"كلُّ شيء قناع، وكلُّ قناع، عندما ينكشف، ينكشف عن قناع آخر، وليس الوجود، ليست الصيرورة إلا حركة هذه الأقنعة والتأويلات. بهذا المعنى قلنا مع نيتشه بأن "كلُّ شيء قناع، وكلُّ قناع، عندما ينكشف، ينكشف عن قناع آخر، وليس الوجود، ليست الصيرورة إلا حركة هذه الأقنعة والتأويلات. بهذا المعنى قلنا مع نيتشه بأن مجاوزة الميتافيزيقا وقلب الأفلاطونية يعنيان أن ’يُصبح عالم الحقيقة في النهاية حكاية‘. أي شيئاً يُروى، ولا يوجد إلا في السرد وبه. إنهما يعنيان إذن ألَّا ينفصل التأويل والقراءة عن نصِّ العالم، وأن يصبح العالم، كما يقول بلانشو، حركة الكتابة ذاتها. يعنيان مجاوزة مفهومَي القراءة والكتابة كما رسَّختهما الميتافيزيقا"
أسس الفكر الفلسفي المعاصر: مجاوزة الميتافيزيقا – عبد السلام بنعبد العالي كتاب ماتعٌ من حيث عرضه لمختلف محاولات الفلاسفة المعاصرين تجاوز الفكر الميتافيزيقي تارة عبر الحفر خلف أسسه السيكولوجية وتارة عبر تفكيكه من داخله، مستخدمين أدواتٍ تسمح لهم بتجاوز الميتافيزيقا من دون معارضتها ولا إثبات أصلٍ إنساني فيها. حاول الكاتب تبيان جهود الفلاسفة في رفض القطع في القول واحتكار الحقيقة عبر الإيمان بالاختلاف ونسخ النسخ والهويات المتعددة. أحببتُ تحليلاته الموجزة لفلسفات هايدجر وفوكو ونيتشه ودريدا وغيرهم، وطريقته في ربطهم جميعاً بمحاولة مشتركة لإثبات أهمية المحاولة الإنسانية في الوجود في وجه القطع الميتافيزيقي له.
"عشتُ ماضياً طويلاً يا صغيري ساندي، وأعلم ألَّا حيِّز في العالم لشيء سوى الحب. أعلم ذلك يا صغيري! كلُّ شيء سوى الحب يُنهك روحك، والحبُّ وحده كافٍ، يجب"عشتُ ماضياً طويلاً يا صغيري ساندي، وأعلم ألَّا حيِّز في العالم لشيء سوى الحب. أعلم ذلك يا صغيري! كلُّ شيء سوى الحب يُنهك روحك، والحبُّ وحده كافٍ، يجب أن يكون هناك حيِّز للجميع في قلبك، كباراً وصغاراً، بيضاً وسوداً، وللأخيار منهم والأشرار، لأنَّ الحبَّ لا يدخل الأماكن المحصورة على الطيِّبين دون الأشرار، عدا ذلك لا يكون حبّاً. ربما يُسيء البيض معاملتك ويكرهونك، لكن حينما تردُّ لهم الكراهية بمثلها فأنت من تتأذى، لأن الكراهية تجعل قلبك قبيحاً، هذا كلُّ ما تفعله. إنها تُغلق باب الحياة الجميل وتجعل كلَّ شيء صغيراً ولئيماً وقذراً. عزيزي، لا حيِّز في العالم للكراهية .. لا يتسع لشيء سوى الحب"
حياة لا تخلو من ضحك – لانغستون هيوز \ ترجمة تيم الكردي
رواية حميمية وجميلة جداً، يكمُن جمالها في كلِّها، أي في مُجمل السرد الذي تناول جانباً من حياة بِضع شخصيات. أحببتُ السرد البسيط والرؤية الجادَّة للحياة، وأدركتُ حقيقة اجتماعية لم تتضح لي من قبل: يُمكنك أن تصنع من الإنسان، عبر النظام الاجتماعي، أيَّ شيء تُريده، يُفترض بهذه الحقيقة أن تكون واعدة، ولكن .. !
"لا يكفُّ الفرد يولد. وظروف عيشه تُبدِّله، بمقدار ما يؤثر فيها. إنه يظلُّ هو هو على مرِّ الزمن، في الوقت ذاته الذي يعرف فيه تحوُّلاً بشكل غير محسوس، و"لا يكفُّ الفرد يولد. وظروف عيشه تُبدِّله، بمقدار ما يؤثر فيها. إنه يظلُّ هو هو على مرِّ الزمن، في الوقت ذاته الذي يعرف فيه تحوُّلاً بشكل غير محسوس، وأحياناً بشكل عنيف تحت نيران الظروف. إنه يتغير لكي يظل هو ذاته. ليست الهوية هي التطابق، وإنما هي العبور" اختفاء الذات عن نفسها – دافيد لوبروتون كتابٌ جدير بالقراءة، يشرح مفهوم انقطاع المرء عن حياته، أو قراره بالتخلي عن هويته والتزاماته وواجباته ونمط الحياة التي عاشها، من أجل أن يخلق نفسه من جديد بطريقته الخاصة، والبعيدة تماماً عن التزامات الحياة اليومية المطلوبة للانسجام في المجتمع. اختصاراً لمن يريد قراءته، يُمكنك الاكتفاء بقراءة التمهيد "عتبة: هويات معاصرة عسيرة" وآخر فصل بعنوان "الذات تخييلاً" لتتصوَّر فكرة الكتاب وما يريد إيضاحه، ولتقع على الفقرات المهمة فيه، أما ما بينهما فأمثلة على الكيفية التي يفقد فيها المرء ذاته عبر طرق عديدة، كالانهماك في العمل أو الإدمان أو الشيخوخة وغيرها، وهي مجرد فصول تطرح أمثلة وتفاصيل غير ضرورية لتبيان فكرة الكتاب، يُمكنك تجاوزها. أحببتُ الكتاب، لا سيما الفصل الأخير المتناول للألم النفسي في العيش مع الذات واحتمالها، أنا أكيدةٌ من أن قراءة ثانية لهذين الفصلين بعد زمنٍ ستخلق في ذهني أسئلة مغايرة لنظيرتها اليوم، هذا بالضبط ما يُشير إليه الكتاب، إننا ما نفتأ نُخلق من جديد كلَّ حين. ...more
في مسرح الحياة: كيف يكون الإحباط شفاءً لنا من الخيال؟ (مراجعة كتاب "فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها")
من الكتب التي تجرأتْ على التحليل النفسي للعوالفي مسرح الحياة: كيف يكون الإحباط شفاءً لنا من الخيال؟ (مراجعة كتاب "فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها")
من الكتب التي تجرأتْ على التحليل النفسي للعوالم التي نعيشها بالتوازي مع حياتنا الواقعية، وبيَّنت ذلك في فصول عديدة يحمل كلٌّ منها مستوى مختلفاً من التحليل ويربطه مع سمة نفسية أو خصيصة أو أسلوب فنِّي أو أدبي، ما جعل الكتاب دراسة موجزة ومُهمة للعلاقة الوطيدة بين الفن والروح الإنسانية التي تصيبها الواقعية بالعقم. يعيش كلٌّ منا في عالمه وواقعه راغباً في أشياء كثيرة، وشاعراً بحاجات عديدة، فإن لم تتحقق هذه في حياته وشعر بأن الأوان قد فات على المحاولة من جديد، شعر بالإحباط، لا سيما إن كان يتذرَّع به من أجل مواجهة مواقف تتطلب منه تغيير ذاته أو فكره لتحقيق ما يريد، عندئذٍ يكون الإحباط والغوص فيه ذريعة لذيذة يقبلها، بل يختارها، ليظل في موقع الضحية. ولكن هذا الموقف النفسي الرافض للتغيير والتأقلم يُنتج رغبة في الانتقام من العالم الذي لم يكن سهلاً، ولم يمنحنا ما نريد بدون مطالبته إيانا بتغيير بعض جوانب تفكيرنا، ويتمثل هذا الانتقام في كراهية الذات والآخر، ومطالبة الآخرين بالمستحيل، وفرض الرغبات عليهم من دون اعتبارٍ لما يريدونه وما يفضِّلونه، ويطرح الكاتب مثالاً على ذلك مسرحية "الملك لير"، حينما طالب لير ابنته الصغرى بأن تعلن له عن حبها، فرفضت الأخيرة لأنها رأت في ذلك نفاقاً لا يُشبهها، فكانت المسرحية تعبيراً عن محاولاته الانتقام منها. نفهم من ذلك أن الإحباط ليس موقفاً سلبياً، بل مُنتجاً للعديد من الاضطرابات والمشاكل النفسية، كالوهم والخداع، بمعنى أن الشاعر بالإحباط نادراً ما يدري سبب إحباطه، فالإحباط ينتاب المرء مع غشاوة توضع على عينيه، فلا يعود يفهم سبب تعاسته وتصرفاته القهرية المؤذية، وعندما لا يعرف الإنسان نفسه جيداً، أي يجهل مصادر إحباطه وحقيقة حاجاته ورغباته وموقفه من الحياة، فإنه يُرضي نفسه بإشباعات تعويضية ووسائل تُخدِّر ألمه: "الإحباط غير المُدرك، أو غير المُمثل، لا يُمكن إشباعه أو حتى الاعتراف به". عندما لا يُدرك المرء في علاقة الحب سبب استنزاف مشاعره وقواه النفسية وشغفه ولهفته على ما يُحب من أنشطة ومهام، ويغفل عن مصدر ذلك في شريكه المنتقد له باستمرار، والذي يجعله في موقف دفاعي دائم عن نفسه كي لا يبدو غبياً أو أحمق أو سخيفاً لانهمامه بمهام يُحبها، فإنه يدمن محاولات إرضاء شريكه ويخلق الخوف في نفسه مما يُحب من أعمال، ويلزمه سلوك قهري بالتشكيك فيما يُحب ويفعل وفي مستوى قدراته وحقيقة مشاعره، فيظهر ذلك في سلوكات تعويضية يحاول عبرها التخفيف من ألمه، كالإدمان على العمل حتى الإرهاق، أو الرعاية المفرطة لشريكه، أو لوم الحياة على خياراتها المنقوصة دائماً، أو التقلب بين الخيارات النفسية الفقيرة لديه، فتارة يمتنع وتارة يحاول من جديد وتارة يتجاهل وتارة يكتئب وينكمش على نفسه. يجب أن يعترف المرء لنفسه بسبب إحباطه لكي يتمكن من إشباع رغباته بالطريقة الملائمة. فتجاهل الإحباط ومصدره والإدمان على الوسائل التعويضية التي لا تُجدي نفعاً لا يُمكن أن يطول، بل هو قصير المدى ومنتجٌ لاضطرابات نفسية ستحل محله فيزداد البؤس تعقيداً. إن الصورة المشوهة لدينا عن الإحباط الذي ينتابنا تترافق مع الصورة المشوهة عن الإشباع الذي نريده، فإن لم ندرك سبب الإحباط ومصدره، كيف سندرك العلاج الأمثل له، أي الإشباع؟ يطرح الكاتب مثال علاقات الحب لتبيان أن الحبَّ نتعرف إليه على شكل مُحتاجٍ ومانح، بدءاً من العلاقة بين الأم والطفل، والاعتراف بأن طبيعة الحب منطوية بالضرورة على انعدام مساواة بين الطرفين يوفِّر عليهما الكثير من التشوه في الصور، إن الإنسان مُحتاج إلى الآخر بالضرورة، وكلٌّ منا أدنى أو أعلى من الآخر في جوانب عديدة، ولكن تجربة الإحباط المشوهة تجعل المرء خائفاً من مواجهة خيارات الحياة الواقعية، والتي لا تكون مثالية، فيهرب إلى عالم الخيال والأمثلة الذهنية التي يتصور فيها إشباعه على هيئة إنسان يفهمه ويلبي ما يحتاجه، ربما من دون أن يطلب منه ذلك، ولكن هذا الإشباع لا يكون حقيقياً، بل مفرطاً في المثالية إلى درجة يكون فيها مجرد مراضاة نفسية مؤقتة، في مقابل الإشباع الواقعي ذي الاحتمالات العديدة. وإن المرء إذ يجد حبيباً في حياته الواقعية فإنه يكتشف عبره إحباطه الذي لازمه وظل خفياً عنه، وذلك إثر الإشباع الذي يمنحه إياه الحبيب، وهنا تكون تجربة اختيار الإشباع الواقعي رديفة الشعور المكثف بالإحباط لدى المرء، إثر اكتشافه إياه، وكأن المرء يتعرف إلى ما ينقصه عبر الآخر وبوساطته: "مهما كنت تريد وترغب وتتمنى مقابلة الشخص الذي تحلم به، لن تبدأ الشعور بافتقاده إلا عندما تقابله". جدير بالذكر أن الكاتب يعود للتأكيد على أن الحلول الوهمية التي منَّينا بها أنفسنا من قبل ردَّاً على إحباطاتنا قد تظل ترافقنا طيلة حياتنا، ونلجأ إليها مراراً حتى لو كنا مدركين لطبيعتها وطبيعة حاجاتنا وضرورة الإشباع الواقعي لها، فالمعرفة لا تنفي الشعور في هذه الحالة، وعادة ما نهرب إلى الخيال من المشاعر التي تنتابنا تجاه الآخرين، عندئذٍ، قد يتحول هذا الإحباط إلى انتقامٍ، ويرتبط مصير المرء بما سيسفر عنه إحباطه. إن تجربة الرغبة التي يخوضها المرء مُلزمة لنا بأن نكتشف الواقع من حولنا وإمكاناته وما يُمكن أن يقدمه لنا على هيئة إشباع مقبول، وعندما ندرك أن الإشباع الواقعي مهما كان مُرضياً لا يرقى إلى الإشباع الذهني والخيالي لدينا، فإننا نقع فيما يُدعى الإخفاق المتوقع للإشباع، ما قد يُسفر عن محاولة الإنسان تغيير ظروفه وشروط حياته لتحقيق إشباع أفضل، وهذا فعل إيجابي على النقيض من الانتقام من العالم. قد يبدو أن المرء ينتقل من إحباط عدم تلبية حاجته إلى إحباط تلبية حاجته بطريقة غير مثالية ومختلفة عما تصورها، ما يُبرر شعورنا بالغضب والتعاسة والحيرة، ولكن لا حلَّ لهذه المعضلة إلا عبرها، أي عبر إدراك حقيقتها وألا مفر منها، وليس في مقدورنا سوى تخفيف ألمها إلى الدرجة الأدنى. إن المعرفة الزائفة التي يدَّعيها المرء عما يريد وعن حاجاته ورغباته تعميه عن معرفة ماهية إحباطه وكيفية إشباعه، بل ستعوقه دائماً في محاولات تصحيح ما يراه خاطئاً في نفسه والعالم، لذلك قد يرتدُّ إلى الانتقام والاستمتاع بالإحباط، وهذا مفهوم لأننا مجبولون على كره مواطن الضعف فينا والاعتراف بحاجاتنا، لذلك نلجأ إلى المداراة والتعويضات المؤقتة، غير أن علينا المحافظة على الرابط بيننا وبين الواقع عبر قبول ما يُتيحه لنا، ومحاولة تحسينه إن كان في مقدورنا ذلك. علينا أن نفهم بأن حاجاتنا غير واقعية، ولكن السبيل الوحيد إلى إشباعها يتمُّ بطريقة واقعية. ولأننا نرفض ألم المعرفة بذواتنا وحقيقتنا فإننا نكره التحليل النفسي الذي يعرِّينا، غير أن معرفة الذات شرط مُهم لتحقيق الاتزان النفسي، سيتعين علينا الاختيار بين متعة المعرفة ومتعة السذاجة، أو ألم المعرفة وألم الإحباط، وبالطبع فإن عدم إدراك المرء نفسه متوازٍ مع فقر تواصله العاطفي مع نفسه والآخرين، إن الجاهل بنفسه لا يمكنه أن يتحدث بسهولة عن عواطفه، ولكن علينا الانتباه إلى أن ادعاء الإدراك عبر خلع المعاني التي نريد على الفعل أو السلوك رديفُ الجهل وعدم الإدراك، يجب أن يدرك الإنسان نفسه من حيث غموضه لا من حيث بساطة معرفته، لا يجب أن تكون رحلة اكتشاف الذات سهلة وإلا كانت مزيفة. ولكن في حياة عدم الإدراك قد يكون الخيار مقصوداً لما وصفه لاكان "شغفنا بالجهل" أو فتغنشتاين بأننا "مفتونون" بإدراك الأمور، فلأننا نعرف أن في مقدورنا أن ندرك أو لا ندرك، وقد جربنا واختبرنا كلا الأمرين وكلا الحياتين، فإننا نختار حياة عدم الإدراك للآفاق الواسعة المنطوية عليها، وللعنف اللذيذ الذي تفرضه علينا، ومن هنا يكون التحليل النفسي مُحرراً لنا من حاجة أن نُدرِك وأن نُدرَك، أي يُخلص المرء من محاولة الإدراك وإقناعه بحياة الجهل لا لأنه يصعب عليه فهم الشيء بل لأن ليس هناك أي شيء لأن يفهمه، فالتحليل يُذكرنا بمحدودية إمكاناتنا وقدراتنا، أجل، يجب أن نفهم أنفسنا وندرك حاجاتنا كي لا ندع الإحباط يدمرنا، ولكن يجب أن ندرك في الآن ذاته أن هذه العملية طويلة وشاقة وغير مضمونة، وأننا محدودون بإمكاناتنا في اكتشاف ذواتنا، إننا كائنات معقدة لا يمكن لها أن تفهم ما يجري فيها، يقول الكاتب: "أفضل قراءة لعمل فرويد هي بوصفه مرثاة طويلة لقابلية حياتنا للفهم. إننا نفهم حياتنا حتى تكون لدينا حُرية ألا نضطر لفهمها". وفي ذلك إشارة إلى ضرورة أن نقبل وجود الآخر من دون أن نحاول تأويله وفهمه وخلع معانينا عليه، إن امتلاك الآخر رديف الجهل بطبيعة الإنسانية ويجعلنا أكثر بعداً عن توقع السلوكات الحتمية، كالتمرد والخيانة، علينا التصالح مع حقيقة حاجتنا إلى الآخرين والقبول بهم كمشروعات إنسانية مُستقلة عن محاولتنا تأويلهم، ومن هذا التصالح نفهم أن معرفة الآخر غير مهمة بقدر قبوله والإقرار بوجوده وحُريته في الخيار: "إن معرفة الآخرين، في مصطلح التحليل النفسي، يُمكن أن يكون دفاعاً، أو الدفاع، ضد إقرار وجودهم الفعلي، وما نريد وجودهم من أجله". ومع ذلك يجب أن يكون لدينا الحد الأدنى من هذه المعرفة، أو أن نقبل "بوهم المعرفة" شرط أن ندرك دائماً بأنها معرفة عرضية وزائفة ومتقلبة، فهذه المعرفة الجزئية تُمكننا من الإقرار بوجود الآخرين، وهي تدحض الرغبة أو تنفيها أو تُمنطقها، غير أنها لا تكون عملية إن تعلقت بالآخر أو الذات، ولا بأس في ذلك، فهذا جزء من ألم الواقع الذي يجدر بنا احتماله. يقول الكاتب بأن إفلاتنا بالحياة المتخيلة التي نحملها في أذهاننا وتمسكنا بها لا يعني تمردنا على سلطة الواقع والاتجاه نحو الحرية بقدر ما يعني استبدال سُلطة بأخرى، إن المرء لا يحلُم إلا تحت شروط مُعينة، قد يرفض شروط الواقع ولكن هذا لا يعني أنه حُر، بل إنه حتماً خالقٌ لشروط أخرى يرتضيها بنفسه ويحتكم إليها، لذلك لا تكون الحياة الذهنية الموازية للواقعية حياة حُرة، بل حياة بقيود أخرى، والنجاح بهذا المعنى يعني إفلاتنا بهذه الحياة بلا عواقب. ولكن الفرار من الحياة الواقعية إلى المتخيلة ينطوي على إقرار منا بمعرفة ما كانت لتؤول إليه الأمور لو عشنا فقط الحياة الواقعية، وادعاء بأننا نعرف المستقبل، ولكن معرفتنا بأن هذا الموقف المعرفي مُزيف تماماً لا يعني الرضى بالحياة التي نرفضها في الواقع، بل التفكير في بدائل أخرى ترضينا ويشملها الواقع، لا سيما أننا نرفض أموراً ندعي أننا نعرفها أكثر مما نعرف ما عشناه في الحقيقة، ومعرفة ما ترفضه لا يعني معرفتك بما تريد. إن ما ينتابنا حول المستقبل هو مجرد إحساس نثق به لشدة ما نعانيه في الواقع، ولكن لا يجب أن نترك الألم يدفعنا إلى التمسك بالوهم، بل يجب أن نسخِّره للتخفيف منه. إن الرغبة فيما نريد واليقين بذلك وادعاء معرفة ما نريد تشوه إدراكنا للتجربة التي نعيشها وتلك التي نريد عيشها على حد سواء: "فلماذا يبدو أننا نعرف عن التجارب التي لم نعشها أكثر مما نعرف عن التجارب التي نعيشها؟ لأن هذا وحده هو ما يجعل الهروب ممكناً، ولأن الحرمان هو ما يجعلنا نتخيل الموقف. وما يُطلق عليه فرويد ’تجريب الفعل في الذهن‘ هو عبارة عن ’ماذا لو‘ التي تولد من الرغبة في الإشباع. إن ما يغوينا هو المنطق الذي يولِّده الخوف. والعلم بكل شيء ذريعة وعذر. ففي هذا السيناريو، نهرب قبل أن نعرف ما الذي نهرب منه. ويمكن أن نقول إن الهدف هو عدم معرفة ما يهرب المرء منه، فشرط الخروج يسبق التجربة". قد يكون لعدم إدراكنا التجارب التي نعيشها أثرٌ في إفساح المجال للتأويل الي نُحبه، أي ممارسة الفن واستخدامه كوسيلة للهروب، إننا نهرب من الحياة عبر الفن وشجاعة التأويل والتأليف، وإن لم نرضَ بوهم المعرفة لنحقق الهروب ظللنا أسرى الماضي ومحاولة تغييره، في مقابل المستقبل الذي يمكننا خلقه من جديد: "أولئك الذين لا يمكنهم التظاهر بمعرفة كل شيء عن الماضي محكوم عليهم بتكراره". علينا أن ندرك التعامل الملائم مع الإشباع الذهني، أو الهروب إلى، ولمثاليته الشديدة علينا أن نتعلم السخرية منه وتسخير طاقتنا في تغيير الواقع الذي نرفضه ونحاول الهروب منه، ففي ذلك تتمثل إرادة القوة عند نيتشه. إن المعاناة الناجمة عن الفرق بين إشباعاتنا الذهنية المثالية ونظيرتها الواقعية المنقوصة ملازمة لنا لا محالة، وتتمثل في الصراع بين الأنا والأنا المتعالية، لذلك يكون البطل التراجيدي هو المُتخلي عن رغبته فيما يريد لرغبته في معرفة ذاته وإمكانات واقعه، ومن هنا يُطرح السؤال: هل تكون غاية التحليل النفسي انتقامنا من أنفسنا عبر المعرفة؟ إننا عبر الحياة المزدوجة التي نعيشها نشترك مع المجانين في تجربتهم، ولكننا أقرب إلى مُمثلي المسرح الذين يقدمون أدواراً لا تشبه حقيقتهم، ونحن كذلك نعيش في الحياة وكأنها مسرح عظيم، نقدم فيها أدواراً واقعية لا تتشابه وحقيقتها التي نفضل أن نعيشها، وكأن رغبتنا في عيش حياة أخرى هي رغبة مسرحية، ولكن في أي دورٍ نكون أكثر حقيقة؟ لا يُمكن لأحدٍ أن يُجيب. إننا في المسرح نحتفي بتمثيل الجنون كما نحتفي في الواقع بتمثيل الأدوار، وهذا ما خصَّص له غوفمان كتاباً سماه "تمثيل الذات في الحياة اليومية". إن مراحل نضوج المرء هي مراحل من الخيبات المتتالية، ويجب عليه أن يقبل هذه الحقيقة، فالبديل لذلك تشوه في تصور الحياة والنفس، وهذا نقيض يقابل نقيض المثالية الذهنية، أما الواقع فهو في المنتصف، ينطوي على ألمٍ محتمل ولذة منقوصة، بالطبع قد يحتوي على إشباع مثالي، ولكن يجب ألا نتوقع منه ذلك. تكمن الشجاعة في الاعتراف بأننا لن يوماً إلى فهم أنفسنا ولا رغباتنا، وبأن المثالية المتخيلة عارضٌ يُنبهنا إلى ضرورة تغيير الواقع لا ضرورة ملاحقتها.
جنتلمان المكتبات - ألبرتو مانغويل / ترجمة جمال الجلاصي
هناك روح مشتركة بين المنشغلين بالأدب في مقابل المنشغلين بالتنظير العقلي، نجحت نوسباوم في الربط بجنتلمان المكتبات - ألبرتو مانغويل / ترجمة جمال الجلاصي
هناك روح مشتركة بين المنشغلين بالأدب في مقابل المنشغلين بالتنظير العقلي، نجحت نوسباوم في الربط بينهما، أو التقريب، عبر قراءة الأدب من المنظور الفلسفي / الأخلاقي، فظهرت بمشروعها المبهر، إلى جانب من سبقها أو لحقها، كريتشارد رورتي. في هذا الكتاب، تتضح السمة المشتركة عند الأدباء، والتي سعت إليها كل فلسفة متبعة طريق العقل، وإذ وصلت إليها جدر بها التخلص من سلم العقل (على طريقة فتجنشتاين) والاستمتاع في الحديث عن الغاية المنشودة، أي التجربة الإنسانية. أما الأدب والأدباء، فطريقهم كان أكثر ألماً وحقيقة، وأثرى بخيبات الأمل المتتابعة....more
"حينما يسأل أحدهم ما نفعُ الفلسفة، ينبغي الردُّ عليه بعنف، ما دام السؤال يرغب في أن يكون ساخراً ولاذعاً .. خدمةُ الفلسفة إدخال الغمِّ، فالفلسفة التي ل"حينما يسأل أحدهم ما نفعُ الفلسفة، ينبغي الردُّ عليه بعنف، ما دام السؤال يرغب في أن يكون ساخراً ولاذعاً .. خدمةُ الفلسفة إدخال الغمِّ، فالفلسفة التي لا تُحزن أحداً ولا تناقض أحداً، ليست فلسفة. إنها في خدمة إزعاج الحماقة، أي أنها تجعل الحماقة شيئاً مشيناً. فهي ليست لها من مهمة غير الآتية: التنديد بانحطاط الفكر في كل أشكاله. هل ثمة من تعليم آخر، خارج الفلسفة، يجرؤ على انتقاد كل أنواع الخداع ومهما كان مصدرها وهدفها؟" "لو لم يعُد تناول الحاجة النقدية للفلسفة بطريقة فاعلة في كل مرحلة، ستموت الفلسفة، وتموت معها صورة الفيلسوف والإنسان الحُر. فالحماقة والانحطاط لا يتوقفان عن تشكيل تحالفات جديدة .. لهذا تتمتع الفلسفة بعلاقة جوهرية مع الزمن: لأنه دائماً ضد عصره، وينتقد العالم الآني، يُشكل الفيلسوف مفاهيم لا تكون أزلية ولا تاريخية، وإنما ضد الزمن ولا آنية. إن التعارض الذي تحققه الفلسفة عبر ذاتها، يكمن في تعارض اللاحالي مع الحالي، واللاعصري مع عصرنا".
نيتشه والفلسفة – جيل دولوز \ ترجمة حسين عجة
يشرح دولوز في هذا الكتاب بعض الآراء والنظريات التي قدَّمها نيتشه في مشروعه الفلسفي، مثل نظريته حول أصل القيم، تأويل الإنسان لواقعه ومنحه المعنى، إرادة القوة المتمثلة في نفي الإنسان المُقدم إليه من واقع جاهز يناسب الضعفاء (أي المنكرين للحياة والوجود) وتأكيده على قدرته الخلاقة في تحقيق مُراده وحاجته. هناك تشابه جميل بين تعددية نيتشه في حديثه عن الإرادات وبين التعددية الهوياتية التي يؤمن بها دولوز، وشرحها في كتابه "الاختلاف والتكرار"، وفي ذلك خيطٌ يصب بينهما وبين ريتشارد رورتي وعَرَضيته في "المتهكم الليبرالي". انتقد نيتشه التراجيديا كونها رؤية عدمية إلى العالم، يظل فيها المرء مستقبلاً للثقافة والنظم المحيطة به، قابلاً بها رغم رفضه الحياة وإنكارها واتهام الوجود بظلمه، متوجهاً إلى عالم ميتافيزيقي يرجو فيه خلاصاً، إنه إنسان متجه إلى نهايته، على عكس الإنسان المُريد والفاعل والقوي، مُنتقد النظم والقيم، صاحب الرؤية التأكيدية على حياته ووجوده البريء، والذي يعدُّ ألم الحياة جزءاً مُهماً في تأويلها وليس نقيض مسرَّاته ومُتعه. كما تناول دولوز موقف نيتشه من المعرفة من حيث انتقاد إمكانيتها في الأصل، وإيمانه بالكذب الواعي الإبداعي، والذي لا يحاول فيه صاحبه رفض العالم كما هو بل يُساهم فيه من حيث شروطه، أرى قوة في خطاب نيتشه تدعم معارضته للاستبقاء ورغبته في أن يحافظ الإنسان على نفسه مبدعاً وخلَّاقاً كما هو، نافياً أيَّ نظامٍ يحاول أن يسلبه ذلك. أحببتُ الكتاب كثيراً.
هوس القراءة – جو كوينن \ ترجمة أنس محمد غطوس هناك صدفة جميلة لا أدري مصدرها، نُفكر أحياناً في سؤال أو قضية، فنفتح كتابنا الذي نقرأه وإذا بفقرات تتحدث عهوس القراءة – جو كوينن \ ترجمة أنس محمد غطوس هناك صدفة جميلة لا أدري مصدرها، نُفكر أحياناً في سؤال أو قضية، فنفتح كتابنا الذي نقرأه وإذا بفقرات تتحدث عما كنا نفكر به. لا يسعني سوى أن أفاجأ في كل مرة يحدث لي هذا مع الكتب، إنها من أجمل عطايا القدر. وإثر تسلَّل كوينن إلى ذهني وإدلائه بدلوه في مسألتي، رأيته يقول: "إنَّ الشخص يطوِّر في مرحلة مُبكرة من حياته أنماطاً من السلوكيات أو مجموعة من المهارات التعويضية للتعامل مع مشكلٍ ما، لكن بعد فترة طويلة من حلِّ المشكل، فإنه لا يتخلى عن ذلك السلوك أوتوماتيكياً أو يقوم بتعديله على الأقل" كتابٌ جميلُ التهكُّم، هناك لذَّة في القراءة للمُعتدين بآرائهم وتجاربهم الحياتية، وفي نقد الذات ومثالية الآخر، وفي السخرية من التجربة والتجربة النقيض، هذا الكتاب مثلاً، رغم تفصيله المطوَّل والصفحات الطويلة المُملة فيه، يضم بِضعاً من الآراء الواثقة، والتي يُقدمها الكاتب بثقة تحتمل النقد إلى آخره، فهي مبنية عليه وهو في صُلبها. أحببتُ تجربة قراءته، والوقفات التي جعلني أقفها مُبتسمة لحديثه، هناك عبارة ما تزال تتردَّد في ذهني بعد الانتهاء منه: "القراءة عكس الهروب، إنها انطواءٌ ودخولٌ في الذات بشدَّة لدرجة أنك تخرج من نفسك من الجهة المقابلة".
