوا إلى الأخير بِأنَّ ولده سليم قد قصده في ثلاثين ألف مُقاتل وهو يعقد العزم على خلعه من السلطنة والجُلُوس مكانه، وحثُّوه على قتاله. وكان عند السُلطان حينئذٍ أربعون ألف مُقاتل، فهجموا على الشاهزاده سليم وعسكره، فاقتتلوا شديدًا حتَّى تشتَّت جُند سليم، وهرب إلى صوب بحر البنطس (الأسود) في جمعٍ قليلٍ من أتباعه، فتبعهُ جمعٌ من عسكر والده وأدركوه، ولم يحل بينه وبين الأسر سوى أحد خواصه المدعو فرحات بك، فأشغل جُند بايزيد في حين أسرع سليم السير على صهوة جواده «قره‌بولوط»، أي «السحاب الأسود»، حتَّى وصل ساحل البحر المذكور، واجتمع عليه ثلاثة آلاف جُنديٍّ من رجاله، فأبحر بهم إلى كفَّة سنجق والده سُليمان، ودخلها خائبًا محزونًا.[16][17][la 13]

تنازُل بايزيد عن المُلك لِصالح ابنه سليم

[عدل]
«موكبُ الإنكشاريَّة». ثارت هذه الطائفة العسكريَّة بُعيد إعلان السُلطان بايزيد عزمه التنحي لِصالح ابنه أحمد لِانعدام كفائته لِقيادة الدولة العُثمانيَّة خلال تلك الفترة العصيبة.

بعد انكسار الشاهزاده سليم، عاد السُلطان إلى إسلامبول وجمع الوُزراء لِلمُشاورة ثانيًا، فأشاروا عليه باستعجال الشاهزاده أحمد إلى العاصمة لِتسليمه السُلطة، فوافقهم وأمر بأن يُرسلوا إليه أن يأتي على الفور. وما أن وصل الخبر إلى الشاهزاده المذكور حتَّى نهض من أماسية على الفور وركب فرسه وجدَّ في السير دون أن ينم ليلًا ولا نهارًا حتَّى وصل إلى مالدپَّة قُرب أُسكُدار، وأرسل إلى السُلطان يستأذنه في العُبُور إليه صباحًا، فأذن له. واقترح أتباع الشاهزاده أحمد، من الوُزراء والساسة، استمالة قُلُوب أُمراء الروملِّي وقادة الجُند بِبذل الأموال لهم، وعرضوا ذلك على السُلطان، فوافقهم، والحقيقة أنَّهُ كان قد أصبح على درجةٍ من المرض والضعف لا يستطيع معها تدبير أي أمرٍ بِمُفرده، فأصبح وُزرائه هُم الحاكمون الفعليُّون لِلدولة.[18] ولمَّا شاع خبر وُصُول الشاهزاده أحمد واستعداده العُبُور إلى إسلامبول، اجتمع آغوات الإنكشاريَّة وتشاوروا في أمر السُلطان المُستقبلي، واتفقوا على أنَّ سلطنته مكروهة لِاختياره الدعة والترفُّه في جميع أوقاته، ولِأنَّهُ لم يقدر على حماية البلاد من الصفويين، بل هو لم يَقوَ على دفع غائلة جمع من أوباش التُركمان من أتباع شاهقُلي وهرب منهم، وقالوا أنَّهُ بِهذا قد هتك عرض السلطنة، فكيف يصلح لها؟ واتفقت كلمتهم على أنَّ أحدًا لا يصلح لها سوى الشاهزاده سليم، المقدام في الحرب والجهاد، وعقدوا العزم على المُطالبة بِتولية سليم وتنحيه أحمد. ولمَّا اتفق الإنكشاريُّون على ذلك، قاموا يوم 18 ذي الحجَّة 917هـ المُوافق فيه 6 آذار (مارس) 1512م،[16] فنهبوا بُيُوت الأعيان المُوالين لِلشاهزاده أحمد؛ منهم الصدر الأعظم الجديد أحمد باشا بن هرسك، والبكلربك حسن باشا، والوزير مُصطفى باشا، وقاضي العسكر عبد الرحمٰن بن مُؤيَّد، والطغرائي جعفر چلبي بن تاج، فنجا هؤلاء بِأنفُسهم لكنَّهم خسروا أموالهم وأثقالهم، وظلَّ الإنكشاريُّون ينهبون بُيُوت الساسة والأعيان طوال الليل وهم يهتفون باسم الشاهزاده سليم ويرفعون شعاره، ثُمَّ سيطروا على جميع مراسي السُفُن لِلحيولة دون خُرُوج أحد من إسلامبول أو العُبُور إليها، وبعد ذلك اجتمعوا في باب سراي طوپ قاپي وطلبوا من السُلطان العفو عمَّا جرى، والتمسوا منه عزل الرجال الخمسة السابق ذكرهم، فعزلهم إسكانًا لِلفتنة. وحاول أحد الوُزراء، المدعو «سنان بك يولار قصدي» أن يستميل الإنكشاريَّة إلى جانب الشاهزاده أحمد، فلم يقدر على ذلك، وشاهدهم على الثبات والدوام في محبَّة سليم والميل إليه، فخرج من العاصمة بِمشقَّةٍ عظيمة، وتوجَّه إلى برِّ آسيا حيثُ قابل الشاهزاده أحمد وأخبره أنَّ وصوله إلى سُدَّة المُلك بات ميؤوسًا منه.[18]

دبَّ اليأس والغضب في قلب الشاهزاده أحمد لمَّا علم بِما جرى في دار السلطنة، فعاد شرقًا عبر الأناضول، لكنَّهُ لم يتوجَّه إلى سنجقه أماسية، بل ذهب إلى القرمان وقد عقد العزم على السيطرة على جميع البلاد الأناضوليَّة لِيفرض سلطنته بِحُكم الأمر الواقع. وكان والي القرمان حينذاك هو مُحمَّدشاه بن شاهنشاه، أي ابن أخ الشاهزاده أحمد وحفيد السُلطان بايزيد، فحاصره في قلعة قونية أيَّامًا حتَّى استسلم، ثُمَّ دخلها وأعلن نفسه سُلطانًا فيها، وبِهذه الحركة أصبح أحمد في وضع المُدَّعي، وفقد صفة وليّ العهد الشرعي،[16][18] وتردَّد صدى ذلك في ردَّة فعل السُلطان بايزيد، إذ غضب على ابنه وتغيَّر عليه لِفعلته هذه، وأرسل إليه يُوبِّخه لِإقدامه على ما فعل بِدون إذنه. واتفق حينذاك أنَّ الشاه إسماعيل كان قد أرسل أحد خُلفائه المُسمَّى «نور الدين خليفة» إلى الأناضول لِيجمع من التُركمان الميَّالين إلى التشيُّع، فاجتمع على نور الدين المذكور نحو ثلاثين ألف مُقاتل، فأغار بهم على نواحي أماسية وتوقاد وسيواس ونهبها وأحرق بُيُوتها، فحاول الشاهزاده أحمد التصدِّي له وأرسل لِقتاله وزيره «سنان بك يولار قصدي»، فسار إلى الصفويين وقاتلهم حتَّى انكسر منهم كسرة قبيحة، وفرَّ ناجيًا بحياته، الأمر الذي زاد من تنفُّر العسكر من الشاهزاده المذكور.[18]

مسجد أورطة جامع، أو مسجد مُراد باشا، حيثُ نزل الشاهزاده قورقود في مُحاولةٍ لِاستمالة قُلُوب الإنكشاريَّة.

عندما وصل خبر انكسار جيش الشاهزاده أحمد إلى إسلامبول، اجتمع القادة العسكريُّون وكبار العُلماء مع السُلطان بايزيد وأظهروا لهُ أنَّ نظام المُلك قد اختلَّ بِطمع الوُزراء والنزاع على ولاية العهد، وتسلَّط أعداء الدولة عليها من كُلِّ جهة، وبيَّنوا له أنَّ الشاهزاده أحمد لا يليق لِلسلطنة لِانهماكه في الدعة والترفُّه؛ حيثُ وقع منه أمران يدُلَّان على عدم صلاحيَّته لِتولِّي شُؤون البلاد والعباد: وقعة شاهقُلي ووقعة نور الدين خليفة، وكذلك الشاهزاده قورقود لا يصلح لِلمُلك أيضًا - وإن كان عالمًا فاضلًا - لِأنَّ السلطنة لا تتم إلَّا بِترك الراحة والترفُّه، واختيار الإقدام على المخاوف والشدائد، وليس لهُ ذلك، كما أنَّهُ لا عقب له بعد وفاة أبنائه الذُكُور، فليس يصلح لِهذا الأمر سوى الشاهزاده سليم، الذي أثبت شجاعته وحزمه ومقداميَّته وحُسن تدبيره في معاركه مع الصفويين والكرجيين، وهو الوحيد الذي تُعلَّق عليه الآمال في دفع البلية الصفويَّة. والتمس المُجتمعون من السُلطان تقليد العهد لِولده سليم، بل تفويض السلطنة إليه.[16][18] وكان السُلطان أيضًا قد مال إلى جانب سليم بعد خُرُوج أحمد عليه وتصرُّفه الطائش مع ابن أخيه مُحمَّدشاه الذي كان قد فقد أبيه حديثًا، فاعتبر بايزيد أنَّ هذه دلالات على عدم رُشد ابنه الكبير، وبِالتالي لا يصح له تولِّي السلطنة. وكان السُلطان قد أرسل إلى سليم براءات السناجق الثلاثة: سمندريَّة وڤيدين وآلاجة حصار، مرَّةً أُخرى مع كتابٍ يستميله فيه ويُطيِّب قلبه بِأنواع المواعيد الجميلة، ويُعلمه بِأنَّهُ سامحه ورضي عنه، ويعتذر إليه عمَّا جرى بينهما من الشقاق بِسعي أصحاب المصالح الشخصيَّة، ففرح سليم بِذلك، وتهيَّأ لِلمسير إلى سنجق سمندريَّة، وبينما هو يتجهَّز وصلهُ قاصدٌ آخر بِبشارة السلطنة، ودعاه إلى إسلامبول على الفور، فتوجَّه إليها. وأمَّا الوُزراء المُناهضين لِسليم والخائفين من شدَّته وسطوته، فإنَّهم لمَّا رأوا ضياع المُلك من الشاهزاده أحمد بِاتفاق الإنكشاريَّة، أرسلوا إلى الشاهزاده قورقود يدعونه إلى دار السلطنة ويستعجلونه في الوُصُول إليها قبل أخيه سليم، وأشاروا عليه بِأن يقدم في جمعٍ قليل ويدخل المدينة مُتنكرًا، وينزل في مساكن الإنكشاريَّة لِيستميلهم إليه.[18] ظنَّ الشاهزاده قورقود أنَّهُ نال السلطنة عندما أصبح أخوه الأكبر في وضع العاصي، لا سيَّما وأنَّهُ يأتي بعده حسب تسلسل العُمر،[16] فتوجَّه وعبر البحر إلى إسلامبول، ودخلها مُتوجهًا إلى مساكن الإنكشاريَّة، ونزل في المسجد القريب من ثكناتهم المشهور بِـ«مسجد أورطة جامع»، وحاول استمالتهم إليه بِحُقُوقٍ سابقة له عليهم من الترقيات والعطيَّات إليهم لمَّا ناب عن أبيه أيَّامًا عند وفاة جدِّه السُلطان مُحمَّد الفاتح، فرحَّب به الإنكشاريَّة وعظَّموه وكرَّموه، إلَّا أنَّهم لم يُساعدوه على مطلبه من إحراز السلطنة، ولمَّا رأى منهم ذلك خاف على نفسه، وأعلن أنَّ سبب قُدُومه ليس لِلمُطالبة بِالعرش وإنَّما خوفًا من غدر أخيه أحمد، فرأى أن يحتمي بِالعاصمة. وأرسل بايزيد يُعاتب ابنه لِقُدومه دون إذنه والتجاؤه لِلإنكشاريَّة عوض أن يلتجأ إليه، فطلب الإنكشاريَّة من السُلطان أن يُسامح ولده على فعلته من واقع تقديرهم لِمكانته العلميَّة، فاستجاب لهم، وأرسل إليه العُلماء والقادة، فأعلموه أنَّ الأُمُور لن تستقيم إلَّا بتولِّي أخوه الأصغر سليم أُمُور المُلك، وأقاموا له الحُجج بِذلك، فرضي بِالأمر الواقع.[18]

مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ مُبايعة الوُزراء والقادة والأعيان لِلشاهزاده سليم بِعرش آل عُثمان.

وفي يوم 3 صفر 918هـ المُوافق فيه 19 نيسان (أبريل) 1512م، وصل سليم إلى إسلامبول، فاستقبلته الإنكشاريَّة بِاحتفالٍ زائد، وكان على رأسهم الشاهزاده قورقود الذي خرج وسلَّم على أخيه وهنَّأه بِالسلطنة ودعا لهُ بِالتوفيق والنصر، مُعلنًا بِذلك خُضُوعه ومُسالمته.[16][17] وبعد بضعة أيَّامٍ من وُصُوله واستراحته من عناء السفر، جمع سليم أعيان الدولة من مُقدمي الإنكشاريَّة وأُمراء الروملِّي وغيرهم، وصارحهم بِأنَّهُ رجلٌ شديدٌ حاد الطباع، وأنَّهُ قد صمَّم عزيمته على الغزو والجهاد في سبيل الله وتوحيد كلمة المُسلمين ولمّ شملهم في دولةٍ واحدةٍ كما كان الحال زمن بني أُميَّة وخلال العصر الذهبي لِبني العبَّاس، وأنَّهُ قرَّر ضم البلاد العربيَّة بعدما ثبُت عجز المماليك وحدهم عن مُواجهة المخاطر المُحدقة بِالأراضي المُقدَّسة والدفاع عن المصالح الاقتصاديَّة والاستراتيجيَّة لِلمُسلمين[ا]، كما اعتزم القضاء على الدولة الصفويَّة وضمِّ البلاد الإيرانيَّة، وأنَّهُ لن يتقاعد عن ذلك لا صيفًا ولا شتاءً، ولن يفتر عن الرُكُوب وتحمُّل الشدائد لا ليلًا ولا نهارًا حتَّى يصل بلاد السِّند والهند فيضُمَّها أيضًا لِدولة الإسلام. وأضاف أنَّهُ سيُنصف المظلوم من الظالم وإن كان ولده سُليمان، ولن يرحم الجائرين وأهل الفساد، ولن يترك مجالًا لعسكره ولأُمرائه كي يترفَّهوا. ولمَّا أتمَّ سليم الكلام ذكر اتصاف أخويه أحمد وقورقود بِخلاف ذلك من المُلاءمة ولين الجانب واختيار الراحة على الشدَّة، وطلب من المُخاطبين أن يختاروا أحدهم بعدما سمعوا ما سمعوه، فقالوا له: «إِنَّ مُنْتَهَى مَطَالِبَنَا مَا ذَكَرْتُمْ لِنَفْسِكُم الشَّرِيفَة، فَاخْتَرنَاكُم، فَاعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّا مُنْقَادُونَ لِأَمْرِك، وَرَاسِخُونَ عَلَى طَاعَتِكَ». فلمَّا شاهد سليم ذلك منهم سُرَّ ودعا لهم.[17]

وفي يوم السبت 8 صفر 918هـ المُوافق فيه 24 نيسان (أبريل) 1512م، توجَّه سليم في موكبٍ إلى سراي طوپ قاپي، ولمَّا وصلها اصطفَّت الإنكشاريَّة على عادتهم من طرفيّ الباب، فدخل السراي ولقي والده السُلطان بايزيد ماشيًا، فقبَّل يده وطلب منه النُصح والرضى، فنصحهُ بايزيد وأوصى إليه بِأُمُور، أهمُّها أن يغض الطرف عن أخوه أحمد ويُسامحه ولا يقتله، ولا يقتل كذلك أخوه الآخر قورقود، ويُطيِّب قلب كُلٌ منهما بِحصَّةٍ من المُلك، ثُمَّ أجلسه على تخت السلطنة وألبسهُ العمامة المخصوصة بِالسلاطين، ودعا لهُ بالتوفيق والعزَّة والنصر. ولمَّا تمَّ أمر التنصيب والإجلاس، سارع جميع الوُزراء والوُكلاء والساسة وأعيان الدولة إلى مُبايعة سليم، وتقدّمُهم أخوه قورقود، فأقطعه سنجقه القديم مغنيسية، وضمَّ إليها جزيرة مدللي أيضًا، وطيَّب خاطره بكثيرٍ من الإحسانات والوُعُود، ثُمَّ وزَّع العطايا على الجُند وفق ما أصبح ثابتًا في العُرف العُثماني، ومنحهم الترقيات، ثُمَّ أرسل إلى أُمراء الأطراف يدعوهم إلى الحُضُور، وكذلك طلب حُضُور ابنه سُليمان من كفَّة.[17] أمَّا السُلطان بايزيد فإنَّهُ سافر بعد ذلك بِعشرين يومًا إلى مسقط رأسه ديموتيقة لِيمكث فيها ويتفرَّغ لِلعبادة والتأمُّل، فتُوفي في الطريق وأُعيد جُثمانه إلى إسلامبول حيثُ وُري الثرى.[21]

صراع السُلطان سليم وأخويه

[عدل]

غدر الشاهزاده أحمد واصطدامه بسليم

[عدل]

ما أن استقرَّ سليم على تخت السلطنة حتَّى وصلت إليه أنباء عصيان أخيه أحمد من جديد، الذي كان ما يزال رافضًا قرار والده القاضي بِإزاحته وتولية أخيه الأصغر مكانه، واستمرَّ يدَّعي لِنفسه الأحقيَّة بِعرش آل عُثمان، فسيَّر ولده الشاهزاده علاء الدين عليّ في جمعٍ إلى السيطرة على بورصة، فأغار على نواحيها وقصد أخذ البلد أيضًا.[22] ولمَّا كان الشغل الشاغل لِلسُلطان سليم هو الخطر الصفوي، فقد وجد نفسه مُضطرًّا أن يعمل على تأمين الأمن والوحدة في داخل الدولة العُثمانيَّة أولًا قبل أن يتفرَّغ لِقتال الصفويين، وتأمين هذه الوحدة والقضاء على المخاطر الداخليَّة لن يتمَّ إلَّا بِتنحية أخيه الكبير أحمد وأنصاره، وأيُّ طامعٍ يدَّعي حق ولاية العرش.[23] بناءً على هذا، نادى سليم بِجمع الجيش وترك ابنه الشاهزاده سُليمان نائبًا عنه في دار السلطنة، وخرج هو في سبعين ألف جُنديّ[24] مُجدًّا إلى صوب بورصة في أواسط جُمادى الأولى 918هـ المُوافق لِأواخر شهر تمُّوز (يوليو) 1512م، فهرب الشاهزاده علاء الدين عليّ إلى والده بِقونية، فتوجَّه السُلطان سليم إلى أنقرة وأرسل أحد قادته، وهو «طور علي بك بن بالي بن مالقوج»، في طليعة الجيش مع عساكر الروملِّي إلى جانب الشاهزاده أحمد، ولمَّا علم الأخير بِكثرة جُند أخيه القادمين إليه سارع بِالهرب إلى أماسية، فتبعه طور علي بك، فهرب أحمدٌ مُجددًا إلى جانب ملطية وطرندة. ولمَّا فشل القائد العُثماني بِالقبض على الشاهزاده العاصي، أرسل إلى السُلطان سليم يُعلمه، فأجابه السُلطان بأن يحفظ تلك الثُغُور مع أُمراء الروملِّي، وأقطع أماسية لِأحدهم، وهو مُصطفى بك بن داود وأمره بِالسير إليها والتمركز فيها. ثُمَّ عاد السُلطان إلى بورصة حيثُ سرَّح الجيش وشتى في خواص خُدَّامه.[22]

استغلَّ الشاهزاده أحمد إقلاع أخيه عن مُطاردته، فأرسل ابنيه مُراد وعلاء الدين عليّ إلى العاصمة الصفويَّة تبريز لِطلب المعونة من الشاه إسماعيل الذي كان يتحيَّن الفُرصة لِهدم الدولة العُثمانيَّة والتوسُّع على حسابها.[24] سارع الشاه بِالاستجابة لِطلب الشاهزاده العاصي، فأمدَّهُ بِنحو ألفيّ فارس، فسار فيهم إلى أماسية خلال فصل الشتاء ودخلها بغتةً، فأسر أميرها مُصطفى بك بن داود لِفترةٍ وجيزة، ثُمَّ أطلقه واستوزره، وأرسل إلى أُمراء الروملِّي الذين كانوا يُحافظون الحُدُود والثُغُور مع طور علي بك، واستمالهم إليه، فمالوا، وأرادوا الغدر بِقائدهم المذكور، لكنَّهُ تفطَّن لِغايتهم وهرب في جمعٍ قليلٍ من رجاله ولحق بِالسُلطان سليم في بورصة حيثُ أخبره بِالقضيَّة. اضطرب السُلطان من هذا الخبر، وتخوَّف من بعض الذين يُحتمل أنهم يُبطنون الخيانة، وكان في مُقدِّمتهم أبناء أخوته الذين كانوا قد التجؤوا إليه؛ وهم مُحمَّدشاه بن شاهنشاه وعُثمان بن علمشاه وأورخان وموسى وأميرخان أبناء محمود بن بايزيد، فأمر بِقتلهم جميعًا، فقُتلوا عن آخرهم، ودُفنوا بِجانب جد جدِّهم السُلطان مُراد الثاني في تُربته المعروفة بِـ«كُليَّة المُراديَّة».[22][25] كذلك ضبط السُلطان مُراسلاتٍ سريَّةٍ بين الصدر الأعظم خوجة مُصطفى باشا والشاهزاده أحمد،[24] وتبيَّن أنَّ الصدر الأعظم كان يُخبر الشاهزاده بِمقاصد السُلطان وخططه، وهذا ما مكَّنه من الهرب من قونية ثُمَّ أماسية دون أن يتمكَّن الجيش من القبض عليه. كانت عاقبة خيانة الصدر الأعظم أن قتلهُ السُلطان شرَّ قتلة وجعلهُ عبرةً لِغيره،[1] ونصَّب بدلًا منه أحمد باشا بن هرسك، فكانت تلك المرَّة الرابعة التي يتولَّى فيها أحمد باشا الصدارة العُظمى.[la 14][la 15] بعد ذلك قرَّر السُلطان اختبار ولاء أخيه قورقود حتَّى يهدأ باله بِداخليَّته ويطمئن أنَّ مُنازعه الوحيد هو أخيهما الأكبر أحمد، فيتفرَّغ لاستئصال شأفته، فتجهَّز وسار إلى صوب مغنيسية مقر ولاية قورقود.

القضاء على الشاهزاده قورقود

[عدل]

كان قورقود يكبر سليمًا بِثلاث سنوات، وكان أحبُّ إخوته إليه،[24] لكنَّ هذا لم يمنع السُلطان من اختبار ولائه وتجربته، خوفًا من أن يُعصيه أثناء قتاله أحمد فيطعنه من الخلف، سواء كان هذا العصيان نابعًا من نفسه أم ناتجٌ عن تحريك الساسة والوُزراء أصحاب المصالح الخبيثة، لا سيَّما وأنَّ قورقود سبق أن حاول أخذ السلطنة لِنفسه، ثُمَّ عاد وأعلن خُضُوعه لِسليم كما أُسلف، فرأى السُلطان أنَّ هذه الحادثة إضافةً إلى التحاق الكثير من الساسة الكارهين لِتسلطُنه - أي سليم - بِخدمة أخويه، كافٍ لِجعله يستشعر نقض عهد الطاعة والانقياد من قورقود. فطلب من بعض الوُزراء والأُمراء أن يُحرِّروا رسائل بِأسمائهم تُشوِّق الشاهزاده المذكور إلى طلب المُلك، ويعدونه فيها بِالمُؤازرة والنَّصر. ولمَّا وصلت تلك الرسائل إلى قورقود لم يتردَّد بِالكتابة إلى المُرسلين يعدهم بِالخُرُوج والوصول إليهم، فوقع في ورطةٍ قاتلة، إذ رأى السُلطان أنَّ دفع غائلة أخيه هذا أهم من دفع أحمد، فتجهَّز على الفور لِلمسير إليه.[22][24]

قبر الشاهزاده قورقود بن بايزيد الكائن بِجوار قبر السُلطان أورخان غازي.

خرج السُلطان من بورصة فيمن كان معهُ من القادة والعساكر وأسرع السير إلى مغنيسية، فوصلها خلال خمسة أيَّام، ولم يشعر قورقود إلَّا وقد أحاطت الجُنُود العُثمانيَّة بِسرايه، فتحيَّر في أمره، ثُمَّ خرج مع أحد خواص غلمانه يُقال له «بيالة»، من باب حديقةٍ مُلاصقةٍ بِالسراي، وحملا ما أمكن من النُقُود الذهبيَّة والفضيَّة، ثُمَّ ركبا فرسين جيِّدين وهربا إلى أحد الجبال حيثُ تحصَّنا واستترا في كهفٍ نحو عشرين يومًا. ولمَّا عجز السُلطان سليم عن الظفر بأخيه عاد إلى بورصة وأرسل إلى أُمراء الجهات أن يظلُّوا مُتيقظين ويتحسسوا أخبار الشاهزاده الهارب.[22] ولم يلبث قورقود وغُلامه أن خرجا من مخبأهما وتوجَّها على الفور إلى جهة تكَّة لِيركبا منها سفينةً تعبر بهما إلى إحدى بلاد المشرق العربي أو إلى فرنسا. ولمَّا كان لِلسُلطان سليم في كُلِّ بلدٍ ومعبرٍ ومضيقٍ جواسيس ينقلون إليه الأخبار، فقد أدرك ما يسعى إليه أخيه وتخوَّف من فراره، فأصدر أمرًا بِمنع الإبحار في شواطئ الأناضول وموانئها، وكلَّف القُبطان إسكندر باشا بِإحراق جميع السُفُن التي تقترب إلى السواحل، فنفَّذ إسكندر باشا الأمر بِحذافيره.[22][26]

لمَّا تبيَّن لِلشاهزاده قورقود صُعُوبة هربه، عاد واختبأ مع غُلامه في كهفٍ مُظلم، فاشتدَّ الأمر عليهما بِقلَّة الزاد، فخرج بيالة لِتحصيل القوت، ووجد أحدًا من تُركمان تلك البلاد، فكشف لهُ أسراره ووعده بالجميل، ثُمَّ أعطاه بضع دنانير وأركبه على فرس قورقود وأرسله إلى إتيان الزاد والطعام والاستخبار عن سفينةٍ يُمكن أن تحملهما إلى مقصدهما. كان من سوء حظ الشاهزاده قورقود أن وقع ذلك التُركماني تحت أنظار جواسيس السُلطان سليم الذين رأوه راكبًا على فرسٍ تحمل العلائم المُلُوكيَّة الخاصَّة بِبني عُثمان، فأمسكوا به واستجوبوه عن مكان الشاهزاده، فأنكر معرفته به، فخوَّفوه وضربوه دون نتيجة، فحملوه إلى قاسم بك والي تكَّة الذي أعاد ضربه وهدَّده بِالقتل إن لم يعترف بِموضع مخدومه، فاعترف التُركُماني بِكُل شيء ودلَّ الوالي على الكهف الذي يحتمي فيه قورقود وغُلامه، فسار إليه قاسم بك واعتقل الشاهزاده وصاحبه ثُمَّ أرسلهما إلى السُلطان سليم.[22] ولمَّا وصل قورقود إلى أخيه سارع بِإعلان خُضُوعه من جديد وتنازل لهُ عن جميع حُقُوقه، فأمر السُلطان بِإنزاله في بيتٍ خاصٍ به، لكنَّهُ على الرُغم من ذلك استمرَّ يخشى فتنته، فأمر بِقتله، فدخل عليه بعض الخُدَّام في ليلة 10 مُحرَّم 919هـ المُوافق فيه 17 آذار (مارس) 1513م،[24] وخنقوه بِوتر قوس، ثُمَّ شُيِّع جُثمانه إلى تُربة السُلطان أورخان غازي حيثُ وُري الثرى. واستأذن بيالة الغُلام من السُلطان سليم أن يُقيم على خدمة مرقد سيِّده، فأذن لهُ في ذلك، وبقي في تلك الخدمة إلى أن أدركه الموت.[22][27] يجدرُ بِالذكر أنَّ السُلطان سليم اكتنف تابوت أخيه بِنفسه حين تشييعه، ويُروى أنَّهُ بكى وصرخ قائلًا: «أَيَ أَخِي! لَيْتَكَ لَمْ تَفْعَلْ، فَلَوْلَا فِعْلِكَ مَا أُمِرْتُ بِهَذَا». ويُروى أيضًا أنَّهُ عرض على بيالة أن يُعيِّنه في أي منصبٍ رفيعٍ من مناصب الدولة ولو كان الصدارة العُظمى، مُكافأةً لهُ على إخلاصه وولائه لِمخدومه قورقود، لكنَّ بيالة قال أنَّهُ كما خدم الشاهزاده القتيل في حياته، فسيخدمه في مماته، فزاد إعجاب السُلطان سليم به، وسمح له بِالإقامة على خدمته كما أُسلف.[la 16]

القضاء على الشاهزاده أحمد

[عدل]
مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ اقتتال قُوَّات السُلطان سليم مع قُوَّات أخيه أحمد قُرب يني شهر.

بعد القضاء على الشاهزاده قورقود، سعى السُلطان سليم لِلتخلُّص من أخيه أحمد، فدبَّر لهُ خديعةً لِيظفر به، وأرسل إليه كُتُبًا مختومةً بِأختام الأُمراء والساسة الداعمين له، وأدرج فيها شكاوى من شدَّة نفسه وتهوُّره وقتله أبناء إخوته، ودعاه فيها إلى دار السلطنة ووعده بِالنُّصرة وغير ذلك ممَّا يُحرِّكه على المسير إلى العاصمة. ولمَّا وصلت المكاتيب المُزوَّرة إلى الشاهزاده أحمد انخدع بها، وبادر بالسير إلى صوب إسلامبول، ولمَّا وصل إلى حُدُود إيالة القرمان سارع واليها همدم باشا بإعلام السُلطان سليم، فما كان من الأخير إلَّا أن سيَّر أمير آخوره مُحمَّد بك فيمن معه من العساكر إلى مُقابلة الشاهزاده، وأمر بكلربك الأناضول أيضًا لِيسير في عقبه مع جُنُوده، ثُمَّ وصل الخبر إلى السُلطان بأنَّ أخيه أحمد قد وصل إلى معبر «دربند أرمني» القريب من مدينة يني شهر، فتوجَّه لِقتاله ونزل في ظاهر البلد.[22]

ولمَّا رأى الشاهزاده أحمد أنَّ أحدًا من الذين راسلوه لم يظهر، عَلِم أنَّهُ وقع في فخٍّ نصبه لهُ أخوه، فخاف وندم على قُدُومه في وقتٍ لم يعد ينفع فيه الندم، فقابل السُلطان خارج أسوار يني شهر، واصطدم به في قتالٍ عنيفٍ، فانكسر الشاهزاده وتفرَّق جمعه، فسارع إلى الهرب، لكنَّ حصانه كبا به وأسقطه، فهرع إليه الجُند وأسروه وحملوه إلى أخيه سليم، فأمر بِقتله خوفًا من أن يُعاود إثارة المُشكلات في الدولة، فخنقه سنان آغا القبابجي بِوتر قوسه،[22] وكان ذلك يوم 17 صفر 919هـ المُوافق فيه 24 نيسان (أبريل) 1513م،[1] ووُري الثرى في كُليَّة المُراديَّة إلى جانب أبناء إخوته.[24] ثُمَّ أطلق السُلطان سليم سراح كُل من أُسر من أتباع أحمد وأعلمهم أنَّهُ عفى عنهم. وهرب بعض أبناء الشاهزاده القتيل من وجه عمِّهم خوفًا من أن يُلحقهم بأبيهم، وكان في مُقدِّمتهم مُراد وعلاء الدين عليّ وبعض الآخرين، فتوجَّه مُراد إلى تبريز والتجأ في بلاط الشاه إسماعيل، فجعلهُ أميرًا على إحدى سناجق الدولة الصفويَّة، وبقي فيها إلى أن توفي.[la 17] أمَّا علاء الدين فهرب إلى مصر مع بعض إخوته والتجأوا إلى السُلطان قانصوه الغوري، وبقوا في الديار المصريَّة حتَّى ماتوا فيها بِالطاعون.[22] وكان سليم قد طالب كُلٌ من الشاه إسماعيل والسُلطان الغوري أن يرُدَّا إليه أبناء أخيه فامتنعا عن ذلك، فأسرَّها سليمٌ في نفسه.[28]

وعندما اطمئنَّ السُلطان إلى سلامة الجبهة الداخليَّة سار إلى الساحل وعبر إلى قَلِّيبُلِي، ومنها توجَّه إلى أدرنة حيثُ قابل سُفراء جُمهُوريَّة البُندُقيَّة ومملكة المجر ودوقيَّة المسكوب، فأبرم معهم هدنةً طويلةً لِيتفرَّغ أخيرًا لِقتال الصفويين والقضاء على خطرهم الكبير.[1]

حرب الصفويين

[عدل]

أسباب الحرب

[عدل]
خريطة تُصوِّرُ طريقيّ الحرير (الأحمر) والتوابل (الأزرق). يُعتقد أنَّ سعي السُلطان سليم لِلسيطرة على الطريق الأولى كان من جُملة الأسباب التي أشعلت فتيل الحرب بين العُثمانيين والصفويين.

