في هذا اليوم، وبدون استئذان من اسرائيل أو أمريكا أو المراقبين الاوروبيين أو الحكومة المصرية أو السلطة الفلسطينية في رام الله، جرفت الجماهير الجدار الذي حال دون التواصل الطبيعي، بكل معانيه وأبعاده، بين أبناء الشعب العربي في كل من قطاع غزة ومصر، وتدفقت مئات الالاف عبر الحدود العربية هذه لتحررها من مذلة التحكم الاسرائيلي. تدفقت هذه الجموع لتحطيم الحصار الظالم، واذا بها وكأنها علي موعد مع الارادة المصرية الحرة، لتجد الطريق أمامها مفتوحا وبدون عوائق، لتتزود بكل ما كان الحصار الجائر قد حرمها منه، ولتتذوق مرة أخري طعم الاستقبال الاخوي من أبناء مصر العزيزة الذي طالما اشتاقت اليه، وكان الطرفان في انتظاره. لم يكن ذلك التحرك الشعبي استخفافا بالسيادة المصرية علي أراضيها، معاذ الله، ولا انتهاكا لها أو اعتداء عليها أو الانتقاص منها أو الاستقرار فيها في حالة لجوءٍ جديد، وانما كان لتحقيق هدف كبير وهو تثبيت السيطرة العربية علي الحدود العربية. كما أنه لم يكن فراراً من مواجهة اسرائيل في الداخل والاحتماء بسيناء الواسعة، وانما للتزود بما يعين علي الصمود في وجه الاحتلال والعودة الي مواجهته بقوة أكبر. كانت سيناء مفتوحة أمام هذه الألوف المؤلفة لتنجو بنفسها وابنائها من التقتيل والتدمير والابادة المبرمجة. ولكنها لم تلجأ الي سيناء، ولم تفر اليها من الاحتلال، وانما تزودت وعادت، وهذا ما يجب أن يكون، ولا قيمة لقلة حاولت لسبب أو لآخر الوصول الي الداخل المصري، مقارنة بمئات الآلاف التي تزودت وعادت. مئات الألوف هذه عبرت الحدود في فرحة عارمة، بدون سلاح أو عنف أو مصادمات، ثم عادت، عادت لتواجه الاحتلال وهي أشد مضاء وأقوي عزيمة.
وفي صباح اليوم ذاته كان ميدان التحرير في القاهرة يشهد انتفاضة
شعبية كبيرة تطالب برفع الحصار عن غزة، وكأنما كان الشعبان علي موعد أيضا، ولم
يتراجع المتظاهرون عن تظاهرهم، بل انضموا لاخوانهم أمام نقابة المحامين والصحافيين
في القاهرة، وكلهم يطالب برفع الحصار عن غزة. وفي اليوم الثاني وقف رئيس مصر، ليعلن
علي العالم كله بأن مصر لن تسمح بتجويع الشعب الفلسطيني. وهذا التزام يعني الكثير،
وكأن الرئيس المصري كان ينتظر هذه التحركات الشعبية ليعلن موقف مصر من الحصار. وتبع
ذلك في 26 كانون الثاني (يناير) قرار مجلس الأمن المصري بابقاء معبر رفح مفتوحا.
وعمت المظاهرات معظم أقطار الوطن العربي تطالب برفع الحصار، وانهالت التبرعات علي
اتحاد الاطباء العرب من كل جهة لشراء الدواء واستغلال فرصة فتح المعبر لإيصالها
للمستشفيات في القطاع، وكأن الشعب العربي كله كان في انتظار هذا الحدث.
هذا التحرك الشعبي علي جانبي الحدود استطاع أن يفرض واقعا جديدا، هو في حد ذاته
الواقع الطبيعي الذي ساد قبل الاحتلال ويجب أن يسود من الآن فصاعداً، رافضا بذلك
الاملاءات الخارجية التي شوهت هذا الواقع الطبيعي، وحاولت أن تفرض واقعا سيئا مهينا
للعرب جميعا وللارادة العربية. فالحدود بين غزة ومصر حدودٌ عربية، هي كذلك منذ
الأزل، ومحاولةُ اسرائيل فرض قيود عليها هي اعتداء علي عروبتها، والرضوخ لهذه
المحاولة هو الرضوخ لارادة اجنبية تدعي لنفسها الحقَ في أن تحدد هي طبيعةَ العلاقةِ
الحدودية بين الاقطار العربية، وهي في هذه الحالة الحدود بين مصر وفلسطين.