اسمها فلسطين - أ. جودريتش فريير / ترجمة خميلة الجندي
كتاب ماتع، لا أقول مُهماً من حيث القيمة التاريخية "لإثبات" وجود الشعب في الأرض قديماً (١٨٥٠ - ١٩١٨اسمها فلسطين - أ. جودريتش فريير / ترجمة خميلة الجندي
كتاب ماتع، لا أقول مُهماً من حيث القيمة التاريخية "لإثبات" وجود الشعب في الأرض قديماً (١٨٥٠ - ١٩١٨)، لأن الباحث عن تبرير تاريخي لأجل إسناد حكمه القيمي كجحا الذي أضاع ماله في الشارع المعتم وراح يبحث عنه في منزله لأنه "مضيء". يتحدث الكتاب عن الأرض بطبيعتها وأهلها وثقافتها وعاداتها وتنوعها العرقي والديني، وضمها مختلف الأجناس في وئام، أحببت وصف الكاتبة للتفاصيل، عند النساء نظرة خاصة للمكان وتعلق هوية الإنسان به. الشكر للمترجمة ودار الرواق على ترجمته وتعريفنا إليه....more
المُشكلة ليست فيك: النرجسيون، كيف يكسروننا، وكيف نستعيد أنفسنا؟ - د. رماني دورفاسولا \ ترجمة نادين نصر الله
تتحقق في هذا الكتاب رؤية جوديث بتلر في أنناالمُشكلة ليست فيك: النرجسيون، كيف يكسروننا، وكيف نستعيد أنفسنا؟ - د. رماني دورفاسولا \ ترجمة نادين نصر الله
تتحقق في هذا الكتاب رؤية جوديث بتلر في أننا نوجد من خلال الآخرين، عبرهم وبوساطتهم، وأن حتى مفاهيم فردية كالهوية والشخصية لا يُمكن تصورها من دونهم، لذلك فإنَّ أيَّ إدراك للذات ووعي بها لا يبدأ "من الصفر" ولا يُمكن له ذلك، بل يبدأ "في المنتصف"، وسط ظروف يجدر بالإنسان دراستها ملياً ورؤية أثرها على هويته الخاصة. هناك الكثير من الأسئلة التي يطرحها هذا الكتاب، منها، هل آليات التغيير على مستوى السلوك هي الأجدر بالمعالجة أولاً قبل النظر في أنفسنا؟ إلى أي مدى يُمكن أن ننفصل عن الآخرين لضمان سلامتنا النفسية؟ كيف نتعامل مع أخطائنا السابقة التي لم نرتكبها بأنفسنا، بل فُرضت علينا في غفلةٍ منا، ومع ذلك توجب علينا معالجتها؟ يدرس هذا الكتاب العلاقة النرجسية من وجهة نظر "الضحية"، ويوضح التشوهات النفسية التي تُحدثها هذه العلاقات على مستوى الوعي والسلوك معاً، ورغم أن الكاتبة تُشكك في مفهوم "التعافي" من العلاقات السامة في بعض الفقرات، لم تبخل على القارئ ببعض الحيل النفسية وردود الفعل التي يُمكن أن تبني الجدران المنيعة بين المرء والإساءة الواقعة عليه، في حال عجز عن تجنبها في أيِّ حالٍ من الأحوال. كتابٌ جديرٌ بالقراءة، أنصح به.
"مرة أخرى حاولتُ موازنة تشاؤمه، فقلتُ له إنَّ الأعمال الفنية يُمكن أن تنقذ الناس، أن تُغيرهم، وتساعدهم" "الفن لا يعوِّض السياسة، ردَّ عليَّ بالقول، إنن"مرة أخرى حاولتُ موازنة تشاؤمه، فقلتُ له إنَّ الأعمال الفنية يُمكن أن تنقذ الناس، أن تُغيرهم، وتساعدهم" "الفن لا يعوِّض السياسة، ردَّ عليَّ بالقول، إننا نضع الضمادات على الجراح، وهذا يسمح للنظام بالبقاء، أريد أن يكون الفنَّ مجرد فن، إمكانية لاستعادة الشخصية، وليس أداة لصناعة أطفال حكماء ومواطنين، أو إعادة إدماج المجرمين. الفنُّ الاجتماعي يستغلُّ الفنانين. المسرح ليس ملجأ للمحرومين. بل للفنانين أنفسهم. أيُّ نفاقٍ هذه التجارة الإنسانية! لا شيء يعوِّض السياسة"
تربية النحل حسب صمويل بيكيت – مارتن باج
عمل أدبي موجز وحميمي، جميل ودافئ، لا يخذل مارتن باج قرِّاءه، وفي كلِّ عملٍ يُقدم لهم الأجدر والأجمل. أحببتُه كثيراً.
صدر حديثاً عن دار تشكيل ترجمتي لكتاب "فضائل الأمور البسيطة: التميُّز في حياة هامشية" للكاتبة مارينا فاين زويلين. يوحي عنوانه بقربه من كتب الوعظ وعلم الصدر حديثاً عن دار تشكيل ترجمتي لكتاب "فضائل الأمور البسيطة: التميُّز في حياة هامشية" للكاتبة مارينا فاين زويلين. يوحي عنوانه بقربه من كتب الوعظ وعلم النفس المبسط وربما النصائح الجديرة بعيش حياة هانئة ضمن أسلوب الحياة "minimalism"، ولكن الشروع في قراءته يُنبئ المرء أنه أمام كتاب لن يستهين بالأطروحة التي يقدمها، بل سيمزج بين الفلسفة والأدب بصورة شاعرية ومتقنة لرسم اللوحة النهائية للعمل، لقد برعت الكاتبة في طرق أبواب الفلسفات المعقدة والبسيطة والآداب والسير الذاتية لتقدم رأياً غريباً في عالم اليوم: لا يعني النجاح أن تتميَّز عن غيرك، لا يعني التميُّز أن تبرز وسط "العاديين"، هناك نجاح عظيم في أن تكون هامشياً وفي الوقت نفسه مُحققاً لما تريد. وفي تناولها لهذا الرأي، تحدثت عن حياة مختلف الفلاسفة والأدباء، وعن الأطروحات التي تقدموا بها داعمين لهذا الرأي، كنيشته وفرجينيا وولف وفتغنشتاين وتولستوي وجورج إليوت وبروست وسبينوزا وأورويل وغيرهم، وختمت الكتاب بحديث حميمي عن تجربة لها مع إحدى الصديقات، تثبت أطروحة الكتاب وتشير إليها. الكتاب دافئ وحميمي، تمكنت الكاتبة من تسخير الأطروحات الفلسفية والأدبية لتقديم نظريتها في العيش الطيِّب الذي لا يجب أن يكون صاخباً أو بارزاً، بل يمكن أن يكون هامشياً لا يلفت الأنظار. قراءة ماتعة ❤️...more
في كل مرة تقرأ فيها خبراً عن الكوارث الحادثة في بلادنا العربية وغيرها، يتممَّا كتبتُه تعليقاً على ترجمتي للكتاب:
عزيزي الأحمق، احرص على أن تظل مندهشاً.
في كل مرة تقرأ فيها خبراً عن الكوارث الحادثة في بلادنا العربية وغيرها، يتبعه خبر عن إطلالة نانسي في المهرجان الفلاني، وآخر عن روتين حياة لاعبٍ في المباريات، وآخر عن فشل المنظومة التعليمية في أحد البلدان، يتبعه جريمة بحق امرأة حاولت الدفاع عن نفسها، وآخر عن مشاجرة محتدمة بين "انفلونسرز" لا يتعدى أحدهما العشرين من العمر، ولا تتعدى مستويات فكرهما الحضيض الذي يعيش فيه المعظم، أي ببساطة، في كل مرة تقع عينك على أيِّ صحيفة أو موقع إخباري أو حتى على الأخبار التي يقدمها لك غوغل كل صباح، لتبدأ بها يومك وقد تمت برمجتك كما يريد النظام، تذكر نبوءة هكسلي، لا جورج أورويل.
في الكتاب الذي ترجمتُه، "أن نُسلِّي أنفسنا حتى الموت" لنيل بوستمان، والذي نُشر عام 1985، يذكر الكاتب في المُقدمة استناده إلى نبوءة هكسلي حول العالم الجديد، لا نبوءة أورويل. لقد تنبأ أورويل بنظام خارجي قمعي، يحرم الفرد الفِكر والحقيقة والتاريخ والقراءة والاستقلالية، يسلب منهم المعرفة ويتحكم بهم عبر الألم.
ولكن نبوءة هكسلي كانت عن نظامٍ داخلي ذائب، يجعل الترفيه إلهاً جديداً فوق كلِّ اعتبار، فيُميِّع حتى السياسة والدين والعلوم، وتصبح الحقيقة عائمة وسط بحرٍ من المعلومات الوفيرة والغزيرة، والتاريخ مشكوك في أمره وغير أكيد، والقراءة شأن مُمل لأن ثقافة الكلمة المكتوبة تُسحق كل يوم أسفل ثقافة الصورة والفيديوهات القصيرة، والتفكير شأن مُتعب مقوماته غير متواجدة، والتعليم تحضير عسكري واجتماعي للأدوار المرسومة مسبقاً، والاستقلالية مشوهة لتتمثل في الحريات السطحية والتيه في الهويات الجنسية، لضمان الانشغال الدائم بالنفس والذات والأنا.
أشار هكسلي في روايته، "عالم جديد شجاع" إلى أنَّ الليبراليين المدنيين والعقلانيين الذين لطالما كانوا متأهبين لمعارضة الطغيان "عجزوا عن فهم شهية الإنسان اللامتناهية، تقريباً، إلى المُشتِّتات والمُلهيات". لقد خشي أورويل أن يدمِّرنا ما نكرهه من أوجه الطغيان والقمع، ولكنَّ هكسلي خشي أن يدمِّرنا ما نحبُّه من مُلهيات وأوجه المتعة والتسلية. لذلك فإنَّ الكتاب الذي أترجمه يقوم على نبوءة هكسلي، وذلك فقط في عام 1985، أي حتى قبل ظهور الإنترنت.