كان لِلحرب العُثمانيَّة الصفويَّة الأولى مجموعتين من الأسباب: الأولى أسبابٌ اقتصاديَّة واستراتيجيَّة، والأُخرى مذهبيَّة وسياسيَّة وفكريَّة. فمن حيث المجموعة الأولى، سعى السُلطان سليم لِلوُصُول إلى الهند وتحقيق سيطرة عُثمانيَّة على طُرُق التجارة الشماليَّة بِفعل احتكار الپُرتُغاليين تجارة التوابل وسيطرتهم على الطُرُق التجاريَّة الجنوبيَّة مع الهند. هذا وقد شهدت بداية عهد هذا السُلطان تطوُّرًا في النظام الدواويني (البيروقراطي) العُثماني والحِرَف والأعمال التقنيَّة السائدة في البلاد آنذاك، ما جعل مُتطلِّبات الدولة تزداد مع تطوُّر هذه الأعمال.[la 18] ويُعتقد أنَّ استمرار زيادة ارتفاع أسعار الحُبُوب في أوروپَّا خلال ذلك الوقت أفضى إلى ازدهار تصديرها من الأناضول، ممَّا أدَّى إلى توسُّع الإنتاج الزراعي في آسيا الصُغرى وبِالتالي زيادة عدد سُكَّان تلك البلاد.[29] يُضاف إلى ذلك الاستهلاك المُتزايد في أوروپَّا لِلمنتوجات الشرقيَّة، وبِخاصَّةً التوابل والحرير، ما دفع السُلطان إلى السيطرة على الطُرُق التجاريَّة الشماليَّة واحتكار التجارة بين الشرق والغرب. وحاول السُلطان سليم بدايةً منع الصفويين من الاستفادة من المواد الخام المُستخدمة في صناعة الأسلحة والذخائر، مثل النُّحاس والحديد التي اشتهرت بها بلاد الأناضول، كما فرض حصارًا تجاريًّا على الدولة الصفويَّة، وبِخاصَّةٍ تجارة الحرير التي تمُرُّ عبر الأراضي العُثمانيَّة عن طريق حلب - الإسكندرونة في طريقها إلى الغرب الأوروپي حيثُ تُقايض بِالذهب، ما خفَّض إيرادات الصفويين بِشكلٍ ملحوظ. وخطا السُلطان خُطوةً أُخرى، حين أخذ يُصادر البضائع الإيرانيَّة من جميع التُجَّار لِشحنها من الجانب الأوروپي في الروملِّي، ما أثَّر على حركة التُجَّار الذين تحولوا نحو الجنوب عبر وادي الرافدين.[la 18] وأخيرًا قرَّر الاستيلاء على الطُرُق التجاريَّة الشماليَّة مع الهند، ولمَّا كانت الدولة الصفويَّة تقف حجر عثرة في سبيل ذلك فقد قرَّر القضاء عليها.

جامع الإمام أبي حنيفة النُعمان كما بدا سنة 1920م. أحرقه الشاه إسماعيل لمَّا سيطر على بغداد سنة 1508م.

أمَّا من حيث المجموعة الأُخرى، فعلى الصعيد المذهبي كان السُلطان سليم حسَّاسًا لِجهة انتشار الدُعاة القزلباش[ب]، الذين كان يبُثُّهم الشاه إسماعيل في شرقيّ الأناضول لِينشروا الدعوة الشيعيَّة بين قبائل التُركُمان، فخشي من دُخُول الآلاف من هؤلاء في المذهب الشيعي ما يُشكِّلُ خطرًا مُباشرًا على الدولة العُثمانيَّة ويُساعد الصفويين على التوسُّع بِاتجاهها. وكان لِانفجار الحركة المذهبيَّة، التي بدأها الشاه في بث مذهبه عنوةً، وتوسُّعاته السياسيَّة من أجل تثبيت غاياتها، إثارة واضحة لِيس فقط لِلحفظية المذهبيَّة السُنيَّة لِلعُثمانيين فحسب، بل عاملًا فعَّالًا في تغيير استراتيجيَّتهم السياسيَّة وتوجيه أنظارهم نحو آسيا الغربيَّة بعد أن كانت أوروپَّا الشرقيَّة شُغلهم الشاغل.[31] وكانت أنباء اضطهاد الشاه إسماعيل لأهل السُنَّة والجماعة في إيران والعراق تصلُ العتبة السُلطانيَّة في إسلامبول، فتُثيرُ غضب السُلطان سليم وأعيان الدولة، من ذلك أنَّ الشاه لمَّا سيطر على عراق العرب سنة 1508م سارع على الفور بِالبطش بِالسُنيين، فأحرق قُبُور ومقامات الخُلفاء العبَّاسيين بِالإضافة إلى قبريّ الإمامين أبو حنيفة النُعمان وعبد القادر الجيلاني، وغيرهما من قُبُور عُلماء أهل السُنَّة، وقتل جماعة أُخرى من العُلماء حرقًا بِالنار، واستولى على العديد من المساجد وخصَّصها لِلشيعة،[la 19] وعمَّر لهم العتبات المُقدَّسة، وراح يعمل على صبغ الديار العراقيَّة بِالصبغة الشيعيَّة.[32] وغالى الشاه في كُرهه أهل السُنَّة، لِدرجة أنَّه لم يكتفِ بِحرق الكُتُب الفقهيَّة والعقائديَّة السُنيَّة، بل أحرق مصاحفهم أيضًا، وفي ذلك يقول المُؤرِّخ قُطب الدين مُحمَّد النُّهرُوالي: «...وَقَتَلَ خَلْقًا لَا يُحْصَوْنَ يَنُوفُ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ نَفَس بِحَيْثُ لَا يُعْهَدُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ قَتَلَ مِنْ النُّفُوسِ مَا قَتَلَهُ إِسْمَاعِيل شَاه. وَقَتْل عَدَدٌ مِنْ أعَاظِمَ الْعُلَمَاءِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ وَأَحْرَق جَمِيع كُتُبِهِم وَمَصَاحِفِهِم لِأَنَّهَا مَصَاحِفُ أَهْلُ السُّنَّةِ. كَمَا أُمِرَ بِقُبُور الْمَشَايِخ نَبَشُهَا وَأَخْرَج عِظَامَهُم وَأَحْرَقَهَا…».[33] كما أهان الشاه الزعامة الروحيَّة والسياسيَّة لِلمُسلمين، أي مقام الخلافة، فعيَّن أحد غلمانه الخصيان واليًا على بغداد ولقَّبه «خليفة الخُلفاء».[34] وكان آخر حُكَّام العراق الآق قويونلويين مُراد بن يعقوب بن حسن البايندري (حفيد أوزون حسن) قد راسل السُلطان المملوكي قانصوه الغوري وطلب منهُ المدد لِإنجاد بغداد من الصفويين، فاتخذ السُلطان بعض الإجراءات التمهيديَّة لِإعداد حملةٍ عسكريَّةٍ لِلتصدَّي لِلطمُوحات التوسُّعيَّة لِلشاه إسماعيل، إلَّا أنَّ الظُرُوف السياسيَّة الصعبة التي كان يمُرُّ بها الغوري آنذاك، وأهمُّها نشاط الأُسطُول الپُرتُغالي حول سواحل بحر القلزم (الأحمر)، لم تسمح لهُ إلَّا بِمُناوراتٍ عسكريَّةٍ فقط،[32] وهكذا أصبحت جميع الآمال مُعلَّقة على الدولة العُثمانيَّة لِدفع الخطر الصفوي أو القضاء عليه.

قسمٌ من مُنمنمةٍ فارسيَّة تُصوِّرُ بعض القادة التُركُمان في جيش الشاه إسماعيل رافعين رايةً عليها إحدى شعارات الغُلُوِّ في التشيُّع: «يا عليّ وليُّ الله مدد».
رسمٌ لِلشاه إسماعيل الصفوي.

وعلى الصعيد السياسي، أدرك السُلطان سليم أنَّ الشاه إسماعيل يُشكِّلُ عاملًا خطرًا من عوامل تفكُّك الأناضول العُثماني، وقد أثبتت أحداث التمرُّد التي قامت في أواخر عهد السُلطان بايزيد الثاني ذلك، فقد وجدت قبائل الحُدُود من التُركُمان الذين كان العُثمانيُّون يُحاولون إخضاعهم لِسيطرتهم - وجدت في الشاه إسماعيل حاميًا وزعيمًا موهوبًا تهوى إليه نُفُوسهم أكثر ممَّا تميل إلى السُلطان العُثماني،[35] وسبب ذلك أنَّ الشاه كان بِالنسبة لِأولئك التُركُمان أشباه البدو زعيمًا مثاليًّا، فهو تُركيّ أذريّ ذو عقليَّةٍ تُركيَّةٍ تقليديَّة، وإن كان يُجيد الفارسيَّة ومُتأثِّرٌ بِثقافة فارس، لكنَّهُ لم يخلع عن نفسه هويَّة أجداده وطريقة تفكير قومه، وكانت قُوَّته العسكريَّة تستند إلى القبائل التُركيَّة وليس إلى الأقوام الإيرانيَّة التي أخضعها، عكس الدولة العُثمانيَّة التي كانت جُيُوشها عبارة عن خليطٍ من المُسلمين التُرك والروم والصقالبة. كما شعر تُركُمان الأناضول هؤلاء بِالتقارب مع الشاه بِسبب عقيدته، التي وإن كانت شيعيَّة اثنا عشريَّة في الظاهر، غير أنها امتزجت بِكثيرٍ من العقائد الشامانيَّة القديمة التي آمنت القبائل التُركيَّة بها في آسيا الوُسطى قبل الفتح الإسلامي، فأخذت تُحيط الشاه بِهالةٍ من القداسة. وبِذلك، أصبح تُركُمان الأناضول يرون في الدولة الصفويَّة دولة تُركيَّة مثاليَّة، أفضل بِما لا يُقاس من دولةٍ عُثمانيَّةٍ مركزيَّةٍ، ومن سُلالةٍ حاكمةٍ انقطعت صلتها مُنذُ أكثر من قرنٍ ونصف بِالوسط التُركُماني الذي انبثقت منه، والذي لم تعد تُدرك احتياجاته، ومن نظامٍ إداريٍّ كان مُمثلوه المحليُّون، المُنحدرون من صفواتٍ حضريَّةٍ أو من الدوشيرمة، يبدون لهم غُرباء أيضًا. ولم يتردَّد الشاه في الاستفادة من أنصاره الأناضوليين موفوري الأعداد لِزعزعة السُلطة العُثمانيَّة في الأناضول. أمام هذه الوقائع، رأى السُلطان سليم أنَّ حل المُشكلة الأناضوليَّة يمُر عبر القضاء على الشاه، فمع اختفاء الأخير سينهار المذهب المُؤسس على صورته من تلقاء نفسه، ممَّا سيؤدي إلى ترك أتباعه في حالةٍ من الارتباك.[36] بِالإضافة إلى ما سلف، كان هُناك دافعٌ سياسيٌّ آخر تجسَّد في التنازع الأُسري بين البيتين الحاكمين في كُلٍ من إسلامبول وتبريز، إذ كانت حماية الصفويين لِلفارِّين من آل عُثمان، والذين تعرَّضوا لِمُلاحقة ومُضايقات السُلطان سليم، ورفضهم تسليمهم، أشبه بِشرارةٍ ساهمت في إشعال نار الحرب بين الدولتين، بعد أن نضجت بِفعل عوامل عديدة أُخرى.[32]

خريطة تُبيِّن أقصى امتداد بلغته الدولة الصفويَّة خلال عهد الشاه إسماعيل وكيف أنَّها أصبحت حاجزًا يفصل بين الدولة العُثمانيَّة وبلاد ما وراء النهر ومخزونها البشري الذي اعتمد عليه العُثمانيُّون في فُتُوحاتهم الغربيَّة.

أمَّا على الصعيد الفكري، فقد كانت الثقافة في بلاد الأناضول امتدادًا طبيعيًّا لِلثقافة التُركيَّة الفارسيَّة التي كانت مراكزها في إيران وبلاد ما وراء النهر. ففي حُقُول الحُكم والإدارة، وفي القانون والعُلُوم الشرعيَّة، وفي الآداب والفُنُون، ظلَّ سلاجقة الروم والعُثمانيُّون من بعدهم، يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على المُهاجرين من الشرق لِشغل وظائف الحُكُومة وإدارتها، وكان أدب الأناضول السُلجُوقي كُلُّه تقريبًا بِاللُّغة الفارسيَّة، وعندما ظهر الأدب بِاللُّغة التُركيَّة، في ظل حُكم السلاطين العُثمانيين الأوائل، استلهم من نوابغه في إيران وما وراء النهر. ومُنذُ قيام الدولة الصفويَّة في سنة 908هـ المُوافقة لِسنة 1502م، انقطعت الدولة العُثمانيَّة عن منبعيّ العُلماء والفُقهاء والأُدباء والفنانين، اللذين أسهما في تطوُّرها ونُمُوِّها الثقافي إلى حدٍ كبير، واقتصرت مُنذُ ذلك الوقت على منابعها الفكريَّة والدينيَّة في الأناضول والروملِّي، وفي وقتٍ لاحقٍ في المشرق العربي. وقد شعر العُثمانيُّون بِهذا الانقطاع الفكري عن أُصُول ثقافتهم ما كان دافعًا لِإعادة فتح هذه القنوات الفكريَّة الشرقيَّة.[37]

القضاء على شيعة الأناضول

[عدل]
فتوى شيخ الإسلام المولى ابن كمال التي أجاز فيها لِلعُثمانيين حرب الصفويين لِشدَّة غُلُّوهم وانحرافهم (تبدأ من الكتابة الحمراء).

بعد أن توافرت جميع أسباب الحرب، واطمأنَّ السُلطان لِصفاء الدولة وسلامة الجبهة الداخليَّة، صمَّم عزيمته أن يحمل على الديار الإيرانيَّة، فاستدعى كبار رجال دولته من قُضاةٍ وساسةٍ وعُلماء، وذكر لهم مدى خُطُورة الدولة الصفويَّة والشاه إسماعيل على الدولة العُثمانيَّة خُصوصًا والمُسلمين السُنيين عمومًا، وأنَّ على العُثمانيين الدفاع عن مصالحهم الحيويَّة وعن إخوانهم الذين طالهم ظُلم الشاه في إيران والعراق.[38] واستفتى السُلطان العُلماء في جواز قتال الصفويين، فأجمعوا وأفتوا بِأنَّ قتالهم وجهادهم أكثر ثوابًا من جهاد الصليبيين بعد أن بلغ بهم الغُلُوَّ مبلغًا يجعلهم خارجون على الإسلام، وكان في مُقدِّمة كبار العُلماء الذين أفتوا بِذلك الشيخ حمزة أفندي وشيخ الإسلام المولى ابن كمال الذي كتب رسالةً طويلةً في جواز قتال الصفويين واستئصال شأفتهم.[39]

مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّر إحضار الجاسوس الصفوي بين يديّ السُلطان سليم.

ولمَّا أخذ الفتوى من العُلماء، أرسل السُلطان أوامره إلى أطراف البلاد لِاجتماع الجُيُوش، وكان قد أرسل في وقتٍ سابقٍ إلى الوُلاة وأُمراء السناجق أن يتحرُّوا أمر شيعة الأناضول المُجاورين لِلحُدود الصفويَّة، ويضبطون كُل من بايع الشاه على السمع والطاعة أو من يميل له ويتعامل معه، فوصل في هذا الوقت إلى العتبة السُلطانيَّة دفترٌ يحوي أسماء كُل شخصٍ تأكَّدت صلته بِالصفويين وكُلُّ من تبعه من الرجال وساهم في إقلاق الراحة العُموميَّة وإثارة الفتنة في الأناضول، وكانوا قُرابة أربعين ألفًا،[la 20] فأصدر السُلطان أمره بِقتلهم، فُقتلوا عن آخرهم، وأرسل في الوقت ذاته حملاتٍ تأديبيَّةٍ لِتُلاحق بقايا الغُلاة ممَّن تبقُّوا في الأناضول وتُخرجهم منه.[35][39] وأُسر عند ذلك جاسوسٌ لِلشاه إسماعيل وأُحضر مُكبلًا إلى السُلطان سليم، فلم يقتله وأطلق سراحه بعد أن حمَّلهُ كتابًا غليظًا إلى الشاه يتضمَّن إهاناتٍ وتحدِّيًا وتهديدًا، من بعض ما ورد فيه بعد تعريبه:[40][41][la 21]

«بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ الله الْمَلِكُ الْعَلَّامِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ؛﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ؛﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الهَادِينَ الْمُهْتَدِين غَيْرَ الْمُضِلِّينَ وَلَا الضَّالِّينَ وَصَلَّى الله عَلَى سَيِّدِ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى النَّبِيّ الْأَمِين وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ؛ أَنَا زَعِيمُ وَسُلْطَان آلِ عُثْمَانَ، أَنَا سَيِّدُ فُرْسَانِ هَذَا الزَّمَانِ، أَنَا الْجَامِعُ بَيْنَ شَجَاعَة وَبَأْس أَفْرِيدُون الْحَائِز لِعِزّ الْإِسْكَنْدَر، وَالْمُتَّصِف بِعَدْل كِسْرَى، أَنَا كَاسِرُ الْأَصْنَام وَمُبِيدُ أَعْداءِ الإِسْلامِ، أَنَا خَوْفُ الظَّالِمِينَ وَفَزَعُ الْجَبَّارِين الْمُتَكَبِّرِين، مُرَغِّمُ أُنُوفَ الفَرَاعِيْن مُعَفَّرَ تِيجَانُ الخَوَاقِيْن، سُلْطَانُ الْغُزَاةِ وَالمُجَاهِدِيْن، أَنَا الَّذِي تُذَلُّ أَمَامَهُ الْمُلُوك المُتَّصِفُونَ بِالْكِبْر وَالْجَبَرُوت، وَتَتَحَكَّم لَدَى قُوَّتِي صَوَالِجُ الْعِزَّةِ والعَظَمُوْت،
أَنَا الْمَلِكُ الْهُمَامِ السُّلْطَان سَلِيمْ خَانْ ابْن السُّلْطَانُ الْأَعْظَمُ بَايَزِيْد خَان، أَتَنَازَلُ بِتَوْجِيه إلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِسْمَاعِيل، يَا زَعِيمَ الْجُنُودِ الْفَارِسِيَّة… وَلَمَّا كُنْتُ مُسْلِمًا مِنْ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِين وَسُلْطَانًا لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِين السُنِّيينَ الْمُوَحِّدِين… وَإِِذ أَفْتَى الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا بِوُجُوبِ قَتْلِكَ وَمُقَاتَلَةِ قَوْمِك فَقَد حَقَّ عَلَيْنَا أَنْ نَنْشَطَ لِحَرْبِك وَنُخَلِّصَ النَّاسَ مَنْ شَرِّك…»

خُرُوج الحملة الهمايونيَّة إلى إيران

[عدل]
خريطة تُصوِّرُ مسير الجُيُوش العُثمانيَّة مُنذُ خُروجها من أوطانها لِحين لقائها بِالصفويين في چالديران حيثُ وقعت المعركة الحاسمة بين الدولتين الكبيرتين.

خرج السُلطان سليم من مشتاه في أدرنة إلى إسلامبول في مُحرَّم سنة 920هـ المُوافق فيه شُباط (فبراير) 1514م، ونزل في موضعٍ يُقالُ له «فيل چايري» بِقُرب جامع أبي أيُّوب الأنصاري ومكث هُناك إلى أن يتم عُبُور الجُند من كُل أنحاء الروملِّي إلى الأناضول، وكان يزور في كُلِّ يومٍ مرقد الصحابي أبي أيُّوب ويدعو الله أن ينصره ومن معه، ويبذل الصدقات على الفُقراء. وفي يوم الخميس 24 صفر 920هـ المُوافق فيه 19 نيسان (أبريل) 1514م، عبر السُلطان إلى أُسكُدار ونزل في مالدپَّة، وكان بكلربك الروملِّي حسن باشا قد عبر بِعساكر تلك البلاد وأُمرائها من معبر قَلِّيبُلِي، وفوَّض السُلطان في أثناء ذلك بكلربكيَّة الأناضول إلى أمير سنجق البوسنة سنان باشا الخادم.[39] ولمَّا وصل السُلطان إلى مدينة إزميد، أرسل كتابًا آخر إلى الشاه إسماعيل يدعوه فيه إلى العودة لِلإسلام القويم ويحُثُّه على رفع مظالمه ويُعلمه بِأنَّ عُلماء المُسلمين في الدولة العُثمانيَّة أفتوا بِجواز قتله لِما اقترفت يداه، فإن ثاب إلى رُشده وعاد عن غُلُّوِّه وتشيُّعه، فإنَّهُ سيُرجع إليه ما استولى عليه من أراضيه. ولِلإمعان في تحقير الشاه أرسل إليه السُلطان سليم هديَّةً كانت عبارة عن مسواكٍ وعصا وطيلسان، وقصد بِذلك تذكيره بِأنَّهُ ليس من سُلالةٍ مُلوكيَّةٍ كبني عُثمان، بل هو من سُلالة دراويشٍ وضيعين، كون تلك الأشياء من رُمُوز هذه الفئة الصوفيَّة.[42] وأرسل السُلطان أيضًا قاصدًا إلى السُلطان المملوكي قانصوه الغوري يُعلمه بِنيَّته القضاء على الصفويين، وبِضرورة أن يكون أمر المماليك والعُثمانيين واحدًا وقولهم جازمًا على الشاه إسماعيل.[43]

نسخةٌ عن قسمٍ من إحدى رسائل السُلطان سليم إلى الشاه إسماعيل التي تحدَّه فيها ودعاه إلى المُبارزة.

ارتحل السُلطان بعد ذلك إلى صوب يني شهر، وأرسل الوزير أحمد باشا بن دوقاقين، في عسكر الروملِّي إلى سيواس لِلتجسُّس على أحوال الشاه إسماعيل.[39] وفي 8 ربيع الآخر 920هـ المُوافق فيه 1 حُزيران (يونيو) 1514م، وصل السُلطان إلى قونية حيثُ استراح ثلاثة أيَّامٍ زار خلالها مراقد الأولياء وفي مُقدِّمتهم مرقد المولى جلال الدين الرومي،[24] ثُمَّ ارتحل إلى قيصريَّة ومنها إلى «جبق أواسي» حيثُ أرسل إلى أمير ذي القدريَّة علاء الدولة بوزقورد بك يدعوه إلى مُرافقته في الحملة على الصفويين، فأبى المذكور ذلك، فغضَّ عنهُ السُلطان وتابع زحفه نحو سيواس، وأرسل أمير سينوپ أحمد بك في خمسُمائة فارس لِجمع الأخبار عن تحرُّك الصفويين، ثُمَّ أرسل في عقبه مُحمَّد علي بك ميخائيل أوغلي أيضًا. ولمَّا وصل السُلطان إلى سيواس أمر بِحساب الجيش الحاضر، فبلغ عدد الجُند بحسب المصادر العُثمانيَّة مائة وأربعين ألف مُقاتل، فأمر السُلطان أن يُفرز منهم أربعون ألفًا من الشُيُوخ واليوافع والضُعفاء ومن لا يقدر على إدارة السلاح فيُتركوا في نواحي سيواس وقيصريَّة لِقلَّة الأقوات والذخائر في بلاد العدوُّ.[24][39] إذ كان الصفويُّون ينسحبون من أمام العُثمانيين بِقيادة أحد أعظم قادة الشاه، وهو مُحمَّد خان أُستاجلوه، حارقين في طريقهم المحاصيل لِحرمان الجُيُوش العُثمانيَّة من الإمدادات ولِإبطاء تقدُّمهم، كما أحرق مُحمَّد خان هذا المساكن الموجودة على الطريق الرابط بين أرزنجان وتبريز لِلغاية ذاتها.[24][la 20] وعلى الرُغم من أنَّ هذا أبطأ الزحف العُثماني فعلًا، لكنَّ الحال لم يدم طويلًا، إذ كان السُلطان سليم قد احتاط لِلأمر ودبَّر تدبيرًا حسنًا بحيث أرسل ذخائر ومؤن كثيرة بِالسُفُن عبر بحر البنطس (الأسود) إلى طربزون لِتُوزَّع على الجُند عند الحاجة،[39] وهكذا ما أن وصل العُثمانيُّون إلى أرزنجان حتَّى وصلهم المدد من طربزون، فباءت مُحاولات الشاه لِعرقلتهم بِالفشل.[24]

خريطة توضح مسار الجُيُوش العُثمانيَّة نحو چالديران بالإضافة إلى مسار سفينة الذخائر والمُؤن نحو طربزون، والموضع الذي ترك فيه السُلطان سليم قسمًا من الجُند.

وفي 25 جُمادى الأولى 920هـ المُوافق فيه 17 تمُّوز (يوليو) 1514م، وصل السُلطان إلى بلدة «يضي جمن»،[39] وفيها وصله رسولٌ من الشاه إسماعيل يحملُ إليه كتابًا يُبلغه فيه أنَّهُ يُعد العدَّة لِلحرب أيضًا، وأرفق الكتاب بِعُلبةٍ ذهبيَّةٍ مليئةٍ بِالأفيون ردًا على إهانة السُلطان سليم له، وقصد الشاه من وراء هذا أنَّ كلام السُلطان وعزمه غزو الدولة الصفويَّة عبارة عن هذيانٍ سببهُ المُخدِّر.[42] ثار غضب السُلطان لمَّا قرأ كتاب عدُوِّه، فقتل الرسول وكتب رسالةً أُخرى إلى الشاه يتحداه ويدعوه إلى المُبارزة، ويستفزه لِيُجبره على اللقاء، وممَّا ورد فيها: «إِنَّا أَفْرَزْنَا مِنْ عَسْكَرِنَا نَحْوَ أَرْبَعِينَ ألْفًا وَتُرَكْنَاهُمْ فِي نَوَاحِيَ قَيْصَرِيَّةَ لَئَلَّا تَخَافَ وَتَهَرُب، فَأَيْنَ دَعْوَى السَّلْطَنَةِ مِنْ هَذَا الْفِرَارِ وَالتَّسَتُّرِ كَالْنِّسْوَانِ؟! فَلَا يَلِيْقُ لَكَ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ».[39] لكن على الرُغم من ذلك، استمرَّ قادة الشاه ينسحبون من أمام الجُيُوش العُثمانيَّة الجرَّارة، ولم يظهر لهم أيُّ أثرٍ أو خبر، ممَّا أثار التململ وسط الجُند وانتشرت بينهم الأقوال والشائعات بِأنَّ زحفهم هذا سيُهلكهم نظرًا لِطول المسافة وبُعد مراكز التموين، وحرَّك بعض أهل الفتن بعض قادة الإنكشاريَّة، فالتمسوا من السُلطان الرجوع وعدم الدُخُول إلى بلاد العدُوّ لِقلَّة الأقوات وعدم ظُهُور الصفويين، فلم يلتفت السُلطان إلى طلبهم وصمَّم عزمه على الوُصول إلى أذربيجان، فاضطرَّ القادة إلى الرجوع لِوالي القرمان همدم باشا، وكان من المُتربين في خدمة السُلطان ومن نُدمائه الذين يُكالمونه في كُلِّ أمرٍ؛ فألحُّوا عليه في تحويل السُلطان عن عزمه والرجوع إلى الوطن، فعرض الباشا هذا الأمر على السُلطان، لكنَّهُ لم يُتم مُقدماته إلَّا وأمر السُلطان بِضرب عُنُقه، فخاف جميع الجُنُود وقادتهم، وكتموا التذمُّر في أنفُسهم.[39]

نسخةٌ عن قسمٍ من إحدى رسائل السُلطان سليم إلى الشاه إسماعيل.

بعد هذه الحادثة، أرسل السُلطان سليم كُلٌ من الأُمراء علي بك بن شهسوار الذيقدري وفرخشاد بك البايندري ومُحمَّد علي بك ميخائيل أوغلي وبالي ويواده، لِلتجسُّس وجمع أخبار الصفويين، ووجَّه كُلٌ منهم إلى جهةٍ مُختلفة؛ فظفر فرخشاد بك وبالي ويواده بِأُمراءٍ من القزلباش، فأسروهم في جمعٍ من جنودهم وحملوهم إلى العتبة السُلطانيَّة، فأطلق السُلطان سراح قزلباشيين فقط، وأرسل معهُما إلى الشاه إسماعيل كتابًا آخرًا لِيُحرِّكه على المُبارزة،[39] وممَّا جاء فيه: «إنْ كُنْتَ رَجُلًا فَلَاقِنِي فِي الْمَيْدَان، وَلَن نَمُلَّ انْتِظَارُك». وأرسل مع الجُنديين أيضًا خمارًا ومعجرًا[ج] لِيُدلِّل لِلشاه على شدَّة احتقاره والاستخفاف به.[39][42] ثُمَّ تابع السُلطان زحفه، لكنَّهُ لم يتقدَّم لِمسافةٍ بعيدةٍ حتَّى اعترضت الإنكشاريَّة مُجددًا ورفضت التقدُّم أكثر، والتمس قادتها الرُجُوع، فأجابهم السُلطان قائلًا: «مَنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فَلْيَرْجِع، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَرْجِعُ أَبَدًا مَا لَمْ أُقَابِل الْخَصْم، وَإِنَّمَا تَحَمَّلَت أَعْبَاء السَّلْطَنَة لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَخَذ الِانْتِقَامِ مِنْ إسْمَاعِيلَ الْمُلْحِد، وَعَدَدْتُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الشَّدَائِد قَبْلَ أَنْ أَقْبَلَ السَّلْطَنَة، فَاخْتَرْتُم عِنْد الْقَوْل، وَتَكَلَّمْتُم عِنْدَ الْعَمَلِ، وَلَا جَبْرَ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ اخْتَارَ الرُّجُوع فَلْيَرْجِع». فاضطرَّت الإنكشاريَّة إلى المُتابعة، إلَّا أنَّهم لم يتوانوا عن إظهار امتعاضهم بِتحريك بِعض الأعيان، حتَّى أنهم أطلقوا رصاص بنادقهم على سرادق السُلطان في إحدى الليالي لِتخويفه، فلم يلتفت إلى ذلك، وتثبَّت في عزيمته.[39] وخلال تلك الفترة وصلت رسالة من الشاه إسماعيل تضمَّنت خطابًا يدعو السُلطان إلى التهدئة وبنفس الوقت يُحذِّره تحذيرًا مُبطنًا من سوء العاقبة فيما لو تابع الزحف، وممَّا ورد فيه: «نُرِيدُ أَنْ تَنْمُوَ الصَّدَاقَةُ بَيْنَنَا كَمَا كَانَتْ أَيَّامَ السُّلْطَانِ بَايَزِيْد وَأَيَّام وِلَايَتِك عَلَى طَربِزُون. لَسْنَا نَدْرِي لِمَاذَا قَامَت الْعَدَاوَةُ بَيْنَنَا؟ نُرِيدُ أَنْ تَعُودَ الصَّدَاقَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ آلِ عُثْمَانَ قَدِيمًا. لَا نُرِيدُ لَكُم نَتِيجَةً سَيِّئَةً كَاَلَّتِي حَدَثَت أَيَّام تَيْمُور». فأجابهُ السُلطان قائلًا: «اسْتَجَبْنَا لِلدَّعْوَةِ وَقَطَعْنَا الطُّرُق الطَّوِيلَةِ بِجُنُودٍ آيَاتِهَا النَّصْر، وَدَخَلْنَا مَمَالِكَك. وَلَكِنّنَا لَم نَجِدُك فِي الْمَيْدَان، وَإِذَا كَانَتْ عِنْدَك نَخْوَةٌ أَو رُجُولَة، فَاثْبَتَ فِي الْمَيْدَان…».[42] وخِلال فترةٍ قصيرةٍ من هذا، وقع في أسر علي بك بن شهسوار جماعةٌ من القزلباش، فاستعلم منهم أحوال الشاه وجُيُوشه، فأخبروه بِأنَّهُ وصل قُرب سهل چالديران وصمَّم العزم على القتال فيه، فسُرَّ السُلطان من هذا الخبر، وأسرع السير إلى الموقع المذكور تمهيدًا لِلمعركة الفاصلة.[39]

واقعة چالديران

[عدل]
فارسٌ قزلباشي، عماد الجيش الصفوي.
سهل چالديران حيثُ دارت المعركة بين الصفويين والعُثمانيين، وقد أُقيم على طرفه نصبٌ تذكاريّ لِتخليد هذا الحدث المُهم.

وصل العُثمانيُّون إلى سهل چالديران يوم 2 رجب 920هـ المُوافق فيه 22 آب (أغسطس) 1514م، لِيجدوا أنَّ الصفويين سبقوهم إليه وعسكروا هُناك مُنذ مُدَّة. وفي ليلة ذلك اليوم اجتمع ديوان الحرب العُثماني بِرئاسة السُلطان سليم وتقرَّر البدء بالهُجُوم فجر اليوم التالي.[45] وفي الموعد المذكور، تقابل الجمعان واستعدَّا لِلمعركة التي كان من شأنها تقرير مصير الدولة العُثمانيَّة والمشرق العربي، إذ كان من المُمكن أن يُسفر انهزام العُثمانيين عن فرض الصفويين التشيُّع على المنطقة،[45] لا سيَّما وأنَّ الشاه إسماعيل كان يطمح في إقامة دولةٍ شيعيَّةٍ كُبرى تضم الديار الإيرانيَّة والعراقيَّة والشَّاميَّة والروميَّة، ومن أجل ذلك فاوض الدُول الأوروپيَّة وبِخاصَّةً جُمهُوريَّة البُندُقيَّة لِمُساعدته، وعرض عليها مشروعه الرامي بِالقضاء على الدولة العُثمانيَّة، وأنَّهُ يترتب على الدُول الأوروپيَّة، إن كانت تُريد الحُصُول على بعض المكاسب أن تتحرَّك من الروملِّي على أن تكون لها مصر، في حين يستأثر هو بِحُكم الشَّام بِالإضافة إلى الأناضول.[la 18] لكن الغرب خيَّب أمل الشاه إذ كانت أغلب دوله مُنهمكة في مُشكلاتها الداخليَّة، في حين كانت البُندُقيَّة خارجة من حربٍ خاسرةٍ مع العُثمانيين جلبت لها العار والانهيار الاقتصادي، فوجد الشاه نفسه وحيدًا في مُواجهة السُلطان سليم.[46]

تمركز الشاه إسماعيل في ميمنة جيشه، وكان على قيادة الميسرة والي ديار بكر مُحمَّد خان أُستاجلوه، ولم يكن هُناك فيلقٌ مركزيّ مُستقل. شكَّل الخيَّالة التُركمان مُعظم عناصر الجيش الصفوي، وكانوا قد فُرزوا حسب ألويتهم وإيالاتهم، وعلى رأس كُلِّ فرقةٍ منهم أُمراءٌ تُركُمانٌ أيضًا. وكان هؤلاء أشد جُنُود الشاه تعصُّبًا لِمذهبهم وإخلاصًا لِشخصه، بحيثُ لم يكن أحدهم لِيتوانى عن التضحية بِروحه في سبيل سيِّده.[45] ولم يكن لِلشاه مدفعيَّة ولا مُشاة من حملة البنادق،[la 22] لكنَّهُ استعاض عن ذلك بِفعاليَّة وكفائة فُرسانه.[36] أمَّا في الجانب العُثماني، فقد وقف بكلربك الأناضول سنان باشا الخادم مع عساكر الأناضول وأُمرائها في الميمنة، وبكلربك الروملِّي حسن باشا مع عساكر تلك البلاد وأُمراء سناجقها في الميسرة، وذلك حسب العُرف العُثماني القاضي بأنَّ الحملة لو كانت في الروملِّي يقف بكلربكها في الميمنة وفي العكس بالعكس؛ ووقف السُلطان في القلب. وجُعلت عجلات المدافع أمام الجُند، ورُبطت ببعضها بِالسلاسل، وسُدَّت ساقة العسكر بِالجمال والأحمال والأثقال، وقام الإنكشاريَّة بِالمكاحل الكبيرة فيما بين عجلات المدافع بين يديّ السُلطان، وقام في جنبيه الصدر الأعظم أحمد باشا بن هرسك، والوزيرين أحمد باشا بن دوقاقين ومُصطفى باشا، وعيَّن لِإمارة الطليعة علي بك بن شهسوار في جمعٍ من أشجع الجُنُود لِمدد الطرفين، وشادي باشا لِإمارة الساقة.[47] ومن المُؤكَّد أنَّ الجيش العُثماني هذا كان حينذاك أحد أقوى جُيُوش عصره من حيثُ عدد الجُنُود ونوعيَّة الأسلحة الناريَّة وكذلك من حيثُ كفاءة من يستخدمونها،[36] بل إنَّ الجُيُوش العُثمانيَّة كانت الوحيدة في العالم التي تستخدم المدافع في الحُرُوب الميدانيَّة، في حين كانت بقيَّة الدُول تستخدمها في قصف ودكّ الأسوار والقلاع.[45]

جداريَّة في قصر چهل‌ستون بأصفهان تُصوِّر واقعة چالديران. يظهر العُثمانيُّون يمينًا والصفويُّون يسارًا.
مُنمنمة فارسيَّة تُصوِّرُ هُجُوم الصفويين على ميسرة العُثمانيين، ويظهر الشاه إسماعيل في المُقدِّمة شاهرًا سيفه، والسُلطان سليم في أعلى الزاوية اليُسرى.