إن أهمية ما حدث يوم 23 كانون الثاني (يناير) تتجلي في أنه امتداد لانتفاضات تاريخية سابقة، وفي مقدمتها انتفاضة القوات المسلحة المصرية في حرب اكتوبر المظفرة وبطولات مقاتلي حزب الله في حرب تموز (يوليو) الحاسمة، هذه الانتفاضات التي فرضت علي الارض وقائع عربية نقضت وقائع توهمت اسرائيل أنها فرضتها لتدوم. كانت اسرائيل هي التي تفرض الوقائع علي الأرض وتفرض ارادتها علي الواقع العربي الرسمي الي أن تبددت هذه الصورة بحرب تشرين الأول (اكتوبر) وحرب تموز (يوليو)، وها هي تتبدد مرة أخري عبر معبر رفح وبوابة صلاح الدين.
هذا العمل الشعبي الذي تمرد علي الاوضاع الظالمة القائمة قد نقل مسؤولية الحفاظ علي نتائجه الي المستوي الرسمي، دون أن يتخلي هو عن دوره في الحفاظ عليه والدفاع عنه. العمل الشعبي أتاح الفرصة للجانبين الفلسطيني والمصري الرسميين، اذا حزما أمرهما، للتخلص من قيود فرضت عليهما تتنافي مع طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بينهما. لقد حصل التلاقي والتفاعل بين الارادتين الشعبية والرسمية في كل من فلسطين ومصر، مما أتاح الفرصة للرئيس المصري أن يقف الموقف الطبيعي والقومي الذي يرفض تجويع الشعب الفلسطيني بحجة الالتزام باتفاق هو باطل أصلا قد فرضه الاحتلال. وهذا التلاقي بين الارادتين علي جانبي المعبر هو الذي بإمكانه أن يؤدي الي تغير جذري في طبيعة التعامل مع الاحتلال ومواجهته، وهو الذي من شأنه أن يحرر القطاع من التحكم الاسرائيلي في جميع مناحي حياته.
التحرك الشعبي هو الذي فتح الطريق، وهذه ظاهرة لم نتعود عليها في الوطن العربي الا نادرا. إن مشكلة التحرك الرسمي العربي هي أنه يجري في غالب الاحيان في معزل من قوة شعبية متحركة يستطيع الاعتماد عليها لاتخاذ المواقف التي يمليها عليه التزامه القومي والانساني. ليس هذا فحسب، بل ان التحرك الرسمي كثيرا ما يخشي التحرك الشعبي ويناصبه العداء، ويبدأ الحريصون علي النظام تهويل مخاطر هذا التحرك، بدلا من التعامل معه كظاهرة صحية لا غني للمجتمع عنها في مواجهة مشاكله والتصدي لخصومه. التحرك الشعبي في هذه المرة استطاع أن يلغي واقعا فرضته اسرائيل وأن يرد الامور الي وضعها الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه. وليس لاسرائيل أو أمريكا تحميل مصر الرسمية المسؤولية عما حدث أو عما يترتب علي فتح معبر رفح من نتائج، ذلك لأن السياسة الاسرائيلية من حصار وتجويع وقتل اقتصادي وانتهاكات للقانون الدولي الانساني هي المسؤولة عن تفجر الاوضاع، ومن حق مصر في هذه الظروف أن تتصرف علي الوجه الذي يمليه عليها انتماؤها القومي والانساني ويحمي حدودها، بالاتفاق مع الفلسطينيين أنفسهم، حيث ان اشتراك اسرائيل وغيرها في ترتيبات الحدود قد بانت نتائجه وأخطاؤه وأخطاره بشكل لا يجوز تجاهله والعودة الي ما كانت عليه الأمور في السابق.