وبشأن "الحقيقة"، الغزال الضالّ من الإنسان منذ الأزل، فلا حاجة إلى إخفائها اليوم أو الكذب بشأنها، كلُّ ما يفعله النظام تقديمها لنا على طبق من ذهب، ولكن بعد أن يحيطها بكمٍّ هائل من الأكاذيب والتفاهات، وبعد أن يبرمجنا على الشكِّ في قدرتنا على الاستكناه، وبعد تهيئتنا نفسياً لقبول ما يُمليه علينا "العنصر الخفيُّ"، وبعد إبعادنا قصداً وعمداً وضمن طرق مدروسة عن أي وسيلة جادة تفضي بنا إلى الحقيقة، لقد كفَّ النظام منذ زمنٍ عن محاربتنا وقمعنا، بل أوكل إلينا نحنُ هذه المهمة، وصرنا بارعين في تتفيه أنفسنا والحطِّ منها والتشكيك في قدراتنا على نيل المعرفة وتوظيفها وتمييز الصواب من الخطأ في عالمٍ يعجُّ بالنسبية الفائضة.
يحضرني الآن ما قاله عبد السلام بنعبد العالي عن "الكذب السياسي"، والذي يُقصد به خداع المشاهد حتى لو تطلب ذلك قول الحقيقة بعينها: "يُمكن أن يصدر عنا قول خاطئ من غير أن نكذب، لكن بإمكاننا أن نقول الحقيقة بهدف الخداع، أي الكذب". أي يُمكن أن ترد الحقيقة بالفعل على الوسائط، ولكن مُجزأة، مُهانة، تسبقها أخبار موضة الصيف، وتتبعها فضائح الفنانين ومناكفاتهم، حتى تصير الحقيقة ضمن سلسلة عابرة على الذهن من الأخبار، لا يستقرُّ منها شيء، ويُترك المشاهد كالمنوَّم مغناطيسياً، يفغر فاه وقد عطّل عقله أمام هذا الكم الهائل من الأخبار والمعلومات غير ذات الصلة، والمتتابعة في دفقٍ لا ينقطع أبداً.
يتابع عبد السلام بنعبد العالي: "بهذا المعنى يُمكننا أن نتكلم عن سوء نية أصلي، وخداع سيميولوجي يتجاوز الفاعلين ويتحدى الأخلاق. وبهذا المعنى أيضاً ينبغي أن نفهم إتلاف الحقيقة الذي تتحدث عنه آرندت على أنه .. [أصبح] تفتيتاً للحدث وحلِّه إلى وقائع جزئية تغيِّب معناه وتذيب دلالاته. إنه لم يعد إتلافاً للحقيقة، وإنما أصبح إتلافاً للمعنى". (أشياء سبق الحديث عنها).
وبعبارة أخرى، يعني الكذب الخداع والتمويه والسخرية، ولا يعني حجب الحقيقة، بل إنه يعني البرامج المُلهية بحد ذاتها، والتي تحلُّ محل برامج يجب تصويرها لتنبيه المجتمع الغافل، ويعني المنصات الإخبارية التي تبلِّد العقل والذهن وتخلق نماذج بشرية تحكم بلا فهم وتقول بلا معنى وتصرخ بلا مقولة وتتعصَّب بلا مرجعية وحتى تصلِّي من دون أن تعترف بما أملاه عليها الربَّ، فحتى الأخير تم استبداله بإله الزمن الجديد: الصورة المُدهشة.
يجب أن تندهش، يجب أن تظل مُستثاراً، ينبغي أن تتحدث بلا توقف وتُدلي برأيك في كلِّ مسألة، وأن تنشغل بكلِّ "تريند" وتعلِّق على كل صورة لكلِّ فنان وتتابع كل قناة ترفيهية وإعلامية كي لا يفوتك شيء، يجب ألا يفوتك أي شيء، يجب أن تظل متابعاً، وإياك يوماً أن تجلس وحدك، أو تصمت، أو تشعر، أو تسأل، أو تنتقد، أو ترفع نظرك إلى عين "الساحر".
يُريدونك أحمقاً، لا مقموعاً، بالطبع تجد القمع في نهاية المطاف إن أعملتَ عقلك، ولكنهم سيحرصون على أن تظل أحمقاً، عندئذٍ لا داعي للقمع، وعندئذٍ ستظل ميزانية "تقديم المُرفهات" في ازدياد ضخم، ولن تضاهيها أية ميزانية أخرى، ربما الميزانية العسكرية. كم من السهل عليهم أن يتسبَّبوا في كوارث إنسانية ضخمة، شبه مستحيلة التعويض والإصلاح، كما يحدث عندنا وفي السودان، وكما ذاقت معظم الدول العربية والدول النامية، وما تزال، فقط بتضخيم رغبة الإنسان في المُلهيات والتسلية، وخلق نموذج يسيل لعابه بلا انقطاع خلف كلِّ "مُدهش" ولافت.
لا أدري هل نحنُ في عصر التحوُّل إلى الدُّمى، أم دُمى الدُّمى ..
أما كتاب بوستمان، فيتحدث عن الترفيه الذي صار القاعدة التي ينطلق منها الخطاب العام بمختلف جوانبه وموضوعاته، كالسياسة والدين والتعليم، وذلك في عصر التلفزيون (وحتى قبل الإنترنت) الذي بات يحوِّل الموضوعات الجادَّة إلى استعراضٍ مسرحي هزلي، مثير للضحك والتسلية، ما كان له أثرٌ على نظرية المعرفة والمفاهيم والثقافة بمختلف عناصرها ومقوِّماتها.
"تصوَّر أنك عند نقطة من نقاط عتبات هذه الأسطورة، في زمنٍ ما، قبل ملايين السنين عديدة، حين بدأتْ كلُّ الأشياء. حينها تستطيع أن تُقرر إن كنت ترغب في الخ"تصوَّر أنك عند نقطة من نقاط عتبات هذه الأسطورة، في زمنٍ ما، قبل ملايين السنين عديدة، حين بدأتْ كلُّ الأشياء. حينها تستطيع أن تُقرر إن كنت ترغب في الخروج يوماً للحياة على هذه الأرض. لن تعرف ساعتها متى ستعيش وكم سيطول بقاؤك، وإن بقيت فلن تبقى إلا زمناً محدوداً. لن تعرف أكثر من أنك إذا اخترت المجيء إلى هذا العالم يوماً عندما يحين الوقت، أو كما يقال حين "يكتمل الزمان" فإنك لا محالة ستغادر ذلك العالم وتترك كلَّ شيء فيه .. ماذا كنت ستختار يا جورج لو أنَّ قوة خارقة وضعت بين يديك هذا الاختيار؟ فلعلنا نستطيع أن نتصور مثل هذه الخرافة الكونية في داخل هذه الأسطورة المحيرة الكبرى. هل كنت ستختار الحياة على هذه الأرض، قصُر أمدها أم طال ألف عام أو مائة مليون سنة؟"
فتاة البرتقال – جوستين غاردر
جميلة للغاية، من التحف الفنية القليلة التي تؤثر في النفس بصورة لا تُنسى. أحببتُها جداً. ...more
"المُصطلح يحتلُّنا، المُصطلح يُمطرنا بلغته، وفكره، ويدعونا إلى تذويته في منظومتنا اللغوية" "للمكان ذاكرة، للكلمات ذاكرة، للإنسان ذاكرة" يوميات مقدسية: ي"المُصطلح يحتلُّنا، المُصطلح يُمطرنا بلغته، وفكره، ويدعونا إلى تذويته في منظومتنا اللغوية" "للمكان ذاكرة، للكلمات ذاكرة، للإنسان ذاكرة" يوميات مقدسية: يوميات القدس والإنسان – إبراهيم جوهر
دافئ، جميلٌ وحميمي، أحببتُ المقدسي الإنسان، والفنَّ المحاوِل، ورمزية الرمال، والملل في السطور، والاعتراض السريع، وتأطير الوجود، ولكنني أحببتُ الذاكرة أكثر، وتثبيت مكانها في كلِّ مرة، في المكان والزمان والشجر والهوية والكلمة والمصطلح والمجدَّرة والقهوة، وقبل كلِّ ذلك، تكمن الذاكرة في هذه المحاولة لإثبات الوجود المُمل، والمالِّ. ...more
الفن والمقدس – نحو انتماء جمالي إلى العالم – أم الزين بنشيخة المسكيني
من الكتب الجديرة والمُهمة اليوم، والتي تُثبت الإنسان الفني عوضاً عن الإنسان العاق الفن والمقدس – نحو انتماء جمالي إلى العالم – أم الزين بنشيخة المسكيني
من الكتب الجديرة والمُهمة اليوم، والتي تُثبت الإنسان الفني عوضاً عن الإنسان العاقل، والسردية الجمالية عوضاً عن سردية اللوغوس، والمحاولة الإنسانية المُستمرة عوضاً عن الوضوح النظري المزعوم، تمكنت فيه الكاتبة من تبيان العلاقة الوطيدة التي ساهم عبرها الفن من حمل المقدس على طول مراحل تبدُّله وتغيُّره، قبل أن يصير هو المُتسبب في تشكيله عبر الإمكان الإنساني. تتحدث الكاتبة أولاً عن الفنِّ كوسيطٍ للمُقدس، يحمله بل ويُنتجه من الحياة الاجتماعية، في إشارة إلى ما يستلزمه المقدس من اتفاق اجتماعي ضمني على الفكرة والوسيلة، فيُشكل كلُّ فردٍ جزءاً من الممارسة الفنية الطقوسية التي ترفع المقدس في كلِّ مرة وتُثبته في المجال العام، وإن بحثنا في المقدس الديني وجدناه متمثلاً في انفصالٍ زماني ومكاني للفرد عن العالم، لا سيما عندما يسعى المرء إلى تطهير حياته اليومية بتكرار الطقوس في الأزمنة والأمكنة، والتي تبدأ بالأضحية التأسيسية الأولية (العُنف المقدس) لتتبعها مختلف القرابين اللاحقة. وفي حديثها عن العنف وتمثلاته، تشير الكاتبة إلى الفنِّ من حيث هو عملية رمزية لتقديم القرابين والتطهر من العنف الذي يحاول فرض نفسه باستمرار على المجتمع، يتمثل ذلك في الأدب الذي يحاول سرد رواية مختلفة عن الإنسانية تحمل مشاعر الإنسان التي يتوجه بها إلى المقدس ولكن تهذبها وتوجهها إلى الجماليات، فيكون الفنُّ بحد ذاته ضربٌ من ضروب ممارسة المقدس، ولكنه سيكون المقدس الجمالي بشكل خاص. وحيثما تنتفي الحياة ومقوماتها بفعل العنف المقدس، أي حيثما تحل الكارثة وثقافة الموت والإقصاء، ويصير المقدس ذائباً في البضاعة والمتعة والذات الحائرة، فإن الفن يتقدم ليخترع أشكالاً جديدة من القداسة، يتشبث بها المرء ليعيد تعريف ذاته عبرها، لا سيما بعد فشل المؤسسات السياسية والدينية في إشاعة مفاهيم التسامح والمحبة، ونجاح أبسط الأعمال الفنية في جَمع البشر للإيمان بالجمال أولاً، أو بعبارة دولوز الواردة في الكتاب: "الفنُّ من أجل تحرير الحياة حيثما يقع اعتقالها" . لذلك، يتحدث الفلاسفة عن نوعٍ من الانتماء الجمالي إلى العالم، أي الإدراك بألا مناص لنا سوى العيش معاً، وأن الاحتمالات تتعدَّد وألا حتمية تجبرنا على عنفٍ لا ينتهي، عندما يدرك المرء أنه صاحب الاحتمال القادم (العَرَضية عند ريتشارد رورتي في "المتهكم الليبرالي") فإنه يُدرك الجمال كفعل اجتماعي ضروري، ويصير الفنُّ محاولة للإنسان الأصل الاعتذار عما يحدث وعما كان شاهداً عليه: "الفنُّ ضربٌ من الاعتذار عن قساوة العالم، لكنه اعتذارٌ لا يصدر عن