بدأت المعركة بِهُجُوم الصفويين بِقيادة الشاه نفسه على ميسرة السُلطان، فقاتلهم قتالًا شديدًا حتَّى يُقال أنَّهُ استبدل الفرس الذي تحته سبع مرَّاتٍ، وهجم مُحمَّد خان أُستاجلوه على الميمنة العُثمانيَّة، فأمر سنان باشا المدفعيَّة بأن لا يُطلقوا نيرانهم إلى أن يُعلمهم، وما أن قربت صُفُوف الفُرسان القزلباشيين حتَّى نادى الباشا بإشعال المدافع، فحُصد الصفويُّون حصدًا وهلك منهم الكثير، في حين أُصيب الباقون بِالدهشة والرُّعب، فهاجمهم العُثمانيُّون وقتلوا أغلبهم، وكان من جُملة القتلى مُحمَّد خان أُستاجلوه نفسه، فانكسرت بذلك ميسرة الصفويين انكسارًا تامًّا.[47] أمَّا الميمنة الصفويَّة بِقيادة الشاه فتمكَّنت من تفريق عساكر الروملِّي وقتلوا كثيرًا منهم، وكان من جُملة مشاهير أُمراء الروملِّي الذين قُتلوا: علي بك وشقيقه طور علي بك ابنا بالي بك بن مالقوج قائد غزوة قراقوه (كراكوڤ) عاصمة مملكة بولونيا خلال عهد السُلطان بايزيد الثاني، وكان أحدهما أمير صوفيا والآخر أمير سيلسترة؛ وكذلك أمير المورة حسن بك، وفيروز بك، وسُليمان باشا، ومُصطفى بك وإسكندر بك ابنا يوركج بك، وغيرهم. وجُرح البكلربك حسن باشا، وأخرجه أتباعه من أرض المعركة لكنَّهُ مات بعد ذلك بِقليل. ولمَّا رأى السُلطان انكسار ميسرته أرسل إليهم جمعًا من الإنكشاريَّة لِمددهم، فأطلق الإنكشاريُّون نيرانهم على الصفويين حتَّى دفعوهم عن قصد قلب الجيش وأجبروهم على الإلتفاف ورائه، فوقعوا بين الأثقال والأحمال والتفَّت أرجلهم بِسلاسل الدواب، فانقضَّ عليهم العُثمانيُّون يقتلون ويأسرون.[47] وجُرح الشاه على عضُده في موضعين، ثُمَّ وقع فرسه في وحلٍ وألقاه عن ظهره، فانقضَّ عليه جمعٌ من العسكر العُثماني وكادوا أن يُمسكوا به لولا أن شغلهم أحد خواص الشاه المدعو ميرزا سُلطان علي، وكان مُشابهًا لِإسماعيل في الهيئة واللباس، فانخدعوا به وحاولوا أسره، في الوقت الذي ركب الشاه على فرس أحد حُرَّاسه ولاذ بِالفرار. وبهذا انكسر الصفويُّون كسرةً قبيحة، فقُتل أكثر أعيانهم وأُسر بعضهم، وكان من جُملة الأسرى زوجة الشاه «تاجلي خانُم»، وقيل بل هي «بهروزة خانم»،[47] ولم يقبل السُلطان أن يرُدَّها لِزوجها بل زوَّجها لِأحد كُتَّاب يده انتقامًا من الشاه.[48] ولمَّا تمَّت الهزيمة على الصفويين ولم يفلت منهم غير قليلٍ من الجرحى؛ نهب الجُند العُثمانيُّون مُعسكرهم إلى الصباح، فغنموا ما لا يُعد ولا يُحصى، وقُسِّمت الغنائم بين السُلطان والعسكر، وطيَّب السُلطان الجُنُود بِالترقيات،[47] ثُمَّ أمر أحمد باشا بن دوقاقين بِتعقُّب الشاه إسماعيل وسائر الفارِّين إلى تبريز،[49] ثُمَّ سار هو أيضًا في عقبهم.[47]

ضمّ العُثمانيين مدينة تبريز لِأوَّل مرَّة وعصيان الإنكشاريَّة

[عدل]
خريطة لِمدينة تبريز في القرن السادس عشر الميلادي، كما صوَّرها الجُغرافي العُثماني نصوح بن قراكوز بن عبد الله البوسنوي، الشهير بِـ«السلاحي» أو «المطرقجي». دخلت المدينة تحت جناح الدولة العُثمانيَّة لِأوَّل مرَّة بُعيد انتصار السُلطان سليم في واقعة چالديران ضدَّ الصفويين سنة 1514م.

بعد هزيمته النكراء، أدرك الشاه إسماعيل عدم إمكانية الدفاع عن عاصمته تبريز، فتركها وهرب من أمام أحمد باشا بن دوقاقين ولاذ بِمدينة خوي.[45][49] وقيل بل التجأ إلى درجزين في الداخل الإيراني. ويُروى أنَّهُ لمَّا وصل تبريز مع جمعٍ من المُنهزمين، خرج أهلها لِاستقباله وأظهروا الشماتة به بِسبب ما أنزله بهم من ظُلمٍ وإجبارهم على تبديل مذهبهم، فأعطته عجوزٌ قطعة شمَّامٍ لِيدفع عطشه وقالت له: «غَيِّر نِيَّتُك تُصِبْ خَيْرًا»، ووقف الناس ناظرين إليه مُستهزئين، وكانوا قبل ذلك لا يقدرون على النظر إليه، بل كانوا يسجدون له حين يمُر بهم خوفًا من قهره وسطوته وجبروته، فأسرَّها الشاه في نفسه حتَّى حين، وانتقم من أهل المدينة شرَّ انتقامٍ حينما استرجعها بعد فترة.[47] وفي 14 رجب 920هـ المُوافق فيه 4 أيلول (سپتمبر) 1514م، دخل السُلطان سليم تبريز في أُبَّهةٍ بالغة،[48] وأمَّن أهلها، وصلَّى الجُمُعة في مسجدها الجامع بعد أن أمر بِإظهار الشعائر السُنيَّة وإعادتها كما كانت قبل الصفويين، فتُليت الخطبة باسم السُلطان وذُكر فيها أسماء الخُلفاء الراشدين.[45][47] أقام السُلطان وجُنُوده في تبريز نحو تسعة أيَّام أعلن خلالها عن عزمه التوغُّل في عُمق الأراضي الإيرانيَّة لِلقبض على الشاه ومُعاقبته وإفناء دولته، واستشار في ذلك الأُمراء والأعيان وعرض عليهم الإشتاء إمَّا في تبريز أو في قره‌باغ، فرفضوا ذلك،[47] وفي نفس الوقت ثارت الإنكشاريَّة ورفضت التقدُّم أكثر أو المُكُوث لِفترةٍ أطول في بلاد العدُّو، إذ إنَّ المؤن قد أخذت في النفاذ، واشتدَّ الغلاء بِفعل إقدام السُلطان المملوكي قانصوه الغوري على منع مُرُور المؤن والذخيرة إلى العُثمانيين عن طريق حلب. كما أنَّ الشاه عمد قبل انسحابه إلى إحراق ما لديه من حُبُوبٍ ومُؤن، وباتت الجُيُوش العُثمانيَّة مُتعبة بعد أن خسرت في چالديران بعض قادتها.[50] ويرى المُؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي أنَّ السبب في عصيان الجُنُود العُثمانيُّون وبِالأخص الإنكشاريَّة، أنَّهم كانوا جيشًا أوروپيًّا قلبًا وقالبًا ومن العسير عليهم استيطان أرضًا آسيويَّة، فعندما اتجهوا صوب الشرق وراء الحُدُود القديمة لِلمُجتمع الرومي الأرثوذكسي في الأناضول، شعروا بِأنَّهم غُرباء تمامًا عن تلك البلاد.[51]

أمام هذا الواقع، وخوفًا من قيام الفتنة بين العسكر، استجاب السُلطان لِجُنده وأمرائه ونادى بٍالرُجُوع، فاستولى على خزائن الشاه وأرسلها إلى إسلامبول، كما أمر بِإجلاء نحو ألف بيتٍ من أصحاب المعارف وأرباب الصنائع من أهل تبريز، ورتَّب زادهم وراحلتهم على أكمل وجه، وعيَّن على رعايتهم أميرًا كبيرًا من أُمرائه، ثُمَّ عيَّن لهم منازل ومساكن ووظائف عند وُصُولهم إلى دار السلطنة، بحيثُ نسوا أوطانهم بِالكُليَّة.[47] وكان أبرز من أرسلهم السُلطان سليم إلى إسلامبول آخر الأٌمراء التيموريين بديع الزمان ميزرا بن حُسين بايقرا، حفيد حفيد تيمورلنك، وكان قد لجأ إلى الشاه إسماعيل عندما طرده من دار مُلكه هراة مُحمَّد خان الشيباني صاحب بُخارى، ولقي احترامًا من الشاه، وقد أبدى لهُ السُلطان سليم احترامًا أكبر وخصَّص لهُ راتبًا كبيرًا، وأجلسهُ على عرشٍ أقامه بِجانبه.[45] وفي 25 رجب 920هـ المُوافق فيه 15 أيلول (سپتمبر) 1514م، غادر السُلطان تبريز عائدًا إلى الأناضول، فلمَّا وصل إلى شاطئ نهر الرس أمر بِدُخُول قره‌باغ لِلإشتاء فيها كما عزم سابقًا، فامتنعت الإنكشاريَّة عن ذلك بِحُجَّة اشتداد البرد وعدم وُجُود الملابس والمؤونة اللازمة،[48] واتَّفق قادة هذه الطائفة مع عدَّة أُمراءٍ ووُزراءٍ على تحويل عزم السُلطان إلى آسيا الصُغرى، فاضطرَّ سليم إلى الانصياع لهم لمَّا رأى اتفاقهم، وكتم غيظه منهم لِفترةٍ قصيرة، وأضمر لهم عقابًا شديدًا.[47]

عودة السُلطان إلى إسلامبول وضمِّه بعض بلاد الجزيرة وأرمينية

[عدل]

سار موكب السُلطان سليم حتَّى بلغ رواندز حيثُ عزل مُصطفى باشا عن الوزارة كونه كان من جُملة مُحركي الإنكشاريَّة على العصيان، ثُمَّ أرسل جمعًا من الجُند لِضمِّ مدينة بايبُرد، فسيطروا عليها دون عناء وأرسلوا مفتاحها إلى السُلطان، فأقطعها وأرزنجان لِأمير آخوره مُحمَّد باشا البيقلي، وضمَّ إليها طربزون وشبين قره‌حصار وجانيك، وفوَّض إليه مُحافظة تلك الثُغُور لِحُسن تدبيره وشجاعته. وفي تلك الفترة وصلت إلى السُلطان شكاوى عددٍ من أهالي قُرى ونواحي تلك البلاد يطلبون منه إنصافهم من تطاول بعض الجُند وتعدِّيهم على الآمنين، فغضب السُلطان من هذه الأخبار وحمَّل الصدر الأعظم أحمد باشا بن هرسك والوزير أحمد باشا بن دوقاقين مسؤوليَّة هذه التعدِّيات كونهما مُكلفين بِضبط العسكر، ولِدرايته بأنَّهما كانا يتفقان معهم في سوء الأدب، ولِشدَّة غضبه أمر بِهدم خيمتيهما عليهما، ثُمَّ أخرجهما وعزلهما عن منصبهما.[52] بعد هذه الحادثة سار السُلطان حتَّى بلغ نيكسار ومنها توجَّه إلى أماسية وشتى فيها، وأذن لِلعسكر بِالعودة إلى أوطانهم وأمرهم بِالاجتماع في الربيع لِغزو الصفويين مُجددًا. خِلال فترة إشتاء السُلطان، حصلت بضع وقائع أبرزها ضمّ مدينة بوزاق وأعمالها في جنوب شرق الأناضول، وإعدام الوزير أحمد باشا بن دوقاقين بعد أن أثار الإنكشاريَّة وحرَّكهم على نهب بيت الدفتردار پيري باشا ومُعلَّم السُلطان حليمي چلبي. وكان الشاه إسماعيل قد رجع إلى تبريز وأدرك عزم السُلطان سليم العودة إليه قريبًا،[52] فحاول من جديد أن يُوقِّع صُلحًا مع العُثمانيين، فبعث إليه سفيرين هُما كمال الدين حُسين بك وبهران آقا، وحمَّلهما هدايا فاخرة، ولكنَّ سليمًا رفض العرض وزجَّ بِالسفيرين في السجن.[53] وفي روايةٍ أُخرى أنَّ سُفراء الشاه كانوا مير عبد الوهَّاب التبريزي والقاضي إسحٰق الحاوي والمولى شكر الله المعاني وحمزة خليفة بك وجمعٌ من القزلباشيين، وأنَّهم طالبوا السُلطان بِرد زوجة الشاه إليه، إلى جانب طلبهم الصُلح، فرفض وأمر بحبس مير عبد الوهَّاب والقاضي إسحٰق في قلعة يني حصار قُرب إسلامبول، ومن عداهما في قلعة ديموتيقة.[52]

وكان السُلطان سليم أثناء عودته من تبريز قد لمس مدى بُغض القبائل الكُرديَّة لِلصفويين وكُرههم لِلشاه إسماعيل، فأرسل إليهم المولى حُسام الدين إدريس بن علي البدليسي لِاستمالتهم،[52] وإقناعهم بِوُجُوب اتحاد المُسلمين السُنيين بِوجه تطرُّف الصفويين ومُغالاتهم، وفي مُقابل قُبُولهم الانضواء تحت الراية العُثمانيَّة، قطع السُلطان العُهُود والمواثيق لِلمُلُوك والأُمراء الأكراد بِعدم المس بِاستقلالهم الإداري أو بأن يُفرض عليهم أيُّ أمرٍ لا يرغبونه. والحقيقة أنَّ الأكراد كانوا قد أعلنوا الثورة على الشاه مُنذُ أن علموا بِانهزامه في چالديران، يدفعهم إلى ذلك ظُلمه وعُدوانه الشديدين وما ألحقه بهم من أذىً وإهانات، إذ أسر أحد عشر أميرًا من أُمرائهم رُغم أنَّهم قدَّموا له فُرُوض الطاعة والولاء، وعيَّن بدلًا منهم وُلاةً قزلباش في إماراتهم التي ورثوها أبًا عن جد.[54] وكان من أبرز من وقع في أسر الشاه أمير حصن كيفا الملك خليل الأيُّوبي، آخر مُلُوك بني أيُّوب، الذي بقي في سجنه بِتبريز ثلاث سنواتٍ كاملةٍ إلى أن نجا إثر انكسار الشاه أمام السُلطان سليم، فعاد إلى دار مُلكه.[la 23] نتيجة الاستياء العام من الصفويين في الوسط الكُردي، ولِانتظار أهالي الجزيرة الفُراتيَّة وكُردستان وأرمينية من يُخلِّصهم من التعسُّف الصفوي، بِالإضافة لِفصاحة المولى البدليسي ودبلوماسيَّته وخبرته بِالناس، وتأثير الولاية التي كان يحمل لواءها، بدأت البلاد في المناطق المذكورة تنتفض وتثور على حُكم الشاه، وكان في مُقدمتها: آمد وبدليس وأرضروم وأرومية والعماديَّة وپالو وسعرد وميَّافارقين وجمكازاد وساسون وغيرها، وامتدَّت الانتفاضة حتَّى مدينتيّ كركوك وأربيل.[la 24]

أمَّا السُلطان سليم فقد جدَّد حملته على المناطق الصفويَّة ما أن أقبل الربيع، فأرسل مُحمَّد باشا البيقلي لِاستخلاص قلعة كماخ جنوب شرق الأناضول في جماعةٍ من الجيش، ثُمَّ خرج هو من أماسية يوم 5 ربيع الأوَّل 921هـ المُوافق فيه 18 نيسان (أبريل) 1515م، فتوجَّه إلى أرمينية وسيطر على مدينة أريوان، ثُمَّ سار في عقب مُحمَّد باشا لِيجده قد ضيَّق على المحصورين بِالقصف والقتال، وما أن وصل السُلطان حتَّى فُتحت القلعة بِحد السيف، فأمر سليم بِقتل كُل من وُجد فيها من القزلباش المُحاربين، وأسر أهلهم وعيالهم. وأمر أيضًا بِتعمير القلعة وبناء بُرجٍ آخر فيها لتِحصينها، وولَّى عليها أحمد بك بن قراجين.[52]

ضم إمارة ذي القدريَّة

[عدل]
مُنمنمة فارسيَّة تُصوَّرُ الأمير علاء الدولة بوزقورد بك جالسًا على عرشه.

ما أن تمَّ أمر فتح كماخ، أرسل السُلطان بكلربك الروملِّي سنان باشا الخادم في نحو خمسة عشر ألف مُقاتل لِتسخير إمارة ذي القدريَّة وأخذها من يد الأمير علاء الدولة بوزقورد بك.[52] وسبب ذلك أنَّ علاء الدولة لم يكتفِ بِرفض مُرافقة العُثمانيين إلى حرب الصفويين كما أُسلف، بل اتخذ موقفًا عدائيًّا من الجُيُوش العُثمانيَّة أثناء مُرورها بِأراضي إمارته، فرفض تزويد العُثمانيين بِالإمدادات والمُساعدات، وأمر أهل مرعش ألَّا يبيعوا لِعسكر السُلطان سليم شيئًا من المأكل ولا من غيرها، كما سمح لِلتُركُمان بِالإغارة على الجُند الزاحفين وهزم طائفةً منهم ونهب ما معها.[51] وكان السُلطان سليم قد أرسل بعد ذلك إلى نظيره المملوكي قانصوه الغوري يُخبره بِتصرُّف علاء الدولة العدائي، ويطلب منه كبح جماحه على اعتبار أنَّ إمارة ذي القدريَّة كانت مشمولةً بِحماية المماليك. فأجاب الغوري قائلًا: «إِنَّ عَلَاءَ الدَّوْلَة عَاصِي أَمْرِي، فَإِنْ قَدَرْت عَلَيْهِ فَاقْتُلْه»، ثُمَّ أرسل كتابًا آخرًا بِالخفية إلى علاء الدولة يشكُره على ما فعل، ويُغريه بِقتال سليم ولا يُمكِّنه من شيءٍ أبدًا.[51] والحقيقة أنَّ موقف السُلطان الغوري هذا وتغيُّر سياسته تجاه العُثمانيين، كان نابعًا من شُكُوكه بِنوايا السُلطان سليم بعد انتصاره على الصفويين، فلم ينظر بِعين الارتياح لِهذا النصر، ولم يُظهر الفرحة والسُرُور أو يأمر بِتزيين القاهرة كما كان الحال في السابق مع كُلِّ انتصارٍ عُثمانيّ، وفي ذلك يقول ابن إياس: «فَلَمَّا حَضَرَ قَاصِد سُلَيْم شَاه بْنُ عُثْمَانَ بَيْنَ يَدَيْ السُّلْطَانِ وَقُرِئَت مُكَاتَبَتَهِ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ أُخْلَعَ عَلَى الْقَاصِدِ الَّذِي حَضَرَ بِأَخْبَارِ هَذِه النُّصْرَة كَامِلِيَّة مُخْمَلٌ أَحْمَر كَفَوِيٌّ بِصمورٍ عَالٍ مَنْ مَلَابِيسِه، ثُمَّ نَزَلَ الْقَاصِد مِنَ القَلْعَةِ وَلَم يَرْسُم السُّلْطَان بِدَقّ الكُوسَاتِ بِالقَلْعَةِ، وَلَمْ يُنَادِ فِي الْقَاهِرَةِ بِالزِّينَةِ لِأَجْلِ هَذِهِ النُّصْرَة، وَلَمْ يُعْلَمْ مَا سَبَبُ ذَلِكَ».[55]

خريطة توضح مسار الحملات العسكريَّة العُثمانيَّة في كُردستان والجزيرة الفُراتيَّة وأرمينية بدايةً من ربيع سنة 1515م وانتهاءً بِصيف سنة 1516م. أفضت هذه الحملات إلى القضاء على النُفُوذ الصفوي في تلك البلاد وانتقالها بإجمالها إلى حوزة الدولة العُثمانيَّة واستمرارها على هذه الحال حتَّى سُقُوط الدولة المذكورة بعد نحو أربعة قُرُون.

أدرك السُلطان سليم تبدُّل سياسة الغوري تجاه العُثمانيين، وأنَّ الأخير يدعم علاء الدولة سرًّا، فمضى في حملته لِتسخير إمارة ذي القدريَّة، وأرسل علي بك بن شهسوار صُحبة سنان باشا، ولمَّا بلغ ذلك إلى علاء الدولة خاف وهرب من دار مُلكه البستان إلى جبل «طورنه طاغ» أولًا، فتتبعهُ سنان باشا حتَّى لقيه بسهل «گوکسون» يوم 29 ربيع الآخر 921هـ المُوافق فيه 11 حُزيران (يونيو) 1515م، في نحو خمسةٍ وعشرين ألف فارسٍ من التُركُمان، فاقتتلوا شديدًا، وقُتل من الطرفين خلقٌ كثير، ثُمَّ قُتل علاء الدولة في المعركة،[la 25] فانكسر أصحابه وتفرَّقوا، وقُتل جميع أولاده وأحفاده وعددٌ كبير من أعيان إمارته، وأُسر أخوه عبد الرزَّاق بك مع أولاده وجمعٌ من كبار ذي القدريَّة. فأرسل سنان باشا رُؤوس القتلى مع الأسارى إلى السُلطان سليم، فما كان من السُلطان إلَّا أن بعث بِرأس علاء الدولة وأحد أبنائه ووزيره إلى قانصوه الغوري ترعيبًا لهُ وتخويفًا.[52] ولمَّا وصلت تلك الرؤوس إلى السُلطان الغوري شقَّ عليه ذلك واضطرب اضطرابًا شديدًا، وقال لِلقاصد: «أَيْش أَرْسَل لِي؟ هَذِه الرُّؤُوس هِي رُؤُوس مُلُوك الْفِرِنْج انْتَصَر عَلَيْهِمْ حَتَّى أَرْسَلَهُم لِي؟» ويُضيف ابن إياس أنَّ الغوري أمر بِدفن تلك الرُؤوس وبقي حينًا هو وأُمراء المماليك في شدَّة الاضطراب والنَّكد، ولزم القلعة طيلة اليوم التالي حتَّى أُشيع بِأنَّهُ مرض من شدَّة خوفه.[56] وفي 6 جُمادى الأولى المُوافق فيه 17 حُزيران (يونيو)، وصل سنان باشا إلى الركاب العالي، فأكرمهُ السُلطان وولَّاه الصدارة العُظمى. وأرسل حُكَّام قلاع ذي القدريَّة مفاتيحها إلى العتبة السُلطانيَّة، فرتَّب فيها سليم حامياتها وأمر بِتحصينها، ثُمَّ فوَّض ولاية تلك الديار إلى الأمير علي بك بن شهسوار الذي هو ابن أخ علاء الدولة. وبِذلك زالت إمارة ذي القدريَّة وأصبحت سنجقًا من سناجق الدولة العُثمانيَّة، فكانت آخر ما زال من إمارات الأناضول التُركُمانيَّة التي وُلدت من رحم دولة سلاجقة الروم. ووُجدت في خزينة علاء الدولة غنائم نفيسة من الجواهر والنُقُود، فضلًا عن الأمتعة والأثقال والدواب، فمنح السُلطان كُل جُندي من جُنُوده ألف درهم سوى الغنيمة، وأذن لهم بِالعودة إلى أوطانهم، ثُمَّ قفل عائدًا إلى إسلامبول.[52]

إعدام مُثيري الفتن من قادة الإنكشاريَّة

[عدل]

بعد أن وصل السُلطان سليم إلى إسلامبول بِفترةٍ قصيرة، رأى أنَّ من الضروري مُعاقبة كُل من وسوس لِلإنكشاريَّة وشجَّعهم على العصيان أثناء الحملة على الدولة الصفويَّة، خشية من امتداد الفساد في الجُيُوش وشُيُوع فكرة الضغط على السلاطين وعدم إطاعتهم.[57] فاستدعى إليه جماعةً من آغوات الإنكشاريَّة وأجلسهم في خلوته ولاطفهم في الخِطاب وألحَّ عليهم أن يُعلموه بِأسماء قادتهم الذين حرَّكوهم على سوء الأدب الذي صدر منهم، فأخبروه أنَّ كُلًا من إسكندر باشا والسكبانباشي[د] وقاضي العسكر جعفر چلبي بن تاج هُم المُحركين الرئيسيين. فأحسن السُلطان إلى هؤلاء الآغوات وأرسل الكثير من العطايا إلى ثكنات الإنكشاريَّة لِيُطيِّب قُلُوبهم ويضمن استمرار ولائهم، ثُمَّ أمر بِإسكندر باشا والسكبانباشي فقُتلا، ثُمَّ دعا جعفر چلبي إليه وسأله: «إنْ كَانَ زَيْدٌ يُحَرِّكُ عَسَاكِر الْإِسْلَامِ عَلَى الْفِتْنَة، وَيُعَوِّقُهُم عَنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدّوْلَة، هَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ؟» فقال جعفر چلبي: «يجوز بعد الثُبُوت»، فأمر به السُلطان فقُتل بعد أن عدَّد عليه قبائحه.[52] وخوفًا من حُصُول مثل ذلك العصيان في المُستقبل، جعل السُلطان لِنفسه حق تعيين القائد العام لِلإنكشاريَّة دون أن يكون من بينهم، لِيكون لهُ بِذلك السيطرة عليهم، وكان النظام السابق يقضي بِتعيينه من أقدم ضُبَّاطهم.[57]

دُخُول كُردستان وديار بكر والجزيرة تحت جناح الدولة العُثمانيَّة

[عدل]
الحُدُود التقريبيَّة لِلبلاد الكُرديَّة التي ثارت على الصفويين وانضمَّت طوعًا لِلدولة العُثمانيَّة. الخريطة تعود لِسنة 1895م.
المولى إدريس البدليسي يُسلِّم أمير ماردين كتاب العهد من السُلطان سليم.

خِلال الفترة المُمتدَّة بين ضمِّ إمارة ذي القدريَّة وعودة السُلطان سليم إلى إسلامبول، كانت الثورة تعُمُّ بلاد كُردستان وديار بكر من أقصاها إلى أقصاها، وأخذ أُمراء ومُلُوك الأكراد الواحد تلو الآخر يُعلنون ولائهم لِلسُلطان سليم وتبعيَّتهم لِلدولة العُثمانيَّة. فبادر شرف بك أمير بدليس بِرفع الراية العُثمانيَّة على قلاع إمارته طاردًا أخاه خالد بك الذي كان أميرًا على البلاد من قِبل الصفويين. وكان الملك خليل الأيُّوبي يُقاتل الصفويين أينما وجدهم بعد أن استردَّ حصن كيفا وسعرد. واستردَّ أمير ساسون مُحمَّد بك بلاد غرزان من أميرها التابع لِلشاه إسماعيل، وكذلك فعل سيِّد أحمد بك الزرقي الذي استردَّ مدينتيّ عتاق وميَّافارقين، والأمير قاسم بك الذي استعاد بلدة «أگيل». وكذا استولى جمشيد بك المرديسي على مدينة پالو بِاسم السُلطان سليم، وطرد «بختي بك» والي جزيرة ابن عُمر ومن كان معهُ من الصفويين في تلك الأنحاء. واستردَّ سيِّد بك بن شاه أمير السورانيين بلاد كركوك وأربيل.[59] ويذكر المُؤرِّخ العُثماني أحمد بن لُطف الله السلانيكي الصدِّيقي أُمراء إضافيُّون ممن بايعوا السُلطان سليم، منهم أمير خداق دواد بك، وأمير نمران عبدي بك، والأمير ملك بن عز الدين شير بك العبَّاسي، ويقول أنَّ إجمالي أُمراء الأكراد الذين دخلوا تحت جناح الدولة العُثمانيَّة وصل إلى أربعةٍ وعشرين أميرًا.[60] وهكذا دخلت جميع بلاد ديار بكر وأغلب كُردستان في طاعة السُلطان سليم بِسبب ما عاناه الأكراد من عُدوانٍ وأذى على يد الصفويين من جهة، وبِفضل دراية المولى إدريس البدليسي وسياسته الرشيدة وهمَّته الفائقة من جهةٍ أُخرى. بعد ذلك أخذ المولى المذكور يضع الأنظمة الإداريَّة الكافية لِرُقيّ البلاد الكُرديَّة وإزالة آثار الاضطراب فيها، فنالت هذه التدابير قُبُول واستحسان السُلطان سليم، فأرسل إلى المولى البدليسي هديَّةً ثمينة عبارة عن خمسة وعشرين ألف دوقيَّة ذهبيَّة، وأرفقها بِسبعة عشر علمًا عُثمانيًّا وخمسُمائة خُلعة من الخُلع السُلطانيَّة الفاخرة لِتوزيعها على الأُمراء الأكراد، بِالإضافة إلى فرمانٍ شاهانيٍّ ينص على اعتراف السُلطان بِاحتفاظ الإمارات الكُرديَّة بِاستقلالها الإداري تحت السيادة العُثمانيَّة، وبِحق انتقال الإمارة من الآباء إلى أبنائهم أو التصرُّف بها حسب الأُصُول المحليَّة القديمة، وأنَّ على الأكراد تقديم إتاوةٍ سنويَّةٍ لِبيت المال في إسلامبول تُحتسب من ضمنها الصدقات والزكاة، كما يلتزم الأُمراء الأكراد بِتقديم عددٍ مُحددٍ من الجُنُود المُسلَّحين في أوقات الحرب، على أن يكونوا تحت أمرة بكلربك الأناضول.[59] وخصَّ السُلطان سليم الملك خليل الأيُّوبي صاحب حصن كيفا بِالتقدير والتوقير والاحترام الزائد، وذلك إجلالًا لِذكرى الملك الناصر صلاح الدين الأيُّوبي، مُؤسس السُلالة المُلُوكيَّة الأيُّوبيَّة ومُحرِّر بيت المقدس من الصليبيين.[45]

مُنمنمة عُثمانيَّة بِيد العالم والمُؤرِّخ خواجة سعد الدين أفندي تُصوِّرُ واقعة دُنيصر، الشهيرة بِقوجة حصار، بين العُثمانيين والصفويين. يظهر مُحمَّد باشا البيقلي في أعلى اليسار، ويظهر قراخان أُستاجلوه مُقابله في أعلى اليمين. الجُند الصفويُّون هم الذين تظهر الذوائب الحُمر أعلى عمائمهم.

لمَّا بلغ الشاه إسماعيل خبر طاعة الأُمراء الأكراد لِلسُلطان سليم، أدرك خُطُورة الوضع وأنَّ نظيره العُثماني لن يُهادنه أبدًا، فأرسل اثنان من قادة القزلباش هُما «نور علي خليفة روملُّوه» والي جمكازاد و«مُحمَّد بك آيقوت أوغلي» وكلَّفهما بِالإغارة على نواحي أرزنجان.[53] وما أن علم السُلطان سليم بِهذا حتَّى أرسل إلى مُحمَّد باشا البيقلي الذي فوَّضه بِحماية تلك الأنحاء كما أُسلف، يأمره بِالتصدي لِلصفويين، وأرسل معهُ پير حُسين بك بن رُستم، فسارا إليهم خلال شهر جُمادى الآخرة 921هـ المُوافق لِشهر تمُّوز (يوليو) 1515م، وأخذاهم على حين غرَّة في هضاب أواجق قُرب نهر الفُرات، فأنزلا بهم هزيمةٍ قاسية وقُتل نور علي خليفة ورُفع رأسه على رُمح، فخاف بقيَّة الجُند الصفويين وتضعضعت صُفوفهم، ووقعوا تحت رحمة نيران البنادق العُثمانيَّة، فكادوا أن يفنوا عن بُكرة أبيهم. أدَّى هذا الانتصار إلى سيطرة العُثمانيين على مدينة تونجلي وأعمالها، ولم يلبث أن أعلن العديد من أُمراء الحُصُون في تلك المنطقة ولائهم وتبعيَّتهم لِلسُلطان سليم، فجعل بلادهم سُنجقًا موحدًا مركزه جمكازاد وعيَّن على إمارته پير حُسين بك بن رُستم، على اعتبار أنَّ والده كان آخر أُمراء المدينة المذكورة قبل أن تسقط في يد الصفويين، فأعاد إليه السُلطان بلاد آبائه لِيحكمها بِاسم السلطنة.[la 26][la 27]

مُخطَّط واقعة دُنيصر أو قوجة حصار بين العُثمانيين والصفويين.

