تصل قمة العمل لثلاثية أوهام ضائعة في هذة الرواية آلام المبتكر، نشعر طوال القراءة بالاستياء الأخلاقي ضمن تكثيف وعينا بالشر لأقصاه، مما يجعل السياق العام للثلاثية كئيبًا ومؤلمًا من فرط واقعيته، ويكون هذا الجزء اقصى ذروة لتجسيد التعاسات الإنسانية الكبرى. استكمالًا لرؤية مصير الشاعران ، لوسيان وديڤيد، باختلاف طباعهما، وأفكارهما الأخلاقية عن العالم، لم يسلما من حقيقة القوى المحركة للتاريخ الراهن لعصرهما من الانحطاط العام، التسلق الطبقي، سيادة القيم المادية على الروحية، التناقض الحاد بين الترف لمجتمع النبلاء والبؤس لسكان الريف، بين غزو الرأسمالية بنهجها التشييء للانسان ودثار التطلعات الثورية والبطولية التي لم تتعافى منها أجيال ذلك العصر، انها مسألة صدمة جماعية ، وكان وقودها هو التحوّل الكبير في شكل النظام السياسي والاقتصادي ، وبطبيعة الحال النفسي الاجتماعي السائد، عندما كان أقصى أحلام الشباب أن يبدع ، ويبتكر ، ويهنأ بحياته ، لكنه تعرّض وكحال كل مجتمع في دورته الجديدة الى حواجز وعقبات لا يقدر على قهرها، فاصطدم بعوائق المجتمع الذي هو نموذج مصغر للقوى التاريخية حيث الصحافيون بسلطتهم على الجماهير، ومدراء المسارح ودور النشر بتحكمهم في شكل الثقافة، والتجار الكبار باستحواذهم على اسواق الطباعة والورق، والنبلاء بافضليتهم على المجد و القضاة والسياسيون على المكانة، لا سبيل لقيم مثل الشرف والبساطة والطيبة أن تحيّا، ولا مكان لتحققات مواهب وابتكارات وشاعرية حالمة، فيبدو من حولهم باختلاف امكاناتهم ومحركاتهم القيمية، على قدر من الجشع، والانتهازية والجحود، يساعدهم في النجاة ، كذئاب تتصارع بلا رحمة، لم يكن لوسيان أكثر حظًا من ديڤيد ، بوسامته وجموحه وانتهازيته، ولم يكن ديڤيد اكثر حريّة من لوسيان بعبقربته وابتكاراته وزهده، ومن حدة التناقضات التي رسمها بلزاك لتناول البطلين، تظهر هذة الوحدة النفسيّة، والرسالة الانسانية وراء تلاحم الاحداث والتي تبين ان في مجابهة قوى كبيرة، يصارع الإنسان في بداية حياته، كل ما يعترض طريقه أمام تحقيق أحلامه، ومع كل محاولة تكمن عثرة، وبارادة يافعة، يشعر الانسان ان بامكانه قهر كل العقبات، فينحط تارة ويتراجع تارة، الى ان يلتقي بالحقيقة كاملة ، في انه امام كل تلك السجون الفكرية والاجتماعية ، يؤول مصيره الى الاستسلام، حتى ومع تفريطه الكامل في قيمه ومواهبه، تصير تضحياته هي الشرك الذي ينصبه لنفسه ، بلا أثمان سوى أوهام ضائعة. لقد جمع النماذج التي نجحت في التماهي مع الانحطاط العام وتسلقت لأعلى المراتب انعدام الموهبة والكفاءة والأخلاق، وهذة ببساطة كانت شروط العصر وكل عصر، التي وان دفعت لوسيان للنفاق والطمع ، لم تكن كافيه لتحويله الى وحش، حيث تنتصر طباع تربيته وحساسيته وصوت ضميره مع كل منعطف عكس ديفيد الذي بقى على موقفه الاخلاقى الشريف طوال العمل وانتهى به الحال في السجن مستسلما ولذلك كان الرهان الأكبر في الحبكة الروائية، هو قتل النماذج الانسانية في لوسيان وديفيد وايف وكولب لأجل اثبات رؤية بلزاك ، الا انه ومع كل محاكامته الاخلاقية لابطاله لم يطعن حقيقتهم الأصيلة بشكل كامل، بل تركهم كنماذج خالدة تعبر بلا انتهاء عن صراع الانسانية الدائم امام القوى الغاشمة.
آلام المبتكر ( الجزء الأخير من الثلاثية ) فيها يضعنا الكاتب أمام مأساة المجتهدين من ذوى النوايا الطيبة والذين يفضلون تذوق الألم عن إذاقته للغير ويقعون فى الفخاخ ومصائد الإستغلال وهم يرفضون أبداً البدء بإساءة الظن تجاه الغير وتكون حياتهم سلسلة من التضحيات ومشاهد الكفاح ونرى نهايةً كيف تكافىء الأقدار هؤلاء المنزهون عن الرغبات الخبيثة وتدعهم فى سلام بعد مواجهتهم لكافة نزالات الحياة القاسية وتخطيهم لها . هذه هى معاناة داڤيد سيشار فى مقابل الحياة الرخوة لصهره لوسيان روبمبره صاحب الموهبة الغير مصقولة والأحلام الشاعرية والرغبات بلا وسائل والذى تعرضنا لمأساته فى الجزء السابق وهى تمتد لتصل الى الجزء القادم فى المشاهد من الحياة الباريسية بعد أن باع نفسه لخدمة الدبلوماسى الأسبانى لينقذ صهره الذى ذاق الأمرين بسببه . كانت ثلاثية رائعة وهى واحدة من عدة ثلاثيات كتبها بلزاك ولكن ميزة هذه الثلاثية بعنوان ( أوهام ضائعة ) تعد بمثابة المركز والمحور من أعمال بلزاك . فقارىء بلزاك يعرف ان أغلب أعماله تمثل امتداداً لبعضها البعض فالشخصيات تكتمل والأحداث السابقة فى رواية ما يتم تذكرها وبيان أثارها البعيدة فى الأعمال التالية . وهى شخصيات وأحداث مستمدة من واقع الحياة الفرنسية فالثلاثية التى نحن بصددها تحمل عنوانا ثانويا ( مشاهد من حياة المقاطعات الفرنسية ) كما كتب بلزاك مشاهد من الحياة الباريسية وهى امتداداً لأوهام ضائعة وهو بذلك يخلق رابطاً ليصور وحدة المجتمع الفرنسي ليتوسط عمله الأدبى بين ما كانت عليه هذه الوحدة فى الواقع وما كان يجب عليها أن تكونه كما فى فكر بلزاك . ومثلما أسلفنا فى تعليقاتنا على بلزاك فهو يعد مؤرخاً للواقع السياسى والأدبى والإجتماعى فى فرنسا على عهد الملكية الثانية . كما استقى العديد من المشاهد من حياته الشخصية وهو يورد أرائه على ألسنة كافة شخصياته كما يعطى تجاربه الخاصة فى العديد من أعماله طابع الأحداث الحاسمة وهو يميز أعماله بثراء شخصياته كماً وكيفاً وهى شخصيات مستقاه من واقع علاقاته الإجتماعية وهى طبائع مختلفة ومتفردة فى خيرها وشرها فى تميزها وبلادتها وبلاهتها كثيرا ما تعامل معها بنفسه وهو ما يجعل العمل حيوياً واقعياً رغم مثالية الكاتب التى لا يهتم بجعلها شكل العمل بل غايته .