خطأ ارتكبه الفنان، بل عن بؤس مُعمَّم لإنسانية تتقدَّم على إيقاع الكارثة" . واليوم، وإذ نرى السردية العلمية العقلانية هي السائدة، يشدِّد الفلاسفة على ضرورية تبني السردية الجمالية للنظر إلى العلم وقصِّ أقصوصته الجميلة، منعاً للرابطة المدمِّرة التي تجمعه مع العقلانية، وتوجهاً نحو الرابطة المؤسِّسة التي تجمعه مع الفن، فتصير التجربة العلمية تجربة فنية في المقام الأول، تتجه إلى الإنسان أولاً وتسمو به، بدلاً أن تحطَّ من شأنه وتعدَّ مأساته "أضراراً جانبية" بعبارة باومان، فتسهل الكوارث من أجل مصلحة متوهمة ما. وإذ تحاول السردية الإمبريالية تثبيت الخوف والقهر والجزع في نفس الإنسان المعاصر لتتمكن من تطويعه كيفما شاءت، فتفني عمره في العمل لتغذيتها واستهلاك منتجاتها، فإن السردية الفنية تدفع الإنسان إلى إدراك أن الحياة على الكوكب مسؤوليته، وأنه حُر بواجب أخلاقي لا مناص منه، وأن الأمل هو العنصر الإنساني الخفي الذي يجعلنا ندرك قوة الاحتمالات التي يمكننا خلقها. وفي حديثها عن الإرهاب الديني، تتناول الكاتبة منبعه الأصل، أي قوة الكراهية، والمتمثلة في الإقصاء والمحاولة اليائسة في استعادة شكلٍ مُبهم من أشكال الحياة الماضية، لذلك فهو يستلزم بالضرورة عقولاً هشة ونفوساً واهنة وانصهاراً في فكر الجماعة وتبعية عمياء للآخرين، لذلك يكون الفن مُنقذاً للعالم والإنسان الحديث من بطش الأيديولوجيا، لإنتاج سردية جمالية جديدة يُعد الإنسان جديراً بها، لا سيما أن ذلك يتطلب شجاعة من المرء في تبني المحبة والتسامح وإعادة الخلق، في مقابل الاستسهال الكبير الذي يجده في الكراهية والرفض. أما الأدب، الفن النثري والشعري، فهو التعبير الإنساني عن الوجود الحُر، لا سيما عندما تكون الكتابة صدى لما لا يكفُّ عن الكلام، وعندما تُشكل زمناً جديداً للإنسان في الهوية السردية، فتحرره من أيدي من يزعمون امتلاك السردية الواضحة لحكم العالم، لذلك تكون السردية الخاصة والمبدعة، والتي تبدع وتبتكر وتمضي حُرة من الرقيب، شكلاً من أشكال المقاومة ضد المؤسسة، إنها انتصارٌ للروح التي ترفض المعاناة وتختار الهوية الأدبية التي تفتح لها احتمالات شتى من الوجود: "إننا لا نكتب لأننا مرضى، بل نكتب لأننا أصحاء تماماً. وعليه، إنَّ الأدب هو شكلٌ من أشكال العافية أو الصحة من أجل ’اختراع شعبٍ ينقصنا‘. لكن هذا الشعب سوف يأتي من رحم الصيرورة المبدعة، شعب تناديه الكتابة من مكان قصي ومن أعماق مغمورة .. إنه ذاك الشعب الذي لا يُريد أن يحكم العالم، بل يريد أن يحرِّر الحياة. إن الأدب بهذا المعنى هو مرور إلى الحياة عبر اللغة" . ولأن الإنسان يستند بالضرورة إلى وسيطٍ بينه وبين ما يرغب فيه، كالمجتمع الذي يرغب أو يرفض، فإن الأدب يكون الوسيط الذي يتعلق به المرء نيلاً لما يفقده، لذلك تتحول الرواية أو العمل الفني إلى مشروعٍ مُمتد يُشرك القارئ والكاتب معاً في رحلة لاستكناه معاني حُرة للوجود، تنبثق من التجربة الفنية إياها، فيتمكن الإنسان من إعادة تأويل ذاته ومشاريعه وحتى منطلقات فكره. وفي فقرات شديدة التأثير، تحدثت الكاتبة عن خطاب الفن ضد خطاب الاستعارة، فالأخيرة تكون جزءاً من سردية تزعم تبنيها وضوحاً في شرح الذات ومتطلباتها وحاجاتها وأفعالها، بينما لا يستطيع المرء، إلا بوساطة الفن، أن يدرك بأن ثمة نقص شديد في سردية اللوغوس السائدة، يتجاوز جوانب نفسية وذاتية جديرة فيه ولا يعبر عنها ولا يشير إليها، على خلاف خطاب الفن الذي لا يشير إلى هذا الغموض فحسب، بل إنه يُثبته في النفس ويعيد استكناهه ويدفعه للتعبير عن ذاته عبر محاولات فنية تزداد عمقاً وجدية، إن الفنَّ يُدرك الغموض الكبير الذي تنطوي عليه الذات ولا يرى بأساً فيه ولا يحاول تعريفه، بل يريد تمييزه والاحتفاء به من حيث كونه تجربة ذاتية جمالية عصية على الفهم، بل أجمل ما فيها أنها عصية على الفهم، لأن الفهم ليس الأداة الوحيدة التي يمكن أن يستخدمها الإنسان من أجل التعرف إلى ذاته، بل يمكنه أن "يشعر" و"يُحس" و"يُشارك الآخرين الشعور" في متحفٍ أو قراءة أو منظورٍ جمالي، يجب ألَّا يرضى الإنسان أن تختزله الاستعارة في قالبٍ ومقولات ونظريات، بل أن يتشبث بالجزء المُبهم من نفسه وكأنه هدية الله إليه وطريقته في دفعه إلى الإيمان بالجمال الكامن في الدين والمقدس والطقوس قبل الإيمان بنظرية تحكم على المرء ما يفعل وما لا يفعل: "إنَّ الاستعارة توهمنا بأننا في حضرة الكينونة، وهي في الحقيقة لا تقول إلا غياب الكينونة، أي هي لا تقول إلا مروراً لكينونة في سماء الكائن دون أن يراها" . وفي تتمة لهذا الحديث الشيِّق، نقرأ في محاولات التأويليين إثبات حاجة النصوص إلى قرَّائها من أجل إعادة تأويلها وإحيائها في أشكال فنية – أدبية مختلفة، يصوغها الخيال الإنساني الحُر كيفما يشاء، فتعبِّر عن الكينونة الإنسانية من حيث علاقتها بالعالم وأشيائه وعلاقتها بالآخرين وكينوناتهم، من هنا فإن أقصى المحاولات اللغوية، أي الشِّعر، يُمكن أن يُنتج لنا حقائق لا تقل أهمية عن الحقائق المثبتة بالتجربة العلمية، بل تكاد تفوقها أهمية لأنها متجهة إلى صاحب الفكر والإبداع في العالم، أي الإنسان، إن الشِّعر هو الشاهد على الغموض الذي ننطوي عليه والإبهام الذي يسِم نفوسنا ويعلِّمنا إدراك غرابة أن نكون وأن نفكر، لذلك لا يكون النص إلا تجربة إنسانية تأويلية، المُهم فيها هو الفهم والتأويل والخلق، أي العمليات التي تدفع الإنسان إلى أقصى قدراته الإبداعية واللغوية والتعبيرية. وبعد هذا الحديث المطوَّل عن الفنون وخطاب الفن وطريقته في تمثيل المُقدس، تتناول الكاتبة بضعة أعمال أدبية للتحليل، في محاولة لتبيان منظورها الفني – الإنساني عندما نطبقه على القراءة الأدبية، فتتحدث عن "بلزاك والخياطة الصغيرة" لتتناول الأدب في مواجهة الأيديولوجيا السائدة، و"عذراء سنجار" للحديث عن حكاية الإنسان المقهور مع قاتلي الحياة، وقصائد لوركا الشعرية التي شكلت هوية قومية ضد الفاشية. أما اليوم، تُشير الكاتبة في المقدس المائع الذي بات يُمكن خلقه كلَّ يوم، وإضفاء القداسة عليه بالسهولة ذاتها التي تُنزع عنه، أما الفن فبات سلعة يومية يُمكن أن تُنتج من أيِّ حدث أو فعل يراه الإنسان المُتعي مُمكناً، وفي عصر الاستهلاك صار العمل الفني يُراد به إرضاء الجماهير وتغذية الأنا الحائرة عندهم من دون محاولة لخلق تساؤلات تخصُّ وجودها وإمكاناتهم، بل صار الكوجيتو الجديد هو كوجيتو الاستهلاك "أنا أتبضع إذن أنا موجود". إنه كوجيتو الإنسان الذي لا يشبع ولا يدري ما يعني أن يضع أولوية الشعور والفهم على تحقيق المتعة السريعة التي تتركه خائباً جائعاً، وهو كوجيتو الإنسان اللامسؤول والذي لا يعرف شيئاً عن طبيعة غذائه وسياسته ونظمه القيمية وتعامله مع البيئة وأسلوب حياته المرتبط بآخر فردٍ يُمكن أن يتوقعه. وفي الحديث عن قوة العمل الفني في اللوحات تتحدث الكاتبة عن تجارب العديد من الرسامين الفلسطينيين في خلق ذاكرة وهوية لهم تواجه المُحتل، كأعمال منى حاطوم وسليمان منصور ونبيل عناني وغيرهم، وتحتفي بالنزعة الجمالية المتسامية التي يُثبتونها بديلاً عن الخطاب "العقلاني" الذي لم يُفضِ إلَّا إلى المزيد من الدمار و"الأضرار الجانبية". لذلك تناقش الكاتبة حاجتنا إلى "إيكوصوفيا" عقلية واجتماعية وبيئية تُعيد تعريفنا بمكانتنا في العالم ودورنا في الوجود وطريقتنا المثلى في عدم تشيئة نفوسنا أو حتى افتراض فهمها لتطويعها: "الإيكوصوفيا هي ’ضرب من الموسيقا الذاتية الجديدة التي ينبغي علينا اختراعها" . بمعنى أنها المحاولة الإنسانية التي ترى العالم محاولات للتحرر والخلق والإمكان، وتريد تعويض المقدس السابق بآخر مستند إلى التجربة الجمالية والدقيقة التي نعالج فيها جذور مشكلاتنا العديدة اليوم، ونخلق بدائل تحترم الوجود الإنساني بتفرده وخدمته للآخر والعالم في آن. وأخيراً، وفي رسالة فنية، تتحدث الكاتبة عن نوع السعادة التي يمنحنا إياها الفن، أو عن التجربة الجمالية الدائمة التي ترافقنا ونحن في مسارٍ فني لفهم الوجود وأنفسنا، ففي ذلك لذة جمالية ترتبط بالخيال الفني وقدرتنا الخلاقة على رسم الاحتمال والإيمان بالإمكان الإنساني حتى في عالمٍ موحش إلى هذه الدرجة، لا سيما بعد أن نُدرك بأن ذواتنا لم تكن يوماً مُعطاة وثابتة وذات هوية لا تتغير، بل إن الذات بناء مُستمر وإمكان مفتوح على التبدل والذوبان في الآخر والطبيعة والمجتمع، في شكلٍ جديد من التعاضد الإنساني الذي لا يحتاج إلى "أن نشعر ببعضنا" بعبارة رورتي، بل يحتاج إلى إدراك جمالي فني في أن المعاناة تطالنا جميعاً، وألا مناص لنا إلا الاجتماع سوية وتبني المنظور الجمالي الذي يسمو بنا لا يحطُّ من شأننا. إنه من الكتب الجديرة بالقراءة بالفعل، أحببتُه.