لم يركن الشاه إسماعيل إلى الهدوء وهو يرى ضياع الأناضول الشرقيَّة وديار بكر وأغلب كُردستان منه، فأرسل جيشًا آخر قوامه خمسة آلاف قزلباشي إلى حصار آمد واستردادها، وجعل على رأس هذا الجيش قراخان أُستاجلوه أخا مُحمَّد خان أُستاجلوه الذي قُتل في واقعة چالديران، بعد أن فوَّض إليه أمر تلك البلاد. ولمَّا علم السُلطان سليم بِهذا أرسل إلى أمير أماسية شادي باشا ومُحمَّد باشا البيقلي يأمرهما بِإمداد آمد ودفع الصفويين، فخرجا حتَّى أدركا المدينة، فهرب الصفويُّون نحو ماردين ومنها إلى صحاري سنجار خوفًا من أن يُطبق عليهم العُثمانيُّون ويحصرونهم داخل أسوار المدينة.[60] ولم يلبث أن دبَّ النزاع والشقاق بين مُحمَّد باشا وشادي باشا، فرجع الأخير بِخمسة آلاف فارس من عسكر إمارته إلى أماسية، في حين تحصَّن مُحمَّد باشا والمولى إدريس البدليسي في آمد وعقدوا العزم على الإشتاء فيها. ولمَّا بلغ قراخان أُستاجلوه عودة القسم الأكبر من الجيش العُثماني، رجع بِقُوَّاته من سنجار ودخل ماردين ثُمَّ أرسل إلى الشاه إسماعيل يستمدُّه، فأرسل إليه الشاه والي همدان «يكان بك» وأمير الكورانيين الأكراد «جوق سُلطان» في جمعٍ عظيمٍ من القزلباش. وأمَّا مُحمَّد باشا فإنَّهُ عرض الحال على العتبة السُلطانيَّة، فغضب السُلطان على شادي باشا وعزله عن منصبه، ثُمَّ أرسل إلى والي القرمان خسرو باشا الدلاتي يأمره بالانضمام في عسكر إيالته إلى مُحمَّد باشا، وأرسل إليه أيضًا جمعًا من السپاهية والسلحداريَّة والإنكشاريَّة. وفي أثناء مسير الطائفة الأخيرة نحو آمد، مرُّوا بِحصن زياد و«أرغني»، وكانتا في أيدي الصفويين بعد، فحاصروها وأخذوهما بِحد السيف، وقتلوا كُل من وجدوا فيهما من القزلباش.[60] وما أن وصل المدد إلى مُحمَّد باشا حتَّى خرج من آمد وسار لِقتال قراخان، فالتقى الفريقان خلال شهر ربيعٍ الآخر 922هـ المُوافق فيه شهر أيَّار (مايو) 1516م عند دُنيصر، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثُمَّ أُصيب قراخان بِرصاصةٍ أودت بِحياته، وقُتل من جُنُوده قُرابة عشرة آلاف قزلباشيّ، وولَّى البقيَّةُ هاربين، فتبعهم العُثمانيُّون يقتلون ويأسرون. وأرسل مُحمَّد باشا أُنُوف القتلى وآذانهم مع رأس قائدهم قراخان إلى العتبة السُلطانيَّة، فولَّاه السُلطان على ديار بكر وكلَّفهُ بِتسخير ما تبقَّى من قلاعٍ بِأيدي الصفويين، فجدَّ في مُهمَّته حتَّى أخرجهم جميعًا بِاستثناء حامية ماردين التي استمرَّت عصيَّة على العُثمانيين بضع سنينٍ أُخريات،[60] بِقيادة سُليمان خان توركمن.

يجدُرُ بِالذكر أنَّ مُحمَّد باشا البيقلي ضمَّ خلال حملته هذه مدينتيّ البيرة والرقَّة، فأصبحت الأراضي العُثمانية تُتاخم الحُدُود المملوكيَّة بل تتداخل معها،[45] وأدَّى هذا إلى جانب الأسباب المُتراكمة العديدة إلى نُشُوب الحرب بين الدولتين العُثمانيَّة والمملوكيَّة. أمَّا بِالنسبة لِلصفويين، فعلى الرُغم من قساوة الضربة التي أنزلها بهم السُلطان سليم، إلَّا أنَّها لم تكن القاضية، بل أضعفت طوقهم وقضت على القوى المحليَّة التي أقامها الشاه إسماعيل في وجه العُثمانيين، ممَّا سمح لهُ أن يستعيد قُوَّته ويُعيد تنظيم جيشه وبناء دولته.[50]

دُخُول الإخوة بربروس في طاعة السُلطان سليم

[عدل]
رسمٌ هولنديٌّ تخيُّليٌّ منَ القرن السابع عشر الميلاديّ للأخوين عرُّوج (يسار) وخير الدين (يمين).

خِلال السنوات التي أمضاها السُلطان سليم في مُحاربة الصفويين، كان الإخوة عرُّوج وخير الدين خضر وإسحٰق بربروس يُجاهدون في الحوض الغربي لِلبحر المُتوسِّط، فيأسرون السُفُن الأوروپيَّة ويدفعون الاعتداءات الغربيَّة عن سواحل بلاد المغرب، ويُنجدون الهاربين من المورسكيين الأندلُسيين. وقد حظي الإخوة بربروس بِدعم السُلطان أبي عبد الله مُحمَّد بن الحسن المُتوكِّل الحفصي، فأعطاهم قلعة حلق الواد وسمح لهم بِاتخاذها مُنطلقًا ومركزًا لإدارة عمليَّاتهم العسكريَّة، مُقابل منحه خُمس غنائم الغزوات.[61] واشتهر عرُّوجٌ وأخويه بِكفائتهم وقُدراتهم الحربيَّة والملاحيَّة في كامل أنحاء أوروپَّا، لِكثرة ما أسروا من السُفُن، أبرزها غليونان كبيران من غلايين البابا ليون العاشر، كان كُلٌ منهما يسيرُ بِواسطة خمسين زوجًا من المجادف. وكان عرُّوج دائم الاستعراض لِقُوَّته، فرسا في جزيرة ميورقة ورفع فيها رايةً إسلاميَّة، وأبحر في خليج جنوة والبحر الليغوري وعلى ساحل سردانية وهاجم عدَّة موانئ، ونقل بِالتعاون مع أخويه آلاف الأندلُسيين المُسلمين واليهود الهاربين من اضطهاد محاكم التفتيش الإسپانيَّة، وحملوهم إلى المغرب.[61] وفي أوائل سنة 1515م حقَّق خير الدين خضر انتصارًا مُبهرًا على الإسپان، فاستولى على عشرين سفينةٍ من سُفُنهم وأسر 3,800 جُندي وبحَّار، فهرع إليه الكثير من الربابنة والقباطنة العُثمانيين والتحقوا بِأُسطوله وأُسطُول أخويه، وكان من أبرز هؤلاء مُحيي الدين أحمد القرماني (پيري ريِّس)، وآيدن ريِّس، ومُصلح الدين ريِّس بن قورد، وصالح ريِّس، إضافةً إلى ابنيّ خير الدين نفسه: حسن الأكبر (بيوك حسن) وحسن الأصغر (كُجُك حسن).[61]

خريطةٌ لِساحل المغرب الأوسط تَظهرُ أسْفَلَها (في الشرق) بُجّاية وقلعتُها، وأعلاها (في الغرب) الجزائرُ وقلعتُها، وبينهما قلعة تنس. رسمٌ للقُبطانِ مُحيي الدين پيري ريِّس في القرن السادس عشر الميلاديّ.

كان عرُّوج مُقتنعًا بِوُجُوب تأسيس دولةٍ قويَّةٍ في المغرب لِإمكان صد الاعتداءات الأوروپيَّة عن سواحل ديار الإسلام، وأراد أولًا تحقيق ذلك في إفريقية، لكنَّها كانت معقل الحفصيين، وكانوا ما يزالون مُتمكنين من أمرهم، ومن المُحتمل أن تُؤدي إزالتهم إلى نُفُور رعيَّتهم من آل بربروس. وكان المغرب الأقصى معقل الدولة الوطاسيَّة، أمَّا المغرب الأوسط فكان معقل الدولة الزيانيَّة المُفتتة بِفعل الغزوات الإسپانيَّة المُتكررة، وكان الإسپان قد احتلُّوا بالفعل العديد من مُدُنها كوهران وتنس وهنين، وحاولوا التقدُّم نحو العاصمة تلمسان، لِذا رأى عرُّوج أنَّ هذه المنطقة هي الأنسب لإقامة دولته بعد تخليصها من أيدي الإسپان.[61] لكنَّ تحقيق هذا المشروع كان يحتاج مزيدًا من السُفُن والذخائر والجُنُود والبحَّارة المُتمرسين، وما كان بِحوزة الإخوة بربروس سوى إثنا عشر سفينةٍ حربيَّة وقُرابة ألف جُندي لاوندي[ه]، كما انضمَّ إليهم الكثير من المُسلمين المغاربة، لكنَّ هؤلاء لم يكونوا بحَّارة ولا خبرة لهم كالجُنُود النظاميين، لِذا كان لا بُدَّ من توجُّه الإخوة إلى وطنهم الأُم، وطلب المدد من السُلطان سليم. وكان عرُّوج بدايةً يخشى الاتصال بِالسُلطان خوفًا من أن يكون قد أهدر دمه، كونه كان من أتباع الشاهزاده قورقود، ولمَّا علم بِإعدامه خاف على نفسه، ولم يجرؤ على الاقتراب من السواحل العُثمانيَّة. لكن ما لبث هذا الخوف أن تبدَّد لمَّا تواترت أنباء انتصارات العُثمانيين على الصفويين، واتضحت نوايا السُلطان سليم وسياسته الإسلاميَّة الجامعة، فتشجَّع عرُّوج على الاتصال به، وأرسل إلى إسلامبول مُحيي الدين پيري ريِّس وحمَّلهُ هدايا ورسالةً يُعلن فيها ولاء الإخوة بربروس لِلدولة العُثمانيَّة وطلبهم العون والمدد.[61]

استقبل السُلطان سليم پيري ريِّس في أوائل شهر مُحرَّم 922هـ الموافقِ لِشهر آذار (مارس) 1516م، وسُرَّ سُرورًا كبيرًا بِأخبار الجهاد البحري والانتصارات الإسلاميَّة المُتتالية، وتأمَّل الشيء الكثير من الإخوة بربروس في السياسة العُثمانيَّة تجاه المغرب، فأرسل إليهم سفينتين حربيتين مليئتين بِالذخائر والمدافع، إحداهما لِعرُّوج والأُخرى لِخير الدين، وسيفين حُلِّي مقبضاهما بِالألماس وخُلعتين سُلطانيَّتين ونيشانين. ويروي خير الدين في مُذكَّراته أنَّ السُلطان سليم لمَّا قرأ الرسالة رفع يديه بِالدُعاء قائلًا: «اللّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهَيْ عبدِيْكَ عَرُّوجَ وخَيرَ الدِّينِ في الدُّنْيا والآخرةِ، اللَّهُمَّ سَدّدْ رميتَهُما واخذِلْ أعداءَهُما وانْصُرْهُما في البرِّ والبحرِ». وأرسل السُلطان أيضًا رسالةً إلى نظيره الحفصي يحُثُّه فيها على مُساعدة الإخوة بربروس ويُحذِّره من التقصير في ذلك، وممَّا جاء في بدايتها: «إلى أميرِ تُونُس، إذا وَصَلَكَ كِتَابِيَ هَذَا فَعَلَيْكَ أنْ تعملَ بِهِ، واحذرْ أنْ تُخالِفَهُ، وإيَّاكَ وأنْ تُقصِّرَ في خدمةِ أيِّ عَوْنٍ لخادِمَيْنا: عَرُّوجَ وخَيرِ الدِّينِ». ويُضيف خير الدين أنَّهُ تقلَّد سيف السُلطان سليم وخُلعته في حفلِ بِمدينة تُونُس، وأنَّ بادرة السُلطان هذه زادت من شعبيَّته وسط عامَّة الناس بحيث تعالت أصوات المشايخ بِالدُعاء له والثناء عليه، في حين توجَّس السُلطان الحفصي خيفةً من هذا، إذ شعر أنَّ العُثمانيين باتوا يُشكِّلون خطرًا حقيقيًّا يُهدد مُلكه بالزوال.[63]

حرب المماليك

[عدل]

أسباب الحرب

[عدل]
خريطة توضح تجاور الدُول العُثمانيَّة والصفويَّة والمملوكيَّة، والنُتُوء المملوكي (في الدائرة) الفاصل بين بعض المُمتلكات العُثمانيَّة.

شكَّل انتصار السُلطان سليم في چالديران مُفاجأةً غير مُتوقَّعة لِلمماليك، ولم يستطع السُلطان الغوري وأُمراء دولته إخفاء خيبة أملهم من نتيجة تلك الواقعة الفاصلة، فلم يبتهجوا لِهذا الانتصار كما أُسلف. والحقيقة أنَّ المماليك كانوا قد بدأوا يُقابلون بِشيءٍ من الفُتُور تنامي العلاقة بينهم وبين العُثمانيين مُنذُ عهد السُلطان مُحمَّد الفاتح، بعد أن شعروا بِتعاظُم شعبيَّة العُثمانيين بين المُسلمين نتيجة فتحهم القُسطنطينيَّة وانتصاراتهم الكبيرة المُتتالية على الأوروپيين، في الوقت الذي أخذت فيه معالم الشيخوخة والضعف تظهر على الدولة المملوكيَّة، فلم يطل الأمر حتَّى بدأ المماليك يتوجَّسون خيفةً من العُثمانيين، فتبدَّلت نظرتهم إليهم من مشاعر الاعتزاز إلى مشاعر الغيرة.[64] وكان التنافس على زعامة المُسلمين قد بلغ آنذاك أشُدَّه بين القوى الإسلاميَّة الثلاث: العُثمانيين والمماليك والصفويين، ما دفع السُلطان سليم إلى الاصطدام بالصفويين وتحجيم قُوَّتهم، ومن ثُمَّ الالتفات نحو المشرق العربي لِلاصطدام بِالمماليك. وكان السُلطان الغوري يُدرك تمامًا أنَّ المُنتصر من الجانبين سيعمل على تصفية الموقف في المشرق عبر الاصطدام بِدولته، ومن ثُمَّ كان عليه أن يتخذ موقفًا من التطوُّرات السياسيَّة والعسكريَّة إمَّا عبر الوُقُوف في صف أحد الطرفين، أو عبر التزام الحياد. ويبدو أنَّهُ رأى أنَّ انضمام المماليك إلى جانب العُثمانيين يخل بِالتوازن اختلالًا شديدًا لِصالح هؤلاء، الذين قد يُشكلون خطرًا عليهم إن هم أرادوا التوسُّع في البلاد العربيَّة، أمَّا انضمامه إلى الصفويين فكانت تعترضه عقباتٍ عدَّة، أبرزها المذهبيَّة.[64] لِهذا فضَّل الغوري الوُقُوف على الحياد، تاركًا الدولة العُثمانيَّة وحيدةً في مُواجهة الصفويين، بِدون تبصُّرٍ بِنتائج ما قد يقوم به الشاه في حال انتصاره، من أعمالٍ عُدوانيَّةٍ مُتزايدةٍ ضدَّ المماليك، لا سيَّما وأنَّ الشاه بعد خسارته ديار بكر والجزيرة الفُراتيَّة والجُزء الأكبر من كُردستان، كان يجتهد في تكوين اتحادٍ ضدَّ العُثمانيين من الدُول الأجنبيَّة المُنافسة لِلدولة العُثمانيَّة، وفي مُقدِّمتها الإمبراطوريَّة الپُرتُغاليَّة التي كانت تُهدِّدُ الهيمنة الإسلاميَّة عُمومًا، والمملوكيَّة خُصوصًا، في بحر القلزم (الأحمر) والمُحيط الهندي.[64][65] ومن جهةٍ أُخرى، أدَّت العمليَّات التوسُّعيَّة العُثمانيَّة في ديار بكر وقيليقية إلى تداخل حُدُود الدولتين، بحيثُ لم يعد العُثمانيُّون قادرون على وصل بلادهم ببعضها إلَّا بِالدوران حول النُتوء المملوكي المُتمثِّل بِأعالي الجزيرة الفُراتيَّة، والذي كان يمتد بعيدًا عن عينتاب وملطية إلى الشمال بين سيواس وأرزنجان، وقد شكَّل ذلك عقبةً استراتيجيَّةً أثارت القلق لدى السُلطان سليم من منظور شن عمليَّاتٍ أُخرى في المُستقبل على الدولة الصفويَّة.[66]

رسمٌ يُصوِّرُ السُلطان سليم مُجتمعًا مع ديوان حربه في سبيل البت بمسألة حرب المماليك.

وتأكَّدت مخاوف السُلطان لمَّا عزم إعادة الكرَّة على الدولة الصفويَّة بُعيد انتصاره في دُنيصر، فأرسل الصدر الأعظم سنان باشا الخادم في أربعين ألف مُقاتل وأمره بأن يسير من طريق ملطية ويمكث في حُدُود ديار بكر إلى أن يصل إليه الموكب السُلطاني، علمًا بأنَّ ملطية وأعمالها كانت حينذاك تدخل ضمن نطاق الدولة المملوكيَّة. ولمَّا وصل الصدر الأعظم إلى حُدُود المدينة أرسل إلى أميرها يستأذنه في العُبُور منها إلى ديار بكر، فلم يُجبه الأمير المذكور إلى ذلك بإيعازٍ من السُلطان الغوري. وفي الحقيقة لم يكن مُحرِّك هذا الرفض سوى الشاه إسماعيل نفسه، الذي راسل الغوري والتمس منهُ أن يُصلح بينه وبين السُلطان سليم، أو يمنعه من العُبُور إلى إيران عبر الأراضي المملوكيَّة، فاستجاب لهُ الغوري وحال بين العُثمانيين والصفويين.[67] ويبدو أنَّ مُراسلة الشاه لِلسُلطان الغوري لم تكن الغاية منها إقامة حلفٍ بين الدولتين، لأنَّ الشاه كان يُكِّنُّ في نفسه كراهيَّةً لِلسُلطان المملوكي لا تقل عن كراهيَّته لِلسُلطان سليم، وإنَّما غايته الفعليَّة كانت إلهاء العُثمانيين ريثما يعمل على إعادة تثبيت حُكمه في إيران. ولم يؤدِّ هذا التعاون المملوكي الصفوي إلَّا لِمزيدٍ من التردِّي في العلاقة بين العُثمانيين والمماليك، إذ عدَّ السُلطان سليم هذه المُحاولة طعنة لِلدولة العُثمانيَّة من الخلف، ومظهرًا من مظاهر العداوة السافرة، الأمر الذي لعب دورًا في تسريع الحرب بين الدولتين.[68] وفي ذلك يقول المُؤرِّخ ابن أبي السرور البكري المصري: «وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِي تَحَرُّك مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ عَلَى أَخْذِ مِصْرَ مِنْ السُّلْطَانِ الْغُورِيِّ، مُصَافَاتِهِ لِشَاهِ إِسْمَاعِيل، الَّذِي كَانَ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ... وَحِين ذَهَب مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ لِقِتَال شَاه إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور، أَرْسَل الْغُورِيّ مَنَع الْقَوَافِل مِن حَلَب عَن عَسْكَر مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ. وَحِين بَلَغ مَوْلَانَا السُّلْطَانِ سَلِيمْ ذَلِكَ تَحَرَّك لِأَخْذ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ».[69]

مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ وُقُوف الأمير خاير بك الجركسي (أسفل اليسار)، نائب السلطنة في حلب، بين يديّ السُلطان سليم مُعلنًا ولاءه ودُخُوله في تبعيَّة الدولة العُثمانيَّة وخلعه طاعة السُلطان الغوري.

بناءً على هذا، شاور السُلطان سليم الوُزراء والأعيان في أمر المماليك، ومدى صحَّة تقديم قتالهم على قتال الصفويين، فسكتوا جميعهم ولم يرغب أحد بدايةً في دعم حربٍ يُريق فيها المُسلمون دماء بعضهم، ثُمَّ برز من بين الحُضُور وزيرٌ يُدعى مُحمَّد باشا بن خواجة، وكان من فُضلاء عصره، وقال أنَّ الأصوب والأهم إزالة المانع الذي يحول دون توحيد المُسلمين في دولةٍ واحدةٍ، وذلك لا يكون إلَّا بِقتال المماليك، فوافق ذلك رأي السُلطان.[67] وسيطر على إسلامبول جوٌّ محمومٌ لِلحرب التي صوَّرها العُثمانيُّون ضدَّ المماليك كما لو أنها كانت واجبًا على كُلِّ مُسلمٍ خوضها، وتمكَّن السُلطان سليم من استصدار ثلاث فتاوى تُجيز لهُ حرب المماليك بِحُجَّة تعاونهم مع الكُفَّار.[70] بِالمُقابل، لم يتردَّد المماليك بِإثارة الناس ضدَّ العُثمانيين، فوصموا السُلطان سليم بِالارتداد عن الإسلام، سيَّما وأنَّهُ يحلق لحيته ويرتدي القفطان والعمامة الكبيرة، بدلًا من الملابس الإسلاميَّة التقليديَّة. لكنَّ تلك الاتهامات لم تُفضِ إلى أي نتيجة وسط اتساع التعاطف الشعبي مع العُثمانيين في الديار المصريَّة والشَّاميَّة، فعمد المصريُّون إلى عرقلة تدابير السلطنة المملوكيَّة لِلتعبئة العامَّة، ومن ذلك أن هجر الكثير من الفلَّاحين قُراهم والتجأوا إلى الشَّام تاركين خلفهم محاصيلهم. وفي القاهرة أقفل الخيَّاطون وصُنَّاع الأسلحة حوانيتهم، وتعالت في الشوارع التهديدات والشتائم المُوجَّهة ضدَّ السُلطان الغوري.[70] أمَّا في الشَّام فكان الوضع أسوأ، حيثُ أنَّ الفلَّاحين الشوام لم يكتفوا بِتقويض تدابير التعبئة العامَّة، بل أخذت قُرى ومناطق بِأسرها تخرج عن طاعة المماليك وتُعلن ولائها لِلسُلطان سليم، وفي مُقدمتها أعمال حلب، ويذكر ابن إياس أنَّ سبب هذه النقمة في الشَّام تحديدًا هو تعسُّف واستبداد نُوَّاب السلطنة،[70] ويُضيف المُؤرِّخ التُركي يلماز أوزتونا أنَّ من أسباب النقمة في مصر انفصال سلاطين وأُمراء وأشراف المماليك المُتأخرين عن واقعهم وعن شعبهم، فكانوا على سبيل المِثال يظنون أنَّ قُدراتهم العسكريَّة ما تزال كما كانت زمن السُلطان الظاهر بيبرس، كما لم يكونوا مُلتحمين بِالشعب ويستشعرون الامتياز عن عامَّة الناس بحيثُ أنَّ أكثرهم لم يكن يفهم العربيَّة، وكانت لهم امتيازاتهم الإقطاعيَّة الكبيرة التي كفلت لهم حياةً مرموقةً رُغم تدهور اقتصاد الدولة المملوكيَّة في تلك الفترة.[71] يقول العلَّامة مُحمَّد كُرد علي: «كَانَتِ الشَّامُ أُخْتُ مِصْرَ فِي آخِرِ الدَّوْلَةِ الشَّرْكَسِيَّةِ تُقَاسِمُهَا شقَائِهَا شِقَّ الأَبْلَمَة، فَيَسْتَبِدُّ الْمُتَغَلِّبَةُ مِنَ الْمَمَالِيكِ بِالْأَحْكَامِ بِحَسْبِ ضِعْفَ صَاحِبَ مِصْرَ وَقُوَّتِهِ، وَالصَّالِحُ فِي نُوَّابِهَا وَمُلُوكِهَا قَلِيلٌ. وَلَمْ يَسْعَد الْقُطْرَانِ بَعْدَ فِتْنَةِ تَيْمُورَلَنك بِسُلْطَانٍ عَادِلٍ يَطُولُ عَهْدُهُ لِيَعَرِفَ مَوَاقِعَ الضِّعْفِ فَيَسُدْ خَلَلُهَا، وَيُزِيحَ بِحُسْنِ الْإِدَارَةِ عِلَلَهَا… أَحَسَّ أَكْثَرُ النَّاسِ بِمَا عَرَّضَ لِلدَّوْلَةِ مِنَ الضِّعْفِ فَأَخَذُوا يَتَطَلَّعُونَ إِلَى الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَكَانَتْ إِلَى الشام وَمِصْرَ أقْرَبَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْكُبْرَى… وَقَدْ وَقَرَتْ فِي النُّفُوسِ مُنْذُ أَسَّسَ بُنْيَانِهَا السُّلْطَانَ عُثْمَانَ التُّرْكُمَانِيِّ…».[72]

حلب القديمة، كان عُلماؤها وأعيانها في مُقدِّمة من راسل السُلطان سليم في سبيل إعلان الولاء والطاعة له بعد ضعف الدولة المملوكيَّة وانتشار الفساد والظُلم في بلادها.

ولم يقتصر انتشار المشاعر المُعادية لِلسلطنة المملوكيَّة في أوساط العامَّة فحسب، بل انتقلت إلى صُفُوف الجيش، فانخفضت درجة الانضباط بِصورةٍ كبيرة، وأخذ الجُند يتمرَّدون ويُعيثون فسادًا في الشوارع، وانضمَّ إليهم بعض أُمراء المماليك وصاروا يصيحون مُطالبين السُلطان بالسير على نهج أسلافه ووضع حدٍ لِلظُلم. ورفض قُرابة ألف جُندي مغربي كانوا نُواة مدفعيَّة المماليك الاشتراك في القتال عُمومًا، وأعلنوا أنَّهم لن يُحاربوا إلَّا الإفرنج ولن يرفعوا السلاح بِوجه إخوانهم المُسلمين. أدَّت تلك المشاعر التي اجتاحت البلاد والعباد إلى إعدام عددٍ كبيرٍ من أُمراء المماليك بِتُهمة الخيانة، فما كان من نتيجة ذلك إلَّا أن أخذ عددٌ منهم يتواصل سرًّا مع العُثمانيين ويُزوِّد السُلطان سليم بِمعلوماتٍ عن الأوضاع في مصر، وكان في مُقدِّمة هؤلاء الأمير خاير بك الجركسي نائب السلطنة في حلب.[70] بل إنَّ العُلماء في مصر التقوا سرًّا بِالسفير العُثماني واشتكوا لهُ من الأوضاع والمظالم التي طالت الرعيَّة في عهد السُلطان الغوري، وأعلموه أنَّهم ينتظرون السُلطان سليم لِيأتي وينتشل البلاد ممَّا هي فيه. وكذلك فعل عُلماء وأعيان وقُضاة وأشراف حلب، فبعد أن اجتمعوا وتدارسوا الوضع، قرَّروا كتابة عريضة باسم الأهالي ضمَّنوها مطالبهم لِلسُلطان العُثماني، وذكروا فيها أنَّ أهل الشَّام قد ملُّوا من تعسُّف المماليك، وأنَّ رجال الإدارة والحُكم يُخالفون الشريعة الإسلاميَّة، وإنَّهم مُستعدون لِلترحيب بِالسُلطان إن رغب بِالسيطرة على الديار الشَّاميَّة.[73] وهكذا ساهمت جميع هذه العوامل المُشجِّعة إلى التعجيل بِمضيّ العُثمانيين قدمًا في مشروع القضاء على الدولة المملوكيَّة وضم المشرق العربي.

خُرُوج الحملة الهمايونيَّة إلى الشَّام

[عدل]

خرج السُلطان سليم من إسلامبول وعبر إلى أُسكُدار يوم الخميس 4 جُمادى الأولى 922هـ المُوافق فيه 4 حُزيران (يونيو) 1516م، وعيَّن لِمُحافظة أدرنة ولده الشاهزاده سُليمان، ولإسلامبول الدفتردار پيري باشا، ولِمُحافظة بورصة الصدر الأعظم السابق أحمد باشا بن هرسك. ولمَّا وصل الموكب إلى قونية أرسل السُلطان إلى مُحمَّد باشا البيقلي، الذي انتصر قبل نحو شهرٍ على الصفويين، أن يلحق به عند عُبُوره من الفُرات.[67] ولمَّا علم السُلطان الغوري بِأنباء التحرُّك العُثماني، حرَّك هو الآخر جيشه الذي خرج به من القاهرة، واصطحب معهُ الخليفة العبَّاسي مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله وقُضاة المذاهب الأربعة وكبار الأُمراء والقادة ومشايخ الطُرُق الصوفيَّة، وسار حتَّى دخل حلب يوم الخميس 10 جُمادى الآخرة 922هـ المُوافق فيه 10 تمُّوز (يوليو) 1516م.[74] ولمَّا علم السُلطان سليم بِوُصُول الغوري إلى حلب، أرسل إليه قاضي العسكر المولى رُكن الدين بن زيرك والأمير قراجة باشا وحمَّلهما كتابًا قال فيه: «السُّلْطَانُ وَالِدِي وَأَسْأَلُهُ الدُّعَاء، لَكِنْ لَا يَدْخُلُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصُّوفِيّ فَإِنِّي مَا أَرْجِع عَنْهُ حَتَّى أَقْطَع جَادِرَتَهُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا تَدْخُلُ بَيْنَنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الصُّلْح»، وطلب منهُ بعض السُكَّر والحلوى المصريَّة الفاخرة.[74] ولم تكن هذه الرسالة والمُبادرة السلميَّة سوى حركةً بارعةً من السُلطان سليم هدف من خلالها أن يُثني عزم الغوري عن القتال.[75] اطمأنَّ السُلطان الغوري لِرسالة نظيره العُثماني، واعتقد أنَّ الأخير لا يُريد الحرب، وردَّ على الرسولين قائلًا: «لَوْلَا أَنَّهُ مِثْلُ وَلَدِي مَا جِئْت مِنْ مِصْرَ إلَى هُنَا بِأَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا حَتَّى نُصْلِح بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيل شَاه».[76]

وسُرعان ما فوجئ الغوري بتواتر الأخبار حول خلع الكثير من أُمراء القلاع والمُدن الطاعة المملوكيَّة ودُخُولهم في طاعة السُلطان سليم، ومن أبرز هؤلاء يُونُس بك أمير عينتاب، الذي أتى بنفسه وسلَّم مفاتيح المدينة لِلسُلطان العُثماني، إضافةً إلى أُمراء ملطية وبهسنى وكركر وغيرها.[74][77] وتحقَّق الغوري من أنَّ الصدام إذا نشب بين المماليك والعُثمانيين فقد يُؤدِّي إلى نتائج خطيرة بِالنسبة له، ولِذلك قرَّر أن يُرسل سفارةً من قبله إلى سليم، واستشار الأُمراء والأعيان في هذا الأمر، فاقتضى رأيهم أن يُرسل رجُلين من أهل العلم والدين لِحقن دماء المُسلمين. ولكنَّ الغوري لم يفعل ذلك، وأرسل كاتم سرُّه الأمير مغلباي الدوادار إلى السُلطان سليم لِيُؤكِّد لهُ رغبته في الصُلح، كما أمر عشرة من خيار العسكر بِاصطحابه.[76] وكان سليم قد وصل إلى مدينة البستان في 23 جُمادى الآخرة 922هـ المُوافق فيه 23 تمُّوز (يوليو) 1516م، فتوجَّهت إليه السفارة المملوكيَّة، ولمَّا دخلوا عليه قال لِمغلباي: «يَا مَغْلَبَاي، أُسْتَاذَكَ مَا كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُرْسِلُه لَنَا؟! وَإِنَّمَا أَرْسَلَك بِهَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ يُرْعِبَ بِهِم قُلُوبَ عَسْكَرِي وَيُخَوِّفُهُم بِرُؤْيَة أَجْنَادِه، وَلَكِنْ أَنَا أَكِيْدُه بِمَكِيْدَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَكِيدَتِه». وقبض على مغلباي وقتل من كان معهُ من الجُند، وكاد أن يشنقه، لكنَّ الصدر الأعظم سنان باشا الخادم شفع بِالقاصد المملوكي وذكَّر السُلطان أنَّ السُفراء لا يُقتلون لِمُخالفة ذلك لِحُقوق الدُول والمبادئ السائدة، فعدل السُلطان عن قتله واكتفى بِحلق شعره ولحيته، وأركبه على حمارٍ أعرج أجرب وأعادهُ إلى السُلطان الغوري،[75] وقال له: «قُل لِأُسْتَاذِك يُلَاقِيْنَا عَلَى مَرْجِ دَابِق». وبِهذا، لم يرَ الغوري مفرًّا من القتال، وأمر قُوَّاته بِالخُرُوج من حلب والاستعداد لِلحرب.[76]

واقعة مرج دابق

[عدل]
مُخطط واقعة مرج دابق، يُظهر تموضع الجيشان العُثماني والمملوكي.
نسخة مطبوعة من آخر رسالة لِلسُلطان سليم إلى السُلطان قانصوه الغوري. طُبعت هذه النسخة سنة 1275هـ في دار الطباعة العامرة بِإسلامبول.
مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ معركة مرج دابق. يظهر السُلطان سليم في أعلى اليمين والسُلطان الغوري في أعلى اليسار.

تقابل الجيشان العُثماني والمملوكي في مرج دابق شمال حلب يوم الأحد 25 رجب 922هـ المُوافق فيه 24 آب (أغسطس) 1516م،[78][79] وقُبيل المعركة كتب السُلطان سليم إلى الغوري لِآخر مرَّة يُعاتبه ويُعلمه بأنَّ النصر سيكون في جانب العُثمانيين وأنَّ عاقبة ظُلمه ستحلّ عليه. واللافت أنَّ كتاب السُلطان سليم هذا لم يتضمَّن تبجيلًا وتعظيمًا لِلغوري في ديباجته، كما في المُراسلات السابقة بين العاهلين، وإنَّما افتتحهُ سليم بِقوله: «إلى قانصوه الغوري أصلح الله شأنه»، كما كُتب بِالتُركيَّة وليس بِالعربيَّة. تألَّف الجيش العُثماني من قُرابة ستين ألف جُندي ومائة وخمسين مدفع بحسب التقديرات المُعاصرة،[la 28][la 29][la 28] بينهم قُرابة خمسة آلاف مملوك،[la 30] من جُملتهم 944 مملوكًا سُلطانيًّا (مماليك الغوري نفسه)،[la 31] وكذلك أعدادٌ من البدو والتُركُمان إلى جانب جُنُود المُقاطعات الشاميَّة والمصريَّة. ولم يستخدم المماليك المدافع والبنادق في حُرُوبهم الميدانيَّة، بل إنَّ جماعاتٌ كبيرة من جُنُودهم لم يكن لها عهد بِالسلاح الناري، وكانوا مُتشبثين بِالعُرف القديم القاضي بِأنَّ الشجاعة والبُطُولة الشخصيَّة هي العامل الفاصل في القتال.[80]

وقف نائب دمشق الأمير سيباي في ميمنة الجيش المملوكي، ونائب حلب خاير بك، المُوالي سرًا لِلعُثمانيين، في الميسرة. وكان السُلطان قانصوه الغوري والخليفة العبَّاسي في القلب،[77] وحولهما مشايخ الطُرُق البدويَّة والقادريَّة والرفاعيَّة. وقيل أنَّ أوَّل من برز إلى القتال كان الأتابكي سودون العجمي ونائب دمشق سيباي والمماليك القرانصة، فقاتلوا قتالًا شديدًا وتمكَّنوا من دفع العُثمانيين وقتلوا منهم فريقًا،[78] لكن ما لبث أن استعاد العُثمانيُّون زمام المُبادرة، وتمكَّنوا بِفضل تفوُّقهم العسكري والانقسام في قيادة المماليك العُليا من دحرهم والفتك بهم،[79] فقُتل الأتابكي سودون العجمي، وقُتل سيباي نائب دمشق، فانهزمت الميمنة وفرَّ من بها من العسكر لِلنجاة بأنفُسهم،[78] وفي هذه الفترة التي تحرَّج فيها القتال، سحب خاير بك - نائب حلب وقائد الميسرة - القُوَّات التي تحت إمرته، وأشاع هزيمة المماليك قائلًا: «الْفِرَار الْفِرَار، فَإِنَّ السُّلْطَانَ سَلِيمًا أَحَاط بِكُم، وَقَتْل الْغُورِيّ، وَالكَسْرَةُ عَلَيْنَا»، وأحدثت هذه الشائعة أثرًا خطيرًا، فأخذت الكتائب والفرق المملوكيَّة تنسحب رويدًا من المعركة.[79] وحاول الغوري تثبيت العسكر وأخذ يستغيثهم، لكنَّ أحدًا لم يُجيبه، وعلا الغُبار بين الجيشين بحيث صار الجُند لا يرى بعضهم بعضًا.[78]

رسمٌ يُصوِّرُ واقعة مرج دابق بين العُثمانيين والمماليك.
رسمٌ غربيٌّ يعود لِلقرن السادس عشر الميلادي، يُصوِّر تقابل السُلطان سليم (يمينًا) والخليفة العبَّاسي (يسارًا) بُعيد معركة مرج دابق.