ولكي يؤدي التحرك الشعبي هذا الدور النضالي البناء فإن عليه أن يتصرف بمسؤولية دون أن يتغافل أو يتراجع في مطالبه. لقد كان من الامور المستنكرة جدا ما وقع من صدام عابر ادي الي وقوع اصابات لبعض افراد القوات المسلحة المصرية. هذا تصرف يسيء الي التحرك الشعبي وللاهداف النبيلة التي سعي الي تحقيقها، ويتيح الفرصة للبعض لإيقاظ الفتنة. وفي الوقت ذاته، وبعد أن تأكد الموقف الرسمي المصري، كان علي حماس، وهي المسيطرة علي القطاع، أن تعمل علي تنظيم الدخول عبر المعبر بحيث يتم بانتظام وبدون تمكين المتربصين بمصر وفلسطين من بث السموم في العلاقات الاخوية. علي حماس أن تنهض بمسؤوليتها للحفاظ علي هذه العلاقات الاخوية ولحماية مصر من أن يتسلل اليها، في هذه الزحمة، مخربون أو متآمرون. هذه خطوات يجب أن تتخذ حتي لا يفقد التحرك الشعبي أهميته في أداء دوره التحريري. وعلي حماس أن تتخذه ما دامت تسيطر علي الاوضاع في القطاع.
التحركُ الشعبي، اذا كان واعياً ملتزما ومنضبطا، شأنه شأن المعارضة الواعية الملتزمة المنضبطة، قوةٌ وسلاحٌ ماضٍٍ في يد الحكومات التي تريد أن تصمد في وجه الطلبات الجائرة والضغوط الاجنبية، وما حدث يوم 23 كانون الثاني (يناير) سواء من الجانب الفلسطيني أو الجانب المصري أو حتي المظاهرات التي انطلقت في مختلف الاقطار العربية يمكن للنظامين المصري والفلسطيني وللأنظمة العربية عامة توظيفه للتخلص من قيود اتفاقات المعابر، بل وحتي للتخلص من القيود التي فرضت علي السيادة المصرية في سيناء.
ان سيطرة حماس في قطاع غزة وما لها من نفوذ واتباع في الضفة أمر يمكن توظيفه بذكاء لرفض الطلبات والشروط الاسرائيلية والامريكية. المعارضة التي نصورها دائما علي أنها نقمة أو نقطة ضعف، هي في القضايا المصيرية مصدر قوة اذا أُحسِنَ الاستفادة من وجودها. وفي الاوضاع الراهنة فإن سيطرة حماس علي قطاع غزة وهذا التحرك الشعبي القوي سواء في القطاع أو في مصر جديران بأن يوفرا قوة يستطيع النظامان المصري والفلسطيني الاستناد اليهما أولا لابقاء المعبر مفتوحا تحت رقابة مصرية فلسطينية خالصة، وثانيا لرفض العودة الي وضع المهانة السابق الذي كانت تسيطر فيه اسرائيل علي كل تحرك بين القطاع ومصر، ذلك أن العودة الي ذلك النظام من شأنه أن يفجر الأوضاع من جديد لا لسبب إلا لأن اسرائيل لا تستطيع التخلي عن سياسة القهر التي تنتهجها حيال الشعب الفلسطيني لإخضاعه لإملاءاتها. فسياسة القهر هذه، التي لم تعرف حدودا، ستعود اذا عاد التحكم الاسرائيلي، وهو تحكم فرضه النظام القديم وساهم فيه المراقبون الاوروبيون الذين كان الهدف الاساسي من وجودهم هو حماية المصالح الاسرائيلية في تثبيت الاحتلال وليس المصلحة الفلسطينية أو المصرية أو العربية. هذا هو المطلب الشعبي، فلسطينيا وعربيا، وعلي الجماهير أن تتحرك من جديد، سلميا وبانضباط، اذا حادت الترتيبات الجديدة عن هذا الهدف.
تُري متي تتحقق الانتفاضات الشعبية العارمة الاخري التي ما زالت
في الانتظار والتي يتحرك فيها الألوف بشكل يتواصل الي أن ينهار جدار الفصل العنصري
وتُزال الحواجز وتخلي المستوطنات؟ متي ستنطلق انتفاضة اللاجئين من كل مخيم نحو
الحدود في الطريق الي العودة، فحق العودة لن يعترف به اختيارا وانما يُنال بالضغط
الجماهيري الذي لا يتوقف والذي يؤكد للعدو أن هذا الحق وراءه مُطالِب؟
متي؟؟
الدعوة هذه لانتفاضات ما زالت في الانتظار ليست دعوة للعنف أو
للفوضي، فكلاهما يضر بالهدف من التحرك ويتيح الفرصة لتشويهه والانقضاض عليه.
الأهداف الفلسطينية كلها مشروعة وطاهرة ونقية ولا يجوز السماح بالالتفاف عليها
بتحركات غير ملتزمة أو منضبطة.
كاتب من فلسطين
من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية
شارك بتعليقك