إنقاذ الروح الحديثة – إيفا إلوز \ ترجمة بثينة الإبراهيم
من الكتب الناقدة والمُهمة اليوم، والتي يجب أن يُفكر بها الإنسان الحديث ملياً، لا سيما العربيُّ إنقاذ الروح الحديثة – إيفا إلوز \ ترجمة بثينة الإبراهيم
من الكتب الناقدة والمُهمة اليوم، والتي يجب أن يُفكر بها الإنسان الحديث ملياً، لا سيما العربيُّ الذي يواجه مدَّ الأفكار الجديدة والحديثة على حياته ومؤسسات دولته، وذلك للإطار البحثي الذي انطلقت منه الكاتبة لنقد ما تريد نقده على صورة تساؤلات تشير إلى المشكلة، من دون أن تقدم حلولاً، ولعلَّ ذلك أفضل بكثير، لأن مهمة النقد في استكناه الخطب، ومهما الإنسان المبتكر خلق الحلول. تتحدث الكاتبة في البداية عن الحقائق البارزة التي أفاد منها علم النفس الحديث في أمريكا، والتي استمدَّها من فرويد ونظرياته التي لاقت ترحيباً في المجتمع الأمريكي، لجمعها بين الجانب الأسطوري والطبِّي في تحليل الذات، ولتقديمها إطاراً نظرياً علمياً لفهم الذات الأمريكية وضبط العلاقة بين الجنسين والعلاقة بين الفرد ومؤسسات الدولة. لقد تحدث فرويد ومُفسروه اللاحقون عن الكيفية التي تؤثر بها أحداث الحياة اليومية على شخصية المرء وميوله ونمط عاطفته اللاحق، فكان فرويد، مثلما تصفه الكاتبة، "الصنو الثقافي المثالي لماركس"، ففي حين تناول ماركس قيمة الفرد في عالم العمل، تناولها فرويد في عالم العائلة والحياة اليومية، وبيَّن الحدود الهشة بين مفاهيم المرض النفسي والسواء، ذلك أن العديد من السمات والنزعات يمكن أن تكون دلالة على أعراض مَرَضية خفية، تحتاج العلاج النفسي لإخراجها إلى حيز العلن والحديث عنها، ما جعل من الحياة مشروعاً تأويلياً في التحليل النفسي. وإثر هذه النظرة المرنة للشخصية الإنسانية التي تتعدد فيها احتمالات المرض النفسي وتختلف أشكاله، تم الربط بين بحث الإنسان عن ذاته الضائعة وبحثه عن النجاح الاجتماعي، فصارت الصحة العاطفية رديفة النجاح مجتمعياً، وانعدام النضج العاطفي رديف الفشل في تحقيق مكانة اجتماعية معتبرة أو التقدم في المجال المهني، ما بدأ سلسلة من النظريات والأدبيات النفسية – الاجتماعية، والتي ربطت بين التقدم في الصحة العاطفية وما يُترجم إليه من التقدم الاجتماعي والمهني، فظهرت ثقافة العلاج النفسي في العديد من وسائل الإعلام، تزعم فهم الذات وعلاقتها بالآخر وتقدم "النصيحة" للأفراد حول الطرق المثلى للتعامل مع أنفسهم والآخرين. وهكذا، تداخلت مفاهيم علم النفس مع مفاهيم علم الاقتصاد وصار للعقلانية والكفاءة في العمل أبعاد نفسية عاطفية وشخصية، فصار اعتماد رأس المال على الفهم النفسي – العاطفي لذات أمرٌ شائع فيما صار يُدعى "بالرأسمالية العاطفية". ولأن النظام الرأسمالي غايته الربح والإنتاج فقد دعم الخصائص النفسية المفضية إليهما، أهمها الضبط العاطفي وامتلاك مهارات التواصل الفعال، أو ما يدعى بالمهارات في مجال العلاقات العامة، فظهرت أخلاقيات العمل الجديدة المتداخلة مع أخلاقيات الحياة الخاصة لدى المرء، وصار مُهماً أن يتجاوز الفرد اختبارات الشخصية النفسية قبل قبوله في العمل، والتي تهتم بقدرته على ضبط نفسه وفهم الآخر وفصل نفسه شعورياً عما يحدث حوله والاهتمام بمصلحته الخاصة بصرف النظر عن العوامل الخارجية التي تحاول ثنيه عن ذلك: "تتضمن القوة النفسية ’الحقيقية‘ قدرة المرء على ضمان مصالحه دون الدفاع عن نفسه عبر رد الفعل أو الهجوم المضاد. بهذه الصورة، ينشأ ضمان المصلحة الذاتية والقوة في التفاعل عبر إظهار الثقة بالذات التي تتساوى بالافتقار إلى الدفاعية أو العدائية الصارخة، فتنفصل القوة هكذا عن الإظهار الخارجي للعدائية وعن دفاع المرء عن شرفه، وهي استجابات كانت جوهرية في تعريف الذكورة التقليدي" ما يعني أن العقلانية المؤسساتية صارت تُفهم من حيث تحكم المرء بعاطفته والتركيز عليها في آن، أي استكناه مهارات التواصل والعمل بها ولكن من دون أن ينخرط بكامل نفسه فيها، وأن يحافظ دائماً على هدوئه ولغته التواصلية المتقنة التي تحفظ مصلحته ولا تثير انزعاج الآخرين ولا تستثير حفائظهم، وتشير الكاتبة إلى أن ذلك خلق جواً من اللامبالاة النفسية، والناتج عن تحييد المرء لنفسه عن المشكلة وأن يحافظ على مكانته في النظام التواصلي من دون أن يتأثر بالآخرين، أي أن "يلعب اللعبة دون التأثر بها"، أو كما تقول الكاتبة، إن "الشرط المسبق ’للتواصل‘ أو ’التعاون‘ هو، على سبيل المفارقة، تعطيل المرء إدخال انفعالاته في علاقة اجتماعية"، ما يجعلنا أمام سؤال مُهم: إلى أي مدى يمكن للسلوك العلاجي النفسي أن يبدِّل في الإنسان وينزع منه المسؤولي والتعاطف ليجعله منخرطاً في المجتمع والمهنة من دون أن يبالي بهما في الآن ذاته؟ ثم تتحدث الكاتبة عن التآلف بين النسوية والتحليل النفسي من حيث تركيزهما على القضايا ذاتها، وذلك إثر التحولات الاجتماعية التي جعلت مواضيعهما متشابهة، مثل العلاقة بين الجنسين وقضايا الأسرة والمرأة والمعاناة، فبعد موجة العلوم النفسية والتحليل النفسي صارت معايير إنجاح الزواج مختلفة عما سبق، وصار الفشل أو النجاح في العلاقة مسؤولية الفرد وحده ومسؤولية نمط شخصيته التي هو عليها، لذلك تناولت الأبحاث النفسية أنماط الشخصية وطبيعة التواصل القائم بين طرفي العلاقة، وصار عبء إنجاح الزواج أو العلاقات عموماً قائماً على براعة التواصل اللغوي والتعبير العاطفي لدى الفردين، واتفقت النسوية والتحليل النفسي على أن للحميمية دور مُهم في العلاقات الزوجية، وأنها يجب أن تكون الغاية النهائية الواجب تحقيقها بقدرٍ من البراعة والمعرفة وطلب المساعدة، ويقصد بها عادة القدرة الرفيعة على التواصل العاطفي والجسدي في آن، وتحقيق فهمٍ متبادل بين الطرفين يضمن نجاح العلاقة مهما كانت المشاكل التي تواجههما. بمعنى آخر، لقد عقلنت النظريات الاجتماعية الحديثة المشاعر لدى كلا الجنسين، وطالبت الإنسان الحديث بالتحكم بعواطفه وامتلاك القدرة الرفيعة في التعبير عنها في آن، كون ذلك السبب الحقيقي والأصيل لحل مشاكله مع نفسه والآخر، فصارت مهارات التحكم بالنفس والعاطفة هي المطلوبة والعنصر الثمين الذي يبحث عنه الإنسان الحديث للتخلص مما يُتعبه. وهكذا، صار للعلاج النفسي سرديته العامة والشهيرة على مستوى الأفراد والمؤسسات، وبالتخلص من الربط الذي أقامه فرويد بين إرادة التغيير على المستوى العاطفي وبين مكانة المرء في طبقات المجتمع، شاعت مفاهيم التحليل النفسي في الأدبيات وسط أجواء من التفاؤل وإمكانية التغيير وتحقيق العديد من الإنجازات عبر ربط التحرر النفسي بالتحرر المادي والنضج العاطفي بتحقيق الإنجازات المادية، وظهرت اتجاهات نفسية تكرِّس سردية الضحية والمرض والصدمة النفسية، ليصير فضاء العلاج النفسي فضاءً تجارياً يستفيد منه قطاع الأطباء النفسيين وشركات الأدوية التي تبيع أدوية نفسية، غير أن المشكلة لا تكمن فقط في تسليع الحالة الذاتية غير المفهومة بعد، بل كذلك في ترسيخ سردية تعرِّف الذات من حيث المرض الذي يصيبها ورحلة العلاج الذي تسير عليه. ما يعني أنَّ البنية الرمزية السردية صارت متوافقة مع الصناعة الثقافية لتبدُّل مبررات السرد وصوره وتأويلاته بصورٍ استهلاكية تخدم الجهات