وتتفق جميع المصادر على أنَّ السُلطان المملوكي لقى حتفه في هذه المعركة، أمَّا كيفيَّة وفاته فغير معروفة، فيقول ابن إياس أنَّ الغوري لمَّا تحقَّق لهُ الانكسار أصابه فالج في الحال، فطلب ماءً لِيشرب، ثُمَّ مشى به حصانه خطوتين فانقلب على الأرض ومات، وقيل فُقعت مرارته وخرج دمٌ من فمه، وقيل أيضًا أنَّه انتحر في ساعته.[78] ويقول مُنجِّم باشي أنَّ قلَّة (كُرة) مدفع كبير سقطت قُرب الغوري، فعرضهُ اضطرابٌ شديد من هولها، فخرج من بين عساكره هاربًا، لكنَّ جسده لم يُسعفه على الابتعاد كثيرًا من هول الصدمة، فطلب من غُلامه أن يبسط لهُ فراشًا قُرب نهرٍ لِيتوضَّأ، فاضطجع عليه وتُوفي ساعتئذٍ.[67] ويقول ابن إياس أنَّ أحدًا لم يعثر على جُثَّة الغوري، ولا يُعرف ما حلَّ به «فكأنَّ الأرض قد انشقَّت وابتلعته في الحال»،[78] في حين يقول مُنجِّم باشي أنَّ جاووشًا[و] عثر على السُلطان الغوري ميتًا على فراشه، فقطع رأسه وحمله إلى السُلطان سليم على أمل أن يُحسن إليه، فغضب عليه السُلطان لِقطعه رأس ميت ومُخالفته قواعد الأدب مع المُلُوك وإن كانوا أمواتًا، فأراد قتله، ثُمَّ شفع فيه الوُزراء، فاكتفى بِعزله عن وظيفته.[67] وأنشد ابن إياس في هذه المُناسبة قائلًا:[78]

إعجبوا لِلأشرف الغوريِّ الذي
مُذ تزايد ظُلمه في القاهرة
زال عنهُ مُلكُهُ في ساعةٍ
خسر الدُنيا إذًا والآخرة

وقد امتدَّت هذه الواقعة من الضحوة إلى العصر، وتتبَّع العُثمانيُّون فُلُول المماليك المُنهزمين يقتلون منهم ويأسرون، وحاول هؤلاء الدُخُول إلى حلب لولا أن أغلق الأهالي أبواب مدينتهم في وجههم، فاضطرُّوا إلى الهرب نحو دمشق في ظُرُوفٍ قاسية. وغنم الجُند العُثمانيين جميع ما في المُعسكر المملوكي من سلاحٍ وأرزاقٍ ومالٍ وتُحفٍ، فكانت مغانمهم لا حصر لها، وأقام السُلطان سليم في سرادق السُلطان الغوري قبل أن يأمر الجيش بِمُتابعة الزحف نحو حلب.[79] وكان من أبرز أُمراء المماليك الذين قُتلوا في هذه المعركة، إلى جانب سودون العجمي وسيباي نائب دمشق: أقباي الطويل وتمراز نائب طرابُلس الشَّام وطربيه نائب صفد وأرسلان نائب حِمص.[78] ووقع الخليفة العبَّاسي مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله في أسر العُثمانيين، فأحاطهُ السُلطان سليم بِالتكريم وجلس بين يديه وخلع عليه، وأنعم عليه بِمالٍ وردَّهُ إلى حلب، ووكَّل به أن لا يهرب، أي وضعهُ في إقامةٍ جبريَّةِ بالمدينة،[82] ثُمَّ استعدَّ لِيسير بِجيشه ويدخلها.

ضمّ الديار الشَّاميَّة إلى الدولة العُثمانيَّة

[عدل]
جامع الأطروش في حلب، حيثُ صلَّى السُلطان سليم أوَّل صلاة جُمُعة بُعيد ضم المدينة إلى الدولة العُثمانيَّة.

بعد انتصاره الكبير، سار السُلطان سليم على رأس جيشه حتَّى وصل مدينة حلب، فخرج أهلها إلى لقائه بِالمصاحف والأعلام وهم يُسبِّحون ويُهللون ويتلون الآية القُرآنيَّة: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ، وطلبوا منه الأمان، فأجابهم إلى سؤالهم وقابلهم بِمزيد الإجلال والتعظيم وأكرمهم بِوافر الصدقات.[82][83] ودخل السُلطان المدينة يوم 29 رجب 922هـ المُوافق فيه 28 آب (أغسطس) 1516م، وكانت حينذاك مدينةً عامرةً بِالتجارة والثراء ويقطُنها قُرابة مائتيّ ألف نسمة أغلبهم يُزاول التجارة على نطاقٍ واسع.[77][79] وتسَّلم السُلطان قلعة المدينة بِالأمان ووجد فيها أموالًا عظيمة من النُقُود والأمتعة والأسلحة والتُحف التي كان المماليك قد جمعوها فيها، وبحسب ابن إياس فقد بلغت قيمة هذه المتاع نحو «مائة ألف ألف دينار وثمانُمائة ألف دينار»، بينما قدَّرها مؤرخون عُثمانيُّون بِمليون دوقيَّة.[82] ومكث السُلطان سليم في حلب ثمانية عشر يومًا نظَّم فيها شؤون المدينة وأعمالها، فعُومل الحلبيُّون وكأنَّهم من الرعايا العُثمانيين مُنذُ القِدم،[77] ووُلِّي عليهم الأمير قراجة باشا، وفُوِّض القضاء إلى كمال چلبي الشهير بـ«جولمكجي زاده»، والدفترداريَّة إلى عبدي چلبي بن عبد الله باشا. وأرسل السُلطان مبعوثين من جانبه لِاستلام مُدن الأقاليم الشَّاميَّة الشماليَّة وقيليقية ممَّا لم يدخل تحت جناح الدولة العُثمانيَّة بعد، فأطاعت كُلُّها وكانت نحو ثلاثين مدينة، أبرزها: طرندة وديوريكي وأنطاكية وسيس وأضنة وطرسوس وقلعة الروم، وغيرها.[67][79] وبايع أهل حلب السُلطان سليم على السمع والطاعة بِحُضُور الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل على الله، ونائب السلطنة الأسبق خاير بك، والقُضاة الثلاثة:[82] كمال الدين الطويل الشافعي، ومُحيي الدين بن الدميري المالكي، وشهاب الدين الفُتُوحي الحنبلي، أمَّا قاضي القُضاة الحنفي محمود بن الشحنة فكان قد هرب مع العسكر المملوكي إلى دمشق. وعند البيعة أظهر السُلطان سليم التعظيم والتبجيل لِلخليفة العبَّاسي مُجددًا، وجلس بين يديه، وأُشيع أنَّهُ تعهَّد لهُ بإعادة الخلافة العبَّاسيَّة إلى بغداد كما كان الحال قبل سُقُوطها على يد المغول. أمَّا القُضاة فيُروى أنَّهُ وبَّخهم قائلًا: «إِنْتُوا تَأْخُذُوا الرِّشْوَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَسْعُوا بِالْمَالِ حَتَّى تَتَوَلَّوْا الْقَضَاء. لَيْش مَا كُنْتُوا تَمْنَعُوا سُلْطَانِكُم عَنْ الْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا بِالنَّاس؟».[84] وأدَّى السُلطان أوَّل صلاة جُمُعةٍ لهُ في حلب بِجامع الأطروش، فزُينت المدينة ودُعي له على جميع منابرها ومنابر أعمالها،[84] وفي الخطبة، دعا إمام المسجد لِلسُلطان سليم مُلقِّبًا إيَّاه بِـ«خادم الحرمين الشريفين»، وهو اللقب الذي توارثه السلاطين المماليك مُنذُ قيام دولتهم عن السلاطين الأيُّوبيين، فأصبح سليمٌ بِهذا أوَّل من حمل هذا اللقب من سلاطين بني عُثمان، ويُروى أنَّهُ قال: «الْحَمْدُ لله الَّذِي حَصَلَ لِي هَذَا الْمَقَامِ»، وحين نزل الخطيب من منبره خلع عليه جميع ما كان يلبسه من مفاخر اللباس.[83]

رسمٌ لِلأمير فخر الدين عُثمان المعني وهو يقف بين يديّ السُلطان سليم داعيًا لهُ بِالعزَّة والنصر والتمكين.

بعد ترتيبه شؤون حلب، خرج السُلطان بجيشه مُتابعًا زحفه جنوبًا صوب دمشق، فوصل حماة يوم 23 شعبان 922هـ المُوافق فيه 20 أيلول (سپتمبر) 1516م،[79] فتسلَّمها بِالأمان وأقطعها لِأحد من خواص خُدَّام أبيه وهو «گوزلجه قاسم باشا»، وهو الذي تُنسب إليه قصبة قاسم باشا (بالتركية: Kasımpaşa)‏ في ناحية بك أوغلي بِإستانبول، وبعدها بِيومين وصل العُثمانيُّون إلى حِمص وتسلَّموها بِالأمان أيضًا، وفوَّض السُلطان إمارتها إلى «ابن حتمان».[67][79] وفي 13 رمضان 922هـ المُوافق فيه 9 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1516م كان السُلطان سليم يدُقُّ أبواب دمشق، فهرب منها المماليك نحو مصر، بينما خرج أهلها وهم يُهلِّلون ويُكبِّرون واستقبلوا حاكمهم الجديد وطلبوا منهُ الأمان، فأجابهم ودخل المدينة وعزم أن يشتي فيها، فإذن لِلعسكر في التفرُّق إلى المشاتي ولِكُلِّ من كان وطنه قريبًا أن يعود إليه.[67][79] وفي أوَّل جُمُعةٍ من دُخُوله المدينة، خُطب لِلسُلطان سليم على منبر الجامع الأُموي وسائر مساجد دمشق إعلانًا بِدُخُول البلاد تحت جناح الدولة العُثمانيَّة،[85] وفي أثناء ذلك تتابع دُخُول البلاد الشَّاميَّة في الطاعة، فتسلَّم السُلطان طرابُلس وبعلبك وبيت المقدس وصفد وغزَّة سلمًا،[67] ووفد عليه أُمراء الإقطاعيَّات الصغيرة أيضًا مُعلنين ولائهم، وكان في مُقدِّمة هؤلاء أُمراء جبل لُبنان وعلى رأسهم فخر الدين عُثمان المعني أمير الشوف، وجمال الدين اليمني أمير الغرب، وعسَّاف التُركُماني أمير كسروان. وبحسب الرواية الكلاسيكيَّة اللُبنانيَّة[ز]، فإنَّ فخر الدين المذكور ألقى خطبةً بليغةً أمام السُلطان سليم قال فيها:[89]

«اللَّهُمّ أَدِم دَوَامَ مَن اخْتَرْته لِمُلْكِك، وَجَعَلْتَهُ خَلِيفَةَ عَهْدِك، وَسَلَّطَّتهُ عَلَى عِبَادِكَ وَأَرْضِك، وَقَلَّدْتَهُ سُنَّتِك وَفَرْضِك، نَاصِر الشَّرِيعَة النَّيِّرَة الْغَرَّاء وَقَائِد الْأُمَّةِ الطَّاهِرَةِ الظَّاهِرَة، سَيِّدِنَا وَوَلِيُ نِعْمَتَنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالذَّكِيُّ الْفَاضِل، الَّذِي بِيَدِهِ أَزْمَةُ الْأَمْرِ بَادْشَاه أَدَامَ الله بَقَّاه وَفِي الْعِزّ الدَّائِم أَبْقَاه وَخَلَّدَ فِي الدُّنْيَا مَجْدِهُ وَنِعْمَاه وَرَفَعَ إلَى الْقِيَامَةِ طَالِعَ سَعْدَهُ وَبَلَغَهُ مَأْمُولَهُ وَقَصْدُه، مَنْ مَلَكَ الْمُلْكَ بِالْعَقْلِ وَالتَّدْقِيقِ ومَدَّهُ الله بِالْإِقْبَال وَالتَّوْفِيق. أَعَانَنَا الله بِالدُّعاءِ لِدَوَامِ دَوْلَتِهِ بِالسَّعْدِ وَالتَّخْلِيْدِ، بِأَنْعُمِ الْعِزِّ وَالتَّمْهِيدِ، آمِين»

فأُعجب السُلطان ببلاغة الأمير فخر الدين وبِفصاحته وجسارته، فأنعم عليه وقرَّبه، وقال: «هذا الرَّجل بالحقيقة واجبٌ أن يُدعى سُلطان البر»، ومُنذُ ذلك الوقت لُقِّب الأمير المعني بِهذا، وقُدَّم المعنيُّون على غيرهم من أُمراء جبل لُبنان.[89] مكث السُلطان سليم في دمشق قُرابة شهرين وثمانية عشر يومًا أمضاها في زيارة معالم المدينة والتعرُّف عليها، فأمر بِترميم وتوسيع جامع الشيخ مُحيي الدين بن عربي وضريح الملك الناصر صلاح الدين الأيُّوبي،[77][la 33] والجامع الأُموي، وفرَّق الإنعامات على سائر المساجد.[90] وأنشأ السُلطان أيضًا أوقافًا على مسجد الشيخ ابن عربي وبنى بِقُربه مطبخًا لِإطعام الفُقراء، وجعل لِلأوقاف ناظرًا يجمع غلَّتها، وبحسب ابن أبي السرور البكري فإنَّ السُلطان سليم كان أوَّل من اهتمَّ بِمقام ابن عربي من الحُكَّام المُسلمين.[83] واهتمَّ السُلطان خلال فترة إقامته بِدمشق بِمُجالسة عُلمائها ومشايخها، سيَّما الشيخ مُحمَّد البدخشي الذي زاره في الجامع الأُموي مرَّتين واستجلب دُعاءه.[91]

خُرُوج الحملة الهمايونيَّة إلى مصر

[عدل]
رسمٌ لِآخر سلاطين المماليك، الملك الأشرف أبو النصر طومان باي.

خِلال الوقت الذي كان السُلطان سليم يفرض فيه سيطرته على الشَّام، اجتمع أُمراء المماليك العائدون إلى مصر لِدراسة الموقف الناجم عن الهزيمة الكبيرة، واختيار سُلطانٍ جديدٍ يتولَّى القيادة ويعمل على تدعيم القُوَّة الدفاعيَّة لِلصُمُود أمام الزحف العُثماني. فوقع اختيارهم على طومان باي، الذي كان نائبًا عن السُلطان الغوري أثناء غيبته في الشَّام. امتنع طومان باي بدايةً عن قُبُول السلطنة خوفًا من الغدر الذي أصبح أبرز سمات المماليك في أواخر دولتهم، إضافةً لِعلمه بِالانقسامات الخطيرة بين صُفُوفهم والضيق الاقتصادي الذي كانت تُعاني منه الديار المصريَّة. لكنَّ أكابر الأُمراء أجبروه على القُبُول،[92] وجرت بيعته يوم 14 رمضان 922هـ المُوافق فيه 11 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1516م.[93] ولم يكن سليم من ناحيته مُتشوقًا لِلاستمرار في الحرب، فقد حقَّق هدفه الرئيسي وهو القضاء على التحالف المملوكي الصفوي،[92] لِذا حاول استقطاب طومان باي سلمًا، وكتب يعرض عليه الدُخُول في طاعته لقاء بقائه وجميع الأُمراء في مناصبهم، فقال: «إنَّ لَكُمْ الْأَمَانَ إِن سَلَّمْتُم لَنَا مِصْر، وَأَنْتُمْ عَلَى وَظَائِفِكُم، وَأَنَا أَكْسُو الْكَعْبَة، وَأُوَلِّي فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ مَنْ اخْتَارُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمُوا فَإِنَّا نَأْتِي إلَيْكُم».[94] وحمل هذه الرسالة إلى القاهرة أحد الأُمراء العُثمانيين المدعو مُراد بك الجركسي، فلمَّا عرضها على طومان باي غضب عليه وقتله،[95][96] ويُحتمل أيضًا أن يكون مقتل مُراد بك هذا قد وقع على أيدي الأُمراء المماليك دون رضى طومان باي، إذ يُعتقد أنَّ الأخير مال إلى قُبُول عرض السُلطان سليم لِمعرفته بِعدم مقدرة المماليك على التصدي لِلعُثمانيين الأقوياء، خاصَّةً بعد هزيمتهم المُدوِّية في مرج دابق، لكنَّ أُمرائه قتلوا الرسول لِإجبار سُلطانهم على الدُخُول في الحرب في سبيل الحفاظ على مُلكهم من الضياع.[97]

أثار قتل الرسول العُثماني سخط السُلطان سليم، وجعلهُ يعقد العزم على المضي قدمًا لِضم الديار المصريَّة إلى الدولة العُثمانيَّة. وما أن حلَّ الشتاء حتَّى تجهَّز السُلطان لِلخُرُوج إلى مصر، فوزَّع على الجُند خمسُمائة حِمل من الدراهم زيادةً على ما استحقُّوه من رواتبهم الدوريَّة، واشترى ألف قطارٍ[ح] من الجمال لِحمل المياه لِلعساكر، غير تلك التي خصَّصها لِخاصَّته وحاشيته، لِتُعين الجُمُوع خلال زحفهم في الصحراء. وكان الكثير من الأعيان والأُمراء يودُّون لو يمنعوا السُلطان عن الزحف نحو مصر وأخذها، إلَّا أنَّ أحدًا منهم كان لا يقدر على التفوُّه بِخلاف رأيه، خاصَّةً في هذه النُقطة.[95]

خريطة تُصوِّرُ مسار السُلطان سليم وجيشه وأُسطُوله من إسلامبول إلى الشَّام ثُمَّ مصر وأبرز المعارك التي دارت بين العُثمانيين والمماليك.

أرسل السُلطان سليم بدايةً الصدر الأعظم سنان باشا الخادم في خمسة آلاف فارس إلى غزَّة لِلاستكشاف والاستخبار، ولمَّا وصلت الأخبار إلى القاهرة بتحرُّك العُثمانيين، أرسل طومان باي الأمير جانبردي الغزالي، وهو أحد قادة الجيش المملوكي في واقعة مرج دابق، في ستَّة آلاف فارس إلى جانب غزَّة، بعد أن عيَّنه نائبًا لِلسلطنة في دمشق.[95] ولمَّا وصل المماليك إلى خان يونس بيَّتهم (هاجمهم ليلًا) سنان باشا وقاتلهم قتالًا شديدًا امتدَّ إلى اليوم التالي (26 ذي القعدة 922هـ = 21 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1516م)، ثُمَّ انكسر المماليك ولم يفلت منهم إلَّا جمعٌ قليل مع جانبردي الغزالي، ففرُّوا عائدين إلى مصر، وقُتل وأُسر ما عداهم. أرسل سنان باشا الأسرى ورُؤوس القتلى إلى السُلطان سليم،[95] الذي كان قد غادر دمشق حينذاك وتوجَّه لِزيارة بيت المقدس حيثُ صلَّى صلاة الحاجة في المسجد الأقصى، الذي أُنير ترحيبًا بِقُدُومه بِنحو 12,000 قنديل.[99]

ومن بيت المقدس توجَّه السُلطان إلى مدينة الخليل وزار الحرم الإبراهيمي، ثُمَّ ذهب إلى غزَّة حيثُ التحق بِسنان باشا، وأدَّى في المدينة صلاة عيد الأضحى، ومنها اتَّجه إلى سيناء وبدء باجتيازها مع جيشه العرمرمي. ومن المعروف أنَّ العُثمانيُّون تمكَّنوا من اجتياز صحراء سيناء خلال ثلاثة عشر يومًا فقط، وممَّا هوَّن عليهم ذلك كان هُطُول الأمطار في كُلِّ يومٍ تقريبًا، بحيثُ يُقدَّر أنَّ الجيش تمكَّن من اجتياز المسافة المُمتدَّة من قطية إلى القنطرة، البالغة 50 كيلومترًا، في يومٍ واحد. فقد ثبَّتت الأمطار الأرض الرمليَّة تحت أرجل الجُند، فلم يتعبوا لا هم ولا دوابهم في المسير، ولم يحصل لهم أي نقصٍ في المياه.[95][99] وسُرعان ما اجتاز العُثمانيُّون برزخ السويس، ودخلوا الديار المصريَّة، لِيبدأ الإعداد لِلمعركة الحاسمة التي كُتب لها أن تُسدل الستار على حياة الدولة المملوكيَّة.

واقعة الريدانيَّة

[عدل]
مثالٌ عن مدافع ثابتة من النوع الذي استخدمه المماليك دون أن يكون مُلائمًا لِلحُروب الميدانيَّة.

ما أن أُشيع بين الناس أنَّ العُثمانيين دخلوا مصر حتَّى اضطربت أحوال البلاد، وشرع أهالي القاهرة يُحددون أماكن في أطراف المدينة وجوانبها لِيختفوا فيها إذا ما جرى قتال، بل إنَّ بعض الناس عوَّل على حمل أهله وعياله في مراكب والتوجُّه بهم إلى أعالي الصعيد ريثما تستقر الأوضاع ويُنادى بِالأمان.[100] أمَّا السُلطان طومان باي فإنَّهُ رغب بِالتصدي لِلعُثمانيين عند الصالحيَّة قبل أن يصلوا إلى موارد المياه والرعي وقبل أن يحصل مُشاتُهم وفُرسانهم على راحتهم من مسيرتهم السريعة عبر صحراء سيناء. وكان ذلك اختيارًا مُوفقًا من الناحية الاستراتيجيَّة، إلَّا أنَّ السُلطان المملوكي لم يستطع تنفيذ ذلك إزاء مُعارضة كبار القادة والأُمراء الذين أصرُّوا على الوُقُوف عند الريدانيَّة، خارج القاهرة مُباشرةً.[92] وهدف أُمراء المماليك من وراء هذا أن يهزموا العُثمانيين ويُجبرونهم على التراجع إلى الصحراء ومُطاردتهم فيها وإبادتهم، ثُمَّ استرداد الشَّام بِيُسر.[99] وعمل طومان باي ومن معهُ على تقوية تحصينات الريدانيَّة على عجل، فنصب قُرابة مائتيّ مدفع حول المُعسكر، وسلَّح بعض الجُنُود بالبنادق، مُعتمدًا على الاشتباك مع العُثمانيين في معركةٍ طويلة.[92] والحقيقة أنَّ الجيش المملوكي حمل في طيَّاته بُذُور إخفاقه أمام الجيش العُثماني، فالمدافع التي نصَّبها طومان باي كانت مدافع ثابتة تُستخدم في الدفاع عن القلاع، ولا تُستعمل في الحُرُوب الميدانيَّة، كما عانى من فُقدان التُركُمان والأكراد الذين كانت بلادهم قد أصبحت جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة، ولا يُقاتلون إلَّا في جُيُوشها، فلم يعد بإمكانه إلَّا الاعتماد على خيَّالته التُركيَّة والشركسيَّة وفُرسان العربان، وكان الأخيرين لا يُركن لهم لِكُرههم الحروب النظاميَّة والميدانيَّة ولِعدم انتظامهم.[99]

طبعة حجريَّة تُصوِّرُ واقعة الريدانيَّة بِشكلٍ خياليٍّ، بحيثُ يبدو السُلطانان سليم وطومان باي وهما يتقاتلان عند أسوار القاهرة.
السُلطان سليم يُشاهد القتال من إحدى الهضاب.

أرسل السُلطان سليم الصدر الأعظم سنان باشا لِلاستطلاع والاستعلام عن الاستعدادات المملوكيَّة، فعاد إليه يقول أنَّ مدافع المماليك مُوجَّهة نحو طريق العادليَّة على اعتبار أنَّها الطريق المُلائم والمنطقي والمفتوح لِلوافدين إلى القاهرة، وبِهذا فلا يُمكن دُخُول المدينة قبل اجتياز الاستحكامات المملوكيَّة.[99] عندئذٍ رأى السُلطان أن يُباغت المماليك من موضعٍ آخر، فاستشار من يعلم طبيعة تلك البلاد، فاتَّفقت كلمتهم على النُزُول من جبل المُقطَّم، ورُتِّب الجيش بناءً على هذا، فقام في الميمينة الصدر الأعظم سنان باشا مع عسكر الأناضول، ومعهُ كُلٌ من علي بك بن شهسوار وفرُخشاد بك البايندري ومحمود بك الرمضاني، وقام في الميسرة الوزير يُونُس باشا مع عسكر الروملِّي وأُمرائها، وبين يديّ السُلطان الإنكشاريَّة وسائر طائفة القپوقوليَّة.[95]

وفي يوم 29 ذي الحجَّة 922هـ المُوافق فيه 23 كانون الثاني (يناير) 1517م، أمر السُلطان عدَّة كتائب عُثمانيَّة بِالتظاهر بِالهُجُوم، في حين سار هو بِبقيَّة الجيش ونزل من الجبل حسب الخطَّة، فأصبح خلف المماليك. ولمَّا شاهد طومان باي العُثمانيين خلفه أدرك حُلُول العاقبة التي كان يخشاها، واضطرَّ إلى الخُرُوج لِلصحراء المفتوحة ومُجابهة أعداءه، فلم يستفد من المدافع في شيء لِعدم إمكان تحريكها.[95][99]

وأمطر العُثمانيُّون المماليك بِالرصاص فحصدوهم حصدًا، وقُتل منهم ما لا يُحصى،[101] لكنَّ فُرسانهم استمرُّوا يُقاتلون بِشجاعتهم المعهودة، فهجم جانبردي الغزالي في نُخبةٍ من العسكر على الصدر الأعظم سنان باشا في الميمنة، فخرق الصُفُوف وحرَّك الجُند من مواضعهم وفرَّقهم، فاضطرَّ سنان باشا إلى مُباشرة القتال بِنفسه، فأصابه الغزالي بِجراحٍ بليغةٍ ثُمَّ انسحب، ولم تُمهل تلك الجراح الصدر الأعظم طويلًا، فتُوفي مُتأثرًا بها. ولم يستفد المماليك من شجاعة فُرسانهم شيئًا، فسُرعان ما انكسروا وقُتل جمعٌ عظيمٌ من أُمرائهم، وفرَّ طومان باي ناجيًا بِحياته بِاتجاه الصعيد، في حين فرَّ جانبردي الغزالي نحو الصالحيَّة.[95]

اغتنم الجُنُود العُثمانيُّون الكثير من الأسلحة والدواب والأقمشة والأمتعة والذخائر ممَّا تركه المماليك خلفهم،[101] وأمر السُلطان بِتتبًّع الهاربين وإعدام جميع الأسرى، فقُتل منهم عالمٌ عظيم. وكان ممن قُتل من القادة والأُمراء العُثمانيُّون في هذه المعركة: محمود بك الرمضاني، ويُونُس بك أمير عينتاب، وعلي آغا الخزندار، وغيرهم. ويُروى أنَّ السُلطان سليم حزن حُزنًا شديدًا لِمقتل سنان باشا، فبكاه وتأسَّف عليه قائلًا: «نِلْتُ مِصْر، وَفَقَدْتُ يُوسُفَ الَّذِي لَا تَعْدِلَهُ مِصْر بِوَجْه». بعد الواقعة، عيَّن السُلطان الوزير يُونُس باشا صدرًا أعظمًا، وحدَّد رجالًا لِضبط القاهرة في اليوم التالي، وأمر بِدفن القتلى.[95][99]

ضمّ القاهرة وحرب الشوارع مع المماليك

[عدل]
رسمٌ تخيُّليّ لِلسُلطان سليم وهو يُشيرُ إلى مدينة القاهرة. أُوكلت مُهمَّة القضاء على أُمراء وأعيان المماليك في المدينة إلى العساكر العُثمانيين قبل أن يدخلها السُلطان.

في اليوم التالي لِواقعة الريدانيَّة، أي الجُمُعة 30 ذي الحجَّة 922هـ المُوافق فيه 24 كانون الثاني (يناير) 1517م، أرسل السُلطان سليم الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل على الله ومعهُ القُضاة الثلاثة: كمال الدين الطويل الشافعي ومُحيي الدين الدميري المالكي وشهاب الدين الفُتُوحي الحنبلي، والأمير خاير بك، وعددٌ من الوُزراء، وحشدٌ غفير من الجُنُود العُثمانيين. فدخلوا جميعهم من باب النصر وعلى رأسهم الخليفة وأمامه المشاعليَّة[ط]، الذين جعلوا يُنادون لِلناس بِالأمان والاطمئنان وبِعودة البيع والشراء، وأنَّ لا أحد سيُشوِّش على غيره من الرعيَّة، وقد غُلق باب الظُلم وفُتح باب العدل، وأنَّ على كُلِّ من يحمي مملوكًا من مماليك السُلطان طومان باي أن يُسلِّمه لِلجُند العُثمانيين وإلَّا شُنق على باب داره، والدُعاء لِلسُلطان سليم بِالنصر، فضجَّ لهُ عوام الناس بِالدُعاء.[101] وفي ذلك اليوم خُطب باسم السُلطان على منابر مصر القديمة والقاهرة بالشكل التالي: «وَانْصُر اللَّهُمّ السُّلْطَان بْنِ السُّلْطَانِ، مَالِك البَرَّيْن وَالْبَحْرَيْن، وَكَاسِر الَجيْشَيْن، وَسُلْطَان العِرَاقَيْن، وَخَادِم الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، الْمَلِك الْمُظَفَّر سَلَيْم شَاه، اللَّهُمّ أُنْصُرُه نَصْرًا عَزِيزًا وَافْتَح لَهُ فَتْحًا مُبِينًا، يَا مَالِكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ».[101] وأرسل السُلطان سليم جماعةً من الإنكشاريَّة وأوقفهم على أبواب المدينة لِيمنعوا سائر طوائف الجُند العُثماني من النهب والسلب، ولِإخافة اللُصُوص الذين قد يستغلُّون فترة الاضطرابات المُرافقة لِانتقال السُلطة، فيُعيثون فسادًا في البلد. وأمر السُلطان أيضًا بِالبحث عن المماليك الهاربين والمُتخفين، فلاحقتهم العساكر العُثمانيَّة ووجدوا بعضهم مُختبئًا في المقابر وبعضهم الآخر في غياض المطريَّة، كما لاحقوا أولئك المُختبئين في القاهرة نفسها، فأتوا بهم إلى السُلطان الذي أمر بِضرب أعناقهم جميعًا دون تفرقةٍ بين الأمير المُقدَّم أو المملوك العادي.[101]

طبعة حجريَّة ألمانيَّة تُصوِّرُ اقتتال العُثمانيين والمماليك داخل القاهرة.

أقام السُلطان سليم في بولاق على شاطئ النيل طيلة ثلاثة أيَّام جرى خلالها تتبُّع المماليك وقتلهم كما أُسلف. وفي يوم الإثنين 3 مُحرَّم 923هـ المُوافق فيه 27 كانون الثاني (يناير) 1517م، أوكب السُلطان ودخل القاهرة من باب النصر وشقَّ المدينة، فاصطفَّ الناس لِلتفرُّج عليه وعلى موكبه الحافل، وارتفعت الأصوات بِالدُعاء لهُ من الناس قاطبةً بحسب شهادة ابن إياس، وسُلِّمت لهُ مفاتيح قلعة الجبل، مقر السلاطين المماليك السابقين، لكنَّهُ قرَّر أن لا يمكث فيها، فعاد إلى بولاق،[103] بعد أن ترك في القاهرة حاميةً صغيرة.[99] وعلم طومان باي بأمر الحامية هذه، فجمع جمعًا من بقيَّة المماليك والعربان ودخل بهم القاهرة وقتل من وجد فيها من الجُنُود العُثمانيين، وسدَّ مداخلها ومخارجها، واستعدَّ لِلقتال مُجددًا،[104] فاتخذ من عمارة الشيخونيَّة مركزًا لِعمليَّاته الحربيَّة، وحفر عدَّة خنادق في الشوارع لِيُعيق تقدُّم العُثمانيين.[105] ولمَّا وصل الخبر إلى السُلطان سليم، عيَّن الصدر الأعظم يُونُس باشا، والبكلربك مُصطفى باشا، وإياس آغا الإنكشاريَّة، والعلمدار فرحات آغا، في نُخبة العسكر لِقتال طومان باي، فساروا إليه ودار بين الطرفين قتالٌ وضربٌ عنيف من وراء السُدُود التي أقامها المماليك، فامتدَّ القتال نحو ثلاثة أيَّام قُتل فيه من الجمعين خلقٌ كثير، فما كان من سليم إلَّا أن ركب بِنفسه في اليوم الثالث وبين يديه الإنكشاريَّة، فوجد طريقًا لِلالتفاف حول المماليك من جهة عمارة السُلطان حسن، وصعد الإنكشاريُّون إلى سُطُوح الأبنية وأطلقوا نيرانهم على الأعداء،[104] فتقهقر المماليك واحتموا في الزوايا والمنازل والإسطبلات خوفًا من سطوة العُثمانيين،[105] فجرَّ هؤلاء المدافع الصغيرة وأطلقوها على تلك الأبنية فهدموها على رؤوس المُقاتلين. وامتدَّ القتال إلى آخر الليل دون أن ينقطع ساعة، حتَّى كان يوم الجُمُعة 7 مُحرَّم 923هـ المُوافق فيه 31 كانون الثاني (يناير) 1517م، حين انكسرت أعضاد المماليك وتفرَّقوا، فهرب طومان باي إلى مصر القديمة ومنها إلى الصعيد. وأُسر من المماليك نحو ثمانمائة رجُل بحسب مُنجِّم باشي، فأُحضروا عند السُلطان سليم الذي أمر بِضرب أعناقهم، فقُتلوا عن آخرهم.[104] وامتلأت شوارع القاهرة وأزقَّتها بِجُثث الجُنُود وجيف الدواب بحيثُ كان لا يُمكن العُبُور منها، وخيف من انتشار الأوبئة والأمراض نتيجة ذلك، فأمر السُلطان بإحراق البُيُوت التي تحصَّن فيها المماليك وبِإلقاء الجُثث والجيف في النيل لِلحيلولة دون فساد الهواء.[104]

السُلطان سليم يدخل القاهرة.

ولمَّا تحقَّق انكسار المماليك والنصر العُثماني الحاسم، أرسل الأمير جانبردي الغزالي إلى السُلطان سليم يستأمنه ويطلب العفو، ويُعلن خُضُوعه وتبعيَّته. فأجابه السُلطان إلى مطلبه وعفا عنه، وأكرمه بِخُلعٍ فاخرة.[104] وفي يوم السبت 23 مُحرَّم 923هـ المُوافق فيه 15 شُباط (فبراير) 1517م، دخل السُلطان سليم القاهرة بِمراسم هائلة،[99][104] بعد أن نُظِّفت شوارعها وأزقَّتها من الجُثث والجيف، وأمر بِضرب سككٍ نقديَّةٍ ذهبيَّةٍ بِاسمه في دار السك القاهريَّة.[99] وفي الجُمُعة التالية، صلَّى السُلطان في مسجد المُؤيَّد شيخ، ويُروى أنَّهُ لمَّا سمع تلقيبه بِخادم الحرمين الشريفين نزع عمامته وقلب سجَّادته ثُمَّ سجد على الأرض باكيًا شُكرًا لله لِحُصُوله على هذا الشرف. وبعد الفراغ من الصلاة أعطى الخطيب مائتيّ دينار وألبسهُ ثلاث خُلع.[104] وأقام السُلطان سليم في قلعة الجبل هذه المرَّة، واحتجب فيها عن الناس ولم يظهر لِأحد بحسب ما يروي ابن إياس، وأمر بإغلاق أبواب القاهرة ودُرُوبها وقت صلاة الجُمُعة خوفًا من المماليك أن لا يهجموا على المدينة ويدخلونها على حين غفلةٍ من أهلها، لا سيَّما وأنَّ الأخبار كانت قد بدأت ترد من الصعيد ومفادها أنَّ طومان باي قويت شوكته والتفَّ حوله جمعٌ من العربان والشراكسة، وأنَّهُ يعقد العزم على مُتابعة القتال.[106]

أسر طومان باي وإعدامه

[عدل]
مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ إعدام طومان باي شنقًا.

جمع طومان باي نحو ثلاثة آلافٍ من بقيَّة المماليك وقبائل العربان بُغية استرداد مُلكه المفقود،[104] وحاول أولًا مُفاوضة السُلطان سليم لِيسترجع منه البلاد سلمًا، مُعلنًا استعداده لِأن يحكم مصر تحت جناح الدولة العُثمانيَّة كوالٍ من وُلاتها، إذا جلا العُثمانيُّون عن الديار المصريَّة، فكتب إلى سليم يقول: «إنْ كُنْت تُرَوِّم أَنْ أَجْعَلَ الْخُطْبَة وَالسِّكَّة بِاسْمِك، وَأَكُون نَائِبًا عَنْك بِمِصْر، وَأَحْمِلُ إلَيْك خَرَاج مِصْر حَسْبَمَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ بَيْنَنَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَحْمِلُهُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَارْحَل عَنْ مِصْرِ أَنْتَ وَعَسْكَرُك إلَى الصَّالِحِيَّة وَصِن دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَنَا، لَا تَدْخُلُ فِي خُطْبَةِ أَهْلِ مِصْرَ مِنْ كِبَارِ وَصِغَارٍ وَشُيُوخٍ وَنِسَاء، وَإِنْ كُنْت مَا تَرْضَى بِذَلِكَ، فَاخْرُج وَلَاقِيْنِي فِي بَرٍّ الجِيزة، وَيُعْطِي الله تَعَالَىٰ النّصْرَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَّا». ويُقال أنَّ حاشية الرسالة اشتملت على تهديدٍ أكثر: «لَا تَحْسَب أَنِّي أَرْسَلْتُ أَسْأَلُكَ فِي أَمْرِ الصُّلْحِ عَنْ عَجَزٍ، فَإِنّ مَعِي ثَلَاثِين أَمِيرًا وَمَعِي مِنْ الْمَمَالِيكِ السُّلْطَانِيَّة وَالعِرْبَان نَحْوَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَا أَنَا بِعَاجِزٍ عَنْ قِتَالِك، وَلَكِن الصُّلْح أَصْلَح إلَى صَوْن دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ».[105] واستقبل السُلطان سليم هذا العرض بِجديَّةٍ تامَّة، وأرسل سفارةً من كبار العُلماء كان من بين أعضائها قُضاة مصر الأربعة، لِيتفاوضوا مع طومان باي، وأرسل صُحبتهم أميرًا من أُمرائه وجماعة من الجُند العُثمانيين. ولمَّا وصلت السفارة إلى مُعسكر طومان باي لم يُوافق على شُرُوط السُلطان سليم، كما حال الأُمراء المماليك دون حُصُول أي تفاهم بين الجانبين، فثاروا على الوفد العُثماني وقتلوا أغلب أعضائه، بما فيهم قاضي القُضاة الحنفي محمود بن الشحنة وعبد السلام قاضي البهنسا.[107] وحنق السُلطان سليم وتحقَّق أنَّ طومان باي لا يُريد إلَّا الحرب، فأمر بِضرب أعناق القادة المماليك الكبار الذين سجنهم، واستعدَّ لِلقتال بعد أن رأى أنَّ هذا وحده ما سيحسم الأمر بينه وبين نظيره المملوكي.[105]

تقدَّم طومان باي عن طريق النيل وتقابل مع العُثمانيين وجهًا لِوجه عند الجيزة في 6 ربيع الأوَّل 923هـ المُوافق فيه 28 آذار (مارس) 1517م، فكان بين الفريقين وقعة مهولة قيل أنها كانت أشد من واقعة الريدانيَّة، تقدَّم المماليك في بدايتها وكسروا العُثمانيين، لكنَّ هؤلاء سُرعان ما تمكَّنوا من أعدائهم بِفضل أسلحتهم الحديثة وكفائتهم القتاليَّة، فأمطروا المماليك بالرصاص فهزموهم شرَّ هزيمة، وولَّى طومان باي هاربًا إلى البحيرة،[107] حيثُ احتمى عند مشايخ بني مُحارب، وكان بين كبيرهم الشيخ حسن بن مرعي والسُلطان المملوكي صداقة قديمة، فأركن الأخير لِلشيخ حسن، لا سيَّما بعد أن أقسم لهُ على المُصحف ألَّا يخونه أو يغدره.[107] لكنَّه حنث بِيمينه، فأحاط رجاله بِطومان باي من كُل جانب وأمسكوا به، ثُمَّ أرسل إلى السُلطان سليم يُعلمه بِذلك، فأرسل السُلطان جماعةً من عسكره قبضوا على نظيره المملوكي ووضعوه في الحديد وعادوا به إلى القاهرة.[107] ولمَّا وقف طومان باي بين يديّ السُلطان سليم، أمر بِإحضار عرشٍ ووضعه بجانبه، وأجلسه عليه،[108] واحتفظ طومان باي بِشجاعته وهيبته ووقاره في حُضُور السُلطان سليم، فأُعجب به إعجابًا كبيرًا، وقال له: «أَنَّا مَا جِئْتُ عَلَيْكُمْ إلَّا بِفَتْوَى عُلَمَاءِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، وَأَنَا كُنْتُ مُتَوَجِّهًا إلَى جِهَادٍ الرَّافِضَة وَالْفُجَّار، فَلَمَّا بَغَى أَمِيرُكُم الْغُورِيّ وَجَاء بِالعَسَاكِر إلَى حَلَب، وَاتَّفَق مَع الرَّافِضَة وَاخْتَارَ أنْ يَمْشِيَ إلَى مَمْلَكَتِي الَّتِي هِيَ مُوَرِّث آبَائِي وأجدادي. فَلَمَّا تَحَقَّقَت تَرَكْت الرَّافِضَة وَمَشَيْت إلَيْه».[105] ثُمَّ استطرد قائلًا: «وَالله مَا كَانَ قَصْدِي أَذَيَّتُك، وَنَوَيْتُ الرُّجُوعَ مِنْ حَلَب، وَلَو أَطَعْتنِي مِنْ الْأَوَّلِ وَجَعَلَتَ السِّكَّة بِاسْمِي مَا جِئْتُ لَك وَلَا دِسْتُ أَرْضِك». فردَّ عليه طومان باي قائلًا أنَّ الأنفُس التي تربَّت في العز لا تقبل الذُل، وأنَّ الأسد لا يخضع لِلذئب، وأنَّ أحدًا من فُرسان العُثمانيين لا يقدر على مُقارعته في حومة الميدان. وزاد إعجاب السُلطان سليم بِطومان باي لِشجاعته وحُجَّته ومنطقه، وتردَّد في اتخاذ قراره النهائي بِشأنه،[105] ويُقال أنَّهُ كان يعتزم إطلاق سراحه وإكرامه،[104] لكنَّ الأُمراء والقادة المماليك الذين كانوا قد التحقوا بِالعُثمانيين خافوا نقمة طومان باي فيما لو أطلقه السُلطان وعيَّنه واليًا على الديار المصريَّة، فأخبروا سليمًا بِأنَّهُ ما يزال يسعى وراء سلطنة مصر والاستقلال بها، وشرحوا لهُ ذلك بِإسهاب، وأقنعوه بِوُجُوب قتله.[108] ويبدو أنَّ سليم رأى في إطلاق طومان باي فسادًا عظيمًا وعدم استقرار لِمُلك العُثمانيين في الديار المصريَّة، فأمر به فشُهِّر مُعتقلًا بين أسواق القاهرة ومحلَّاتها، ثُمَّ شُنق على باب زويلة، وبقيت جُثَّته مُعلَّقة نحو ثلاثة أيَّام حتَّى عَلِم القريب والبعيد.[104] بعد ذلك أُقيم لِطومان باي تشييعٌ عظيم بحيثُ قيل أنَّهُ لو مات وهو على العرش لِما أُقيم لهُ مثل هذا الاحتفال، واكتنف السُلطان سليم تابوت طومان باي وشارك في تشييعه جميع أعيان البلاد، كما وزَّع السُلطان النُقُود الذهبيَّة على الفُقراء طيلة ثلاثة أيَّام صدقةً وتطييبًا لِروح آخر سلاطين المماليك.[108]

دُخُول الحجاز واليمن تحت جناح الدولة العُثمانيَّة

[عدل]
الأُسطُول العُثماني المملوكي المُشترك بِقيادة سلمان ريِّس وحُسين الكُردي في مياه مدينة جدَّة دفاعًا عنها ضدَّ الپُرتُغاليين. جرت هذه الواقعة قُبيل ضم العُثمانيين لِلقاهرة بِبضعة شُهُور.

كان طبيعيًّا أن يكون الحجاز محط آمال السُلطان سليم المُتطلِّع إلى توحيد ديار الإسلام تحت سلطنته، فقد ظفر بِلقب خادم الحرمين الشريفين دون أن تكون لهُ السيادة الفعليَّة عليهما، وبعد أن دخلت الشَّام ومصر تحت جناح الدولة العُثمانيَّة، لم يبقَ من الأقاليم المملوكيَّة السابقة خارجًا عن نطاق السلطنة العُثمانيَّة سوى الحجاز واليمن. وكان السُلطان سليم عندما تمَّت لهُ السيطرة على مصر قد وجد كثيرًا من العُلماء والمشايخ والقُضُاة الحجازيين في القاهرة، حيثُ كان السُلطان الغوري قد اعتقلهم بعد الاضطرابات التي حدثت في الحجاز وقادها الأشراف ضدَّ المماليك.[109] والمعلوم أنَّ الأشراف الهاشميُّون كانوا الحُكَّام الفعليين لِلديار الحجازيَّة، ويُدينون بِالولاء لِلسُلطان المملوكي والخليفة العبَّاسي، لكنَّ العلاقة سائت بينهم وبين السلطنة في مصر في أواخر دولة المماليك بِفعل فشل الغوري في إيقاف التحوُّل التجاري الذي نتج عن النُفُوذ الپُرتُغالي في مياه المُحيط الهندي وما يتفرَّع عنه من بحار وفي مُقدِّمتها الخليج العربي وبحر القلزم (الأحمر)، ما أدَّى إلى حرمان الحجاز من مصدرٍ ماليٍّ مُهم.[110] ولمَّا أفرج السُلطان سليم عن الأسارى الحجازيين أشاروا عليه بِأن يكتب إلى شريف مكَّة بركات بن مُحمَّد يدعوه إلى قُبُول السيادة العُثمانيَّة والدُعاء لهُ على المنابر. وتعهَّدوا لهُ بِأن يكتبوا لِلشريف بركات في هذا المعنى؛ فقبل الأخير العرض العُثماني لِحاجته إلى مُساندة دولة إسلاميَّة كُبرى كالدولة العُثمانيَّة في مُواجهة الخطر الپُرتُغالي في بحر القلزم، حيثُ تعرَّضت الموانئ الإسلاميَّة وعلى الأخص جدَّة لِكثيرٍ من الهجمات الپُرتُغاليَّة الشرسة، وهدَّد الپُرتُغاليُّون بِمُهاجمة بلاد الحرمين والعبث بِمُقدَّسات المُسلمين، ولم يكن لدى شريف مكَّة القُوَّات والعتاد التي يستطيع بها صد تلك الاعتداءات الصليبيَّة، كما كان يُدرك أنَّ الحجاز يعتمد من الناحية الاقتصاديَّة على المُخصَّصات الثابتة التي كانت تأتيه سنويًّا من مصر، وفي مُقدِّمتها الغلال ومُرتَّبات الأشراف والعاملين على خدمة الحرمين الشريفين وحُجَّاج البيت الحرام.[109]

بناءً على ما سلف، أرسل الشريف ابنه جمال الدين مُحمَّد أبا نُمِّي إلى مصر حاملًا إلى السُلطان سليم تهاني والده ومفاتيح الحرمين الشريفين، وكان هذا إقرارًا بِالسيادة العُثمانيَّة. فأكرم السُلطان سليم وفادته، وأعطاه تفويضًا بِحُكم والده، ولمَّا عاد أبو نُمِّي إلى مكَّة احتفل به الناس، وقُرئ عليهم التفويض، وخُطب باسم سليم في جميع مساجد مكَّة والمدينة المُنوَّرة، وبِذلك دخلت الديار الحجازيَّة سلمًا تحت جناح الدولة العُثمانيَّة.[109] كسبت الحجاز كثيرًا من وراء ارتباطها السريع بِالدولة العُثمانيَّة القويَّة، إذ كانت حملات الپُرتُغاليين على بحر القلزم مُتتالية ومُوجَّهة في سنة 1517م إلى جدَّة تحديدًا، وردَّ العُثمانيُّون على ذلك بِإرسال قُوَّاتٍ إليها تحميها من تكرار الاعتداءات. وفرضت الدولة العُثمانيَّة تقليدًا يقضي بِمنع دُخُول المراكب المسيحيَّة في بحر القلزم بِحُجَّة أنَّهُ يطُل على الأماكن المُقدَّسة لِلمُسلمين، وظلَّ العُثمانيُّون مُتمسكون بِهذا التقليد حتَّى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.[110] وحافظ السُلطان سليم على الاستقلال الذاتي لِلحجاز، واعترف بِوضعه الخاص وبِالحُقُوق الموروثة لِلهاشميين، ولم يتعرَّض لِلبناء الداخلي والإدارة الداخليَّة اللذين لم يُصبهما أيَّة تغيُّراتٍ جوهريَّة، واكتفى العُثمانيُّون بِتولِّي حراسة الشواطئ البحريَّة وحماية قوافل الحُجَّاج والمُؤن والاعتناء بِأحوال الطُرُق وإهراءات الحُبُوب وآبار وخزَّانات المياه.[111]

المُستعمرات والتحرُّكات الپُرتُغاليَّة في اليمن وحضرموت وبحر القلزم.

أمَّا بالنسبة لليمن فقد كان حينذاك مرتعًا لِلصراع بين الطاهريين والزيديين وحُلفائهم المماليك بِقيادة أميرٍ يُدعى برسباي، وكانت سواحل البلاد قد تضرَّرت تضرُّرًا كبيرًا من الحصار الپُرتُغالي،[110][112] وأُنيط بالمماليك المُرابطين فيها بِحماية الثُغُور من الاعتداءات الصليبيَّة إلى جانب دعم الزيديين وتقليص قُوَّة الطاهريين. ولمَّا علم المماليك بِسُقُوط دولتهم في مصر والشَّام، شاع الاضطراب في صُفُوفهم، وزاد الطين بلَّة مقتل أميرهم برسباي، لكنَّ خليفته الأمير إسكندر الجركسي سُرعان ما تدارك الوضع، ورأى أنَّ لا مفرَّ من الاعتراف بِالسيادة العُثمانيَّة لِتقوية الدفاعات الإسلاميَّة في اليمن ولِلقضاء على الخلافات التي ثارت بين صُفُوف جيشه. واعترف السُلطان سليم بِدوره بِالأمر الواقع في تلك البلاد، وأرسل كتابًا إلى إسكندر الجركسي يُعلمه بِتثبيته في حُكم اليمن وبِإقامة الخِطبة له وبِضرب السكَّة بِاسمه، فامتثل إسكندر لِهذه الأوامر.[112] وهكذا دخل اليمن سلمًا تحت جناح الدولة العُثمانيَّة كما الحجاز، على أنَّ السيادة العُثمانيَّة على الديار اليمنيَّة بقيت مُتذبذبة في تلك الفترة، لِأنَّ بعض القادة المماليك لم يذعنوا لِأوامر السُلطان سليم وتمسَّكوا بِاستقلالهم وخرجوا على من أعلن الطاعة منهم، واستمرَّ الوضع على هذه الحال حتَّى عهد السُلطان سُليمان القانوني.[113]

ترتيبات السُلطان سليم في الديار المصريَّة وبحر القلزم (الأحمر)

[عدل]
مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ سفر السُلطان سليم إلى الإسكندريَّة.

لمَّا صفت البلاد المصريَّة والحجازيَّة واليمنيَّة لِلسُلطان سليم، أمر بِإرسال كُتب الفتح والتبشير إلى أطراف البلاد والدُول المُجاورة، وبلغه من مُحمَّد باشا البيقلي خبر ضمّ ماردين وأخذها من أيدي الصفويين، فزاد هذا من سُروره. ثُمَّ أبحر السُلطان عبر النيل إلى الإسكندريَّة لِيزورها ويتعرَّف عليها، ومكث فيها أيَّامًا حيثُ قابل قائد الأُسطُول العُثماني جعفر آغا الذي وصل حاملًا ذخائر وعتاد من إسلامبول، فأمر السُلطان بِتوزيعها على الجُند.[114] وفي أثناء مُكُوثه بِالإسكندريَّة وفد عليه أيضًا الحاج حُسين ريِّس، وهو أحد أوثق رجال الإخوة بربروس، فقدَّم لِلسُلطان بضعة هدايا أرسلها عرُّوج ومعها طلب بِإمداد الإخوة بِالرجال والسلاح في سبيل إعانتهم على حرب الإسپان، فاستجاب السُلطان وأرسل إلى المغرب الأوسط قُرابة ألفيّ جُندي عُثماني وعددًا كبيرًا من البنادق والمدافع، وأمر أيضًا بِإعلان النفير في الأناضول الغربيَّة وفتح باب التطوُّع أمام الجُنُود الراغبين بالجهاد في غرب البحر المُتوسِّط، فتطوَّع عددٌ كبيرٌ من هؤلاء، انتُخب منهم أربعة آلاف عزبيّ أُرسلوا خصيصًا لِلتدريب وتعلُّم استعمال البنادق والمدافع.[115] بعد ذلك عاد السُلطان إلى القاهرة حيثُ منح الترقيات لِلجُند وأمر ببناء قصرٍ في جزيرة الروضة ونقش على جداره بيتين عربيين:[114]

المُلكُ لِلَّهِ مَن يَظفَر بِنَيلِ غِنىً
يَردُدهُ قَسراً وَتَضمَن نَفسُهُ الدَرَكا
لَو كانَ لي أَو لِغَيري قَدرُ أُنمُلَةٍ
فَوقَ التُرابِ لَكانَ الأَمرُ مُشتَرَكا

وأمر بِحكِّهما على مرمرٍ أبيض، وكتب تحتهما: خادم الفُقراء سليم. وشرع بعد ذلك في ترتيب أُمُور الديار المصريَّة وتنظيم حُكُومتها.[114] مكث السُلطان في مصر نحو ثمانية أشهُر،[116] قسَّم خلالها الحُكُومة إلى ثلاثة أقسام وجعل في كُلِّ قسمٍ رئيسًا وجعلهم كُلُّهم مُنقادين لِلقرارات الصادرة عن الديوان الكبير في القاهرة المُكوَّن من الوالي المُعيَّن مُباشرةً من السُلطان، ومن أُمراء السبع أوجاقات التي خُصِّصت لِضبط أمن الديار المصريَّة. وجعل لِلوالي مزية توصيل أوامر السُلطان إلى الديوان وحفظ البلاد وتوصيل الخِراج إلى إسلامبول، ومنع كُلًا من الأعضاء العُلُوّ على صاحبه، على أنَّهُ منحهم مزية نقض أوامر الوالي بِأسبابٍ تبدو لهم وعزله إن رأوا ذلك والتصديق على جميع الأوامر التي تصدر منه في الأُمُور الداخليَّة.[117]

وقسَّم السُلطان البلاد المصريَّة إلى أربعةٍ وعشرين مُديريَّة، جعل على رأس كُلٍّ منها حاكمًا من المماليك الذين أعلنوا ولائهم لِلسلطنة العُثمانيَّة، وخصَّهم بِمزية جمع الخراج في البلاد وقمع العربان وصدِّهم عنها والمُحافظة على ما في داخلها، وكُل ذلك بِأوامر تصدر لهم من الديوان، وجرَّدهم عن التصرُّف من تلقاء أنفُسهم، ولُقِّب أحدهم المُقيم بِالقاهرة بِـ«شيخ البلد».[117] أمَّا سبب اعتماد السُلطان سليم لِهذه الإجراءات فكان تخوُّفه من بُعد الديار المصريَّة عن العاصمة العُثمانيَّة، وكثرة الأُمراء وأصحاب النُفُوذ فيها من المماليك الذين ورثوا مُلكهم عن ساداتهم، فهؤلاء وإن خضعوا لِلعُثمانيين، قد يأتي يومٌ ويستغلون نُفُوذهم ويخرج أحدهم عن الطاعة ويسعى لِلاستقلال عن الدولة نتيجة أي اضطرابٍ قائم. ورتَّب السُلطان الخِراج وقسَّمه أقسامًا ثلاثة: خُصِّص القسم الأوَّل لِدفع مُرتَّبات عشرين ألف عسكري مُرابط في مصر من المُشاة واثني عشر ألفًا من الخيَّالة، وخُصِّص القسم الثاني لِيُصرف على الحرمين الشريفين، أمَّا القسم الثالث فيُرسل إلى بيت المال بِإسلامبول.[117] وتقرَّر أن تحتل مصر الدرجة الأولى في قائمة تشريفات الإيالات العُثمانيَّة، لتحُلَّ بِذلك مكان إيالة الروملِّي، وبقي الحال هذا على ما هو عليه حتَّى فصل البريطانيُّون مصر نهائيًّا عن الدولة العُثمانيَّة سنة 1914م.[118]

رسمٌ لِمدينة السُويس، مقر إمارة بحر القلزم زمن السُلطان سليم.

وقرَّر السُلطان بدايةً تفويض ولاية مصر إلى الصدر الأعظم يُونُس باشا، لكنَّهُ رأى أن يختبره قبل تثبيته في منصبه، فولَّاه البلاد أيَّامًا وتجسَّس أحواله خلالها، فبلغهُ أنَّهُ صادر حريم الأُمراء المماليك المقتولين واستولى على أموالهم، وكذلك طالب مشايخ العربان بِتعويضاتٍ ماليَّةٍ بِحُجَّة أنَّهم أمدُّوا المماليك ودعموهم، فسارع السُلطان حينئذٍ إلى عزل يُونُس باشا وعيَّن بدلًا منه الأمير خاير بك، ونصحهُ بِالعدل والإخلاص وترك الطمع، فالتزم هذا المسار بدايةً، ثُمَّ عدل عنه لاحقًا وصار من أشرِّ من وُلِّي البلاد المصريَّة.[114] أمَّا على صعيد بحر القلزم، فقد أسَّس السُلطان سليم إمارة السُويس البحريَّة، وسُمي أميرها «قبطان السُويس» أو «قُبطان الهند»، وجُعل مقرُّه ميناء السُويس، وتحت إشرافه ترسانة لِصُنع السُفُن، ولم يكن تابعًا أو خاضعًا لِوالي مصر، وإنَّما يتعاون معهُ في سبيل ضبط الثُغُور، ويرتبط بِالصدر الأعظم مُباشرةً. عيَّن السُلطان سليم أوَّل قُبطانٍ لِلِثغر المذكور في سنة 1517م، وهو سلمان ريِّس، وكلَّفهُ بِصيانة وإغلاق مضيق باب المندب ومنع أي سفينة لا ترفع الراية العُثمانيَّة من أن تمخر عباب بحر القلزم. كما فكَّر السُلطان في شقِّ قناةٍ تربطُ بحريّ القلزم والمُتوسِّط وإعادة النشاط التجاري في البحر الأخير إلى ما كان عليه، لكن لم يُكتب لهُ تحقيق هذا المشروع الضخم.[119] وكان السُلطان سليم قد أمر أيضًا بِتوسيع الترسانة البحريَّة في القاهرة وإنشاء سُفُنٍ جديدةٍ فيها في سبيل حماية مجرى النيل.[118]

عودة السُلطان سليم إلى إسلامبول وترتيباته في الشَّام

[عدل]
السُلطان سليم يُجالس الصدر الأعظم الجديد پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي.

بعدما فرغ السُلطان سليم من ترتيباته في مصر، خرج منها يوم 22 شعبان 923هـ المُوافق فيه 8 أيلول (سپتمبر) 1517م مُتوجهًا إلى الشَّام، واستصحب معهُ الخليفة العبَّاسي.[114][117] ولمَّا وصل إلى الخطارة في 6 رمضان المُوافق فيه 21 أيلول (سپتمبر) أمر الصدر الأعظم يُونُس باشا بِأن يُصاحبه في التنزُّه، ثُمَّ قتله. ولا يُعرف على وجه اليقين سبب قتل الباشا، لكن يُتفق أنَّهُ قال شيئًا لِلسُلطان سليم حرَّك غضبه وتهوُّره، فمن المعلوم أنَّ يُونُس باشا كان من جُملة الساسة العُثمانيين المُعارضين لِحرب المماليك وضمِّ الشَّام ومصر، ويُقال أنَّهُ لمَّا خرج لِلتنزُّه مع السُلطان سليم قال لهُ الأخير ما معناه أنَّهُ أتمَّ أخذ مصر خلافًا لِرأيه، فأجابه يُونُس باشا بِأنَّ هذه الحملة لم تعد عليه بِشيءٍ إلَّا قتل نحو نصف الجيش بما أنَّهُ سلَّم البلاد المصريَّة لِخائنٍ (أي خاير بك) كان غرضه التملُّك عليها لِنفسه، فلا يُؤمن ولاؤه لِلدولة، فغضب السُلطان سليم من هذا الكلام المُوجَّه إليه بِصفة لومٍ،[120][la 34] وأمر الصولاقيين الذين يمشون بين يديه بِقتل الصدر الأعظم، فضرب أحدهم عُنُقه وألقى جسده ورأسه في البريَّة، ولم يُنصَّب أحدًا بعده إلى أن وصل السُلطان دمشق في 22 رمضان المُوافق فيه 7 تشرين الأوَّل (أكتوبر)، فأرسل إلى مُحافظ إسلامبول پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي يأمره أن يأتي إلى الشَّام لِتولِّي الصدارة العُظمى. ودخل السُلطان دمشق يوم الجُمُعة 6 شوَّال المُوافق فيه 21 تشرين الأوَّل (أكتوبر)، ونزل في المدرسة النُوريَّة،[114][121] وشرع في ترتيب شؤون الديار الشَّاميَّة.

خريطة بالتُركيَّة العُثمانيَّة لِلديار الشَّاميَّة.

كانت فاتحة تنظيمات السُلطان سليم في الشَّام أن عيَّن مجلسًا وأناط به مُهمَّة مسح جميع الأراضي في سبيل تنظيم الخراج المفروض عليها، على أن يحتفظ لِبيت المال بِقسمٍ كبيرٍ من مردود سهل البقاع الخصيب ووادي العاصي المُثمر، ورأى الإبقاء على التدبير الذي اعتمده المماليك في تلزيم الضرائب على سبيل المُزايدة. وأبقى السُلطان سليم الدوائر الإداريَّة في الشَّام على ما كانت عليه في العصر المملوكي؛ لكنَّهُ بدَّل بعض الشيء في نظام التسمية: فأصبحت «النيابة» «إيالة»، وعُرف نائب السلطنة بِـ«الوالي»، وكما هو الحال في سائر أرجاء الدولة العُثمانيَّة، صار لقب التعظيم الذي يلي اسم الوالي «باشا»، فصار لِلـ«باشويَّة» و«الولاية» مدلولٌ واحد. وقُسِّمت الديار الشَّاميَّة إلى إيالتين: حلب ودمشق، واشتملت الإيالة الأولى على سبعة سناجق بدايةً، والإيالة الأُخرى على اثنا عشر سنجق، ووُلِّي عليها الأمير جانبردي الغزالي.[122] واعترف السُلطان بِمكانة الأُمراء الإقطاعيين في جبل لُبنان من دُرُوزٍ ومُسلمين وثبَّتهم في إقطاعاتهم، وترك لهم الامتيازات الاستغلاليَّة التي طالما نعموا بها في عهد المماليك،[122] فاستمرَّ المعنيُّون يتولُّون بلاد الشوف، واليمنيُّون بلاد الغرب، والعسَّافيُّون بلاد كسروان.[86] أمَّا التنُّوخيُّون، الذين وقفوا في صف المماليك، فقد أخذ شأنهم يتضائل مُنذ ذلك الحين لِصالح المعنيين.[123] ونزع السُلطان إقطاعيَّة البقاع من الأمير ناصر الدين مُحمَّد بن الحنش، الذي استمرَّ يُوالي المماليك وآوى كثيرًا منهم ممن فرَّ من موقعة مرج دابق، وأعطاها لِأميرٍ آخر هو مُحمَّد آغا بن قُرقُماز الجركسي، وأضاف إليه حُكم بيروت وصيدا.[114][124][125]

وعيَّن السُلطان على حسبة البلاد الشَّاميَّة وأعمالها جماعةً من كبار القُضاة والمُحتسبين، وجعلهم كُلِّهم خاضعين لِقاضي حلب كمال چلبي جولمكجي زاده، الذي عيَّنه دفتردارًا، ففوَّض حسبة طرابُلس الشَّام وحِمص وحماة إلى أبي الفضل بن إدريس البدليسي، وحسبة دمشق إلى نوح چلبي الفناري، وحسبة حلب إلى عبد الكريم چلبي بن عبد الله باشا.[114] وفي هذه الأيَّام خرج أوَّل محمل عُثماني لِلحج من دمشق، ووفد رسولٌ من عند الشاه إسماعيل الصفوي يلتمس الصُلح، فلم يلتفت إليه السُلطان وزجَّ به في السجن كونه كان ما يزال عازمًا على تسخير جميع الديار الإيرانيَّة، ولولا ضعف العسكر وتعبهم من طول السفر وتتابُع الحُرُوب لكان سار بهم من الشَّام مُباشرةً، لكنَّهُ رأى إرجاء هذا المشروع لِلسنة القادمة. وبعد أربعة أشهر من إقامته في دمشق، خرج السُلطان بجيشه نحو حلب وأقام فيها نحو شهرين، ثُمَّ ارتحل منها ووصل إسلامبول يوم 17 رجب 924هـ المُوافق فيه 24 تمُّوز (يوليو) 1518م، ثُمَّ ارتحل منها إلى أدرنة بعد عشرة أيَّامٍ قضاها في الاستراحة من أتعاب السفر، فاستقبله ولده الشاهزاده سُليمان قبل أن يُغادر إلى مقر ولايته في مغنيسية.[114] وفي أثناء إقامة السُلطان في أدرنة وصل إليه سفيرٌ من قِبل الإمبراطوريَّة الإسپانيَّة لِيُخابره بِشأن حُريَّة زيارة الرعايا الإسپان لِبيت المقدس التي كانت قبلًا تابعة لِلدولة المملوكيَّة، مُقابل دفع المبلغ الذي كان يُدفع سنويًا لِلمماليك. فأحسن السُلطان مُقابلته وصرَّح بِقُبُوله ذلك إذا أرسل الإمبراطور شارلكان رسولًا آخر مُخوَّلًا لهُ حق إبرام مُعاهدة مع السلطنة العُثمانيَّة، وكذلك أتى إليه سفير من قِبل جُمهُوريَّة البُندُقيَّة لِيدفع لهُ خراج سنتين مُتأخرًا.[120]

انتقال الخلافة من بني العبَّاس إلى بني عُثمان

[عدل]
داخل جامع آيا صوفيا. تنُصُّ إحدى الروايات أنَّ الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل تنازل عن الخِلافة لِلسُلطان سليم في مراسم أُقيمت بهذا المسجد.