المستفيدة، وصارت السردية النفسية العلاجية هي القصة التي يحكيها الإنسان الحديث عن نفسه اليوم، فقد عنى السرد الذاتي للمعاناة تحرُّر المرء من هذه الذاكرة عبر مشاركتها مع الآخرين، ولأن الثقافة تحتاج إلى ممارسة اجتماعية كي تنتشر وتترسخ، فقد تمثلت ثقافة العلاج النفسي بمجموعات الدعم المختلفة، والتي تطورت لتصبح استثمارات رأسمالية ضخمة، في عالمٍ بات يحتفي بالضحايا والناجين، ويسبغ عليهم مكانة أخلاقية مُميزة. لقد تحدث فرويد في نظرياته عن أنَّ الحالة العاطفية للمرء تتبع طبقته الاجتماعية (أي الطريقة التي نشأ فيها والإمكانات المتاحة له)، ولكنه تحدث كذلك عن أن الحالة العاطفية تُنتج هذه الطبقة وتخلق هذه الإمكانات، فالاختيارات الشخصية اللاحقة هي التي تموضع المرء في العالم المهمش أو العالم الرفيع، وفي ذلك كان يشير إلى مهارة ندعوها اليوم بالذكاء العاطفي، أي قدرة المرء على إدارة عواطفه ومشاعره لكي ينال مراده من الحياة أو الآخرين، أي عقلنة العواطف والقدرة على التعبير عنها بالطريقة الملائمة. وللأهمية التي نُسبت للذكاء العاطفي اليوم فقد صار من المُهم امتلاك كلا الجنسين مهارات ذكورية تخص تأكيد الذات ومهارات أنثوية تخص التعبير عن العواطف ليجدا لنفسيهما مكان مُعتبر في سوق العمل، وكانت هذه غاية فرويد في المقام الأول: "كانت أبرز إسهامات فرويد في الثقافة الأمريكية صياغة لغة وتقديم أطر للمعنى تضع الحياة اليومية، والصحة النفسية والسواء في مركز هوية الرجال والنساء الحديثين"، ولكن أن دمقرطة الحياة العملية والخاصة خلقت فوضى وتناقضات للذات الحديثة، وجعل مسؤوليتها وحدها إيجاد حل لمشكلات اجتماعية في الأصل، وجعل إطار فهم النفس خاص بالنفس فقط من دون المحيط والعوامل الثقافية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية العاملة فيها. غير أن اعتراضات الكاتبة الرئيسية على ثقافة العلاج الذاتي اليوم تمحورت حول نقطتين رئيسيتين: 1- لا يُمكنك التعبير لغوياً عن كلِّ ما تريد وتفعل وتشعر به، فما يُدعى اليوم بأيديولوجيا اللغة يفترض بأن معرفة النفس ممكنة عبر الاستبطان الداخلي الذي يساعدنا على تقبل محيطنا، ويمكِّننا من التعبير العاطفي عما نريده، غير أن الكاتبة ترى بأن نتيجة ذلك يكمن في "التعمية اللفظية" التي "يعمى" الإنسان عن جوانبه النفسية الخفية عبر اللغة التي يعتقد بأنه يعبِّر بها عنها، فتكون اللغة خافية للجانب لا مُظهرة له، وذلك نتيجة لأن النفس تنطوي على جوانب لا يمكن الحديث عنها باللغة، كالحدس أو البصيرة أو الجوانب الخفية التي تكمن خلف قراراتنا ورغباتنا وأفعالنا من دون الحاجة إلى لغة للتعبير عنها، وهذا يدعم توجهاً اجتماعياً لفهم النفس والذات لا تبعاً للماضي والطفولة فحسب، بل كذلك تبعاً لتشكلها مع الآخرين وعبر الآخرين، حيث "تتشكل أفعال الناس وردود أفعالهم وفق ضغط الموقف، لا وفق خصائص داخلية ثابتة للذات (التي تحتاج إلى كشفها)"، نجد ذلك في الأطروحة النفسية – الاجتماعية – الفلسفية التي تقدمت بها الفيلسوفة جوديث بتلر في كتابها "الذات تصف نفسها". 2- لا يقتصر تعريف الذات على معاناتها، فالتوجه الحديث للحديث عن المعاناة واستنباطها من الماضي ومشاركتها يرسِّخ وجودها كجزء فاعل بل ومُهيمن على الذات وسلوكها وفكرها وتصوراتها، وترى الكاتبة أن استرجاع المعاناة تجديدٌ لدورها في حياة المرء وتعظيمٌ له، إلى درجة تصير هي السردية التي تحكي قصة المرء بعيداً عن بقية الجوانب الأخرى التي نتشكل بها وعبرها، لذلك يعمِّق العلاج النفسي من المعاناة ولا يُحرر المرء منها، بل يقولبه في قالب الضحية أو الناجي ويحتفي به إثر ذلك ويجعله يعرِّف نفسه بذلك الحدث الأليم الذي حدث له، وذلك بأن ينزع سبب المعاناة من الإطار السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي ويلقيها فقط في الإطار النفسي، فتصير "المعاناة أثراً للعواطف غير المنضبطة أو النفس المضطربة أو مرحلة يتعذر تجنبها من التطور العاطفي للمرء". وفي ذلك إلقاء للمشاكل الاجتماعية على كاهل الفرد ليتحمل مسؤولة انزعاجه منها وتعاسته على إثرها، الأمر الذي تحدث عنها مطولاً زيجمونت باومان في كتابه "الأضرار الجانبية". ومن هنا، أجد الكتاب ثرياً بالأسئلة التي يطرحها والاعتراضات التي يقف عندها، لقد جعلت الكاتبة من كتابها مقدمة تحليلية وجيزة حول ما تريد الاعتراض عنه في النهاية، والقارئ يشعر بأنها تتحدث عن جوانب نفسية مُهمة نشعر بها اليوم وندرك افتقار التوجه النفسي الجديد إليها، لذلك من المُهم الاطلاع على هذا النوع من الكتب الناقدة لنتمكن من الحفاظ على ما يجعلنا دائماً ذواتاً واعية تُسائل الفكر وتحسِّنه قبل أن تقبل به.
"الواقع أنَّ نقيض المثالي، في غالب الأحيان، رجلٌ بلا حُب"
الموت السعيد – ألبير كامو
رواية حميمية للغاية وجميلة، تحاول رسم صورة المحاولة الإنسانية للهرب "الواقع أنَّ نقيض المثالي، في غالب الأحيان، رجلٌ بلا حُب"
الموت السعيد – ألبير كامو
رواية حميمية للغاية وجميلة، تحاول رسم صورة المحاولة الإنسانية للهرب من الفكر والاندماج بالتجربة الحسية الرفيعة، تلك التي تبلغ تخوم اللذَّة من دون الغوص فيها.
"في زحمة الحياة، في التسابق المحموم نحو الغنيمة أو النجاة في خضم البحث عن منتجع صحي للحياة، هناك من يستوقفك ليقول لك: إنك قد نسيتَ شيئاً ما حين غادرتَ"في زحمة الحياة، في التسابق المحموم نحو الغنيمة أو النجاة في خضم البحث عن منتجع صحي للحياة، هناك من يستوقفك ليقول لك: إنك قد نسيتَ شيئاً ما حين غادرتَ مسرعاً. شيئاً كالسبحة أو القداحة أو حمالة المفاتيح. الشعر يناولك هذا الشيء الذي نسيته أو تناسيته أو تعودت إهماله: الشعر يناولك نفسك" دفاعاً عن الجنون – ممدوح عدوان ذكرت بثينة العيسى، مشكورة، من قبل رأياً لها حول الفرق بين كتابة البوح وكتابة الإبداع أو الابتكار، وعن الانتقال من الأولى إلى الأخيرة، ما جعلني أعيد النظر في بعض الكتب التي قرأتها، لأتبين أنها مكتوبة بالبوح فقط، وكأن صاحبها أراد الصراخ أو طلب النجدة، لا إثبات وجهة نظرٍ ما. يظن المراهق منا أن ثمة مفاضلة بين نوعي الكتابة، أو أن في كتابة البوح مستوى يجب أن يتجاوزه المرء سريعاً لكي ينتقل إلى مستوى الكتابة الابتكارية، أي أن يبدأ مشروعه في الكتابة والبناء الذي يشير إليه، ولكننا ندرك مع النضج أن كتابة البوح قد لا يجب تجاوزها، بل يجب النظر فيها بعين جادَّة، لأن بعضاَ من بشاعات الحياة لا يُمكن النظر إليها بعين مُتمهلة وناقدة ومتأنية، ولا يمكن للإنسان سوى أن يكون عاطفياً في نقدها ورفضها، إن العاطفة ترفض أسرع من الفكر، وهذه ميزة عظيمة قد لا نقع عليها سريعاً. في "دفاعاً عن الجنون" نجد ممدوح عدوان يبوح لنا باعتراضه الكبير على الحياة، على المؤسسة والنظام والطبقة والذكورية والجهل والقمع والغباء والحماقات، إنه يعترض بملء الفم والعاطفة الجادَّة مذكِّراً العربيَّ بموقعه اليوم، والمآل الذي ينتظره. في مثل هذه المحن، نحتاج من يبوح بالعاطفة لنؤسِّس على بوحه نظرياتنا النقدية، قد لا تبدو العاطفة مُبررة لنا أحياناً، ولكن هذا غير مُهم، يجب أن نثق بها رغم ذلك، فهي لن تعترض على ما يمكن أن يفيدنا.