بحسب الرواية الكلاسيكيَّة، التي تُجمع عليها الكثير من المصادر التاريخيَّة، فإنَّ الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل على الله تنازل عن الخِلافة لِلسُلطان سليم بُعيد انتقاله معه إلى إسلامبول.[126] وتقول إحدى الروايات أنَّ هذا التنازل جرى بِمراسم في جامع آيا صوفيا، في حين تقول رواية أُخرى أنَّ المُتوكِّل قلَّد السُلطان سليم سيف الخلافة وألبسهُ الخُلعة في جامع أبي أيُّوب الأنصاري،[127] وسلَّمهُ مُخلَّفات الرسول، وهي البُردة الشريفة التي كان يلبسُها الخُلفاء العبَّاسيُّون في بغداد، وبعضٌ من شعر لحية النبيّ، والسيف ذو الوشاح أي سيف الخليفة عُمر بن الخطَّاب.[126][la 35]

وقد اشترك في هذه المراسم عُلماء الأزهر الشريف الذين جُلبوا إلى إسلامبول، إلى جانب العُلماء العُثمانيين وقاضي قُضاة الشافعيَّة في مصر وابنا عُمومة المُتوكِّل أبا بكر وأحمد، ومُحمَّد بن قانصوه الغوري وعائلته. وأمر السُلطان سليم بِنقل مُخلَّفات الرسول وما بقي من أماناتٍ مُقدَّسةٍ في القاهرة ومكَّة إلى سراي طوپ قاپي في العاصمة العُثمانيَّة، حيثُ أودعها في جناحٍ خاص عُرف بـ«جناح خُرقة شريفة».[127] وهكذا أصبح العُثمانيُّون أوَّل سُلالة خُلفاءٍ مُسلمين غير قُرشيين، وقد أجاز العُلماء الأحناف صحَّة انتقال الخِلافة إلى بني عُثمان بعد أن اجتمعت لِلسُلطان سليم - وخُلفائه من بعده - الحُقُوق الخمسة الواجب على كُلِّ خليفةٍ أن يتمتَّع بها:[128]

  1. حق السيف: ومعنى ذلك أنَّ طالب الخِلافة يجب أن يقوم بِدعوته أنصارٌ لا يقوى عليهم مُناظرٌ آخر على وجه الأرض، وقد كان ذلك شأن السُلطان سليم يوم التمس الخِلافة بعد ضمِّه الديار الشَّاميَّة والمصريَّة والحجازيَّة.
  2. حق الإنتخاب: أي مُصادقة أهل الحل والعقد، وهو مجلسٌ من الأئمة والعُلماء، وحُجَّتهم في ذلك أنَّ هذا المجلس كان في أوَّل عهد الإسلام بِالمدينة المُنوَّرة، ثُمَّ انتقل إلى دمشق، ثُمَّ إلى بغداد، ونُقل من بغداد إلى القاهرة، فيجوز أيضًا نقله من القاهرة إلى إسلامبول. فلمَّا سيطر السُلطان سليم على مصر حمل معهُ جماعةً من عُلماء الأزهر كما أُسلف، وأضاف إليهم عدَّة من العُلماء العُثمانيين، وألَّف من الفئتين مجلسًا صادق على انتخابه. ومُنذ ذلك الوقت أصبحت هذه هي العادة الجارية في تقليد الخُلفاء العُثمانيين السيف من أيدي العُلماء.
  3. الوصاية: وهي وصاية الخليفة لِمن يخلفه بعد موته. وبحسب هذه الرواية فإنَّ المُتوكِّل كان قد أوصى بِمصر يوم أخذها السُلطان سليم بأن تؤول الخِلافة إليه، أي لِسليم.
  4. حماية الحرمين الشريفين: أي يجب على الخليفة أن يكون قائمًا على حماية الحرمين الشريفين من الأخطار الخارجيَّة وخدمتهما وصيانتهما، وقد تحقَّق هذا لِلسُلطان سليم بعد أن مَلَكَ الحجاز وسلَّمه شريف مكَّة مفاتيح الحرمين.
    بعض الآثار النبويَّة المحفوظة في جناح الخرقة الشريفة بِسراي طوپ قاپي. نصلا السيفان باقيان من عصر الرسول، أمَّا الغمدان والمقبضان صُنعت خلال العصر العُثماني لِاهتراء الأصليَّة.
  5. الاحتفاظ بِالأمانات المُقدَّسة: وهي المُخلَّفات النبويَّة التي سلمت من أيدي المغول حينما اجتاحوا بغداد، فحملها الخُلفاء العبَّاسيُّون معهم إلى القاهرة، وما زالت فيها حتَّى نُقلت إلى إسلامبول.

وأجاز عُلماءٌ آخرون عاصروا السُلطان سليم انتقال الخِلافة إليه، منهم الفقيه المُحدِّث عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني الشافعي، فقال في كتابه «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر»: «… وَفِي كُتُبِ أَصْحَابِ إمَامِنَا الشَّافِعِيّ رضي الله عنه يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ بَالغًا، عَاقِلًا، مُسْلمًا، عَدلًا، حُرًّا، ذَكَرًا، مُجْتَهِدًا، شُجَاعًا، ذَا رَأْيٍ وَكِفَايَة، قُرَشِيًا… فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قُرَشِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ، فَكِنَانِيّ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فغيره…».[129]

يُشكك بعض الباحثين المُعاصرين بِتنازل الخليفة العبَّاسي فعلًا عن منصبه لِلسُلطان سليم، وحُجَّتهم في ذلك أنَّ بعض المُؤرخين الذين عاصروا حملة السُلطان على مصر وعودته إلى إسلامبول بِرفقة المُتوكِّل، لم يُشيروا ولو إشارة عابرة إلى تبدُّل أمر من أُمُور الخِلافة، فابن إياس مثلًا لم يتطرَّق لهذا، واستمرَّ يُلقِّب سليم بالسُلطان والمُتوكِّل بِالخليفة. كما أنَّ أحمد فريدون بك، في كتابه «مُنشآت السلاطين» الذي وضع فيه يوميَّات الحملة إلى الشَّام ومصر وجميع أفعال السُلطان سليم مُنذُ مُغادرته عاصمته وحتَّى عودته إليها، لم يُشر بِأيِّ كلمةٍ عن قضيَّة الخلافة، بل إنَّهُ كان حريصًا على وصف المُتوكِّل بِالعبارات التالية: «الْخَلِيفَة المُتَوَكِّل عَلَى الله مَوْلَانَا مُحيي الدَّيْنِ مِنْ آلِ العَبَّاس الَّذِي هُوَ بقيَّة الْخِلَافَة العبَّاسيَّة فِي الْمَحْرُوسَة المصريَّة».[126] كما لم يذكر سعد الدين أفندي في مُؤلَّفه الشهير «تاج التواريخ» شيئًا عن الخلافة، علمًا بأنَّ كتابه هذا هو أقرب ما كُتب من مُؤلَّفاتٍ تاريخيَّةٍ إلى عهد السُلطان سليم. وأخيرًا يقول المُشكِّكون في هذا الأمر أنَّ السُلطان سليم نفسه لم يذكر شيئًا عن انتقال الخلافة إليه في رسائله إلى الحُكَّام المُجاورين لدولته، وإنَّما أشار إلى نفسه باعتباره سُلطانًا فحسب، وبأنَّهُ صار خادمًا لِلحرمين الشريفين.[126] يُرجِّح بعض الباحثين أنَّ السُلطان سليم لم يعبأ بِلقب «خليفة» بعد أن أصبح لقبًا رخيصًا مُبتذلًا نتيجة تحوُّل الخلافة إلى منصبٍ صوريّ مُنذُ قُرون، لكنَّهُ لُقِّب به رُغم ذلك قبل ضمِّه مصر، تمامًا كما تلَّقب آباؤه بهذا اللقب مُنذُ قرنٍ ونصف،[130] ونتيجة انتقال الآثار النبويَّة ومفاتيح الحرمين الشريفين إليه، ومُمارسته لِجميع مهام الخِلافة على أرض الواقع، أصبح بِحُكم هذا خليفةً فعليًّا، وفي ذلك يقول مُحمَّد فريد بك: «... وَمِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ صَارَ كُلُّ سُلْطَانٍ عُثْمَانِيِّ أَمِيرًا لِلْمُؤْمِنِين وَخَلِيفَةً لِرَسُول رَبِّ الْعَالَمِينَ اسْمًا، وَفِعْلًا».[117]

الأحداث أواخر عهد السُلطان سليم

[عدل]

دُخُول المغرب الأوسط تحت جناح الدولة العُثمانيَّة

[عدل]
خريطة توضح الحُدُود التقريبيَّة لِإقليم المغرب الأوسط.
نسخة عن رسالة خير الدين خضر بربروس إلى السُلطان سليم، باسم أهل الجزائر.

ما أن استقرَّ السُلطان سليم على تخت المُلك بعد عودته من حملته على مصر والشَّام، حتَّى وفد عليه الحاج حُسين ريِّس، مبعوث الإخوة بربروس الذي سبق وأن قابله في الإسكندريَّة، وفي هذه المرَّة حمل إليه خبرًا سيئًا مفاده أنَّ عرُّوج وإسحٰق قضيا نحبهما وهُما يُقاتلان الإسپان، فحزن السُلطان عليهما.[131] وسلَّم الحاج حُسين السُلطان سليم كتابًا من الأخ الوحيد الباقي، أي خير الدين خضر، حرَّره باسم أهل الجزائر وخُطبائها وقُضاتها وفُقهائها وأئمتها وتُجَّارها وأعيانها، وجاء فيه أنَّ عُمُوم الأهالي يطلبون الانضواء تحت حماية الدولة العُثمانيَّة بعد أن تكاثر عليهم الأعداء في الداخل والخارج،[132] إذ كان عددٌ من البحَّارة الأشدَّاء قد تخلُّوا عن خير الدين بعد مقتل أخيه عرُّوج لِشُعُورهم بأنَّهُ لن يكون بديلًا مُلائمًا له،[133] كما ثارت قبيلة زواوة بِقيادة أحمد بن القاضي، واستعان السُلطان أبو حمو موسى بن عبد الله الزياني بالإسپان ضدَّ خير الدين ومن معه، واستغلَّ السُلطان الحفصي هذه الاضطرابات فأرسل إلى خير الدين يطلب منهُ الدُخُول في طاعته بعد أن قطع عنهُ البارود، وفوق هذا كُلُّه كان يُتوقَّع أن يزحف الإسپان نحو الجزائر لِلقضاء على القائد العُثماني والحامية المُرابطة معه.[134]

وهكذا لم يرَ خير الدين والجزائريين بُدًّا من الدُخُول تحت جناح الدولة العُثمانيَّة ومُبايعة السُلطان سليم على السمع والطاعة. سارع السُلطان إلى إجابة طلب خير الدين، فمنحهُ رُتبة بكلربك وولَّاه على المغرب الأوسط، مُعلنًا أنَّ هذا الإقليم أصبح من تلك اللحظة إيالةً عُثمانيَّةً مركزها الجزائر،[131] وأرسل إلى المغرب الأوسط ما بين أربعة آلاف،[135] إلى ستة آلاف جُنديٍّ منهم ألفي إنكشاريّ مُسلحين بِالبنادق وعددًا من المدافع مع سَدَنَتها، وعددًا آخر من المُتطوِّعة، وأعلن السُلطان تأمينه نفقاتِ السفر لِلمُتطوعين الراغبينَ بالذهابِ إلى الجزائرِ للجهاد، ووعدهم بِالامتيازات التي يحصلُ عليها الإنكشاريَّة.[136] وبذلك صار المغرب الأوسط جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة يُدعى فيه في خطبة الجُمُعة باسم السُلطان سليم وتُضرب السكَّة بِاسمه.

عصيان الأمير ناصر الدين مُحمَّد بن الحنش

[عدل]

كان الأمير ناصر الدين مُحمَّد بن الحنش يتولَّى البقاع وصيدا ويُوالي المماليك، واستمرَّ على حاله هذا بعد أن سيطر السُلطان سليم على الديار الشَّاميَّة، فخلعه عن منصبه وولَّى مكانه الأمير مُحمَّد بك بن قُرقُماز الجركسي كما أُسلف. لِهذا، أشهر الأمير ناصر الدين العصيان، والتفَّ حوله جمعٌ من العربان،[114] كما ناصره أربعة من الأُمراء الدُّروز: شرف الدين يحيى بن أبي بكر التنُّوخي، وزين الدين وقُرقُماز وعلم الدين سُليمان المعنيين.[137][138]

يُرجِّح الدكتور عبد الرحيم أبو حُسين، أستاذ التاريخ العُثماني في الجامعة الأميركيَّة في بيروت، أنَّ مُولاة الأُمراء الدُرُوز لِناصر الدين مُحمَّد، كانت بِسبب نزع مدينة بيروت من أيدي بني تنُّوخ، والمعروف أنَّ الأُمراء والزُعماء الدُرُوز كانوا يُتاجرون مع البنادقة عبر ميناء المدينة أواخر العصر المملوكي، ويُحقِّقون أرباحًا ماليَّةً كبيرة، فلا بُدَّ أنَّهم خسروا الكثير بِانتزاعها منهم، فأشهروا العصيان، ويظهر أنَّ السلطنة العُثمانيَّة شكَّت بِتواطؤ هؤلاء الأُمراء مع جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، بِدليل أنَّ مُمثليها في كُلٍّ من الشَّام وقبرص تابعوا مُجريات هذا العصيان بِاهتمامٍ كبيرٍ ونقلوا مُلاحظاتهم إلى حُكُومتهم،[138] فكان على السُلطان أن يُنهي حركتهم قبل توسُّع تدخُّل البنادقة في البلاد العُثمانيَّة. وتمكَّن العُثمانيُّون من أسر الأُمراء الدُرُوز، فساقوهم بدايةً إلى قلعة صفد، ثُمَّ إلى قلعة دمشق، فقلعة حلب حيثُ أمر السُلطان بإبقائهم لحين انتهاء العصيان.[137] أمَّا الأمير ناصر الدين مُحمَّد، فقد ظفر به أمير طرابُلس الشَّام مُصطفى بك بن إسكندر، الذي كان بينه وبين ابن الحنش مُصادقة، فخدعهُ وأظهر لهُ المُلائمة والمُلاطفة ودعاه أن يحضر إليه، ولمَّا فعل انقضَّ عليه بجُنُوده وقبض عليه بعد قتالٍ شديد، وقتلهُ مع جمعٍ كثيرٍ من أصحابه، وأرسل رؤوسهم إلى العتبة العليَّة في إسلامبول.[114] وما أن تسلَّم السُلطان سليم رأس ابن الحنش حتَّى أمر بإخلاء سبيل الأُمراء الدُرُوز، فعاد كُلٌ منهم إلى بلده.[137]

تجدُّد فتنة الشيعة في الأناضول

[عدل]

وفي سنة 925هـ المُوافقة لِسنة 1519م، ظهر في الأناضول شخصٌ من غُلاة الصوفيَّة يُدعى «جلال البوزاقي»، نسبةً إلى وطنه بوزاق، وكان من أتباع الطريقة القلندريَّة، وفي أوَّل أمره اجتمع عليه جمعٌ من الأوباش وسار بهم إلى صوب توقاد حيثُ أقام في كهفٍ عند قلعة «طورحال»، وكان أهل تلك البلاد يميلون إلى التشيُّع، فصار يقول لهم أنَّ الإمام المهدي سيظهر من هذا الغار وأنَّهُ ينتظره، فعظُم جمعه والتفَّ حوله الكثير من الناس حتَّى وصلوا إلى قُرابة عشرين ألفًا. ثُمَّ ما لبث أن أعلن لِأتباعه أنَّهُ هو المهدي المُنتظر، وأعلن الثورة في وجه السلطنة العُثمانيَّة.[114] ولم يتمكَّن عساكر تلك النواحي من الوُقُوف في وجه هؤلاء المُغالين، فأرسلوا إلى السُلطان سليم يُعلمونه الحال، فاستجاب وأرسل إليهم بكلربك الروملِّي فرحات باشا بعد أنَّ عيَّنه وزيرًا، ولمَّا علم جلال البوزاقي أنَّ العُثمانيِّين قادمون إليه، فرَّ هاربًا إلى بلدة «أرتق آباد» ومنها إلى سيواس، فعقبه الأمير علي بك بن شهسوار بعد أن تأخَّر فرحات باشا في الوُصُول، واستمرَّت المُطاردة عدَّة أيَّام بِلياليها إلى أدركه في نواحي آق شهر، وقاتلهُ قتالًا شديدًا حتَّى هزمه وقبض عليه، فقطَّعهُ إربًا وقتل جميع أصحابه من الرجال وسبى نسائهم وأولادهم.[114] وأرسل علي بك رأس جلال البوزاقي إلى السُلطان سليم، فسُرَّ منه وأرسل إليه خُلعًا وسيفًا مُرصَّعًا، إلَّا أنَّ فرحات باشا اغتاظ من علي بك، فأسرَّها في نفسه مُتنظرًا الفُرصة المُلائمة لِينتقم منه بعد أن أحرجه أمام السُلطان.[114]

استعداد السُلطان لِفتح جزيرة رودس

[عدل]
قلعة فُرسان الإسبتاريَّة في جزيرة رودس.

وفي هذه السنة أيضًا (925هـ = 1519م)، أخذ السُلطان سليم بِالاستعداد لِمُحاربة الصفويين مُجددًا، فجمع خمسة عشر ألف فارس بِمدينة قيصريَّة وضمَّ إليهم ثلاثين ألف جُندي من المُشاة تحت قيادة البكلربك فرحات باشا، وأرسل إليهم عددًا عظيمًا من المدافع والذخائر.[120] ولمَّا علم الوزارء والساسة وقادة الجُند بِنيَّة السُلطان سليم قرَّروا إشغاله عن حملته هذه لِنفرة الجُند عن السفر إلى إيران، كما تبيَّن من الحملة الأولى، فعرضوا عليه فتح جزيرة رودس معقل فُرسان الإسبتاريَّة، كون هؤلاء كانوا دائمي الإغارة على سُفُن المُسلمين التجاريَّة، ويقطعون الطريق البحريَّة بين إسلامبول ومصر. فأذن لهم السُلطان في بناء السُفُن وإعداد العدَّة اللازمة لِحصار قلاع الجزيرة، إلَّا أنَّهُ كان غير عازمًا على ذلك، ويُحكى أنَّهُ خرج يومًا عبر البحر لِزيارة مقام الصحابي أبي أيُّوب الأنصاري، فرأى أكبر السُفُن الحربيَّة تسير في المياه، فغضب وأمر بِقتل القُبطان جعفر باشا، فشفع فيه الصدر الأعظم پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي، واعتذر لِلسُلطان قائلًا أنَّ تلك السفينة جديدة وقد أُنزلت إلى البحر لِتُختبر، فخلَّص القُبطان من القتل.[114] ويُروى أنَّ السُلطان قال حينئذٍ لِلصدر الأعظم: «أَنَا أُرِيدُ أَخْذَ إقْلِيمٍ وَمُلْكٍ عَظِيمٍ، وَلَا تُسَاعِدُونِي عَلَيْه، وَتَسُوقُونِي إلَى أَخْذِ إحْدَى قِلَاع اللُّصُوص وَالمَسِيِرِ إلَيْهَا؛ فَمَا أَعْدَدتُم مِن مُهِمَّاتِه؟» فقال الصدر الأعظم أنَّهم أعدُّوا ما يكفي أربعة أشهر، فردَّ عليه سليم أنَّ مثل هذه الحملة تتطلَّب ضعف هذا الإعداد، فكان كما قال، ولم تُفتتح الجزيرة إلَّا بعد تسعة أشهُرٍ من الحصار والقتال، في عهد خليفته سُليمان. ويُروى أيضًا أنَّ سليمًا قال بعد ذلك: «لَا سَفَرَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ إلَّا سَفَرَ الْآخِرَةِ».[114]

وفاة السُلطان سليم

[عدل]
السُلطان سليم على فراش الموت.
قبر السُلطان سليم داخل مسجد السليميَّة المُسمَّى نسبةً إليه، كما بدا سنة 2018م.

سنة 926هـ المُوافقة لِسنة 1520م، تجهَّز السُلطان سليم لِلخُرُوج في حملةٍ يُرجَّح أنها كانت نحو المجر، فأرسل العتاد اللازم مع الصدر الأعظم وخرج في أثره نحو أدرنة. وفي 1 شعبان 926هـ المُوافق فيه 1 تمُّوز (يوليو) 1520م، ظهر دمَّلٌ بين كتفيه، فلم يعتد به بدايةً ولم يفسخ عزمه، لكنَّ الوجع والاضطراب استمرَّ يقوى ويشتد يومًا فيومًا، ولمَّا وصل إلى موضع چورلي، وهو نفس المكان الذي حارب فيه والده بايزيد قبل عدَّة سنوات، لم يعد قادرًا على المسير، فأقام في مكانه حتَّى يُعالجه الأطبَّاء والجرَّاحون.[114] لكنَّ العلاج لم يُفضِ إلى نتيجة، ولم تنفع تدابير الأطبَّاء في التخفيف عن السُلطان، فاستمرَّ يُعاني آلامًا مُبرحة نحو شهرين. وفي ليلة السبت 9 شوَّال 926هـ المُوافق فيه 22 أيلول (سپتمبر) 1520م، تُوفي السُلطان سليم في سرادقه، وهو في الحادية والخمسين من عُمره، وفي السنة التاسعة من حُكمه.[114][120] وأخفى طبيبه الخاص خبر موته عن الحاشية ولم يُبلغه إلَّا لِلصدر الأعظم ولِلوُزراء، فاجتمع كُلٌّ من پيري مُحمَّد باشا الجمَّالي ومُصطفى باشا وأحمد باشا وقرَّروا إخفاء هذا الأمر حتَّى يحضر الشاهزاده سُليمان من مغنيسية خوفًا من أن تثور الإنكشاريَّة كما هي عادتهم.[120] وأنشد شيخ الإسلام المولى ابن كمال مرثيَّةً بكى فيها السُلطان سليم، فقال:[114]

خريطة تُظهر الحُدُود التقريبيَّة لِلدولة العُثمانيَّة عشيَّة وفاة السُلطان سليم. يُشيرُ الأخضر الداكن إلى المناطق التي سيطرت عليها الدولة مُباشرةً، ويُشيرُ الأخضر الفاتح إلى المناطق التي كان لِلدولة عليها سيادة غير مُباشرة.
حيف سُلطان سليم حيف ودريغ
هم قلم اغلسون انى هم تيغ

وتعريبها: «واحسرتاه على فُراق السُلطان سليم، فإنَّ القلم والسيف يبكيان على فراقه».[114] بقي خبر وفاة السُلطان طي الكتمان طيلة تسعة أيَّام،[139] حتَّى وصل الشاهزاده سُليمان إلى إسلامبول ودخلها في يوم 16 شوَّال المُوافق فيه 29 أيلول (سپتمبر)، وبعد ظُهر ذلك اليوم وصل الصدر الأعظم پيري مُحمَّد باشا وأخبر عن وُصُول جُثمان السُلطان سليم في اليوم التالي. وعند ظُهر 17 شوَّال المُوافق فيه 30 أيلول (سپتمبر) وصل موكب جنازة السُلطان، فخرج سُليمان لِمُقابلتهم عند أسوار المدينة، واكتنف تابوت أبيه حتَّى مسجد الفاتح حيثُ أقيمت صلاة الجنازة،[139] ثُمَّ خرج الجمع بالسُلطان الراحل حتَّى وُري الثرى على أحد مُرتفعات البلد، وأمر السُلطان سُليمان ببناء جامعٍ شاهقٍ عُرف بِمسجد السليميَّة، ومدرسةٍ في المحل الذي دُفن فيه والده،[140] ومن المعروف أنَّ السُلطان سليم يرقُد في قبره هذا وحيدًا، تمامًا كجدِّه السُلطان مُحمَّد الفاتح، الذي لم يُدفن معه أحدٌ من بني عُثمان.[139]

ترك السُلطان سليم خلفهُ دولةً عالميَّةً حقيقيَّة، فبعد أن كانت الدولة العُثمانيَّة إحدى القوى الإسلاميَّة في المنطقة حين تربُّعه على العرش، أصبحت عند وفاته إمبراطوريَّةً كبيرة تمتد أراضيها عبر أوروپَّا الشرقيَّة وآسيا الغربيَّة وأفريقيا الشماليَّة، وتحوز الخِلافة الإسلاميَّة التي عادت لِلمرَّة الأولى مُنذُ قُرُون، خِلافةً غير صوريَّة. وأعاد السُلطان سليم تحقيق وحدة الأناضول كما كانت زمن السُلطان بايزيد الأوَّل، ولم يبقَ سوى بضع بلادٍ في آسيا الصُغرى خارجة عن نطاق الدولة العُثمانيَّة، وكان مُعظمها داخلًا تحت جناح الدولة الصفويَّة.[141]

شخصيَّته وصفاته

[عدل]
الصورة الشهيرة التي تُصوِّرُ السُلطان سليم واضعًا قرطًا بِلُؤلُؤة.

تقول بعض المصادر أنَّ السُلطان سليم كان طويل القامة نسبيًّا، وعريض المنكبين، وحاد النظرات، ومُستدير الوجه، وعاقد الحاجبين الأسودين، وكبير الرأس، وأسمر البشرة، وغليظ الأنف، وكثّ الشارب، وخفيف اللحية، وقصير الجذع نسبةً إلى الساقين، ومُمتلئ الجسم. وبحسب تاريخ صولاق زاده فهو مُتوسِّط القامة، وبدين، وأسنانه بيضاء لُؤلُؤيَّة لامعة، وحاجباه مُقوَّسان، وقويّ العضلات، وأبيض الوجه. وبحسب ابن إياس الذي شاهد السُلطان في القاهرة، فهو غير مُلتحٍ، وحنطيّ البشرة، وطويل نسبيًّا، وعريض الأنف، وواسع العينين، وقصير القامة، ومحني الظهر قليلًا، وسريع الخُطى.[142]

لوحة بِريشة الرسَّام البُندُقي بولس فرونزه، الذي عاش خلال فترةٍ قريبةٍ من عهد السُلطان سليم، تُصوِّرُ السُلطان المذكور بِشكلٍ أكثر دقَّة من لوحة القرط.
إحدى قصائد السُلطان سليم.

من المعروف أنَّ السُلطان سليم كان يُحب البساطة كوالده بايزيد، ولم يولِ أهميَّةً لِلمظاهر، وعند دُخُوله القاهرة كان يعتمر عمامةً صغيرةً ويرتدي قفطانًا حريريًّا. عدا ذلك اشتهر بأنَّهُ لم يكن كثير العناية بِهندامه وزينته، ولا يُجدد ثيابه عندما تُبلى، ولهذا كان رجال الدولة يحرصون على عدم الظُهُور بكامل أُبَّهتهم أمامه احترامًا له وخجلًا منه في الوقت عينه. وصفه مُعاصره الطبيب والمُؤرِّخ الإيطالي بولس جيوڤيو (بالإيطالية: Paolo Giovio)‏ لِلإمبراطور شارلكان قائلًا: «إنَّهُ مُعتدل في الطعام واللهو».[4] وهُناك روايتان تعكسان عُزُوف السُلطان سليم عن الفخفخة، تقول الأولى أنَّهُ سخر من ابنه سُليمان الذي كان شديد العناية بهيئته ويُحب الثياب المُزركشة، فقال لهُ: «يَا وَلَدِي يَا سُلَيْمَان!... إنْ كُنْت تَلبَسُ هَكَذَا فَمَا أَبْقَيْت لِأُمِّك؟!!».[143] وتقول الرواية الأُخرى أنَّ وُزراء السُلطان طلبوا منه يومًا بِواسطة الصدر الأعظم أن يسمح لهم بارتداء ملابس جديدة لِيستقبلوا بها أحد السُفراء الأوروپيين، كي يُعطوه انطباعًا جيِّدًا، وأنهم يأملون لو يفعل السُلطان المثل، فأجاز لهم التزيِّي بما شاؤوا، لكنَّهُ استقبل السفير بِملابسه القديمة عندما حضر بين يديه. وشهد الحاضرون أنَّ السفير لم يرفع عينيه وينظر إلى السُلطان سليم طيلة اللقاء، ولمَّا غادر قال السُلطان لِوُزرائه: «طَالَمَا بَقِيَ حَدُّ السَّيْفِ بَتَّارًا لَا تَرَى عَيْن الْكَافِر لِبَاسَنَا، وَلَا تَنتَبِه إلَيْه. الله لَا يُرِينَا الْيَوْمِ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ سَيْفَنَا غَيْر بَتّار، وَنَنْشَغِل بِاللِّبَاس وَالْمُظَاهِر. لِأَنَّ الْكَافِرَ حِينَئِذٍ سَيَرفَع عَيْنَهُ عَنْ الْأَرْضِ، وَيَضَعُهَا عَلَى سُلْطَانِ سَلَاطِينَ آلِ عُثْمَانَ!».[4] تُصوِّرُ إحدى اللوحات المعروضة في سراي طوپ قاپي السُلطان سليم واضعًا قرطًا بِلُؤلُؤةٍ في أُذُنه اليُسرى، إلَّا أنَّ جميع المصادر التي عاصرته لا تذكر أنَّهُ فعل ذلك، علمًا بأنَّ إحدى الروايات تقول بأنَّهُ كان يُعلِّق في أُذُنه قرطًا نُحاسيًّا. وهُناك من ينسب هذه اللوحة إلى الشاه إسماعيل بِسبب التاج ذي الإثني عشر فصًّا، إلَّا أنَّ هذا النوع من التيجان المُرصَّعة لم يكن موجودًا في الشرق قبل القرن الثامن عشر الميلادي، وكان يوضع على الأغلب فوق العمامة، ويتمثَّل بِعدَّة ريش ذات أحجارٍ كريمة.[142] لِهذا يغلب الظن أنَّ هذه اللوحة إمَّا أن تكون رُسمت من محض الخيال أو أنَّها زُوِّرت قصدًا لِلإساءة لِهذا السُلطان والتاريخ العُثماني عُمومًا، على اعتبار أنَّ الأقراط كانت من علامات العُبُوديَّة أو الشُذُوذ الجنسي. وفي هذا المجال، تقول إحدى التفسيرات الضعيفة أنَّ غاية السُلطان سليم من وراء وضعه قرطًا الإشارة إلى عُبُوديَّته لله.[143]

أبرز ما اشتهر به السُلطان سليم من حيث هيئته كان شاربه الكث الكبير، فهو أوَّل من خرج عن تقاليد آبائه وأجداده بإطلاق اللحى، فلم يلتحِ حتَّى وفاته، ويُقال أنَّه منع أبنائه وأحفاده من إطالة لِحاهم.[141] وكان سنده الشرعي في ذلك الفتاوى المُجيزة لِلِغُزاة والمُجاهدين في سبيل الله أن يُطلقوا شواربهم كي يُلقوا الرُعب في قُلُوب الأعداء، أي من باب الحرب النفسيَّة، فقد ورد في إحدى فتاوى شيخ الإسلام الإمام أبو السعود أفندي: «...السُنَّة هِي حَفّ الشَّوَارِب حَتَّى تَكُونَ بِعَرْض الْحَاجِب، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى الْغُزَاة مِنْ هَذَا لِأَنَّهُ مِنْ الْمَنْدُوبِ لَهُم إطَالَتُهَا لِكَي يَرْهَبُهُم الْأَعْدَاء».[143]

لمَّا كان هذا السُلطان نشأ في أماسية، التي كانت بيئةً خصبةً لِلعُلُوم والآداب والفُنُون، فقد انعكس ذلك عليه، فكان يهوى الصياغة ولعب الشطرنج، وتعلَّم اللُغات العربيَّة والفارسيَّة والروميَّة والتتريَّة، وكان قادرًا على صياغة الشعر بِالُّلغتين الأوَلتين إلى جانب التُركيَّة في بعض المصادر؛ وأحبَّ الفارسيَّة بِالذات حُبًا كبيرًا بحيثُ أنَّ لهُ ديوانٌ بها يضمُّ ثلاثُمائة قصيدة غزل، وقد طُبع هذا الديوان سنة 1890م في إستانبول. وعندما سعى الإمبراطور الألماني غليوم الثاني لِمُجاملة السُلطان عبد الحميد الثاني، أمر بِإعادة طباعة هذا الديوان بِحجمٍ كبير، وأعدَّ خمسُمائة نسخة مُذهَّبة سنة 1904م وأُرسلت إحداها إلى السُلطان. كما طُبع هذا الديوان بِالتُركيَّة.[142] والسُلطان سليم هو الوحيد من بني عُثمان الذي لديه ديوانٌ كاملٌ بِالفارسيَّة، وبحسب أسطون الشعر العُثماني عبد اللطيف بن خطيب القسطمونئي (الشهير بِـ«لطيفي») والمُؤرِّخ مُحمَّد صولاق زاده، فإنَّ سليم لم يكتب شعرًا بِالتُركيَّة على الإطلاق. والمعروف أنَّهُ استخدم الاسم الفني «سليمي»، علمَّا أنَّ البعض يدَّعي بأنَّ هذا الاسم يعود لِشاعرٍ آخر، وقد أُسندت قصائده إلى السُلطان بسبب تقارُب أُسلوبيهما. والسُلطان سليم هو أوَّل من عانى من بني عُثمان من مد البصر بِسبب كثرة القراءة، إذ كان يكتفي بِنوم ثلاث إلى أربع ساعات في الليل، ويقضي بقيَّته قارئًا، فكان عاقبة ذلك أن صار يستخدم نظَّارة مُكبِّرة.[142] وإلى جانب الشعر، كان لدى السُلطان سليم مُيُولٌ موسيقيَّة، وإن لم تكن بِمُستوى شقيقه قورقود، حتَّى أنَّهُ جلب معهُ بعض الموسيقيين الآذر من تبريز بعد انتهاء حملته على الدولة الصفويَّة.[142]

السُلطان سليم وقد اصطاد تمساحًا على ضفَّة النيل بِمصر.
السُلطان سليم يُجالس الشيخ عبد الحليم أفندي، الشهير بِـ«حليمي چلبي».

كان التاريخ المجال الخاص لاهتمام السُلطان سليم، فقد كان يأخذ معهُ في حملاته كتاب «تاريخ الوصَّاف» الذي يروي حُرُوب المغول في الشرق، وحزن كثيرًا عندما سلب البدو هذا الكتاب في طريق حملته إلى مصر. وبعد ضم الديار المصريَّة وجد خطَّاطًا مشهورًا بِسُرعة كتابته، وطلب منهُ أن يُعيد تدوين الكتاب المذكور، واحتجزه في داره حتَّى أتمَّ عمله. كما طلب من شيخ الإسلام المولى ابن كمال ترجمة كتاب النُجُوم الزاهرة لِابن تغري بردي، وأمر بِنقل مكتبة شقيقه قورقود من مغنيسية إلى سراي طوپ قاپي في سبيل الاستفادة منها. وكان يُحب أن يحضر الشُعراء والعُلماء مجلسه، ومن أبرز المُداومين على ذلك من رجال العلم والفكر: علي أفندي الزنبيلي وكمال باشا زاده والمولى إدريس البدليسي والشيخ عبد الحليم أفندي بن علي القسطمونئي، الشهير بِـ«حليمي أفندي» أو «حليمي چلبي»، وجعفر چلبي بن تاج. أمَّا الشُعراء فكان أبرزهم إلياس بن عبد الله الأدرني، الشهير بِـ«رواني».[4] ومن هوايات السُلطان سليم جمع التحُف والطرائف، فقد أتى بِمجموعةٍ من القطع الخزفيَّة وجدها بِخزينة قلعة الجبل بالقاهرة، ووضعها في سراي طوپ قاپي، ويروي ابن إياس أنَّهُ اصطحب معهُ مجموعة مسرح خيال ظل عند عودته من القاهرة بعد أن أُعجب بهذا الفن وقرَّر نقله إلى عاصمة مُلكه وتعريف أهلها عليه، فكان أوَّل من أدخل خيال الظل إلى الثقافة العُثمانيَّة.[142] وكان السُلطان سليم فائق الاطلاع على السياسة العالميَّة في زمنه، ولم يكن يستغني عن قطع خريطة العالم التي رسمها پيري ريِّس،[141] ويُروى أنَّهُ بعد سيطرته على مصر طلب من الجُغرافيين أن يرسموا له خرائط للهند والصين، دون أن تُعرف غايته من وراء ذلك.[142] بِالإضافة إلى هذا، كان لهُ ولعٌ شديد بِالخُيُول، وامتلك عدَّة رؤوسٍ مُطهَّمة،[141] وكان صيَّادًا ماهرًا، تعلَّم صناعة الأقواس وتمرَّس بِالرماية مُنذُ صغره، وكان يخرج بِرحلات صيدٍ تمتدُّ شُهُورًا، وأورث هذه الهواية لِابنه سُليمان، وكان ماهرًا بِاستخدام السيف بحيثُ استعمله في الصيد أيضًا، ومن أبرز الأحداث المُسجَّلة التي تؤكِّد مهارة السُلطان سليم كصيَّاد، أنَّه حينما كان في مصر اصطاد تمساحًا على ضفَّة النيل وقطع رأسهُ بِضربةٍ واحدةٍ من سيفه.[4]

كسوة باب الكعبة المحفوظة في مسجد أولو جامع. رُممت هذه الكسوة سنة 2009م بعد أن اهترأت بشدَّة جرَّاء عرضها مكشوفةً لأربعمائة سنة.

أمَّا على الصعيد الديني، فمن المعروف أنَّ السُلطان سليم كان مُتمسكًا بِالعقيدة والشعيرة السُنيَّة، وأكنَّ احترامًا وإعجابًا كبيرًا لِلشيخ مُحيي الدين بن عربي،[141] لِدرجة أنَّهُ كلَّف الشيخ مكِّي أفندي بِكتابة رسالة يُدافع فيها عن نظريَّة ابن عربي حول وحدة الوُجُود.[142] وتذكر بعض المصادر أنَّ هذا السُلطان كان مولويًّا، إذ كان يكُّنُّ احترامًا للمولى جلال الدين الرومي أيضًا، وزار قبره في قونية في طريق حملته إلى الشَّام. ومن مآثر السُلطان سليم أنَّهُ لمَّا انتقل إليه مُلك مصر أوقف عدَّة قُرى إلى جوار القاهرة وخصَّص ريعها لِصناعة كسوة الكعبة، وأمر بِصناعة شمعٍ خاص وإرساله إلى الحرمين الشريفين لِإنارتهما، وهو شمعٌ أبيض أُضيف لهُ الكافور ويُسمَّى «شمع كافوري»، يُستخرج من دُهن الحيتان. ومن مآثره أيضًا أن أمر بِإنشاء بيمارستان ومأوىً لِمرضى الجُذام قُرب مقبرة قراجة أحمد، واستمرَّ هذا البيمارستان يُعالج مرضى الجُذام حتَّى سنة 1938م، أي تاريخ هدمه.[4] وأمر السُلطان سليم بِتخصيص موضعٍ في مسجد أولو جامع بِبورصة لِتُعلَّق فيه أوَّل كسوةٍ لِلكعبة أعدَّها العُثمانيُّون بعد انتقال خدمة الحرمين الشريفين إليهم. فقد كانت العادة عند نهاية موسم الحج أن تُرسل كسوة السنة السابقة إلى السُلطان الحاكم لبلاد الحرمين، ولمَّا آن أوان موسم الحج الثاني في سلطنة سليم، أرسل إليه شريف مكَّة الكسوة القديمة بحسب العادة الجارية، فرغب السُلطان بِتخليد هذا الحدث الذي يرمز إلى انتقال خدمة الحرمين إلى بني عُثمان، فعلَّق الكسوة في مسجد أولو جامع، وجدَّد التخطيط الظاهر في أعلاها، ونصُّه (كما هو بِأخطائه): «الله الله الله، أَمَر بِعَمَل ھَذِهِ لْمَحْمَل شَرِیْف مَوْلَانَا الْمَلِك الْمُعَظَّم الْمُظَفَّر الْمَلِكِ الْعَادِلِ الْمُجَاهِد الْمُرَابِط المُثَاغِر سُلْطَان الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مُحْيِي الْعَدْلِ فِي الْعَالَمِين خَادِمِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إسْكَنْدَر الزَّمَان سُلْطَان سَلَيْم شَاه بْنِ السُّلْطَانِ بَايَزِيد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُرَاد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّد خَان بْنِ السُّلْطَانِ بَايَزِيد خَان بْنِ السُّلْطَانِ مُرَاد خَان بْنِ السُّلْطَانِ أُرْخاَن بْنِ السُّلْطَانِ عُثْمَان خَلَّدَ الله مِلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَنَصَر جُيُوشِه وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ بِتَارِيخ خَامِسَ عَشَرَ شَهْرِ شَوَّالٍ الْمُبَارَك مِنْ شُهُورِ سَنَةِ الِاثْنَيْن وَعِشْرِين وَتِسْعُ مِائَة بِدِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ».[77][la 36]

زوجاته وأولاده

[عدل]
تمثالٌ نصفيّ لِعائشة حفصة سُلطان.
سُليمان بن سليم، السُلطان سُليمان القانوني لاحقًا، بِريشة رسَّام غربي مجهول.

تزوَّج السُلطان سليم بامرأتين فقط حسب ما هو شائع، ويُقال تزوَّج بِأربعة،[la 37] وأنجب منهُنَّ خمس بنات، وقيل تسعة.[la 37] والرواية الأكثر قبولًا وشُيُوعًا أنَّهُ لم يكن له من الأبناء الذُكُور حين وفاته سوى وليّ عهده سُليمان، ويُقال أنَّهُ كان لهُ أبناءٌ آخرين ماتوا جميعهم في صغرهم،[la 38] ويُقال أيضًا أنَّ لهُ ابنٌ آخر غير سُليمان كُتبت لهُ الحياة، وقد أنجبه من إحدى مُحظياته التي طُردت من الحرملك.[la 39] أما زوجاته وأولاده فهم:

زوجاته
  • عائشة حفصة سُلطان: حسب الرواية الشائعة فهي ابنة خان القرم منكلي كراي. وبحسب هذه الرواية فإنَّ سليمًا تزوَّجها خلال عهد جدِّه مُحمَّد الفاتح في سبيل توثيق عُرى الاتحاد بين العُثمانيين ومغول القرم عبر المُصاهرة. أصبحت فيما بعد أوَّل امرأة تحمل لقب السُلطانة الأُم أو والدة السُلطان في عهد ابنها سُليمان. مصادر أُخرى تقول أنها جارية مسيحيَّة الأصل، أو أنَّها مُسلمة حُرَّة ابنة رجل يُدعى عبد المُعين.[la 40] تُوفيت سنة 1534م ودُفنت في الجهة القبليَّة من مسجد السليميَّة حيثُ يرقد زوجها.
  • عائشة خاتون: تكاد تجمع المصادر أنَّها هي ابنة خان القرم منكلي كراي. كانت في البداية زوجة مُحمَّد شقيق سليم، ولمَّا تُوفي دخلت حرملك سليم وتزوَّجها فيما بعد.
أبناؤه
  • سُليمان: ابن عائشة حفصة سُلطان، ووليّ عهد أبيه. قُدِّر لهُ أن يُصبح أعظم سلاطين بني عُثمان في التاريخ ومن أعظم الحُكَّام المُسلمين عُمومًا.
  • أُويس باشا: يُقال أنَّهُ ابن السُلطان سليم من مُحظيةٍ مجهولة طُردت من الحرملك لِسوء أخلاقها، وزُوِّجت لِأحد أُمراء الدولة العُثمانيَّة، وهو من تكفَّل بِتربية ابنها حينما وُلد. حُجَّة القائلين بِهذا روايةٌ تقول أنَّ السُلطان سُليمان لمَّا بلغه وفاة أُويس المذكور، بكاه قائلًا: «فقدتُ أخي».
أمَّا الأبناء الآخرون الذين يُقال بأنَّ السُلطان سليم رُزق بهم وماتوا في طفولتهم، فهم: الشاهزاده صالح، والشاهزاده أورخان، والشاهزاده موسى، والشاهزاده قورقود.
بناته
  • فاطمة سُلطان: ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت ثلاث مرَّات: الأولى بِمُصطفى باشا، والثانية بالصدر الأعظم قره‌أحمد باشا، والثالثة بِالبكلربك إبراهيم باشا الخادم. توفيت سنة 1573م ودُفنت بِتُربة قره‌أحمد باشا بإسلامبول.
  • خديجة سُلطان: ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت القُبطان إسكندر باشا سنة 1509م. اعتُقد لِفترةٍ طويلة أنَّها تزوَّجت من الصدر الأعظم إبراهيم باشا الفرنجي، نديم شقيقها سُليمان، لكنَّ الأبحاث المُعاصرة تُشكك في ذلك. يُعتقد أنها رُزقت بابنةٍ واحدةٍ على الأقل.[la 41] دُفنت بِمسجد السليميَّة حيثُ يرقد والداها.
  • حفصة سُلطان: تزوَّجت بدايةً بالوزير أحمد باشا بن دوقاقين، ويُحتمل أنَّها تزوَّجت لاحقًا بِجوبان مُصطفى باشا بن إسكندر. أنجبت والدًا واحدًا هو عُثمان باشا الشهير بِـ«قره‌عُثمان شاه».
  • شاه سُلطان: ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت الصدر الأعظم لطفي باشا سنة 1523م وأنجبت ابنة تُدعى «أسمهان خانم سُلطان». تُوفيت قُرابة سنة 1572م ودُفنت في جامع أبي أيُّوب الأنصاري.[la 42]
  • بيخان سُلطان: يُحتمل أنها ابنة عائشة حفصة خاتون. تزوَّجت سنة 1521م بالبكلربك فرحات باشا وأنجبت ابنة وحيدة بحسب الظاهر. توفيت سنة 1559م ودُفنت في مسجد السليميَّة حيثُ يرقد والداها وشقيقاتها.

في الثقافة الشعبيَّة

[عدل]

ظهرت شخصيَّة السُلطان سليم الأوَّل في عدَّة أعمالٍ مرئيَّة ومكتوبة، منها على سبيل المِثال لُعبة «عقيدة الحشاشين: الوُحِيّ» (بِالإنگليزيَّة: Assassin's Creed: Revelations) حيثُ يلعب دورًا محوريًّا في القصَّة،[la 43] ومنها أيضًا مجموعة من المُسلسلات التلفزيونيَّة، أبرزها: حريم السُلطان، وفيه أدَّى المُمثل مُحرَّم گُلمز (بالتركية: Muharrem Gülmez)‏ دور السُلطان سليم، وكذلك في مُسلسل السُلطان والشاه الذي يتناول الصراع العُثماني الصفوي وأثره على البلاد العربيَّة، وفيه أدَّى المُمثل السوري سامر المصري دور السُلطان، وأيضًا مُسلسل الزيني بركات الذي يتحدث عن الفترة الأخيرة من حياة الدولة المملوكيَّة، وفيه أدَّى المُمثل المصري نبيل الدسوقي دور السُلطان سليم.

هوامش

[عدل]
  1. ^ كان الخطر الپُرتُغالي قد تصاعد في بحر القلزم (الأحمر) مُنذُ أن وصل الپُرتُغاليُّون إلى الهند سنة 1498م. ولمَّا كان هؤلاء يُناصبون - بِروحٍ صليبيَّةٍ - المُسلمين في الأندلُس والمغرب أشدَّ العداء، فإنَّهم استهدفوا مُحاربتهم أنَّى كانوا وكسر احتكارهم لِتجارة التوابل مع الشرق. وتمكَّن الپُرتُغاليُّون فعلًا من القضاء على هذا الاحتكار لِضعف كُلٍ من الدولة المملوكيَّة والدُويلات الإسلاميَّة الهنديَّة والعربيَّة المُطلَّة على المُحيط الهندي والبحار المُتفرِّعة منه. ولمَّا تمَّ لهم ذلك، عملوا على فرض نظامٍ احتكاريٍّ من جانبهم، وأجبروا أصحاب المراكب حمل تراخيص تُعرف باسم «القرطاس» (بالبرتغالية: Cartaz‏) في مُقابل دفع رسم من قِبل صاحب المركب، وشريطة دفع رُسُومٍ كذلك على البضائع المشحونة. وأصبحت المراكب التي لا تحمل هذه الأوراق - وأحيانًا حتَّى التي تحملها - عُرضةً لِلمُصادرة أو الإغراق من قِبل السُفُن الپُرتُغاليَّة إذ كان التُجَّارُ من المُسلمين.[19] وحاول المماليك التصدِّي لِلپُرتُغاليين، فانتصروا عليهم بدايةً في معركةٍ بحريَّةٍ لكنَّهم عادوا وهُزموا في السنة التالية ودُمِّر أُسطولهم بِكامله. وعلى أثر هذا الانتصار حاول نائب ملك الپُرتُغال في الهند ألفونسو دي البوقرق السيطرة على عدن واتخاذها مُنطلقًا لِلسيطرة على جدَّة واحتلال الحرمين الشريفين والوُصُول إلى مملكة الحبشة لِلتحالف مع النجاشي داود بن ناعود السُليماني ضدَّ المُسلمين.[19] ولم يتمكَّن السُلطان المملوكي قانصوه الغوري من فعل شيءٍ إزاء هذا الخطر الكبير، فاستغاث بِنظيره العُثماني بايزيد الثاني الذي سارع إلى مد يد العون فورًا، فأرسل عددٌ من الصُنَّاع والفنيين لِإصلاح الأُسطُول المملوكي وصناعة ثلاثين سفينةً حريَّبةً إضافيَّةً في السُويس لِتتكفَّل بِحماية التجارة الإسلاميَّة في بحر القلزم وخارجه.[20]
  2. ^ القزلباش هو مُصطلح أُطلق على الجُنُود الصفويين، وهو لقبٌ منحوت من كلمتين: «قزل» بِمعنى «الأحمر» و«باش» بِمعنى «الرأس»، فيكون معنى الاسم كاملًا: ذوي الرؤوس الحمراء، وذلك لِاعتمار هذه الطائفة من الجُند عمائم حُمر.[30]
  3. ^ «المِعْجَر» هو الثَّوبُ الذي تشُدُّه المرأة على رأسها. يُجمع على «مَعَاجِر».[44]
  4. ^ «السكبانباشي» كلمة مُركبة من «سكبان» و«باشي»، وهي تعني رئيس السكبان. والسكبان كلمة فارسيَّة معناها «مُدرِّب الكلاب» أو «الحارس» أو «المُدرِّب»، وكانت تُطلق على فرقة المُتطوِّعين الذين يُقدمون أنفُسهم لِلجُنديَّة بِمحض اختيارهم وقت الحاجة الشديدة لِلجُند. قيل أيضًا بأنَّ التسمية تُركيَّة الأصل وإنَّها تحريفٌ لِلفظ «سيمن» الذي يعني المقدام. يعود وُجُود هذه الطائفة إلى عهد السُلطان مُراد الأوَّل، وكانوا يُرافقونه في الصيد، ثُمَّ أُلحقوا بِالإنكشاريَّة في عهد السُلطان مُحمَّد الفاتح.[58]
  5. ^ «اللاونديُّون» أو «اللاوند» هي تسمية أطلقها العُثمانيُّون على طائفةٍ من الجُنُود البحريَّة. يُقال أنَّ أصلها إيطالي مُحرَّف (بالإيطالية: Levantino)‏، وأنَّ البنادقة هم أوَّل من أطلقها على البحَّارة الشرقيُّون الذين استخدموهم في أُسطولهم، فاستعارها العُثمانيُّون عنهم. يُقال أيضًا أنَّ التسمية أصلها فارسي وتعني «الخادم» أو «الغُلام سيّئ الخُلُق»، وهذا ما انطبق على هذه الطائفة العسكريَّة في وقتٍ لاحقٍ من تاريخها، فأصبح أفرادها يرتكبون المظالم الكبيرة بِحق الأهالي والبلاد التي يُقيمون فيها، ممَّا دفع السلطنة العُثمانيَّة إلى إلغاء هذا التنظيم وتسريح عناصره سنة 1186هـ المُوافقة لِسنة 1771م.[62]
  6. ^ «الجَاوُوش» أو «الجَاوِيش»، أو «الشَاوِيش» حسب اللفظ العربي المُحرَّف، وبحسب الرَّسمُ العُثماني الأصلي هو «چَاوُش» (بالتركية: Çavuş)‏. هو نوعٌ من المُوظفين في الدولة العُثمانيَّة كانوا يُستخدمون في مجموعةٍ من الوظائف، أهمها: خدمة الديوان الهُمايُوني أثناء انعقاده، ونقل الأخبار بين القادة والعساكر في ساحات القتال على وجه الخُصُوص، وخدمة السُفُن وأُمراء البحريَّة. والجاووش في الأصل يعني الحاجب، وهو صاحب البريد والدليل في الحُرُوب وجامع الأخبار وقائد الفرقة المُكوَّنة من عشرة جُنُود.[81]
  7. ^ يُشكِّك عدد من المُؤرخين المُعاصرين بِرواية وُفُود الأمير فخر الدين عُثمان المعني، الشهير بِفخر الدين المعني الأوَّل، وإلقائه خطبته الشهيرة بين يديّ السُلطان سليم، بل هُناك شُكُوكٌ حول وُجُود أميرٍ معنيٍّ يُدعى فخر الدين في ذلك الزمن. وسبب ذلك أنَّ المصادر التي عاصرت ضمّ السُلطان سليم لِلديار الشَّاميَّة أو التي كُتبت بعد ذلك بِفترةٍ قصيرة، لا تأتي على ذكر هذا الخبر. فالبطريرك الماروني أسطفان الدويهي (1630 - 1704م) ذكر في كتابه «تاريخ الأزمنة» أنَّ السُلطان سليم ثبَّت على حُكم الشوف أميرًا يُدعى قُرقُماز بن يُونُس المعني، دون أن يتطرَّق لأمر الخطبة المذكورة أو لِأميرٍ يُدعى فخر الدين،[86] كما أنَّ المُؤرِّخ الدمشقي أحمد بن طولون الصالحي، الذي دوَّن التفاصيل عن يوميَّات السُلطان سليم في دمشق لم يأتِ على ذِكر اسم أيِّ أميرٍ معنيٍّ وفد على السُلطان سنة ضمِّه الشَّام أو حينما رجع من مصر. ويُحتمل أن يكون المُؤرخون قد وقعوا في خطأٍ بين فخر الدين عُثمان وأميرٍ آخر نتيجةً لِتشابه الأسماء والألقاب، إذ أنَّ «فخر الدين» كان إحدى الألقاب الشائعة بين الأُمراء والقادة والسلاطين في ذلك الزمان.[87] ويبدو أنَّ فخر الدين عُثمان الفعلي، الذي كان أميرًا لِلشوف، توفي قبل دُخُول العُثمانيين إلى الشَّام بِقُرابة عشر سنوات، إذ يذكر المُؤرِّخ الدُرزي ابن سباط: «في ربيعٍ الآخر [912هـ] تُوفي الأمير فخر الدين عُثمان ابن معن أمير الأشواف من أعمال صيدا».[88] بناءً على هذا، يرى المُؤرِّخ اللُبناني كمال الصليبي، أنَّ الأمير المعني الذي وفد على السُلطان سليم في دمشق كان قُرقُماز بن يُونُس، أي حفيد فخر الدين عُثمان، لِتوافق عهده مع زمن دُخُول البلاد تحت جناح الدولة العُثمانيَّة.[la 32]
  8. ^ يقول ابن منظور: «والقِطارُ: أَن تَقْطُر الإِبل بَعْضَهَا إِلى بَعْضٍ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ… وقَطَرَ الإِبلَ يَقْطُرها قَطْراً وقَطَّرها: قَرَّب بعضَها إِلى بَعْضٍ عَلَى نَسَقٍ».[98] وكان القطارُ يتألَّف من سبعة رُؤوسٍ، أي أنَّ عدد الجمال التي اشتراها السُلطان سليم بلعت سبعة آلاف جمل.[95]
  9. ^ المشاعليَّة هم طائفة من المصريين كانوا يُزاولون عدَّة أعمال ليلًا ونهارًا. مُفردهم «مشاعلي»، واسمهم مُشتق من المشاعل التي كانوا يستخدمونها ليلًا، وكان يُطلق عليهم أيضًا «الضويَّة». من أبرز المهام التي أُنيطت بهم: قراءة الفرمانات السُلطانيَّة والديوانيَّة الصادرة عن السُلطان أو عن والي القاهرة على الملأ، وتنفيذ أحكام الجلد بالباعة والتُجَّار الذين يُخالفون التسعيرة أو يُطففون الميزان والمكيال، وبعض الأعمال الدنيئة مثل نزح آبار البُيُوت والحمَّامات وتسليك المجاري المنزليَّة.[102]

المراجع

[عدل]

فهرست المراجع

[عدل]
بِاللُغتين العربيَّة والعُثمانيَّة
  1. ^ ا ب ج د فريد بك (1981)، ص. 188.
  2. ^ حلاق (2000)، ص. 28-29.
  3. ^ جحا وآخرون (1972)، ص. 135-136.
  4. ^ ا ب ج د ه و ز أرمغان (2014)، ص. 61-65.
  5. ^ ا ب الغزي (1997)، ص. 209.
  6. ^ فريد بك (1981)، ص. 197.
  7. ^ القرماني (1865)، ص. 316.
  8. ^ البكري (1995)، ص. 71-72.
  9. ^ منجم باشي (2009)، ص. 633.
  10. ^ القرماني (1865)، ص. 310-311.
  11. ^ ا ب ج د ه أوزتونا (2010)، ص. 202-206.
  12. ^ آق كوندوز وأوزتورك (2008)، ص. 212.
  13. ^ طقوش (2007)، ص. 70-72.
  14. ^ ا ب ج د منجم باشي (2009)، ص. 589-599.
  15. ^ فريد بك (1981)، ص. 186.
  16. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي أوزتونا (2010)، ص. 207-211.
  17. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط منجم باشي (2009)، ص. 599-610.
  18. ^ ا ب ج د ه و ز منجم باشي (2009)، ص. 611-620.
  19. ^ ا ب الطيبي (1999)، ص. 163-165.
  20. ^ محمود (2019)، ص. 35.
  21. ^ فريد بك (1981)، ص. 187.
  22. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي يا منجم باشي (2009)، ص. 634-638.
  23. ^ طقوش (2013)، ص. 147.
  24. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي يا أوزتونا (2010)، ص. 213-215.
  25. ^ هوتسما وآخرون (1998)، ص. 5771.
  26. ^ التر (1989)، ص. 35.
  27. ^ صولاق زاده (1297هـ)، ص. 356.
  28. ^ سعد الدين (1610)، ص. 504-507.
  29. ^ أوين (1990)، ص. 17.
  30. ^ حلاق وصباغ (1999)، ص. 174.
  31. ^ الجميل (1997)، ص. 78-79.
  32. ^ ا ب ج طقوش (2013)، ص. 154-155.
  33. ^ النهروالي (1996)، ص. 284.
  34. ^ الخربوطلي (1969), p. 259.
  35. ^ ا ب عمر (1985)، ص. 68-69.
  36. ^ ا ب ج جرامون (1992)، ص. 210-211.
  37. ^ طقوش (2013)، ص. 150.
  38. ^ الصلابي (2001)، ص. 179.
  39. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي يا يب يج منجم باشي (2009)، ص. 639-644.
  40. ^ رضوان (1988)، ص. 435.
  41. ^ فريدون بك (1275هـ)، ص. 379-380.
  42. ^ ا ب ج د متولي وفهمي (2005)، ص. 186-187.
  43. ^ ابن إياس (1984)، ص. 272-273.
  44. ^ مسعود (1992)، ص. 751.
  45. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط أوزتونا (2010)، ص. 216-220.
  46. ^ طقوش (2013)، ص. 158.
  47. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي يا منجم باشي (2009)، ص. 645-651.
  48. ^ ا ب ج فريد بك (1981)، ص. 190-191.
  49. ^ ا ب صباغ (1999)، ص. 130.
  50. ^ ا ب طقوش (2013)، ص. 160-161.
  51. ^ ا ب ج عمر (1985)، ص. 70.
  52. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط منجم باشي (2009)، ص. 652-657.
  53. ^ ا ب جمعة والخولي (1976)، ص. 86-87.
  54. ^ عيسى (2002)، ص. 33-35.
  55. ^ ابن إياس (1984)، ص. 404.
  56. ^ ابن إياس (1984)، ص. 262-263.
  57. ^ ا ب فريد بك (1981)، ص. 191.
  58. ^ صابان (2000)، ص. 134.
  59. ^ ا ب عيسى (2002)، ص. 36-37.
  60. ^ ا ب ج د منجم باشي (2009)، ص. 658-663.
  61. ^ ا ب ج د ه أوزتونا (2010)، ص. 243-247.
  62. ^ الخطيب (1996)، ص. 378-379.
  63. ^ بربروس (2010)، ص. 64-68.
  64. ^ ا ب ج طقوش (2013)، ص. 162-164.
  65. ^ جمعة والخولي (1976)، ص. 88.
  66. ^ جرامون (1992)، ص. 213.
  67. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط منجم باشي (2009)، ص. 663-669.
  68. ^ طقوش (2013)، ص. 165-166.
  69. ^ البكري (1055هـ)، ص. 18.
  70. ^ ا ب ج د إيفانوف (1988)، ص. 60-61.
  71. ^ أوزتونا (2010)، ص. 232-233.
  72. ^ كرد علي (1983)، ص. 205.
  73. ^ آق كوندوز وأوزتورك (2008)، ص. 231.
  74. ^ ا ب ج ابن إياس (1984أ)، ص. 60-64.
  75. ^ ا ب كرد علي (1983)، ص. 209.
  76. ^ ا ب ج عمر (1985)، ص. 74-75.
  77. ^ ا ب ج د ه و أوزتونا (2010)، ص. 221-225.
  78. ^ ا ب ج د ه و ز ح ابن إياس (1984أ)، ص. 68-71.
  79. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط عمر (1985)، ص. 76-77.
  80. ^ حتي (1972)، ج. 2، ص. 298.
  81. ^ صابان (2000)، ص. 80-81.
  82. ^ ا ب ج د كرد علي (1983)، ص. 212-213.
  83. ^ ا ب ج البكري (1995)، ص. 82-84.
  84. ^ ا ب ابن إياس (1984أ)، ص. 74-76.
  85. ^ ابن طولون (1998)، ص. 338.
  86. ^ ا ب الدويهي (1986)، ص. 394.
  87. ^ فليفل (2019)، ص. 32.
  88. ^ ابن سباط (1993)، ج. 2، ص. 931.
  89. ^ ا ب الشهابي (1900)، ص. 561.
  90. ^ فريد بك (1981)، ص. 192.
  91. ^ الغزي (1997)، ص. 89.
  92. ^ ا ب ج د عمر (1985)، ص. 77-79.
  93. ^ حسن (2000)، ص. 14.
  94. ^ ابن طولون (1998)، ص. 341.
  95. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي منجم باشي (2009)، ص. 670-675.
  96. ^ الصلابي (2001)، ص. 187.
  97. ^ بيات (2003)، ص. 75-76.
  98. ^ ابن منظور (1994)، ص. 107.
  99. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي أوزتونا (2010)، ص. 226-229.
  100. ^ ابن إياس (1984أ)، ص. 125.
  101. ^ ا ب ج د ه ابن إياس (1984أ)، ص. 146-148.
  102. ^ الشناوي (2013)، ص. 151 (الهامش).
  103. ^ ابن إياس (1984أ)، ص. 150.
  104. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي منجم باشي (2009)، ص. 676-681.
  105. ^ ا ب ج د ه و عمر (1985)، ص. 79-81.
  106. ^ ابن إياس (1984أ)، ص. 162-164.
  107. ^ ا ب ج د ابن إياس (1984أ)، ص. 171-174.
  108. ^ ا ب ج أوزتونا (2010)، ص. 230.
  109. ^ ا ب ج عبد المعطي (1999)، ص. 18-19.
  110. ^ ا ب ج محمود (2019)، ص. 58-60.
  111. ^ طقوش (2013)، ص. 176.
  112. ^ ا ب عمر (1985)، ص. 96-98.
  113. ^ أباظة (1986)، ص. 21.
  114. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي يا يب يج يد يه يو يز يح يط ك منجم باشي (2009)، ص. 681-696.
  115. ^ أوزتونا (2010)، ص. 253.
  116. ^ مبارك (1886)، ص. 56.
  117. ^ ا ب ج د ه فريد بك (1981)، ص. 194-195.
  118. ^ ا ب أوزتونا (2010)، ص. 234-239.
  119. ^ محمود (2019)، ص. 86 و88.
  120. ^ ا ب ج د ه فريد بك (1981)، ص. 196-197.
  121. ^ ابن طولون (1998)، ص. 373.
  122. ^ ا ب حتي (1972)، ص. 306-310.
  123. ^ زهر الدين (1994)، ص. 124.
  124. ^ ابن طولون (1998)، ص. 377.
  125. ^ أبو نحل (2003)، ص. 72.
  126. ^ ا ب ج د عمر (1985)، ص. 84-85.
  127. ^ ا ب أوزتونا (2010)، ص. 224-225.
  128. ^ الخربوطلي (1969)، ص. 262-263.
  129. ^ الشعراني (1889)، ص. 274.
  130. ^ الخربوطلي (1969)، ص. 259-260.
  131. ^ ا ب أوزتونا (2010)، ص. 254.
  132. ^ الصلابي (2001)، ص. 211-212.
  133. ^ التر (1989)، ص. 70.
  134. ^ الميلي (1964)، ص. 51.
  135. ^ المدني (1968)، ص. 198.
  136. ^ التر (1989)، ص. 72-73.
  137. ^ ا ب ج الأسود (2018)، ص. 108.
  138. ^ ا ب أبو حسين (2017).
  139. ^ ا ب ج أوزتونا (2010)، ص. 236-237.
  140. ^ فريد بك (1981)، ص. 198.
  141. ^ ا ب ج د ه أوزتونا (2010)، ص. 238-239.
  142. ^ ا ب ج د ه و ز ح أرمغان (2014)، ص. 56-60.
  143. ^ ا ب ج آق كوندوز وأوزتورك (2008)، ص. 233-234.
باللُغات التُركيَّة والأوروپيَّة
  1. ^ ا ب Bahadıroğlu (2009), p. 157.
  2. ^ Ágoston (2009), p. 511-513.
  3. ^ Babinger (1992), p. 57.
  4. ^ Agoston (2011), p. 116.
  5. ^ Dijkema (1977), p. 32.
  6. ^ Solak (2006), p. 524.
  7. ^ ا ب Kiliç (2015).
  8. ^ Çetinkaya (2010), p. 464, 472.
  9. ^ Tektaş (2007), p. 164.
  10. ^ Celalzade (1990), p. 446.
  11. ^ Uzunçarşılı (1990), p. 233-248.
  12. ^ Amanat (2017), p. 52.
  13. ^ Öztuna (2006), p. 39.
  14. ^ Şerafettin (1998), p. 236.
  15. ^ Mehmed (1996), p. 211-212.
  16. ^ Ulusoy (2020), p. 28.
  17. ^ İnal (2017)، ص. 176, 179.
  18. ^ ا ب ج İnalcık (1970), p. 213-214.
  19. ^ Shaw (1976)، ص. 95.
  20. ^ ا ب McCaffrey (1990), p. 656–658.
  21. ^ Britannica (1894), p. 635.
  22. ^ Floor (2001), p. 189.
  23. ^ Bruinessen (1992), p. 146.
  24. ^ Özcan (2007), p. 485-486.
  25. ^ Sevim & Yücel (1990), p. 242.
  26. ^ Ünal (1991), p. 240-246.
  27. ^ İlhan (1992), p. 116-117.
  28. ^ ا ب Petry (2008), p. 498.
  29. ^ Emecen (2016), p. 227-228.
  30. ^ Hawting (2005), p. 76.
  31. ^ Waterson (2007), p. 281.
  32. ^ Salibi (1973), p. 273, 276.
  33. ^ Burak (2015), p. 2.
  34. ^ Uzunçarşılı (1990), p. 544.
  35. ^ Drews (2011), p. 1.
  36. ^ Okumura (2012), p. 1, 6-8, 10-11.
  37. ^ ا ب Çetinoğlu (1985), p. 17.
  38. ^ Özdamarlar (2009), p. 4.
  39. ^ Emecen (2009), p. 414.
  40. ^ Sakaoğlu (2008), p. 148.
  41. ^ Turan (2009), p. 3–36.
  42. ^ Haskan (2008), p. 535.
  43. ^ Bıktım (2018).

ثبت المراجع (مُرتَّبة حسب تاريخ النشر)

[عدل]
كُتُب ودوريَّات باللُّغة العربيَّة:
باللُّغة العُثمانيَّة:
باللُغات التُركيَّة والأوروپيَّة:

وصلات خارجية

[عدل]
سليم الأول
ولد: 1470 توفي: 22 أيلول (سپتمبر) 1520
ألقاب ملكية
سبقه
بايزيد الثاني
سُلطان الدولة العُثمانيَّة

25 نيسان (أبريل) 1512 – 22 أيلول (سپتمبر) 1520

تبعه
سُليمان القانوني
ألقاب سُنيَّة
سبقه
مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله
كالخليفة العبَّاسي في مصر
أمير المُؤمنين
أوَّل الخُلفاء العُثمانيين

1517–1520

تبعه
سُليمان القانوني
سبقه
قانصوه الغوري
خادم الحرمين الشريفين

1516–1520

تبعه
سُليمان القانوني
ألقاب ادعائيَّة بِالأحقيَّة
سبقه
بايزيد الثاني
قيصر الرُّوم

25 نيسان (أبريل) 1512 – 22 أيلول (سپتمبر) 1520

سُليمان القانوني